ملخص
تسعى هذه الورقة لوصف ورصد السياق التاريخي الذي نشأت فيه المنظمات الحقوقية منذ الاستقلال وكيفية تبلور علاقتها مع الدولة. وكان بناء الدولة الوطنية بعد الاستقلال هو الدافع الأساسي للنظام السياسي في تونس نحو مصادرة التعدد والمشاركة لمختلف التوجهات السياسية التي اجتمعت حول هدف واحد وهو الكفاح ضد المستعمر، بينما تباينت وجهات نظرها في النظام السياسي والسياسات التي يتعين اتباعها في مرحلة البناء الوطني. ونجح نظام الرئيس الحبيب بورقيبة في فرض نظام سياسي استبدادي وترسيخ فكرة حزب واحد ترتكز “شرعيته” هو والنظام على الكفاح ضد الاستعمار من أجل تأسيس دولة يجب على الجميع الانسياق وراءها. ومع تواصل النمط السياسي الاستبدادي بعد 1987 مع فترة حكم الرئيس زين العابدين بن علي التي طرحت رؤية سياسية استبدادية بأدوات مختلفة.
وواجهت المنظومة الحقوقية، ممثلة في الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، ضغوطًا متنوعة من خلال محاولات الدولة ترويضها لتبني رؤية أحادية لحقوق الإنسان نابعة من منطق الحكم الفردي الديكتاتوري الذي فرض ديكورًا حقوقيًّا أسس له من خلال قوانين ظل يتباهى بها في كل المحطات والمناسبات السياسية، مع غض النظر عن انتهاكات أجهزة الدولة القمعية. وبعد سقوط بن على عقب ثورة شعبية أتت تعبيرًا عن رفض القمع والتسلط والتطلع إلى الحرية والكرامة، بدأت رؤية جديدة في التشكل للعلاقة بين الدولة والمنظومة الحقوقية في تونس. وكانت الانطلاقة إيجابية للغاية من خلال تأثير الناشطين الحقوقيين في عملية تأسيس رؤية للدولة تقوم على احترام مبادئ حقوق الإنسان، لكن الصراع السياسي دار بين مختلف الأيديولوجيات السياسية في السنوات الست التالية، أثَّر سلبًا، مما جعل علاقة الدولة والفاعلين الحقوقيين تتأرجح بين التناغم والتنافر.
اقرأ المزيدشكَّل شعار "شغل، حرية، كرامة وطنية" أحد مرتكزات المطالب "الثورية" التي نادى بها الشعب التونسي إبان ثورة 14 يناير 2011، وهو شعار يختزل جملة من الحقوق التي كان انتهاكها أو عدم ضمانها من جانب النظام يمثلان الأسباب الرئيسة التي أدت إلى الانفجار الاجتماعي ضد نظام الرئيس زين العابدين بن علي، على رغم وجود منظومة قانونية شكليَّة تضمن الحقوق استعملها النظام السابق لتجميل الواقع المزري لحقوق الإنسان في تونس. كانت الثورة بداية لتغيير جذري في اتجاه إعادة صياغة للعلاقة بين الدولة والفاعلين الحقوقيين، حيث أدى المسار الانتقالي الديمقراطي لفتح حيز أكبر وأصلب في الفضاء العام لعب فيه المجتمع المدني دورًا فاعلاً أساسيًّا ومحددًا لقرارات الدولة إلى حدِّ ما.
يمثِّل المجتمع المدني الحقل الذي يتقاطع فيه جميع الفاعلين (سياسي، اجتماعي، اقتصادي، ديني...إلخ) باعتباره المساحة التي تدور فيها التفاعلات الاجتماعية العامة التي لا تتعلق بالصراع المباشر على السلطة السياسية أو السعي من أجل السيطرة على السلطة التنفيذية بل يمكن اعتباره شريكًا مساعدًا أو ناقدًا للضغط على النظام الحاكم من أجل تغيير القوانين والسياسات وممارسات أجهزة الدولة دون سعي إلى تقويض سلطتها أو انتزاعها. ويتألف المجتمع المدني من جمعيات وتنظيمات وهيئات وشبكات اجتماعية (مفتوحة العضوية أو مغلقة) تتناول الحلول الممكنة للمشكلات المرتبطة بالمصلحة العامة سواء عن طريق تقديم خدمات مباشرة أو الدفع في اتجاه سياسات مختلفة في المجالات السياسية، الاقتصادية والاجتماعية المختلفة .
ومن هذا المنطلق فإن الفاعلين في المجال الحقوقي يمثلون تجمعًا رقابيا يدفع باتجاه دمقرطة مؤسسات الدولة وتأسيس آليات دستورية وقانونية كفيلة بمنع التسلط وانتهاك حقوق الإنسان من جانب الحقوق السياسية والمدنية من ناحية، أو الدفع على العمل من أجل ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في شكل سياسات وممارسات مختلفة من جانب الدولة من ناحية أخرى. ولذا فإن هؤلاء الفاعلين يجدون أنفسهم في علاقة مستمرة (صراعية حينًا وتشاركية حينًا آخر) مع جميع هياكل الدولة، على أساس أنها المخاطب الأساسي من جانبهم من أجل جعل حقوق الإنسان مبادئ أساسية تحكم سلوك الدولة، وبالتالي بناء علاقة تمنع تغوُّل الدولة ممثلة في نظامها الحاكم على المجتمع من جهة، مع دعم قدرتها على تنفيذ سياسات عامة تكون فيه المواطنة وحقوقها أمرًا محوريًّا.
وقد حددت طبيعة النظام السياسي السائد في تونس منذ الاستقلال ديناميات طبيعة العلاقة بين الفاعلين الحقوقيين والدولة، حيث إن تبني دولة ما بعد الاستقلال للنظام السّلطوي ونجاحها في فرضه إلى حد كبير للغاية جعل منها المسيطر الرئيسي على تحديد إطار التفاعل ومسار الفاعلين الحقوقيين على خلفية أن دولة الاستقلال تمثِّل إطارًا واحدًا يجب أن ينخرط الجميع فيه، وأن مرحلة البناء تتطلب توجهًا واحدًا قد يضطرب في وجود التعدد واختلاف الرأي. ومثَّل النسق السياسي للنّظام الحاكم تواصلاً لمرحلة مقاومة الاستعمار التي اعتبرها أغلب مناضلي الحزب الاشتراكي الدستوري سلطة رمزية ، تجسدت في شخص زعيمها الحبيب بورقيبة دون غيره. وتأجج الصراع حول الاستقلال سنة 1955 بين شقِّين أساسين، مثل الأول بورقيبة رئيس الحزب الحر الدستوري الجديد الذي دافع عن التسوية السياسية مع الاستعمار الفرنسي، بينما تزعم الثاني صالح بن يوسفالأمين العام للحزب الذي كان من أشد المعارضين لذلك. ورجحت كفة الزعامة لبورقيبة الذي قام بتصفية جناح بن يوسف من خلال ما سُمِّي بلجان اليقظة التي سمحت لبورقيبة بالسيطرة على الساحة السياسية، وانتاج هيمنة الحزب الواحد. ثم تماهى الحزب مع مؤسسات الدولة وأحكم قبضته عليها حيث تولى إدارتها كوادر الحزب وخضعت لتوجيهاته.
