ملخَّص
في خضم الديناميات الاحتجاجية التي شهدها المغرب ومحيطه الاقليمي، في سياق “الربيع العربي”، ساهم الصعود السياسي القوي للتيارات الاسلامية، مع ما صاحبه من مواقف بعض التوجهات الراديكالية والمتطرفة، في إثارة هواجس وتخوفات قطاعات من الفاعلين السياسيين والمدنيين حول التداعيات المحتملة على مستقبل الديمقراطية وحقوق الانسان في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ شعوب المنطقة المنتفضة ضد مظاهر وعناوين الاستبداد والتسلط. وإلى حد كبير، وجدت تلك المخاوف سندًا لها في تاريخ تصادم الفاعلين الاسلاميين مع المنظومة الحقوقية الدولية ونشطائها ومؤيديها المحليين. وتتوخى هذه الورقة مقاربة علاقات الاسلاميين بالحركة الحقوقية المغربية وأبرز المحطات التاريخية والقضايا الخلافية في هذا المضمار، إضافة إلى تناول نماذج من الفعل الحقوقي للاسلاميين سواء من خلال تجاربهم ومواقعهم كفاعلين في المشهد المدني أو الحكومي.
اقرأ المزيد
على امتداد تاريخ المغرب المعاصر، وخصوصًا منذ إعلان استقلاله في منتصف الخمسينيات، لم تُطرح مسألة الديمقراطية وحقوق الانسان بنفس الحدة واستأثرت بنفس الاهتمام الذي حظيت به خلال العقدين الاخيرين. وأسهم فعل ونضالات الحركة الحقوقية والديمقراطية المغربية وكذا أجواء الانفتاح السياسي، المدشن منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، في تأطير هذا التحول ووضع المغرب في مكانة متميزة ضمن دول المنطقة السائرة في طريق الدمقرطة، حتى لو بصورة تدريجية وبطيئة. وبالتوازي مع ذلك، فرض التصاعد التدريجي لمكانة وأدوار الاسلاميين، على الواجهة الاجتماعية والسياسية، مجموعة من التوترات، التقاطبات والتحديات على مستوى النقاش والفعل الحقوقي بالمغرب.
بالنظر الى مجمل تصوراتهم، مواقفهم وتركتهم التاريخية في المجال، تثير علاقة الاسلاميين بالمسألة الحقوقية مجموعة من المفارقات، والانتقادات والمخاوف لدى الفاعلين السياسيين والمدنيين من غير الإسلاميين. فبالاضافة الى توصيف تلك العلاقة بالمعقدة والملتبسة، غالبا ما يتهمهم الخصوم والمنافسون بالتعامل الانتقائي، الانتهازي والتكتيكي مع الديمقراطية وحقوق الانسان. ويثير تعرض نشطاء الحركة الاسلامية لمختلف أنواع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، مفارقة مخاصمتهم التاريخية للمرجعية الكونية وللمنظومة القانونية الدولية المؤطرة لهذه الحقوق، والموفرة لشتى آليات الحماية لها. وفي معرض انتقاده لبعض المواقف السلبية للاسلاميين من الديمقراطية وحقوق الانسان، يقول الزعيم السياسي الإسلامي التونسي راشد الغنوشي: "وإن عجبي لشديد، من أناس مطحونين بالديكتاتوريات، مقهورين بالاستبداد، وهم مع ذلك، بدل أن يتصدوا لخصمهم الحقيقي: الاستبداد، نراهم يختلقون مشكلات مع الديمقراطية."
وتساهم السوابق التاريخية والعديد من المواقف الحالية للحركات الاسلامية في توتر علاقتها، الصدامية في أغلب الاحيان، بالحركة الحقوقية والديمقراطية بالمغرب مع ما يصاحب ذلك من اتهامات وتخوفات متبادلة وأجواء مشحونة ومواجهات. ووصلت تلك التوترات بين الطرفين ذروتها، ابتداءا من العقد الأول من القرن الحالي، في العديد من المحطات وحول مجموعة من القضايا والمعارك ذات الصلة بالشأن الحقوقي.
وفي ظل التحولات السياسية الاخيرة التي عرفها المغرب، ساهم الصعود الانتخابي للاسلاميين المدمجين سياسيًا وقيادتهم للحكومة من خلال حزب العدالة والتنمية في عودة التخوفات والنقاشات حول مستقبل الديمقراطية وحقوق الانسان.
الإطار العام للدراسة:
تتوخى هذه الورقة مقاربة موضوع الإسلام السياسي وعلاقاته بالمسألة الحقوقية في المغرب، وبشكل خاص ملامسة بعض الجوانب الأساسية لإشكالية الحقوق والحريات على مستوى مواقف وممارسات الإسلاميين بالمغرب. ومقاربة هذا الموضوع رهينة، من جهة، بطبيعة النظام السياسي في المغرب وكذا السياق التاريخي لعلاقة الإسلاميين المغاربة بالمسألة الحقوقية. كما أنها، من جهة أخرى، لا يمكن أن تتم بمعزل عن استحضار وتحديد مواقع ومواقف مختلف الفاعلين مع ما يستتبعه ذلك من رصد للرهانات، الإستراتيجيات والتجاذبات بهذا الخصوص. وخلافا لطرح الموضوع من زاوية معيارية ونظرية لعلاقة الدين الإسلامي، ومدى انسجام وتوافق تعاليمه، مع المبادئ الديمقراطية والمنظومة الحقوقية؛ تسعى هذه الدراسة لتناول دور النخب والفاعلين الاسلاميين في المجال وذلك انطلاقا من رصد مواقعهم، مواقفهم وممارساتهم الفعلية. وفي هذا الاتجاه، اعتمدت الدراسة نوعين من المقاربات:
- المقاربة الوثائقيةوالتي تستند على تجميع وتحليل وثائق وأدبيات ذات صلة بالموضوع، تشمل وثائق قانونية وأدبيات أكاديمية، إضافة إلى إنتاجات الفاعلين المدنيين والإعلاميين (بيانات، تصريحات وحوارات، مقالات وتغطيات صحفية،خطب وفتاوى، ... الخ.)
