مقدمة
أدت الانتكاسات الحادة في عملية التحول الديمقراطي في تونس منذ 25 تموز/ يوليو 2021 إلى إحداث صعوبات بالغة أمام السياسات الأميركية. يستعرض هذا المقال السياق التاريخي للعلاقات الأميركية التونسية، ويتناول بالتحليل السياسات الخارجية للولايات المتحدة في تونس منذ انتفاضات عام 2011، مع مناقشة التحديات التي تواجه السياسات الأميركية بعد القرارات الاستبدادية التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيد في عام 2021. وفي الختام، يبحث المقال آخر المستجدات في واشنطن والفرص المتاحة أمام السياسات الأميركية في المستقبل.
السياق التاريخي
على مر التاريخ، كانت العلاقات بين الولايات المتحدة وتونس ودية. ففي عام 1799، وقَّع البلدان اتفاقية صداقة وتبادل تجاري، وتعمقت العلاقة بينهما بعد إلغاء الحماية الفرنسية، نتيجة السياسات الاجتماعية "الحداثية" التي تبناها الرئيس الحبيب بورقيبة وتوجهاته الموالية للغرب (خاصةً بالمقارنة مع باقي نظرائه العرب في ذلك الوقت).
وفي بعض الأحيان شهدت العلاقة فترات من التوتر، كانت ترتبط في الغالب بحوادث أمنية. فقد تسبب دعم الولايات المتحدة لِغارتين إسرائيليتين على مقر القيادة العامة لمنظمة التحرير الفلسطينية في تونس خلال ثمانينيات القرن الماضي في حدوث بعض الخلاف، وكذلك أدى معارضة تونس لحرب الخليج الثانية في عام 1991 إلى خفض المساعدات الاقتصادية الأميركية، لكن سرعان ما عادت العلاقات إلى مستواها الطبيعي. وقد كشفت مثل هذه الأحداث عن تجاذبات داخلية في السياسات التونسية بين القيمة التي توليها للمساعدات الأمنية الغربية -كالعون العسكري والتدريب والمعدات- (من الولايات المتحدة أولاً، ثم فرنسا) والحذر المستمر من دور الولايات المتحدة في المنطقة.
وبالمثل، كان على واشنطن أيضاً الموازنة بين أولوياتها في تونس وأولوياتها بشكل أوسع في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فقد أدى الهجوم على السفارة الأميركية في تونس والمدرسة الأميركية المجاورة لها في عام 2012 إلى فرض تعقيدات على العلاقات التونسية الأميركية مؤقتاً، مثل انتقاد الولايات المتحدة لتساهل تونس الكبير مع المشتبه بهم الذين أُلقي القبض عليهم وحوكموا لصلتهم بالهجوم. بشكل عام، كلما زاد استقرار تونس من وجهة نظر الولايات المتحدة -سواء فيما يتعلق بقيادتها وإبرازها للقيم الديمقراطية وبناء المؤسسات وأوضاعها الأمنية- كلما كانت العلاقة أقوى.
أهداف السياسات الأميركية
منذ انتفاضات عام 2011 التي أطاحت بالديكتاتور زين العابدين بن علي وكانت إيذاناً ببدء التحول الديمقراطي في تونس، كان لدى السياسات الأميركية هدفين رئيسيين هما: تعزيز الديمقراطية والتعاون الأمني.
ودعماً لهذين الهدفين، لجأ صناع السياسات في الولايات المتحدة إلى مجموعة متنوعة من الأدوات. وتشمل أدوات تعزيز الديمقراطية: القوة الناعمة (مثل نشر المعايير الأميركية من خلال الدبلوماسية العامة وتقديم المساعدات دون وضع أيّ شروط، وما إلى ذلك)، وأيضاً التدخل العسكري (كما هو الحال في العراق في عام 2003)، مع استخدام أشياء مثل الخطابات والمساعدات والاشتراطات باعتبارها حلاً وسطياً. بينما تتضمن أدوات المساعدة الأمنية: الجيش (مثل صفقات الأسلحة والتدريب وبعثات حفظ السلام، وما إلى ذلك) وإنفاذ القانون (من خلال الإصلاح القضائي وغير ذلك من وسائل مكافحة انتشار بعض الأسلحة والمخدرات).