وتعمق انفراد بورقيبة بالسلطة السياسية وخاصة بعد المحاولة الانقلابية الأولى التي قادها عدة ضباط جيش. وقرر الرئيس بعد محاولة الانقلاب إلغاء التعددية السياسية فأصبحت المنظمات الوطنية أذرعًا للنظام الحاكم والحزب الاشتراكي الدستوري. ومع فشل تجربة التعاضد التي قادها أحمد بن صالح ، الذي كان يسيطر على اتحاد الفلاحة التونسية (اتحاد الفلاحة والصيد البحري حاليًا) ووقوع انشقاق كبير في الاتحاد العام التونسي للشغل، بات بورقيبة في الستينيات يسيطر كليًّا على الحزب والدولة. وأدى تعود بورقيبة على ممارسة السلطة كقائد وزعيم دون أي تحدي إلى تزايد صعوبة التنازل أو المساومة. وأحدثت ممارسة السلطة بهذه الطريقة تحولاً سيكولوجيًّا في شخصية بورقيبة فزاد إيمانه بنفسه واحساسه بعظمته.
وكان لتعمد الدولة العمل على إسكات خصومها وإلغاء وجودهم من على الساحة السياسية أثرًا كبيرًا في بروز الحركة الحقوقية في تونس بشكل منظم. وكان محور الحركة الأساسي الدفاع عن حقوق الجيل الأول؛ وهي حقوق مدنية وسياسية، في وجه انتهاكات منهجية متواصلة ومضايقات مستمرة مورست على نشطاء سياسيين ونشطاء حقوق إنسان بأشكال مختلفة. وفي ظل نظامي بورقيبة وبن علي تميزت علاقة الدولة بالفاعلين الحقوقيين بمحاولات السطوة والسيطرة والتدجين من جانب الدولة، لتسويق صورة ديمقراطية لنظام هو استبدادي في الحقيقة، وسعت الدولة لتعبئة الساحة الحقوقية بالموالين في علاقة "زبونية" صرفة. واستمر هذا السلوك حتى انفجار ثورة 14 يناير التي كانت نقطة نهاية نظامين تسلطيين وبداية تحول في العلاقة بين الدولة (مع سلكها مسار الانتقال الديمقراطي) والفاعلين الحقوقيين.
وأعادت الثورة التونسية صياغة معايير العلاقة بين الدولة والفاعلين الحقوقيين بفعل تغير طبيعة النظام الحاكم ذاته مما كان له أثرًا بالغًا في زيادة مساحات حرية التعبير وحق التنظيم للفاعلين الحقوقيين وجعلهم، بالتالي، أكثر قدرة على حمل الدولة على القيام بإصلاحات قانونية ومؤسسية تكون فيها حقوق الإنسان والمواطنة محورًا مركزيًّا. وساهمت الثورة أيضًا في إعادة بناء استراتيجية وأهداف الفاعلين الحقوقيين ليتنوع المشهد الحقوقي وينتقل مركز الثقل فيه من التركيز على الجيل الأول للحقوق التي أصبحت مضمونة إلى حد كبير إلى الجيل الثاني من الحقوق المتمثلة في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وستتناول هذه الورقة تاريخ العلاقة بين الدولة والفاعلين الحقوقيين في إطار منهج وصفي تاريخي لاستعراض تاريخ العلاقة بين الدولة والفاعلين الحقوقيين منذ نشأة الحركة الحقوقية مع التركيز لاحقًا على التغيرات التي طرأت عليها بعد يناير 2011. وستعتمد الورقة على استعراض جملة القوانين التي صاغتها الدولة في هذا الصدد وما أنشأته من مؤسسات وهيئات حكومية إلى جانب استعراض الخطاب الرسمي في مجال حقوق الإنسان واستراتيجيات الفاعلين الحقوقيين التي تراوحت بين الصدام والشراكة والاحتواء بالاعتماد على الأدبيات المتوفرة وعدد من المقابلات مع الأطراف الفاعلة في المجال.
ويجري تناول هذا التاريخ سعيًا خلف الإجابة على عدة أسئلة: كيف أثَّرت وتأثَّرت الحركة الحقوقية في علاقتها بالدولة في تونس؟ وكيف تطورت الحركة الحقوقية بسبب ديناميات علاقتها بالدولة منذ نشأة الحركة وحتى ثورة 2011؟ وهل أثَّرت الحركة الحقوقية بعد الثورة في مؤسسات الدولة تشريعًا وممارسة، وكيف؟ وما دور مسار الانتقال الديمقراطي في إعادة صياغة العلاقة؟
المبحث الأول: العلاقة في إطار رؤية الدولة الضيقة لحقوق الإنسان
كان لطبيعة النظام السياسي في تونس الأثر البالغ على الحركة الحقوقية في تونس. وتحت حكم بورقيبة انغمس النظام في عمليات فوقية لبناء الدولة الوطنية وبالتالي محاولة تأطير التعاطي بين مختلف الفاعلين في المجال العام (بمن فيهم الحقوقيين فيما بعد) في إطار عمليات يرسمها النظام الحاكم ولا تتعدَّى مستوى حق هؤلاء الفاعلين أحيانًا في الاستمرار في شكل منظمات أو أفراد مع صعوبة أو استحالة ممارسة أي أنشطة فعالة. وفي بدايات نظام بن علي الذي وصل للسلطة في انقلاب أبيض في عام 1987 تبنى النظام قدرًا نسبيًّا من الانفتاح خاصة على الصعيد الاقتصادي، ورفع واجهة سياسية ديمقراطية قوامها "الزبونية"، وأحدث تغييرات تشريعية ومؤسساتية من خلال إرساء منظومة قانونية تستجيب شكليًّا للمعاهدات الدولية مع اعتماد خطاب حقوقي دعائي. ولكن نظام بن علي رفض الدخول في أي شراكة حقيقية مع الفاعلين الحقوقيين المخالفين لتوجهاته أو المنتقدين لممارساته، بل سرعان ما بدأ يمارس عليهم شتى أشكال القمع والتضييق.