- المقاربة الميدانيةاعتماداعلى مقابلات مع فاعلين مدنيينونشطاء حقوقيين (في هيئات جمعوية مختلفة) إضافة إلى بعضالمثقفين والمهتمين.
ومن ضمن الأسئلة التي يستحثها التفكير الأولي حول هذا الموضوع:
ماهي مختلف تجليات علاقة الإسلاميين المغاربة بمسألة الحقوق والحريات وكذا تفاعلاتهم مع الحركات والتنظيمات الحقوقية بالمغرب؟ كيف تنظر المنظمات الحقوقية إلى الإسلاميين وكيف تعمل معهم؟ ما هي أبرز القضايا والإشكالات التي تشكل تحديا لتصورات الإسلاميين حول الحريات والحقوق في مقابل تصورات خصومهم ومنافسيهم؟ وماهي أهم لحظات ومحطات السجال والتصادم بين هؤلاء الفرقاء بهذا الخصوص؟ بأي معنى يمكن الحديث عن تجربة وفعل حقوقي للإسلاميين بالمغرب؟ وكيف يمكن تقييم أداء وحصيلة التجربة الحقوقية لإسلامي حزب العدالة والتنمية من خلال إدارته لدفة الحكومة المغربية غداة حراك "الربيع العربي"؟ وقبل التعامل مع هذه الاسئلة، من المهم أن تتموضع الدراسة في سياقها التاريخي بما يشمل تموقعات أهم الفاعلين الاسلاميين بهذا الخصوص.
التحولات الجيوسياسية إقليميا ووطنيا
بحلول أواخر سنة 2010، عرفت المنطقة الجغرافية المعروفة ب "العالم العربي ـ الاسلامي" موجة من الديناميات الاحتجاجية اصطلح على تسميتها ب "الربيع العربي". وقد أفرز هذا الحراك المجتمعي العام مجموعة تحولات كبرى داخل عدة انظمة عربية. وقد انطلقت شرارة هذا الحراك من تونس، وأدى إلى الاطاحة بالرئيس السابق زين العابدين بن علي، لتجتاح مختلف دول المنطقة بأشكال ودرجات مختلفة الحدة والنتائج (مصر، ليبيا، اليمن، سوريا، البحرين، الاردن، المغرب، إلخ.). وبغض النظر عن مجمل مآلات هذا الحراك فإن أهم خصائصه المزاوجة بين الاحتجاج على الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والمطالبة بالتغيير السياسي نحو نظام ديمقراطي قائم على احترام الحريات وحقوق الانسان.
بعد عشرات السنوات من استراتيجيات "الأسلمة من تحت"، ساهمت تقلبات الحراك العام من "ربيع عربي" إلى "ربيع إسلامي" في حمل عديد من التنظيمات الاسلامية، عبر صناديق الاقتراع، إلى صدارة المشهد السياسي المؤسساتي وكذا الى اقتسام مواقع المسؤولية والتدبير الحكومي في مجموعة من البلدان بينما على الناحية الأخرى تردت عدة بلدان إلى مستنقع الحرب الأهلية والتي بلغت مستوى انهيار شبه كامل للدولة في بلدان مثل ليبيا واليمن. وساهم الصعود القوي والتموقع الجديد للتيارات الاسلامية، مع ما صاحبه من تجاوزات بعض التوجهات الراديكالية والمتطرفة، في إثارة مجموعة هواجس وإلى تعبئة في صفوف الفاعلين السياسيين والمدنيين حول التداعيات المحتملة بخصوص تقاسم السلطة أو مستقبل الديمقراطية وحقوق الانسان في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ شعوب المنطقة المنتفضة ضد مظاهر وعناوين الاستبداد والتسلط.
الحركة الإحتجاجية 20 فبراير في المغرب
لم يكن المغرب بمعزل عن واقع وإفرازات التحولات السياسية والمجتمعية الجارية في محيطه الإقليمي. وتجسدت النسخة المغربية لهذا الحراك في حركة (شباب) 20 فبراير باعتبارها امتدادا موضوعيا ونوعيا في تاريخ الفعل الاحتجاجي للحركات الاجتماعية بالمغرب وفي علاقاتها بالسلطة القائمة. وعملت حركة 20 فبرايرعلى تعبئة الرأي العام المغربي حول مجموعة مطالب سياسية واجتماعية منادية بالكرامة، وإرساء الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.ووجدت مطالب الحركة تكثيفها في الشعار الناظم لمختلف تنسيقياتها المحلية ومسيراتها الوطنية والمتمركز حول "محاربة الفساد وإسقاط الإستبداد".
وبهدف تطويق الفورة الاحتجاجية وتوجيهها بمعزل عن المنطق الصدامي الذي شهدته بلدان أخرى، عمدت السلطات بالمغرب إلى مواكبة الحراك والتعاطي معه بمنطق استباقي وإدماجي من خلال تقديم مجموعة عروض سياسية وحزمة ترضيات اجتماعية. وفي هذا الاتجاه، شكل الخطاب الملكيفي9 مارس 2011 خارطة الطريق لمسلسل إصلاحات سياسية وسقفا يتفاعل معه باقي الفرقاء المدنيين والسياسيين. وتجسدت أهم ملامح ونتائج هذا المسلسل في الانخراط في مراجعة دستورية أفضت الى تبني دستور جديد وتضمينه لقدر معتبر من المكتسبات في المجال الحقوقي والسياسي. إضافة إلى ذلك، جرت انتخابات تشريعية سابقة لأوانها (25 نوفمبر 2011) كان أول الرابحين فيها حزب العدالة والتنمية الإسلامي ليشكل حكومة ائتلافية في 3 يناير 2012 .