بالطبع سبق وأن تداخل هذان الهدفان. مثلاً، تعد الجهود المبذولة لمكافحة التطرف والعنف من بين الأهداف التي تتضمنها أجندة تعزيز الديمقراطية الأوسع نطاقاً. يعكس هذا التداخل مدى تعقد السياسات الأميركية وعملية صنع القرار، إذ نادراً ما يتوافق مختلف الأفراد والكيانات ضمن الحكومة الأميركية على طبيعة العلاقة بين دولة معينة، وكيف ومتى ينبغي السعي لتحقيق أهداف خارجية محددة، وما هي الأدوات السياسية التي يجب اللجوء إليها.
ومن ثم، تعكس عملية وضع السياسات الأميركية المتعلقة بتونس في الفترة بين عامي 2011 و2021 عدة عوامل، من بينها الاعتبارات الداخلية في الولايات المتحدة مثل الأوضاع المتشددة في الميزانية خلال السنوات الأولى التي أعقبت الانتفاضات العربية في عام 2011. ومع هذا فإن الأموال المخصصة للمساعدات الخارجية والتعاون الأمني مع تونس خلال السنوات الثلاثة الأولى التي أعقبت الانتفاضات بلغت حوالي سبعة أضعاف ما كانت عليه خلال السنوات الثلاثة التي سبقتها. لكن المساعدات الثنائية الموجهة إلى تونس بدأت تزداد فعلياً بصورة كبيرة في السنة المالية 2016 (من 1 تشرين الأول/أكتوبر 2015 إلى 30 أيلول/سبتمبر 2016). وفي هذه السنة، وصل الأمر بالكونغرس لدرجة وضع حد أدنى للمساعدات (بلغ 141.9 مليون دولار)، "وهو ما كان له أثر فعلي في ضمان تمويل المساعدات لتونس مع تضارب أولويات المعونات الاقتصادية والأمنية". عكس هذا الموقف الفريد نوعاً ما في السياسات الخارجية الأمريكية تجربة تونس الواعدة نسبياً بوصفها دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحاول الانتقال من الحكم الاستبدادي، خاصة بعد عام 2014. إضافةً إلى التمويل المزدوج المخصص لتونس، وافق الكونغرس في هذه الفترة على دعم صندوق تونسي أمريكي لتمويل المؤسسات مع تقديم عدة ضمانات ائتمانية لتونس. وسن أيضاً تشريعات تتعلق ببرامج أمنية مشتركة بين عدة بلدان من بينها تونس، وذلك لمكافحة التطرف والعنف وتعزيز الأمن الحدودي.
تعزيز الديمقراطية
من الناحية النظرية، تهدف السياسات الأمريكية إلى مكافأة الدول على التقدم الذي تحرزه فيما يتعلق ببناء المؤسسات الديمقراطية والانتقال من الحكم الاستبدادي. وقد وصل التمويل الموجه لتعزيز "الحكم العادل والديمقراطي" -هدف المساعدات الخارجية الأكثر ارتباطاً بتعزيز الديمقراطية- في تونس إلى 3 ملايين دولار خلال عام 2013، وهو مبلغ أقل كثيراً من المساعدات المماثلة التي تتلقاها تقريباً أيّ دولة أخرى في المنطقة. وفي عام 2020، بلغ التمويل الموجه لتونس من أجل تعزيز الحكم العادل والديمقراطي 49 مليون دولار، لتصبح بذلك ثاني أكثر دولة في المنطقة تحصل على تمويل في هذا الشأن بعد العراق والأردن. وقد ارتفع التمويل لأسباب عدة من بينها "النجاحات الانتخابية والمفاوضات الدستورية الواضحة في تونس". وفي آذار/مارس 2011، زارت هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية في ذلك الوقت، تونس من أجل "التعهد بدعم الإصلاح الديمقراطي" في البلاد وتقديم عدة ملايين من الدولارات في هيئة مساعدات اقتصادية لدعم آليات توفير الفرص العمل. وفي أيار/مايو من العام نفسه، طالب الرئيس أوباما الولايات المتحدة "بإظهار أن أمريكا تقدر كرامة الباعة المتجولين في شوارع تونس أكثر من احترامها لديكتاتور يحكم بقوة غاشمة".