- تجسيد الدولة لرؤيتها لحقوق الإنسان على مستوى البنية التشريعية
تبنت الأنظمة الاستبدادية في تونس رؤية أحادية في إطار يمنع التعددية ويقيد المجالين السياسي والمدني، وتمخضت عن هذا سياسات وقوانين تستهدف إسكات الأصوات المخالفة لا سيما في مجال حقوق الإنسان. ولكن نظامي بورقيبة وبن علي قاما بهذا معتبرين أن هذا المجال هو من اختصاص الدولة حصرًا ويخضع لاعتبارات سياساتها الداخلية الأخرى، وإن أخذت أحيانًا بعين الاعتبار، ولو شكليًّا، الظروف السياسية الدولية (وخصوصًا من جانب الشركاء الغربيين) والتي مثلت أحيانًا عنصر ضغط دفع النظام لتجميل مواقفه أو التقليل من حدة الانتهاكات.
وبعد الاستقلال وفي إطار بناء الدولة الوطنية في تونس برزت صراعات مختلفة سواء داخل الحزب الواحد المهيمن أو على الساحة السياسية نفسها عمومًا، وخصوصًا فيما يتعلق بالتنظيم الاقتصادي والسياسي للدولة، وظهرت قوى مناهضة لاستبداد بورقيبة من التيارات اليسارية والقومية. وعمدت الدولة إلى تصفية خصومها سواء من خلال المحاكمات السياسية أو التصفية الجسدية؛ كما حدث لمجموعة آفاق اليسارية، التي عرفت باسم "برسبكتيف"، ثم الحركة القومية والنقابيين وحركتي الاتجاه الإسلامي والجبهة الإسلامية.
وتواصلت هذه الممارسات القمعية مع نظام الرئيس السابق بن علي من خلال محاكمات المنتمين لحركة النهضة (الاتجاه الإسلامي سابقًا) وأتباع حزب العمال الشيوعي التونسي. وعلى رغم الانفتاح النسبي في عهد بن علي فإنه ركز على مواصلة "لبرلة" الاقتصاد والانفتاح نسبيًّا على التعددية الحزبية عوضًا عن انتقال ديمقراطي حقيقي. وتبنى بن علي خطًا ليبراليًّا واضحًا، تمثل في خصخصة منشآت الدولة، ونشر روح استهلاكية في نمط عيش المواطن من خلال توسيع شريحة الطبقة الوسطى. وسعى نظام بن علي، وفي إطار إحداث التغييرات على النمط المجتمعي والسياسي المتأزم آخر حكم الرئيس بورقيبة، إلى فتح صفحة سياسية جديدة تدَّعي أنها تقوم على أساس ديمقراطي تعددي، وعلى اعتبار أن حقوق الإنسان تقتضي صيانة أمن الفرد وضمان حريته وكرامته، مما يعني تحريم التعذيب والعقوبات الجسدية وضمان حرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة والنشر وحرية المعتقد، لكن سرعان ما انقلب النظام على هذه المبادئ لينتج بعد سنوات قليلة مشهدًا ديمقراطيًّا شكليًّا ولكنه زبوني في صلبه، ويضم أحزابًا سياسية "معارضة" لكن أغلبها بالأساس موالٍ للنظام ووظيفته استكمال شكلية المشهد الديمقراطي.
- هياكل حقوق الإنسان وهيمنة السلطة عليها
- الهياكل الحكومية
لم يكن مفهوم المجتمع المدني بعد الاستقلال في منتصف الخمسينيات راسخًا في الوعي السياسي الجمعي بالمعنى السائد اليوم، فالجمعيات الأهلية التي نشأت خلال فترة الكفاح الوطني من أجل الاستقلال انصهرت بعده في خضم جهود بناء الدولة الحديثة وانضوت تحت لواء حزب الاستقلال (الحزب الحر الدستوري ثم الحزب الاشتراكي الدستوري) حيث خضعت بعد الاستقلال للقانون 154 الصادر سنة 1959.
وعقب صراعات تفجرت داخل الحزب الاشتراكي الدستوري بعد تبني خط اقتصادي ليبرالي بقيادة الوزير الأول الهادي نويرة في السبعينيات، تشكلت كتلة معارضة تدعى حركة الديمقراطيين الاشتراكيين، ضمت عددًا من المعارضين لهذه السياسات الاقتصادية. وكان مؤسسو الكتلة وراء إنشاء الرابطة التونسية للدفاع عن لحقوق الإنسان سنة 1977، والتي سعى النظام للسيطرة عليها من خلال فرض ممثلين عن الحزب الحاكم داخل هيئتها المديرة.
وصارت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان طرفًا في الصراع السياسي الذي خاضه الاتحاد العام التونسي للشغل بسبب احتجاجات 1978،التي تفجرت بسبب السياسات الاقتصادية والتضييق على العمل النقابي والسياسي. ومثَّلت هذه المواجهات صورة حقيقية لتسلط الحزب الحاكم الذي وصل إلى حد إغلاق مقر الاتحاد وسجن قياداته.
كانت تونس قد شهدت ربيعًا قصيرًا بعد تولي بن علي السلطة في 1987، حيث عُدِّلت عدّة تشريعات كتعبير على حسن النوايا خصوصًا في مجال احترام حقوق الإنسان والالتزام بالمعايير الدولية. وبين أول قرارات النظام الجديد كان إلغاء محكمة أمن الدولة؛ التي كانت بمثابة الهيكل الأول المشرف على خرق حقوق الإنسان والآلة القانونية القمعية الأساسية، والتي حاكمت أغلب السياسيين من خصوم وأعداء نظام الرئيس السابق بورقيبة. وفي سنة 1988 صادقت تونس على اتفاقية الأمم المتحدة المناهضة للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة. وأدخلت أحكام جديدة تضمن حقوق المساجين وتحديد واجباتهم وفقًا للمقاييس الدولية. وفي سنة 2001 نقل الإشراف على المؤسسات السجنية من وزارة الداخلية إلى وزارة العدل التي ألحق بها قطاع حقوق الإنسان سنة 2002. ولمزيد من تدعيم حماية حقوق الإنسان في الجهاز البيروقراطي عينت الحكومة في سنة 2004 منسقًا لحقوق الإنسان بوزارة العدل. ومن أجل إضفاء شرعية أكبر وإبراز مدى اهتمام الدولة بحقوق الإنسان من الناحية الشكلية، أنشأ النظام مؤسسات معنية بجوانب خاصّة، بعضها ذو طابع حقوقي وأسند لها مهام المتابعة وإعداد التقارير السنوية. وكانت أغلب هذه المجالس استشارية وتعيِّن الحكومة الهيئات المشرفة عليها وهي معيَّنة ولا تتجاوز معظم المهام الموكولة لها حدود المتابعة والتقييم، ومنها:
- المجلس الوطني للمرأة والأسرة والمسنين.