الإسلاميون في سياق الحراك السياسي بالمغرب:
يحضر البعد الديني، في سياق الحراك وبعده، من خلال الاسلاميين كفاعلين أو عبر جدل عام حول إشكالية الهوية المصاحبة لعملية إعادة بلورة العقد الاجتماعي والسياسي في دساتير ما بعد "الربيع العربي". وتمحور الجدل حول ثنائيات مثل الدولة الدينية والدولة المدنية؛ الشريعة والقانون الوضعي؛ الخصوصية والكونية، الخ. ويستعرض هذا القسم بإيجاز مواقف أهم التنظيمات الاسلامية والتيارات السلفية في سياق الحراك بالمغرب.
- حزب العدالة والتنمية: من الإدماج المراقب إلى المشاركة في الإدارة
خلافا لرغبات شبيبتها وبعض تياراتها، ألزمت قيادة حزب العدالة والتنمية ومصدره الدعوي، حركة التوحيد والإصلاح، أعضائهما بعدم المشاركة في حراك 20 فبراير وكانت المكافأة لهما في بداية الحراك بالعفو عن بعض معتقليهما. انسجاما مع مواقفه الاصلاحية، حضر الحزب ومختلف تنظيماته الموازية بشكل لافت في مختلف مراحل المسلسل الاصلاحي الرسمي المدشن في هذا السياق، وتحديدا من خلال معاركه السياسية والهوياتية المرتبطة بالمراجعة الدستورية.
وخلال الانتخابات التشريعية لسنة 2011، احتل الحزب المرتبة الاولى من حيث عدد المقاعد وكذا أصوات الهيئة الناخبة بالمغرب. وقد أسس الحزب فوزه هذا، باعتباره الاقلية الاكثر عذرية وتنظيما من باقي المنافسين، على قوة آلته الانتخابية وشعارات حملته المرتبطة ب "محاربة الفساد"، المستلهمة من سياق ومطالب حركة 20 فبراير. وعلى أساس نتائج تلك الانتخابات، قاد حزب اسلامي لأول مرة رئاسة حكومة بالمغرب، وصفها البعض بالحكومة "نصف الملتحية".
- جماعة العدل والإحسان: مواصلة المعارضة والإحتجاج
تجسد موقع وموقف جماعة العدل والاحسان، باعتبارها أكبر قوة تنظيمية في المعارضة السياسية للنظام، عبر حضور بارز في مختلف التظاهرات المنظمة في سياق الحراك بالمغرب. وشكلت الجماعة إحدى المكونات الوازنة في حركة 20 فبراير وذلك بفضل حيوية قطاعها الشبابي في مختلف التنسيقيات المحلية للحركة. ومثل الحراك لهذه الجماعة "شبه المحظورة" مناسبة لتصريف وإعادة تأكيد مواقف الجماعة من النظام السياسي وذلك عبر الدعوة لمقاطعة الاستفتاء الدستوري في 2011 والمحطات الانتخابية التالية.
وبعد وفاة مؤسسها وزعيمها الروحي الشيخ عبد السلام ياسين، سنة 2012، حافظت الجماعة على وحدتها التنظيمية، وتوجهها المعارض وديناميتها الاحتجاجية في الشارع. وعقب انسحابها من حركة 20 فبراير، عبرت الجماعة عن حضورها وجماهيريتها في مجموعة من المحطات السياسية أو عبر تظاهرات احتجاجية سواء ذات بعد مناطقي، نقابي، مطلبي أو فئوي (الطلبة، الاساتذة المتدربون، الاطباء الداخليون، إلخ.).
- التيارات السلفية: بين "المراجعات" و"التطبيع"
اختلفت مواقف التيارات السلفية وفقا للتعدد الذي يميّز تنظيماتها وشيوخها وطبيعة علاقاتها بالسلطة. وقد برز الملف السلفي منذ مطلع الحراك وفقا لمجموعة مؤشرات منها الافراج التدريجي عن العديد من رموز ونشطاء "السلفيين الجهاديين"؛ مشاركة بعض التوجهات والاطارات السلفية في مسيرات 20 فبراير؛ الفورة الاحتجاجية للمعتقلين السلفيين بالسجون؛ وعقد تسويات بين الدوائر الرسمية وبعض ممثلي المعتقلين، إلخ.
وبين أهم خلاصات الحراك الفرز على مستوى الفاعلين السلفيين وتوضيح علاقتهم وارتباطهم الفعلي بالسياسة خلافا لخطاباتهم السابقة التي تنأى عن السياسة بوصفها بدعة، وهو ما ينسحب على مواقف بعض الفاعلين الدينيين الآخرين (الزوايا والطرق الصوفية). فعلى مستوى الاتجاه السلفي التقليدي المرتبط بالسعودية مثلا، فقد دعا أحد أبرز رموزه ومؤسسيه، الشيخ عبد الرحمان المغراوي، أتباعه إلى التصويت الايجابي لفائدة المراجعة الدستورية وإلى التسجيل في اللوائح الانتخابية والمشاركة في اقتراع 2011. ومن جهة أخرى، عمدت بعض تيارات السلفية الراديكالية، على ضوء مراجعات الشيوخ المفرج عنهم، إلى تدشين عملية تطبيع مع السلطة ومع العمل السياسي والمدني من خلال خلق أو الانخراط في العديد من الاطارات الجمعوية والحزبية.