بالمثل، تقوم مؤسّسة تحدّي الألفية، وهي وكالة مساعدات خارجية أمريكية مستقلّة، بتقديم المساعدة "للبلدان النامية التي تُظهر أداءً إيجابياً في هذه المجالات الثلاثة: العدالة في الحكم والاستثمار في الموارد البشرية والتشجيع على الحرية الاقتصادية". وفي حزيران/يونيو 2021، صادقت مؤسّسة تحدّي الألفية على اتّفاقيات لمدة خمس سنوات بقيمة 499 مليون دولار لتعزيز قطاعات النقل والتجارة والمياه في تونس. وقد وصفت إدارة بايدن الاتفاقية بأنها "تؤكد التزام تونس بالحكم الديمقراطي والدستوري وتحقيق الرخاء العادل".
لكن وعلى الرغم من وجود أدلة على حالة عدم الاستقرار المتزايدة في تونس من عام 2021، فقد بدا أن السياسات الأمريكية مستمرة، وهو ما يدل على اقتناع صناع القرار بأن دعم بناء المؤسسات الديمقراطية في تونس قد حقق الأثر المطلوب. خاصة الحكومات التوافقية بين الأحزاب الإسلامية والعلمانية في عام 2012-2013 (على الرغم من التحديات التي واجهتها) وفي الفترة بين عامي 2014 و2019 والانتقال السلمي للسلطة عبر الحكومات المتعاقبة التي اعتبرت مؤشرات على ازدهار الديمقراطية. مع ذلك، ثبت من ذلك الحين فشل هذا النهج في التصدي لمسألة غياب الدور القيادي فيما يتعلق بالإصلاحات الاقتصادية في تونس وأيضاً فقدان الأطراف السياسية الفاعلة للشرعية بشكل واضح.
المساعدات الأمنية
ظلت المساعدات الأمنية تشكل جزءاً مهماً في العلاقات الأمريكية التونسية، مع الاعتراف بدور تونس في مكافحة التهديدات العابرة للحدود الوطنية، وإن كانت قد أعطتها أولوية أقل مقارنة ببلدان أخرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. أيضاً تعكس زيادة التمويل الموجه لإصلاح القطاع الأمني بعد عام 2011 الإيمان بأهمية الدور المحوري للأمن الداخلي والخارجي في عملية انتقال السلطة في تونس.
بالنسبة لواشنطن، فإن دعم إصلاح القطاع الأمني في تونس كان يعني تعزيز القوات المسلحة (أو الجيش) وجعل أجهزة الأمن الداخلية أكثر ديمقراطية، وهو ما تترجم إلى زيادة كبيرة للغاية في صفقات الأسلحة التقليدية (أو ما يعرف بالتمويل العسكري الأجنبي) وتمويل برامج مخصصة لأجهزة الشرطة المحلية مثل برامج الهيئة الدولية لمراقبة المخدرات وإنفاذ القانون. وفي عام 2015، منح الرئيس باراك أوباما تونس صفة العضو الأساسي غير الحليف في الناتو.
خلافاً للمساعدات الموجهة لتعزيز الديمقراطية، فإن المساعدات الأمنية المقدمة لتونس منذ عام 2011 كان لها تأثير واضح وفعال. فقد أشارت التقارير إلى حدوث تحسينات في القوات المسلحة التونسية، وتعكس البيانات الخاصة بالأنشطة الإرهابية داخل تونس وعلى حدودها زيادة قدرة القوات على مكافحة مثل هذه التهديدات.