- المجلس الأعلى للنهوض بالتشغيل.
- المجلس الأعلى للتنمية الاجتماعية ورعاية الأشخاص المعوقين.
وكانت هذه المجالس تحت رئاسة الوزير الأول وتضم وزراء حسب مجال عمل كل مجلس بالإضافة إلى الأمناء العامين للأحزاب السياسية الممثلة في مجلس النواب والاتحادات الوطنية. ومعظم هؤلاء زبائن سياسيين يخضعون لوصاية السلطة الحاكمة من جهة، بينما غُيب كامل باقي المجتمع المدني المستقل المهتم بمجال حقوق الإنسان. وكانت هذه المجالس تجتمع مرة واحدة في السنة، وهو ما لا يتناسب مع طبيعة وتعقيد المهام الموكولة لها.
وفي سياق استراتيجية الدولة نفسه، استحدثت خلايا لحقوق الإنسان في وزارات الداخلية والعدل ووزارة الشؤون الخارجية ووزارة الشؤون الاجتماعية، وأوكل إليها بمهام تلقي شكاوى المواطنين فيما يتعلق بصلاحيات كل وزارة، إلى جانب التواصل مع مختلف الهيئات الدولية والمنظمات غير الحكومية الأجنبية الناشطة في مجال حقوق الإنسان ومتابعة المواضيع المتعلقة بالتزامات الدولة المنبثقة عن الاتفاقيات الدولية. وعلى رغم أنّ هذه الخلايا كان يمكنها ممارسة دور رقابي فيما يتعلق بأوضاع حقوق الإنسان ورفع التقارير بشأنها إلى المستويات الأعلى من النظام إلا أنها لم تقم بهذا الدور، فقد كانت في نهاية المطاف جزءًا من النظام لا يمكنها تجاوز السلطة السياسية أو التعرض لانتهاكات الأجهزة الأمنية حتى في تقارير داخلية وخصوصًا أوضاع المساجين السياسيين في السجون، وطرق معاملتهم والتضييق الذي مورس عليهم لا سيما أتباع حركة النهضة الإسلامية وعدد من المدافعين على حقوق الإنسان.
واستجابت السلطة لمبادئ باريس المتعلقة ببعث هياكل وطنية تعنى بحقوق الإنسان لكن مع ضمان استقلاليتها ومنحها الصلاحيات لضمان فاعليتها. وقام النظام بتعديل الصبغة القانونية للهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية لتصبح هيكلاً مستقلاً عن الدولة قانونيًّا ، لكن في حقيقة الأمر فإن اللوائح المنظمة لها ولطرق تسييرها جعلتها تابعة كليًّا لرئيس الجمهورية الذي تمتع بصلاحيات تعيين رئيسها الذي كان يملك سلطة مطلقة في تسيير شؤون الهيئة، وبالتالي ضمان تبعيتها للنظام القائم وعملها في إطار توجهاته. ولم يتجاوز عمل الهيئة حدود تقديم التقارير الاستشارية بل وساعدت في تبييض انتهاكات النظام لدى المنظمات الدولية الحقوقية وغيرها.
واختصارًا، قامت استراتيجية نظام بن علي في مجال حقوق الإنسان على السعي لاستيعابه بالكامل ودمجه داخل مؤسسات الدولة والتضييق على من ظل على استقلاله من الفاعلين الحقوقيين.
2- تجسيد الرؤية الأحادية من خلال سلوك الدولة في علاقة بالفاعلين الحقوقيين
سعت المنظومة السياسية لنظام بن علي إلى اعتماد خطاب رسمي يبرز اهتمام السلطة بالمنظومة الحقوقية، وذلك بالارتكاز على إنجازاتها المزعومة. وخصص الرئيس السابق جزءًا من خطاباته بمناسبة كل ذكرى لتوليه السلطة في السابع من نوفمبر، لتناول إنجازات النظام في حقوق الإنسان، وكذلك كانت الحكومة تخصّص خطابًا رسميًّا في كل عاشر من ديسمبر، ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وارتكزت أغلب هذه الخطابات على تعديد المناقب والإنجازات المزعومة بشأن تواصل الانفتاح السياسي والتعددية الحزبية وحماية حقوق الطفل والمرأة، إلخ. وتولت الآلة الحزبية المهيمنة على كل القطاعات وأهمها القطاع الإعلامي التسويق لصورة ناصعة حول قيمة حقوق الإنسان في الدولة والتهجم على نشطاء حقوق الإنسان والمعارضين السياسيين. وعلى المنوال نفسه ساهمت بعض الأحزاب السياسية القانونية الممثلة في مجلس النواب في تلميع صورة النظام الحقوقية.
- التعاطي مع المدافعين على حقوق الإنسان
واعتمدت الدولة في تعاطيها مع الفاعلين الحقوقيين، خصوصًا المدافعين المستقلين عن حقوق الإنسان، على مقاربات الاحتواء وتشمل تمكين البعض من مناصب سياسية والقمع والتضييق على آخرين. وبصورة أخرى، سعت الدولة إلى احتواء من يمكن احتواؤهم، وقمع الذين يصرون على مواجهة الدولة بواقعها الحقوقي السلبي. وظلَّت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان المنظمة الوحيدة المستقلة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان فترة طويلة. ولكن تدخلات النظام، وعلى رغم عجزه عن حل الرابطة بسبب ارتباطها بإرث جمعياتي منذ الاستقلال، شلتِّ عمل الرابطة التي كانت حتى عام 2000 المنظمة الرئيسية العاملة في كشف الانتهاكات الحقوقية في الدولة، واحتمى بها أغلب المضطهدين في جميع المجالات ومثلت قبلة لهم لعرض ملفاتهم والشكوى من الانتهاكات التي تمارسها الدولة بمختلف هياكلها.