العلاقات والتوترات بين الإسلاميين والحركات الحقوقية بالمغرب:
على غرار عدة دول عربية أخرى، فالجذور التاريخية للحركة الحقوقية بالمغرب يسارية المنشأ والهوية. في مقابل ذلك، فإن التجربة الحقوقية الاسلامية بالمغرب حديثة النشأة وتواجه مجموعة من التحديات.
واتسمت العلاقة التاريخية لتتنظيمات الحركة الاسلامية بباقي الفاعلين المدنيين،الحقوقيين والسياسيين (خصوصا التيارات اليسارية) بالتوتر والنزاع وكذا الى اللجوء الى العنف في بعض الاحيان. وإلى جانب حالات العنف المادي (المس بالسلامة الجسدية : وفيات، اصابات، عاهات)، كانت هناك ممارسات مرتبطة بالعنف الرمزي من خلال خطب وخطابات الكراهية، والشيطنة والتكفير إزاء المخالفين/المنافسين.
وإضافة إلى ثقل الاختلافات المذهبية وتباين الرهانات السياسية، أثر الإرث الصدامي لهذا الاختلاف بشكل كبير على العلاقات الراهنة بين الطرفين، ومن ضمنها مجال الفعل الحقوقي. وبالنسبة لبعض النشطاء الحقوقيين، فإن حدة تلك النزاعات تشجعها وتغذيها سياسات النظام الحاكم المتوجسة من أي تقارب بين المعسكرين، وتؤججها المواقف المتشنجة لمكونات وعناصر راديكالية منتمية إلى الطرفين. وبالرغم من حجم وحدة تلك التقاطبات، يمكن تلمس ملامح ومؤشرات تقاطعات بين الطرفين واستجلاء بعض المبادرات والدعوات الرامية لإيجاد أرضة مشتركة للحوار، والتفاهم أو حتى التنسيق.
ورصدت بعض الدراسات جملة من التقاطعات والخصائص الفردية المشتركة بين نشطاء الحركة الإسلامية والمناضلين اليساريين منذ السبعينيات. وبعيدا عن الخلافات السياسية والتعارضات الاديولوجية، اشترك هؤلاء الفرقاء في مجموعة مؤشرات وخصائص، تتعلق أولاها بتدشين المسار النضالي والتكوين السياسي خلال المرحلة الجامعية عبر الانتماء للاتحاد الوطني لطلبة المغرب مع فارق في المرجعية حيث عوضت الاحالة على الاسلام مفاهيم الصراع الطبقي، كما التقى الطرفان في تشابه الوضع الاجتماعي-الثقافي-الاقتصادي الذي يحيل على تمايزهم عن وضعية الفئات الاجتماعية/الشعبية التي يدافعون عنها. ويُضاف إلى ذلك تجربة السجن التي مست العديد من نشطاء كلا التوجهين.
وبعيدا عن السمة التصادمية الطاغية، يمكن تسجيل مجموعة وقائع وحالات تاريخية نادرة للتقارب، والحوار والتنسيق بين المعسكرين. وفي مقدمة هذه الحالات نقاشات دارت في 2001 و2002 بين إسلاميي "البديل الحضاري" وفعاليات يسارية وديمقراطية، توجها إصدار "نداء الديمقراطية " وتأسيس "القطب الديمقراطي ". وفي 2007 و2008 دارت نقاشات بين التيارات الإسلامية الحركية والتيارات العلمانية تحت رعاية الفرع المغربي لمجلس المواطنين بالشرق الأوسط وبدعم من مجلس السلام الهولندي ومركز ابن رشد إضافة الى عدة جمعيات مغربية. وقد تمحورت مضامين هذه النقاشات المفتوحة حول عدة قضايا اشكالية وخلافية بين الجانبين. وأخيرا، في سياق الحراك بالمغرب كان هناك تنسيقًا ميدانيًا بين تنظيمات اسلامية (أهمها جماعة العدل والاحسان) وفعاليات وهيئات يسارية وحقوقية خلال أعمال احتجاجية مختلفة تحت مظلة حركة 20 فبراير. وعلى ضوء المعطيات التاريخية وهذه الوقائع، يسعى هذا المحور إلى استعراض وتحليل مسار وطبيعة العلائق والتوترات بين الإسلاميين والمنظمات والاطارات الحقوقية المغربية.
المسألة الحقوقية بالمغرب: التموقعات والإصطفافات
باعتبارها احدى الواجهات الاساسية للنضال من أجل الديمقراطية، تتموقع المسألة الحقوقية في صلب النقاشات العامة من جهة وفي قلب الصراع والتنافس بين مجمل الفاعلين السياسيين والمدنيين من جهة اخرى. ويرتبط تباين وتضارب التصورات والمواقف بخصوص هذه المسألة بعدة اعتبارات منها اختلاف منطلقات/مرجعيات، مصالح، ورهانات الفرقاء وكذا إمكانات وهوامش الفعل السياسي.
ومن خلال السجالات والتجاذبات التي عرفتها الساحة الحقوقية المغربية خلال العقدين الاخيرين، يمكن التمييز عموما بين قطبين/معسكريين أساسيين:
المعسكر الاسلامي – المحافظ: ويتشكل هذا القطب من شخصيات وهيئات متماثلة أو متقاربة من حيث التوجهات الفكرية والاديولوجية وتشترك في مرجعية اسلامية على الرغم من بعض الاختلافات في منطلقاتها، خطابها، أو مشروعها.