لكن عملية إصلاح القطاع الأمني واجهت تحديات. فقد أدى الإهمال المعتاد للجيش من أجل النهوض بأجهزة الأمن الداخلية، التي كانت بالفعل في أمس الحاجة للإصلاح -رغم مقاومتها الشديدة له في كثير من الأحيان- إلى تولد صراعات سياسية. على سبيل المثال، لم يتمكن علي العريض، وزير الداخلية في أول حكومة في حقبة ما بعد بن علي والمعروفة باسم حكومة "الترويكا" والتي كانت تضم ممثلين عن أحزاب الائتلاف الثلاثي الحكومي، من عزل قائد قوات مكافحة الشغب الذي اتُهم بإطلاق النار على المتظاهرين خلال انتفاضات كانون الأول/ديسمبر 2010 وكانون الثاني/يناير 2011، وذلك بعد أن حشد قوات الشرطة لحمايته. بشكل عام، كان لتأسيس النقابات الأمنية دور في إعاقة الجهود الرامية إلى الحد من عنف الشرطة والحصانة والإفلات من العقاب منذ عام 2011. وأدى الانقسام التاريخي بين الجيش وأجهزة الأمن الداخلية بالإضافة إلى الاضطرابات العامة التي نتجت عن الإطاحة ببن علي إلى ضرورة تدخل الجيش آنذاك، والاضطلاع بعدة مهام تخص الأمن الداخلي، مثل حماية الهياكل الأساسية الرئيسية في الدولة، وهو ما أدى أيضاً إلى تعقيد الجهود المبذولة من أجل إصلاح القطاع الأمني.
علاوة على ذلك، لم تمتلك الولايات المتحدة "إطاراً متيناً" لتنفيذ برامج المساعدة الأمنية من أجل دعم إصلاح القطاع الأمني خلال السنوات الأولى التي أعقبت الثورة. لكن أدت "خطة العمل الوطنية الثنائية" الخاصة بتونس، التي وُقعت في 2017، إلى حدوث بعض التحسينات. تمثلت المشكلة الأخرى التي واجهت عملية الإصلاح في القدرة المحدودة لقوات الأمن التونسية -خاصةً العسكرية- على استيعاب الدعم الدولي. فعلى الرغم من الشراكة العميقة مع الولايات المتحدة وحدوث تحسن في قدرات القوات المسلحة التونسية، أشار المراقبون أنه حتى عام 2020 كان لا يزال الاعتماد على الدعم الدولي مستمراً.
ولعل الأهم من ذلك، هو ما أظهرته التقييمات الأخيرة للمساعدات الأمنية التي تقدمها الولايات المتحدة لتونس، لا سيما عقب الاغتيالات السياسية في عام 2013 والهجمات الإرهابية في عام 2015 على وجهات سياحية شهيرة، فقد وجدت أن "الأولوية كانت للفعالية التكتيكية على حساب الإصلاح". ومن ثم، فقد أدى هذا الإهمال العام للإصلاحات المنهجية -على الرغم من إدراك الحاجة إليها- بهدف التصدي للتهديدات المباشرة إلى محدودية نتائج المساعدات الأمنية. يتجلى هذا في الممارسات الوحشية للشرطة الآخذة في الازدياد.
التحديات المفروضة منذ 25 تموز/يوليو 2021
افتتح سعيد قراراته في 25 تموز/يوليو 2021، وتوجت بتفكيك أو إضعاف كبير للضوابط والتوازنات الديمقراطية في مختلف مؤسسات الحكم، وتضمنت في الأشهر الأخيرة سجن كثير من المعارضين وزيادة الخطاب الشعبوي، وهو ما جعل نشطاء الديمقراطية والمعارضين السياسيين وحتى الأجانب يشعرون بعدم الأمان، وقد شكل كل ما سبق معضلات سياسية عميقة بالنسبة للولايات المتحدة.
ردود الفعل الأولية
خلال الأشهر التي أعقبت أولى تحركات سعيد للاستيلاء على السلطة، كان المجتمع الدولي مندهشاً من دعم الشعب التونسي لما بدا لكثير أنه انحراف واضح عن مسار التطور الديمقراطي في تونس. وقد شكَّل هذا معضلةً للولايات المتحدة، إذ كيف يمكنها إدانة شيء بدا وكأن غالبية التونسيين يدعمونه؟ ولهذا السبب على الأغلب، كانت ردود الفعل الأمريكية محسوبة، حتى على الرغم من سجن العديد من رموز المعارضة وبعض النشطاء في تونس أو وضعهم قيد الإقامة الجبرية. وانتقد كثير ممن دعموا سياسات تعزيز الديمقراطية ما وصفوه بأنه "عجز" من قِبل إدارة بايدن.