ومن جهة أخرى، شكل الاتحاد العام التونسي للشغل فضاءً مزدوجًا يتم من خلاله احتواء المدافعين الحقوقيين على مستوى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وفي الوقت نفسه فضاءً للصّراع ضدّ السلطة. وشكلت الأرضية التاريخية للاتحاد كونه كان مشاركًا في حركة الاستقلال الوطني التي كان بين قادتها زعماء تاريخيين للاتحاد أمثال محمد علي الحامي وفرحات حشاد والحبيب عاشور أساسًا لشرعيته النضالية وحاجزًا ضد مساعي الدولة لاستيعابه تمامًا، وإن لم يمنعها من الدخول في مواجهات معه والتضييق على عمله.
وقامت قوات الأمن بمحاصرة مقرات منظمات حقوقية مثل منظمة حرية وإنصاف، التي تم التضييق عليها من خلال المراقبة اللصيقة والمستمرة وإيقاف عدد من أعضائها. واضهدت أجهزة الأمن الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، لمنع اجتماعاتها أو وصول المضطهدين إليها خصوصًا من السياسيين، إلى جانب التضييق على الناشطين في مقرات سكنهم، مثل المناضل الحقوقي علي بن سالم الذي عرف حصارًا بمقر إقامته في مدينة بنزرت منذ 2005، والملاحقة القضائيَّة عن طريق فبركة تهم جنائية ضدهم على غرار قضية الحقوقي والصحفي توفيق بن بريك. واجتهدت أجهزة الأمن في إغلاق الفضاء الإلكتروني أمام الناشطين، ومراقبته بشدة على غرار موقع تونس-نيوز (Tunisia News) الذي يعتبر أحد أهم المواقع الإعلامية. وتعرّض عمل المدافعين على حقوق الإنسان للتضييق ومنعوا من العمل العلني من أجل توثيق الانتهاكات، مما اضطر عديد منهم للعمل سرًّا لإجراء اتصالاتهم وتوثيق الحالات من أجل إعداد التقارير الخاصّة بأوضاع حقوق الإنسان في تونس.
ومن جهتهم فقد كانت استراتيجية الفاعلين الحقوقيين ترتكز بالأساس على توثيق انتهاكات الدولة في المجال الحقوقي، من أجل التشهير بها، والتواصل مع المنظمات الدولية المعنيّة بالشأن الحقوقي التونسي على غرار الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان، والمفوضية الأوروبية لحقوق الإنسان ومجلس حقوق الإنسان التابع للجمعية العامة للأمم المتحدة لإصدار تقارير وتنظيم حملات مناصرة.
وحتى يستعيد نظام بن علي السيطرة على الجمعيات عمومًا والحقوقية خصوصًا، عدّل قانون الجمعيات، ليفسح المجال لأتباع الحزب الحاكم (التجمع الدستوري الديمقراطي) للانخراط في الجمعيات التي تفرض قوانينها الدّاخلية موافقة هيئاتها المديرة على كل طلب للانخراط، حيث يؤكد نص القانون على أنه "لا يمكن للجمعيات ذات الصبغة العامة أن ترفض انخراط أي شخص يلتزم بمبادئها وقراراتها إلا إذا كان فاقدًا لحقوقه المدنية والسياسية ... وفي صورة حصول خلاف حول الانخراط، يمكن لطالب الانخراط أن يرفع دعوى لدى المحكمة الابتدائية الكائن بدائرتها مقر الجمعية." وكانت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان هي المقصودة أساسًا بهذا القانون لمنعها من صد محاولات السلطة للانخراط فيها والسيطرة عليها من خلال هياكلها.
وبداية من سنة 2000 تصدَّرت مسألة الحريات العامة (حرية التعبير، وحرية الصحافة، وحرية النشر، وحرية التنظيم الحزبي والجمعياتي) مطالب الحركة الحقوقية بسبب انتهاكات النظام المنهجية في هذا الصدد، إضافة إلى العمل ضد ممارسات أجهزة الأمن في تعذيب نشطاء سياسيين من توجهات مختلفة.
وفي مواجهة تصاعد وتيرة النشاط الحقوقي وصدور تقارير دولية تتعرض لانتهاكات تونس لحقوق الإنسان اختارت الدولة بدورها نسقًا تصاعديًّا في إحكام قبضتها على الساحة السياسية عمومًا والحقوقية خصوصًا، حيث قاطع النظام مناقشة التقرير السنوي الخاص بتونس في الاجتماع الدوري للجنة حقوق الإنسان سنة 1998، واستغل عقد مؤتمر الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان سنة 2000 للانقضاض عليها من خلال تعطيل مؤتمرها. واستغل النظام استقطابه لعدد من أعضاء الهيئة المديرة للرابطة التونسية قاموا برفع قضية من أجل إبطال أعمال المؤتمر. واستمر الصراع في أروقة المحاكم من سنة 2001 إلى سنة 2009 حين أُقر الإبطال وبذلك حافظت السلطة على الأعضاء الموالين لها داخل الهيئة المديرة والذين كان قد تم استبعادهم في مؤتمر عام 2000. واستعمل النظام الطريقة نفسها في رفع قضايا من أجل إبطال المؤتمرات الجهوية للفروع التي استبعدت الأعضاء التابعين للحزب الحاكم (التجمع الدستوري الديمقراطي)، وتوالت إجراءات مختلفة للنظام للتضييق على النشطاء من خلال استعمال مختلف وسائل الإعلام بغرض تشويههم والتشهير بهم وتعطيل تحركاتهم.
واستمر النظام في استعمال الترغيب والترهيب مع نشطاء حقوق الإنسان، وتجلى هذا مع الانفجار الاجتماعي الذي حصل سنة 2008 بجهة الحوض المنجمي حيث تم منع نشطاء حقوق الإنسان والصحافة من دخول المنطقة التي أغلقتها قوات الأمن والجيش. وشهدت المنطقة اعتقالات عديدة لمواطنين وخصوصًا الناشطين النقابيين ومنهم عدنان الحاجي، الناطق باسم الاحتجاجات في جهة الحوض المنجمي. وحُكم على الحاجي بالسجن لعشر سنوات، قضى منها 17 شهرًا أطلق سراحه بعدها وبالاستعانة بقيادات الاتحاد العام التونسي للشغل من خلال من اجل العمل على احتواء مناضلي الحوض المنجمي وهو دور لعب فيه اتحاد الشغل دور وسيط مهم.