تشتمل مكونات هذا المعسكر على مؤسسات البيروقراطية الدينية الرسمية (وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية، المجلس العلمي الاعلى ومجمل فروعه المحلية والجهوية) ؛ بعض الاحزاب السياسية (العدالة والتنمية خصوصا) ؛ حركات وتيارات دينية (التيارات السلفية وحركة التوحيد والاصلاح مثلا) ؛ جمعيات نسائية اسلامية (منظمة تجديد الوعي النسائي على سبيل المثال) ؛ جرائد ذات حساسية اسلامية (التجديد، السبيل) ؛ شخصيات عامة ذات توجه محافظ (محمد الحبيب الفرقاني، بلبشير الحسني، إلخ.) ؛ خطباء مساجد مشهورون (الزمزمي، الفيزازي، الصمدي، إلخ.)، إضافة إلى جمعيات مدنية مرتبطة بتيارات اسلامية وتعمل في مجالات مختلفة (تربوية، ثقافية، إحسانية، شبابية، إلخ.).
يتموقع حزب العدالة والتنمية وكذا حركة التوحيد والاصلاح كقطبي الرحى لهذا المعسكر الذي وجد أبلغ تصوير لمكوناته في استعراض القوة الاسلامي خلال "المسيرة المليونية"، ليوم 12 مارس 2000 بالدارالبيضاء، المعارضة لمشروع "خطة إدماج المرأة في التنمية" التي دعمها المعسكر النقيض بمسيرة مقابلة بمدينة الرباط في نفس التاريخ.
المعسكر الحداثي - الديمقراطي: يتشكل هذا القطب من مزيج مركب من التنظيمات، الفعاليات والحساسيات المنتمية إلى اوساط ديمقراطية، حداثية وليبرالية تتقاسم تبني المرجعية الكونية لحقوق الانسان على الرغم من إختلاف مشاريعها وتصوراتها الاديولوجية والسياسية.
وتشتمل تشكيلة هذا المعسكر على كل الاحزاب والتيارات السياسية المغربية ذات التوجه الاشتراكي واليساري؛ أهم وأبرز الهيئات الحقوقية الوطنية (الجمعية المغربية لحقوق الانسان مثلا)؛ جل التنظيمات والشبكات المعنية بالدفاع عن حقوق النساء (الجمعية الديمقراطية لنساء المغرب، فدرالية الرابطة الديمقراطية لحقوق النساء، شبكة ربيع المساواة، إلخ.) ؛ العديد من الجمعيات والشبكات الامازيغية ؛ ثلة من "رجال الدين المتنورون" (عبد الهادي بوطالب، محمد الخمليشي، محمد لمرابط، إلخ.) ؛ عدد من المفكرين والمثقفين العلمانيين (أحمد عصيد مثلا) ؛ العديد من الجرائد والمجلات (تيل ـ كيل، الاحداث المغربية، إلخ.) ؛ العديد من الشخصيات المنتمية إلى مجالات المال والاعمال، الثقافة والفكر، الوسط الفني، المجال الاكاديمي، إلخ.؛ إضافة إلى شبكات وجمعيات محلية ووطنية مرتبطة بتوجهات ديمقراطية وتقدمية.
وفي سياق معاركهم مع المعسكر النقيض، خلق أعضاء ومناصري القطب الديمقراطي ـ الحداثي اطارات مدنية تهدف إلى مواجهة الافكار الدينية المتشددة والدعوة إلى قيم المساواة والمواطنة والتسامح (جمعية بيت الحكمة، حركة اليقظة والمواطنة، جمعية ضمير، إلخ.).
ويتعارض المعسكران من حيث المواقف والممارسات بخصوص التعاطي مع القضايا المرتبطة بالحريات وحقوق الانسان حيث يتموقع المعسكر الاسلامي – المحافظ في خندق حماية الهوية الدينية والخصوصية الوطنية وكذا المحافظة على الاخلاق والقيم المجتمعية ضد المطالب الحقوقية التي يعتبرها بمثابة "تحرشات، استفزازات وانحرافات" باسم الحقوق والحريات الفردية ؛ ويتمترس المعسكر الحداثي - الديمقراطي في صف الدفاع عن كونية وشمولية الحقوق الانسانية ضد كل التضييقات والانتهاكات المرتكبة باسم أي سلطة كانت سواء سياسية، أخلاقية أو دينية، إلخ.
وفي خضم هذا التقاطب، تتموقع المؤسسة الملكية ـ إستنادا إلى دورها التحكيمي وشرعيتها الدينية - كفاعل سياسي رئيسي في رسم وضبط التوازنات بين مجمل الفاعلين السياسيين والمدنيين. وقد تجسدت هذه المكانة والادوار على سبيل المثال خلال معركة "خطة إدماج المرأة في التنمية" من خلال حسم الملك، باعتباره حكما وأميرا للمؤمنين، للصراع حولها عبر تبني مدونة جديدة للأسرة في عام 2004 وازنت بين مطالب المعسكرين.