واجهت واشنطن معضلة أخرى، وهي كيفية الوفاء بالتزامها المعلن تجاه "الشعب التونسي" لكن أيضاً دون دعم قرارات سعيد المناهضة للديمقراطية. وأفضل مثال على ذلك هو النقاش الدائر حول اتفاقيات مؤسّسة تحدّي الألفية، التي جُمد التصديق عليها "بسبب مخاوف تتعلق بالحكم الديمقراطي بعد أحداث 25 تموز/يوليو". وبشكل عام، فضل من رأوا أنه يجب معاقبة سعيد على تحركاته الاستبدادية تعليق التصديق على الاتفاقيات، لكن هذا القرار لاقى احتجاجاً ممن يؤمنون بأن الأولوية القصوى يجب أن تعطى لدعم الشعب التونسي. في الوقت ذاته، بدأت بعض الوكالات والهيئات، ومن بينها وزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، السعي جاهدة "لِتجنب" تنفيذ البرامج التي يحتمل أن تدعم النزعات السلطوية لسعيد.
وفي آذار/مارس 2022، اقترحت إدارة بايدن على الكونغرس إجراء تخفيضات كبيرة في تمويل المساعدات الأمنية والاقتصادية المقدمة لتونس، لينخفض بمقدار النصف تقريباً مقارنة بالعام السابق. وكان بعض أعضاء الكونغرس قد دعوا سابقاً إلى وقف المساعدات رداً على قرارات 25 تموز/يوليو. وفي ذلك العام، ألغى الكونغرس الحد الأدنى للتمويل المضمون المقدم لتونس الذي ظل قائماً خلال السنوات الست السابقة لذلك، وطالبوا الإدارة بتقديم تقرير عن الجهود التي تبذلها الحكومة التونسية "من أجل استعادة النظام الدستوري والحكم الديمقراطي".
تشير هذه التغيُّرات السياسية إلى عدم رضا واشنطن عن قرارات سعيد. لكن البعض في واشنطن يرون أن مثل هذه التخفيضات ستضعف بشكل خطير قدرة تونس على الدفاع عن نفسها في مواجهة التطرف وغيره من التهديدات وقد تدفعها إلى أحضان الصين أو روسيا أو دول الخليج. واحتجوا بأنه بدلاً من خفض المساعدات، ينبغي على واشنطن تبني نهج أكثر دقة، مثل الشروع في إجراء حوارات أو تقديم برامج تدريبية حول العدالة العسكرية والكفاءة المهنية.
واصلت واشنطن على مدار عام 2022 النقاش بشأن كيفية إدارة العلاقات مع تونس. وفي تشرين الأول/أكتوبر، أعلنت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية عن تقديم "مساعدة عاجلة" بلغت 60 مليون دولار من أجل توفير الدعم المباشر للعائلات التونسية الضعيفة، وهو ما يشير إلى إقرارها بتدهور مستوى معيشة كثير من التونسيين.
حتى مع تراجع شعبية سعيد، خاصةً مع بداية أيلول/سبتمبر 2021، ظلت أسئلة صناع القرار في الولايات المتحدة بلا أجوبة. وواصل المنتقدون توجيه اللوم إلى واشنطن بسبب تفاعلها الدبلوماسي مع سعيد وبسبب أيضاً "التنازل عن جزء من نفوذها". وفي هذه الأثناء، واصل سعيد الاستيلاء على السلطة وحصرها في يده.