المبحث الثاني: العلاقة في إطار رؤية تشاركية لحقوق الإنسان
أدت التراكمات السياسية والاجتماعية والانتهاكات الحقوقية المتواصلة لنظام بن علي وانفراده بتقرير مصير البلاد مع فشل سياساته الاقتصادية بالنسبة للقطاعات الأفقر، إلى انفجار اجتماعي في 17 ديسمبر 2010 تلته مظاهرات واحتجاجات غير مسبوقة في تاريخ البلاد انتهت في 14 يناير 2011 بهروب الرئيس بن علي وتهاوي نظامه ومساهمة الحركة السياسية المعارضة والحركة الحقوقية ومكونات المجتمع المدني الأخرى في إعادة صياغة النظام السياسي للدولة، والمشاركة في مسار الانتقال الديمقراطي على أساس المواطنة التي تؤطرها حقوق الإنسان على أصعدة التشريع والممارسات والمؤسسات. وتولدت علاقة تشاركيَّة بين الفاعلين الحقوقيين والسلطة التي كانت في طور التشكل لكن مع مرور الوقت بدأت هذه العلاقة تضطرب وتعاني من الفتور حينًا ومن الصدام أحيانًا أخرى بفعل الضغوط الاقتصادية والاختلافات السياسية.
خلقت ثورة 14 يناير 2011 فرصة سانحة لإيلاء حقوق الإنسان مكانة مهمة في بناء الدولة الديمقراطية، وهي فرصة حرص عليه النشطاء الحقوقيون، وعدد ليس بالقليل منهم أيضا ناشطون سياسيون وفي الحركة العمالية، من خلال مشاركة الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، والمجلس الوطني للحريات في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي. وتولَّت هذه الهيئة الإشراف على المراحل الأولى للانتقال الديمقراطي وخصوصًا الإجراءات اللازمة لتفكيك المنظومة القمعية السابقة. ولعب مدافعون عن حقوق الإنسان دورًا أساسيًّا في أن تكون المبادئ الكونية لحقوق الإنسان العتبة الدنيا لإعادة هيكلة مؤسسات الدولة، خاصة وقد حدث تغير نفسي ملحوظ للشعب التونسي الذي كسر حاجز الخوف من الآلة القمعية البوليسية.
وعلى مستوى الحقوق السياسية والمدنية توافقت الحركة الحقوقية والنظام الجديد في تحقيق انفتاح كلي على الساحة السياسية خصوصًا في مجال حرية التعبير وحرية التنظيم. وقارب عدد الجمعيات الحقوقية الألف بمختلف ولايات الجمهورية، في الفترة الممتدة من مارس 2011 إلى 2016. وكان لنشطاء حقوق الإنسان دورًا رقابيًّا مهمًا في مراحل الانتقال الديمقراطي لضمان حسن اعتماد مبادئ حقوق الإنسان من خلال المشاركة في حصر وتصفية إرث النظام القديم والمساهمة في الوقفات الاحتجاجية التي كانت ترفض تبييض أزلام النظام السابق، والتي عرفت باعتصامات القصبة1. وأجبرت هذه الاحتجاجات حكومة محمد الغنوشي على إقالة وزراء النظام السابق، ثم أجبرته هو نفسه على الاستقالة وتكليف الباجي قائد السبسي بتولي رئاسة الحكومة الانتقالية في مارس 2011.
ونجم عن التوافق المبدئي بين الفاعلين الحقوقيين والدولة أن قامت الأخيرة بإعادة النظر في عدد من الهياكل الرسمية التي تعنى بحقوق الإنسان، من خلال إقامة لجان وهيئات مستقلة على غرار لجنة تقصي الحقائق عن الفساد والرشوة، والهيئة العليا المستقلة للانتخابات والتي ترأسها كمال الجندوبي، وهو ناشط حقوقي وعضو الشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان، واللجنة الوطنية لتقصّي الحقائق في التجاوزات المسجلة خلال الفترة الممتدة من 17 ديسمبر 2010 إلى زوال مهامها، والتي ترأسها الحقوقي توفيق بودربالة الرئيس السابق للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. ولعل إسناد المناصب القيادية في هيئات مستقلة كهذه لمناضلين حقوقيين يعبِّر عن المكانة التي احتلتها الحركة الحقوقية في إعادة صياغة مؤسسات الدولة إلى جانب التعبير عن الانسجام بين الدولة الانتقالية ونشطاء حقوق الإنسان الذين نظر إليهم باعتبارهم قاطرة تجرُّ الدولة نحو إرساء منظومة قانونية ترتكز على ضمان الحقوق الكونية بمختلف روافدها (السياسية، والمدنية، والاقتصادية، والاجتماعية والثقافية).
لكن حالة الكبت السياسي الذي عاشته البلاد منذ الاستقلال في منتصف الخمسينيات ساهمت في طغيان الاهتمام بالحقوق السياسية والمدنية على جملة التحولات والإصلاحات المرتبطة بمعالجة آثار النظامين السابقين. ومع انتخاب أعضاء المجلس التأسيسي في 23 أكتوبر 2011 وبداية تشكل مؤسسات الدولة برزت اختلافات وجهات النظر في المسائل الدستورية المنظمة للدولة، لا سيما في مجال ضمان حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية.
- اضطراب العلاقة بين الفاعلين الحقوقيين والدولة
تعقدت العلاقة بين الفاعلين الحقوقيين والدولة في أثناء عملية صياغة الدستور بسبب طريقة وضع وإدارة السياسات العامة، مما نجم عنه مواجهات واختلافات بين شتى الأطراف السياسية، وأبرزها الصراع الأيديولوجي بين القوميين والعلمانيين والإسلاميين. ولا يجب النظر إلى هذا التخلخل في العلاقة بصورة سلبية؛ حيث إن الطبيعة الأساسية للعلاقة بين الحركة الحقوقية والدولة صراعية بفعل عمل الحركة رقيبًا وناقدًا للدولة ولسياساتها، من أجل منع وقوع الانتهاكات للحقوق السياسية والمدنية أو لضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وركزت منظمات حقوقية معينة على التصدي لأي محاولة من قبل النظام الآخذ في التشكل من أجل إعادة إنتاج نفس الوسائل القمعية المنتهكة لحقوق الإنسان وهو ما طرح إشكالية المبادئ الحقوقية بين الشعار والممارسة التي فرضها واقع سياسي متغير، وواقع اقتصادي متأزم وواقع اجتماعي معقد.