ومنذ 1998 احتدت السجالات بين المعسكرين في العديد من القضايا الخلافية. وتجلى ذلك في انقسام مجتمعي وسياسي حاد وغير مسبوق بخصوص خطة ادماج المرأة في التنمية التي أعدتها الحكومة الاشتراكية لعبد الرحمن اليوسفي، ولاقت معارضة شديدة من مجمل التوجهات الاسلامية، إصلاحية كانت أو راديكالية، إضافة الى الاوساط المحافظة، بما فيها المقربة من السلطة ودوائر القرار. وقد شهدت هذه الفترة وحتى وقوع تفجيرات إنتحارية في 16مايو 2003 بالدارالبيضاء انفلاتات على مستوى الخطابات الدينية التكفيرية من طرف خطباء المساجد وشيوخ السلفية الجهادية ضد تنظيمات وفعاليات سياسية، مدنية وإعلامية ذات توجهات علمانية وحداثية. وفي سياق تلك التفجيرات، عمد التيار الحداثي إلى تحميل الحركات الاسلامية، تحديدا حزب العدالة والتنمية، وكذا الخطاب الديني المتطرف المسؤولية المعنوية في الاحداث الارهابية إضافة إلى تأسيسه لمجموعة من الاطارات والمبادرات الرامية إلى التعبئة المدنية لمواجهة التطرف ومناهضة العنف المستند للاديولوجيا الدينية (مجموعة الديموقراطية والحداثة، الجبهة المغربية لمناهضة التطرف والكراهية، إلخ.). وبالتوازي وقعت تجاوزات امنية تجاه بعض التيارات الاسلامية غداة تلك التفجيرات، كما حدثت تجاوزات مجتمعية في بعض المجالات كالتضييق على ارتداء الحجاب في بعض الادارات والقطاعات الاقتصادية مثلا.
ومنذ2009، أخذت دينامية النزاع بين الاسلاميين والمعسكر الحداثي ـ الديمقراطي منعطفا جديدا في ظل الظهور العلني والاعلامي لبعض الفعاليات والتعبيرات المرتبطة بقضايا الاقليات (المثليون، الشيعة والمسيحيون المغاربة، إلخ.). وقد تعززت تلك الدينامية بخروج الحركة البديلة للحريات الفردية، المعروفة اختصارا ب(حركة مالي) من العالم الافتراضي/الرقمي الى ساحة الفعل الميداني، من خلال أولى مبادراتها المناهضة للتجريم القانوني لحرية الافطار العلني في رمضان (تتجدد حملتها "ماصايمينش" بشكل سنوي كما هو الشأن بالنسبة للحملات الدعائية ضدها).[29]ومع ظهور هذه الحركة سيتمحور التقاطب والنزاع بين المعسكرين أساسا حول العديد من القوانين والملفات المرتبطة بالحريات الفردية، ومنها حرية المعتقد ووضعية الاقليات الدينية ؛ الميول والعلاقات الجنسية الرضائية (المثلية، العلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج، إلخ.)؛ العادات والانظمة الاستهلاكية والغذائية (الافطار في رمضان، المشروبات الروحية)؛ الاجهاض؛ الاختيارات والتعبيرات الفنية والثقافية (المهرجانات، بعض الاعمال السينمائية والادبية)، لتنضاف بذلك الى روزنامة المعارك المتعلقة بالمواضيع الكلاسيكية وفي مقدمتها تلك المرتبطة بالنساء (المساواة بين الجنسين، التعدد، زواج القاصرات، الارث، والامهات العازبات).
وإلى حدود اليوم، تشكل هذه الملفات والقضايا محاور كبرى للسجالات والنزاع بين المعسكرين وذلك تحت مسميات وعناوين مختلفة يتم تحيين التصادم بخصوصها على ضوء ما يُستجد من أحداث. ففي سياق الحراك مثلا، استندت دواعي وتهجمات العديد من الاصوات المحافظة والاسلامية في مناوئتها لحركة 20 فبراير على انخراط المدافعين عن الحريات الفردية في صفوفها مع ما رافق ذلك من اتهامات بالشذوذ، الاباحية، التغريب والعمالة للخارج.
وشكلت المراجعة الدستورية لسنة 2011 إحدى المحطات البارزة في الاستقطاب بين الفرقاء، وتحديدا فيما يتعلق بمكانة المرجعية الاسلامية وقضايا الحريات وحقوق الانسان. وفي مواجهة دسترة بعض المقترحات والمطالب الحقوقية، عمد حزب العدالة والتنمية بمعية حلفائه وأنصاره إلى التعبئة وممارسة ضغوطات قوية على اللجنة الاستشارية المكلفة بالمراجعة الدستورية وصلت حد التلويح بمقاطعة التصويت على الدستور. وعارضت الحملة الدعائية والتعبوية للحزب دسترة حرية المعتقد بشدة. وبلوّر التليدي موقفهم:
" هل نحن بصدد مراجعة هوية الدولة السياسية ومركزية الشرعية الدينية فيها؟ هل نحن بصدد قطيعة تاريخية وسياسية مع الدولة المغربية التي تأسست منذ أربعة عشر قرنا؟ هل نحن بصدد التأسيس لدولة جديدة بهوية جديدة؟ إن فتح المجال لحرية المعتقد حتى بالتقييد المقترح في مشروع الدستور الجديد، له تداعيات خطيرة يمكن أن يؤسس بذور تغيير الديمغرافيا الدينية بالمغرب، وتهديد الوحدة الدينية للمغاربة، وضرب ثوابت الدولة، وفي مقدمتها إسلامية الدولة وإسلامية الشعب المغربي، لاسيما في ظل وجود ضغوط دولية تستثمر كل الأوراق بما في ذلك قضايانا الاستراتيجية للتمكين من خلق أقلية مسيحية في المغرب، وإزالة كل المقتضيات الدستورية والقانونية التي من شأنها تحصين الوحدة المذهبية وتمنيع الهوية السياسية للبلد".
وبعد الفوز الانتخابي للاسلاميين وترؤسهم للحكومة سنة 2012، انتعشت توجسات القطب الديمقراطي الحداثي وسط دعوات إلى اليقظة والحذر وكذا التعبئة لمواجهة أي تراجعات محتملة على صعيد الحريات وحقوق الانسان بالمغرب.