النقاش الدائر حول قرض صندوق النقد الدولي وتصاعد الخطاب المعادي للغرب
في تشرين الأول/أكتوبر 2022، توصلت الحكومة التونسية وصندوق النقد الدولي إلى اتفاق على مستوى خبراء الصندوق للحصول على قرضٍ بقيمة 1.9 مليار دولار، مع شروط إصلاحية تتضمن خفض فاتورة الأجور في قطاع الخدمة المدنية والإلغاء التدريجي للدعم المعمم على الأسعار وزيادة الحوافز الاستثمارية. ويُظهر استمرار خفض التصنيف الائتماني من قبل مؤسسات التمويل والاقتراض، التي قالت إن من المحتمل أن تتخلف تونس عن سداد الديون، وكذلك العجز المتزايد عن دفع تكاليف واردات السلع الأساسية، أن الدين كان ضرورياً. مع ذلك، تأجل اجتماع للمجلس التنفيذي للصندوق كان من المقرر عقده في كانون الأول/ديسمبر 2022 لمنح الموافقة النهائية في اللحظة الأخيرة، وحتى وقت هذه الورقة، لم يتم التوصل للصيغة النهائية للاتفاق.
دعا بعض المهتمين بالشأن التونسي في واشنطن إلى أن تستخدم واشنطن نفوذها بوصفها المساهم الأكبر في حصص صندوق النقد الدولي لجعل اشتراطات القرض الخاصة بالإصلاحات السياسية أكثر وضوحاً. بينما أعربت أطراف أخرى -كما هو الحال بالنسبة لاتفاقيات مؤسسة تحدي الألفية والمطلب العام بوقف المساعدات- عن قلقها من أن مثل هذه الإجراءات ستؤدي إلى حرمان تونس من المساعدات التي تحتاجها بشدة لتحقيق الاستقرار لاقتصادها. وقد سعت الولايات المتحدة للإبقاء على شراكاتها وتحالفاتها، على الأقل في خطاباتها، مع خوف شركائها الأوروبيين من أنه دون الحصول على القرض، سوف تكتظ شواطئهم بالمهاجرين القادمين من تونس.
أصبحت مسألة قرض صندوق النقد الدولي أكثر إشكالية مع تكثيف سعيد خطابه الشعبوي حول التدخل الأجنبي -لا سيما الغرب- بما في ذلك صندوق النقد الدولي، باشتراطات قروضه التي لا تحظى بشعبية كبيرة. وزاد الإحباط في صفوف المسؤولين الأمريكيين في تونس، الذين يخشون أنه كلما أصرت واشنطن على مثل هذه الاشتراطات المرهقة، كلما قلت رغبة سعيد في التعاون مع الولايات المتحدة. علاوة على ذلك، لا تزال تصرفات سعيد الاستبدادية والتقارير التي تتحدث عن اعتقال عدد من الأفراد المرتبطين بمسؤولين غربيين تشكل معضلة أخرى بالنسبة لصناع القرار الأمريكيين: إذ كيف يمكن مساعدة أنصار الديمقراطية التونسيين دون التسبب في أذى لهم؟
التطورات الأخيرة
في آذار/مارس 2023، عكست الميزانية السنوية المقترحة من إدارة بايدن على الكونغرس شكوكاً مستمرة بشأن الإبقاء على المستويات السابقة من المساعدات المقدمة لتونس. لكن مع ذلك أبقى الاقتراح إلى حدٍ كبير على المستوى العام من المساعدات الأمنية مقارنة بالسنة الماضية. فقد زاد التمويل الموجه لبرامج التدريب والتعليم العسكري الدولي، التي اعتبرتها الحكومة التونسية، على الأقل فيما مضى، "ضرورية لتطوير السلك العسكري"، من 1.5 مليون دولار إلى 2.3 مليون دولار. يشير هذا إلى أن إدارة بايدن ترغب في استغلال العلاقة الوثيقة التي تطورت منذ 2011 بين الجيشين الأمريكي والتونسي باعتبارها أداة للتأثير من أجل تعزيز أهداف الأمن القومي الخاصة بها. لكن، ورغم أنه من غير المرجح أن ينتقد سعيد الشراكة الأمنية بين الولايات المتحدة وتونس أو أن يخفض من حجمها بصورة كبيرة، خاصةً وأنه من غير الواضح كيف سيتمكن من الاستعاضة عن المساعدات الأمنية الأمريكية، فإن الدور السياسي الكبير للجيش في عهد سعيد يشير إلى ضرورة توخي الولايات المتحدة الحذر عند اللجوء لهذا الخيار الاستراتيجي. ما يؤكد على ذلك، هو التصور السائد بين التونسيين بأن المساعدات الأمنية الأمريكية تعزز القمع الذي تمارسه الأجهزة الأمنية الداخلية ضد المواطنين.