أ - تأثير مبادئ حقوق الإنسان على العلاقة بين الفاعلين والدولة
أبرزت عملية صياغة الدستور تعقيدات العلاقة بين الدولة ممثلة في المجلس التأسيسي والفاعلين الحقوقيين، حيث خلق التنوع الأيديولوجي تناقضات عبَّرت عنها الاختلافات بين الأحزاب السياسية والمنظمات الأهلية المتعددة في تونس. وغلب تياران أساسيان؛ الحداثي والإسلامي، على صراعات الساحة الحقوقية رغم وجود فاعلين حقوقيين آخرين اهتمّوا بالنوع والعرق والحقوق القطاعية (نقابة الصحفيين، واتحادات العمال، ونقابات القضاة، ونقابات الأمن، إلخ.). ومثَّلت الاختلافات الأيديولوجية نقطة فارقة في تحديد العلاقة على رغم التقائها في مستويات عملية. وعلى سبيل المثال تستميت الجمعية التونسية للدفاع عن اللائكية (العلمانية) في الدفاع عن جوهر حقوق الإنسان، بينما يتركز عمل المرصد التونسي للحقوق والحريات على الدفاع عن المتهمين في قضايا الإرهاب. وهكذا تدافع المنظمتان عن حقوق المتهمين في محاكمة عادلة لكنهما يختلفان في جوهر هذا النوع من القضايا بسبب اختلافاتهم الأيديولوجية.
ويُفترض في الفاعلين الحقوقيين الإيمان بالمبادئ الحقوقية التي تمثل أرضية التفاعل بينهم وبين الدولة على أساس أنها الطرف الذي ما يكون غالبًا في قفص الاتهام بسبب انتهاك هذه الحقوق أو عدم ضمان تحقيقها، لكن في واقع الأمور تتداخل الانتماءات الأيديولوجية المسيطرة داخل المنظمات والشبكات الحقوقية أحيانًا مع مرجعيتها الحقوقية، بل وقد تؤدي إلى صراع بين هذه المرجعية وبين هذه الممارسات مثلما حدث في حالة مرصد الحقوق والحريات الذي ينتمي القائمون عليه لتوجهات إسلامية ويركزون عمل المرصد على الدفاع عن حقوق المتهمين في قضايا الإرهاب. ونشأت المنظمة أساسًا للدفاع عما رأته مكتسبات إسلامية مهددة في الدولة المدنية منطلقة من وجهة نظر أن المسيطرين على الدولة، من الحداثيين الذين رضخت لهم حركة النهضة، يشنون حملة سياسية ضد الإسلاميين المستقلين باسم مقاومة الإرهاب، وفي نفس السياق فإن المرصد لم تكن له مشاركة في الدفاع عن أي حقوق أخرى، ناهيك بالطبع عن حقوق التنوع الجنسي أو المساواة في الميراث بين المرأة والرجل. وأعلنت المنظمة في بعض الأحيان مساندتها للتيارات الدينية المتشددة التي تتعرض لانتهاكات باسم قانون الإرهاب .
ومن ناحية أخرى تشكلت عدة منظمات معنية بمراقبة نشاط الحكومة والمجلس التأسيسي ومن بعده مجلس نواب الشعب، على غرار جمعية أنا يقظ التي ركزت على فضح الفساد المالي والإداري وتدعيم الشفافية. ولقد كان لهذه المنظمة أثرًا بارزًا على الساحة السياسية في تونس من خلال متابعتها لعدد من الملفات والتبليغ عنها إلى حد رفع دعاوى قضائية ضد المخالفين.
وكان للفاعلين الحقوقيين دورًا بارزًا لدفع النظام عندما سيطر عليه "الإسلاميون" إلى تضمين مبادئ حقوق الإنسان في الدستور؛ حيث قادت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وقفة احتجاجية مهمة أمام مقر المجلس الوطني التأسيسي، واستجاب أعضاء لجنة الحقوق والحريات بالمجلس لمطلب توسيع الاستشارة قبل الصياغة النهائية، ونسجت على منوالها باقي اللجان التي تعنى بالحقوق (حق الشغل، وحق الإضراب، ونقابات الأمن، إلخ.).
وتولي ناشطون حقوقيون مناصب سياسية مهمة. فتولى كمال الجندوبي رئاسة الهيئة المستقلة للانتخابات وتولى محمد المنصف المرزوقي، المناضل الحقوقي التونسي البارز، منصب رئيس الجمهورية لفترة من الوقت. وواجه المرزوقي انتقادات من حقوقيين، خصوصًا في قضية تسليم البغدادي المحمودي إلى السلطات الليبية وعدم تدخله لضمان حقوقه كسجين في تونس، وتسليمه إلى دولة غير مستقرة لا يمكنها توفير ضمانات كافية لعقد محاكمة عادلة.
وسعت الدولة إلى طمأنة الساحة الحقوقية من خلال هياكل حقوقية رسمية تضمنها الدستور وتمحور دورها حول مراقبة الدولة وتولي الملفات التي لا يمكن أن تكون فيها الدولة طرف نزاع وحكمًا في الوقت نفسه، وذلك لضمان التزام الدولة بتعهداتها الدستورية. ولكن بعض الحقوقيين المستقلين انتقدوا هذه الهياكل لأن أغلبها ذي طابع استشاري، ولا يعني انتخاب أعضائها الشيء الكثير، حيث تطغى على الانتخابات مقاربة المحاصصة السياسية، مثلما حدث في حالة المجلس التأسيسي من أجل انتخاب هيئة الحقيقة والكرامة، حيث شهد المجلس سجالاً وتوافقات حول المرشحين لها، خصوصًا فيما يتعلق بالرئيسة الحالية للهيئة سهام بن سدرين التي تعتبر من المناضلات الحقوقيات البارزات والتي لم تتوان في فضح انتهاكات النظام السابق.
ب- تأثير رهانات الدولة على العلاقة مع الفاعلين الحقوقيين
تميزت علاقة الدولة بالحركة الحقوقية على مستوى السلطة السياسية ومؤسسات الدولة بالتوافق منذ انتخابات المجلس الوطني التأسيسي سنة 2011، مرورًا بالانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2014، ولكنها كانت تتعرض تدريجيًّا لضغوط مختلفة بسبب الاختلاف على دستور يناير 2014، وحدود ممارسة الدولة لسلطاتها العامة. وأثَّرت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والدولية سلبًا على العلاقة بين الدولة والحركة الحقوقية. فقد ضغط تباطؤ النمو الاقتصادي والمطالبات الشعبية على النظام الحاكم ووضعه أمام تحديات صعبة لم ينجح في مواجهتها بوضوح، فانفتح المجال أكثر أمام احتجاجات شعبية على قضايا هي حقوقية من أحد الزوايا ولكنها أيضا سياسية وتأسيسية في أي دولة مثل الحق في العمل والحد الأدنى من الخدمات الاجتماعية في مجالات مثل الصحة والتعليم. وأدى الإخفاق في ضمان حقوق اقتصادية واجتماعية معينة إلى عدد من الاحتجاجات.