الاسلاميون ومنظمات حقوق الإنسان
إضافة الى مواقفها العدائية السابقة القائمة على مقاربة هوياتية، يمكن جزئيا تفسير محدودية التجربة الحقوقية للحركة الإسلامية، رغم حجم الانتهاكات التي طالت نشطائها، بحداثة هذه التجربة النسبية وضعف اهتمام الفاعلين الاسلاميين بهذا المجال مقارنة بالميادين الاساسية/الكلاسيكية لتدخلاتهم (المجال الدعوي والاحساني/الخيري تحديدا). ولكن يظل من الممكن تلمس مجموعة علاقات وارتباطات بين الحركة الاسلامية والعديد من المنظمات المهتمة بالشأن الحقوقي بالمغرب. وتقدم الفقرات التالية تصورا مبدئيا لبعض هذه العلاقات مع ما تطرحه من إشكالات وأسئلة داخل الحقل الحقوقي.
- الإسلاميون المغاربة والعلاقة مع الإطارات الحقوقية الوطنية
يتعلق الامر هنا برصد علاقات الاسلاميين بنموذجين من الاطارات الحقوقية الوطنية وهما الجمعية المغربية لحقوق الإنسانوالمجلس الوطني لحقوق الإنسان.
- الجمعية المغربية لحقوق الانسان:
تأسست الجمعية المغربية لحقوق الإنسان فييونيو 1979 وتعد من أبرز التنظيمات المدنية حضورا على الواجهة الحقوقية والسياسية بالمغرب، وذلك من خلال تموقعها كجزء من القوى والحركات الاجتماعية والسياسية المعارضة مع ما يستتبعه ذلك من منع وتضييق على أنشطتها ومناضليها من طرف السلطات بالرغم من الاعتراف القانوني بها وتمتعها بصفة المنظمة ذات النفع العام.
وينتمي مؤسسو وأعضاء الجمعية إلى التيار اليساري مما أثر على علاقاتهم بالإسلاميين الذين تصادموا معهم في محطات تاريخية عديدة. وتتحفظ الجمعية على عضوية وانخراط الاسلاميين فيها على أساس الاختلاف/التناقض مع مرجعيتها الحقوقية وهويتها النضالية التقدمية وتخوف الجمعية من أي إختراق تنظيمي أو مذهبي أيا كان مصدره أو لونه. وباستتناء التحفظ على مسألة العضوية، يتأسس تعامل الجمعية مع الاسلاميين انطلاقا من المعايير والضوابط التي تحكم الممارسة الحقوقية إنسجاما مع مرجعيتها الكونية في الدفاع عن حقوق الانسان بغض النظر عن الاعتبارات/التمايزات القائمة على أساس الجنس، العرق، اللون، الدين، الرأي السياسي، إلخ. ولايتوانى نشطاء الجمعية في الاستشهاد بالعديد من الامثلة للمواقف والمبادرات التي تجسد تفاعلها الايجابي في الدفاع عن الاسلاميين ضد الانتهاكات والخروقات التي يكون الإسلاميون بين ضحاياها. وقدمت الجمعية الدعم القانوني وناهضت التضييق المتواصل على جماعة العدل والاحسان وقياداتها ونشطائها؛ وتضامنت مع المعتقلين السياسيين الاسلاميين في قضية خلية بليرج ؛ واستضافت تأسيس "تنسيقية المعتقلين الإسلاميين السابقين" سنة 2011 بمقرها المركزي بمدينة الرباط؛ إلخ.
وتتعدد شهادات الفاعلين الاسلاميين في الاشادة بالدور الذي لعبته الجمعية المغربية لحقوق الانسان وكذا قيادييها في الدفاع عن تنظيمات ونشطاء الحركة الاسلامية. وكمثال على ذلك، الصورة التي يحملها الاسلاميون عن أحد أبرز وجوه ومؤسسي الجمعية، عبد الرحمن بنعمرو، واعتباره "جوهرة النضال، وأيقونة العدالة ومفخرة المغاربة الأحـرار"، بل إن وزير العدل الاسلامي التوجه، مصطفى الرميد، اعتبر بنعمرو "إمام الحقوقيين المغاربة والرجل العظيم". وارسلت الهيئة الحقوقية لجماعة العدل والإحسان رسالة تهنئة للرئيسة السابقة للجمعية، خديجة الرياضي، بمناسبة توشيحها بجائزة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان لدورة سنة 2013.
وفي مقابل ذلك، تُوجه للجمعية المغربية لحقوق الإنسان بعض الانتقادات بزعم أنها لاتولي أهمية كبرى للدفاع عن الاسلاميين مقارنة بملفات أخرى، أو أنها تستغل ذلك أحيانا كورقة ضغط على السلطة (ملف المعتقليين السلفيين على سبيل المثال). ويربط البعض مسألة 'الدفاع المحتشم' للعديد من المنظمات الحقوقية المغربية، بما فيها الجمعية، عن قضايا وملفات الاسلاميين على 'الموقف المتحامل' لبعض النخب الحداثية والتقدمية من الحركة الاسلامية، باعتبارها 'عدوة للديمقراطية وحقوق الانسان'، والذي يجد ترجمته في شعار 'لا ديمقراطية إلا مع الديمقراطيين'.
- المجلس الوطني لحقوق الانسان:
تأسس المجلس الوطني لحقوق الإنسان في2011 وهو تعديل مؤسسي لمجلس استشاري قام في عام 1990 وأُعيد تنظيمه في 2001. وولد المجلس الوطني في صيغته الحالية غداة حراك 20 فبراير وبمقتضى ظهير (مرسوم) ملكي صدر في فاتح مارس 2011.