وقد طالب التونسيون المقيمون في الولايات المتحدة أيضاً بفرض عقوبات على "القادة العسكريين التونسيين وعناصر الأمن والمسؤولين الحكوميين الداعمين لسعيد". تعكس هذه الخطوة تحركاً مماثلاً أقدمت عليه عائلات التونسيين المعتقلين في المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، إذ رفعوا دعوى قضائية تطالب بفرض عقوبات على عدة أفراد، من بينهم سعيد، بموجب قانون حماية حقوق الإنسان في المملكة المتحدة.
استنتاجات وتوصيات
تشير استطلاعات رأي موثوقة غير منشورة أن التونسيين لم يتخلوا عن الديمقراطية. ويقول بعض المراقبين إن سياسات الولايات المتحدة تجاه تونس في هذه اللحظة الفارقة ستشكل اختباراً حقيقياً حول مدى التزام واشنطن بالقيم الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وعلى مستوى العالم. ومن أجل تغيير صورتها وسمعتها بأنها تقدم المصالح الأمنية والاقتصادية على حساب المُثل الديمقراطية (مثل إعطاء الأولوية لصفقات النفط أو الأسلحة على حساب انتقاد انتهاكات حقوق الإنسان)، فإن الولايات المتحدة تمتلك فرصة في تونس للدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان.
يمكن تحقيق ذلك من خلال زيادة استخدام واشنطن لأدوات السياسة الخارجية غير المباشرة والأقل بروزاً من أجل التأثير على سعيد. على سبيل المثال، مثلما أشار مسؤولون أمريكيون، فإن العمل مع المنظمات الإقليمية مثل الاتحاد الأفريقي للضغط شفهياً على سعيد سيجعله غير قادر على اتهام محاوريه الأجانب بترديد المطالب والمصالح الغربية. إضافة إلى ذلك، يمكن للولايات المتحدة استغلال شراكاتها مع الجزائر ومصر، وهما قوتان إقليميتان قد يصغي سعيد إليهما، لحثه على تبني إصلاحات اقتصادية.
تتمثل إحدى الاستراتيجيات الأخرى (التي تعمل بها واشنطن على الأغلب بالفعل) في تجنب الأدوات السياسية التي لا تتوافق مع استبدادية سعيد واللجوء إلى الأدوات التي تتيح توفير الدعم المراقب والمحسوب الذي يخدم مصالح الولايات المتحدة، مثل قيام دولة ثالثة وسيطة بتوفير التدريب لدعاة الديمقراطية وإدارة الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين. ويتضمن هذا زيادة استخدام برامج المساعدات والإعانات العالمية التي ستقوم بتمويل الدورات التدريبية الخاصة بالأحزاب السياسية وستدعم الصحافة المستقلة والإصلاح القضائي وجمعيات المجتمع المدني وستوفر وسائل لتعزيز بناء طبقة سياسية جديدة وأكثر كفاءةً والتزاماً في تونس. ومن المهم للغاية أيضاً بذل جهود لضمان أن البرامج المعمول بها ستكون مصحوبة ببرامج موجهة للجمهور من أجل المساعدة في تبديد عدم الثقة بالمساعدات الأمريكية، مثل تنظيم مؤتمرات تجمع المسؤولين والنشطاء مع الجمهور لمناقشة مدى توافق المساعدات الأمنية مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان. إلى جانب ذلك، يجب على واشنطن أن تواصل المساهمة قدر الإمكان -ومن المرجح أن تفعل ذلك- في تأسيس "شبكة أمان اجتماعي" لفئات المجتمع التونسي الأكثر ضعفاً، مثل شحنة القمح الصلب التي تقدّر بنحو 25 ألف طن التي قدمتها للبلاد في نيسان/أبريل 2023.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.