وواجهت الدولة هذه المعارضة الشعبية بالعنف، فانتقدها مدافعون عن حقوق الإنسان بعد اعتداءات متكررة على صحفيين ومناضلي الاتحاد العام التونسي للشغل، إلى جانب استعمال العنف في فض الاعتصامات مثلما وقع في أحداث سليانة التي قمعتها قوات الأمن التونسي بشدة في نوفمبر 2012، مما أدى إلى سقوط أكثر من مئة جريح. وبرَّر مسؤولون في الدولة ممارسات أجهزة الأمن القمعية، فصرح وزير الداخلية علي العريض بأنه ليس من سلطاته إعطاء الأوامر التفصيلية حول كيفية تدخل قوات الأمن لفض الاحتجاجات، وأنه في الوقت نفسه لم يكن لديه علم بالوسائل المستعملة في الصدد. ولإرضاء الفاعلين الحقوقيين كلفت السلطة فريقًا بتقصي الحقائق في احتجاجات سليانة ولكنه لم ينته إلى نتائج وتوصيات واضحة، ولم تُوقَّع أي إجراءات تأديبية ضد مسؤولي الأمن المتسببين في الضرر المادي للمحتجين وإن تكفلت الدولة بتوفير الرعاية الصحية لهم. وسلكت الدولة المنهج نفسه في اعتداء وقع على مناضلي الاتحاد العام التونسي للشغل، حيث تنصلت من علاقتها بمعتدين ينتمون إلى رابطات حماية الثورة، مع تكوين لجنة لتقصي الحقائق شارك فيها نشطاء حقوقيون منهم أعضاء في الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان .
وأدى قانون مكافحة الإرهاب إلى مواجهة بين الفاعلين الحقوقيين والدولة. وعلى رغم إقرار بعض الحقوقيين بأهمية وجود قانون لمناهضة الإرهاب، فقد دعوا إلى أن يتمتع المتهمون في قضايا الإرهاب بجميع الضمانات الدستورية. وعلى رغم أن فاعلين حقوقيين شاركوا في صياغة مواد القانون إلا أن الدولة لم تلتزم به تمامًا على صعيد الممارسة، وخصوصًا فيما يتعلَّق بالوقاية من التعذيب حيث وثَّق القضاء التونسي ممارسات قمعية ومهينة للمساجين من خلال تقارير طبية. وانتقد حقوقيون تقارير لجان تحقيق ضمت أعضاء من مجلس النواب ووصفوها بالانحياز إلى جانب الأجهزة الأمنية. وفي هذا السياق أكدت منظمات حقوقية على استمرار حالات التعذيب في السجون ومراكز الإيقاف. وأعلنت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان أنه تم تسجيل أكثر من 400 حالة تعذيب بين أكتوبر 2013 وأكتوبر 2015. والتزمت السلطات الصمت تجاه اتهامات الفاعلين الحقوقيين، ووعدت في بعض الحالات الصارخة بالتحقيق في الانتهاكات.
خــــــــــاتمـــــــــــــة
تُظهر محصلة السنوات السبع التالية للثورة التونسية مكاسب عديدة إيجابية على الصعيد الحقوقي نجمت عن تغيير جذري في نظام الحكم السلطوي الاستبدادي الذي ساد البلاد في عقود ما بعد الاستقلال. وقد انفتح المجال أمام ترسيخ مبادئ المواطنة وفي قلبها طائفة من الحقوق والحريات في إطار انتقال يحاول ترسيخ الممارسة الديمقراطية لمؤسسات الحكم تحت أعين منظومة حقوقية تلعب دور الرقيب والناقد والناصح بل والمشارك أحيانًا مع مؤسسات الدولة.
لكن هذه المكاسب لا تنفي سلبيات عديدة نجمت بدورها عن التحولات السياسية والاقتصادية التي تمر بها تونس، وعدم الاستقرار الأمني بسبب الإرهاب. وتكمن أكثر السلبيات في فشل الدولة وعدم قدرة النظام الحقوقي للضغط من أجل أو الدفع تجاه سياسات واقعية لمواجهة أعقد مشكلات تونس، والتي تكمن في مجال الاقتصاد. وأدى تفشي البطالة والانسداد الاقتصادي وتبني سياسات نيو ليبرالية (بل ومحاولات الصلح مع بعض رجال أعمال النظام القديم) إلى شعورٍ بالخذلان بين فئات واسعة وخاصة بين الشباب ومواطني المناطق الفقيرة الهامشية وخصوصًا في الجنوب. وبدلاً عن التوجه نحو تغيير في السياسات الاقتصادية، ربما كان صعبًا في ضوء الأوضاع الإقليمية والدولية، اقتصر دور الدولة إلى حد كبير على مواجهة تبعات الفشل الاقتصادي والتي تمثلت في مواجهة الاحتجاجات الاجتماعية المتتالية بطرق تنتهك الحقوق الأساسية، وصلت إلى القبض على المدونين من حين لآخر إلى جانب ما وثقه ناشطون حقوقيون من عودة التعذيب في مراكز إيقاف وسجون في تونس لا تشمل فقط موقوفي القضايا الإرهابية، وإنما تطال كذلك موقوفي الحق العام.
وسيظل استشراف آفاق وتحديات العمل الحقوقي في تونس في المستقبل رهينة، ربما لسنوات طويلة، بالوضع السياسي المتذبذب والاقتصادي المتردي وتأثيره على الواقع الاجتماعي الخانق. ويعقد هذه الصورة القاتمة نسبيًّا وجود خطر الإرهاب من جانب الجماعات الجهادية، التي تدعي الدولة أن عددًا كبيرًا منهم عاد من بؤر التوتر الإقليمية. ومع غياب الحلول السريعة الممكنة لهذه المعضلات الاقتصادية والأمنية وضعف قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها الاجتماعية في ضوء الظروف الإقليمية والدولية وسياسات النظام الحاكم،ستظل حقوق الإنسان في تونس تحت التهديد على رغم وضوح الإرادة السياسية لغالبية الطبقة الحاكمة في رفض العودة إلى ممارسات وسياسات ما قبل ثورة يناير 2011.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.