ويعتقد عبد العليّ حامي الدين، رئيس "منتدى الكرامة لحقوق الانسان" الإسلامي التوجه، أنه وعلى الرغم من الإشارة في ديباجة هذا الظهير إلى مبادئ باريس المنظمة للمؤسسات الوطنية للنهوض بحقوق الإنسان فإن هذا القانون لم يحترم هذه المبادئ في العديد من مقتضياته.ويشير الناشط الإسلامي الى أن "طريقة التعيين المنصوص عليها في الظهير لا تمنح الضمانات اللازمة لتحقيق أغراض التعددية والاستقلالية المطلوبة"، مؤكدا انعكاس ذلك "على مجموعة من المقتضيات الأخرى التي تكبل تحرك المجلس وتجعله مرتهنا بإرادة من يملك سلطة التعيين (أي الملك)". ويستخلص حامي الدين أن "النسخة الحالية من المجلس الوطني لحقوق الإنسان هي امتداد لدستور 1996 بكل دلالاته السلطوية، أما نسخة دستور 2011 فتتطلب مراجعة شاملة للقانون المحدث لهذه المؤسسة من طرف البرلمان القادم، وهو ما يبدو أفقا بعيد المنال بعدما ظهرت مؤشرات إفراغ الدستور الحالي من دلالاته الديموقراطية وشحنه بالتأويل السلطوي عبر ممارسات متخلفة تنتمي إلى ما قبل دستور1996."
وتلقى المجلس انتقادات بدعوى أنه يفتقر للصفة الوطنية التمثيلية بسبب غياب تمثيل بعض الإطارات المدنية (خصوصا من الاسلاميين) داخل المجلس ولجانه الجهوية، وشبهه البعض بناد مغلق يهيمن عليه منطق الولاءات والانتماءات، وتفضيله بشكل خاص لتوجهات إيديولوجية معينة (تشير هنا إلى اليسار). ويتم الحديث بهذا الصدد عن إقصاء متعمد وممنهج وهيمنة توجه فكري أحادي يطبع تشكيلة المجلس، وتُطرح المسألة كتغييب لمكونات وحساسيات معينة عن عضوية المجلس ولجانه، وبشكل محدد الإطارات النسوية والحقوقية ذات التوجه الإسلامي (منها على سبيل المثال: منتدى فاطمة الزهراء، منتدى الكرامة، منظمة تجديد الوعي النسائي).
وعلى صعيد آخر، ينظر بعض الفاعلين الحقوقيين، وفقا لمقابلات معهم، الى المجلس الوطني لحقوق الإنسان باعتباره مؤسسة رسمية و"ذراعًا حقوقيا للدولة" تتسم جل قراراته وأعماله بجرأة شديدة طالما لم تؤدي إلى موقف محدد في مسائل سياسية حساسة، وعلى سبيل المثال تقرير المجلس حول "وضعية المساواة والمناصفة بالمغرب" والذي دعت توصية فيه إلى إعادة النظر في القواعد القانونية المنظمة للإرث.
وواجه هذا التقرير انتقادات من معظم التنظيمات السياسية للاسلاميين وكذا الاطارات المدنية المحسوبة عليها ومن هيئات دينية رسمية (مثل المجلس العلمي الاعلى) ومن خطباء مساجد. وعمدت إطارات نسائية مرتبطة بحزب العدالة والتنمية الى انتقاد المجلس وتقريره، حيث اتهمته منظمة تجديد الوعي النسائي "بتجاوز حدود الاختصاص"، بينما قالت شبكة منتدى الزهراء للمرأة المغربية في بيان أن المجلس الوطني "تطاول على اختصاصات الملك كأمير المؤمنين وتطاول على مؤسسات دستورية أخرى وهي المجلس العلمي الأعلى." واعتبر المركز المغربي لحقوق الإنسان أن دعوة المجلس الوطني "مبعث للشك والريبة، من حيث أهدافها ومراميها، التي باتت تستهدف بوضوح الكيان الهوياتي للمجتمع المغربي، مما يطرح أكثر من سؤال حول الغاية من تسليم هذه المؤسسة بيد فئة، ذات ميل إيديولوجي مكشوف، تحارب أسس المجتمع القيمية، بطريقة فجة، تكاد تكون منهجية، فضلا عن الانتقائية وإقصاء مخالفيهم إيديولوجيا ... (لأن) الدعوة إلى المساواة في الإرث دعوة باطلة، تنم عن جهل مطبق بأسس قاعدته الشرعية ودلالاتها ". وبالرغم من انتقاداته للمجلس، يحضر أعضاء وفروع منتدى الكرامة ـ كما هو الشأن بالنسبة للعديد من الاطارات الإسلامية، تحديدا النسائية منها ـ مبادرات وأنشطة المجلس الوطني لحقوق الانسان أو لجانه الجهوية، بينما يشارك المجلس الوطني بروتوكوليا في بعض أنشطة المنتدى (على سبيل المثال، حضورالأمين العام للمجلس، محمد الصبار، خلال مؤتمر انتخاب قيادة المنتدى في 2016).
- الإسلاميون المغاربة والعلاقة مع "الإطارات الحقوقية المركبة"
يحيل مفهوم "الإطار المركب" إلى وعاء تنظيمي (جمعية، شبكة/إئتلاف) لممارسة الفعل الحقوقي المشترك في صيغة تعددية توحد أو تجمع بين أفراد أو مجموعات ذات انتماءات وتوجهات ايديولوجية وسياسية مختلفة. وتطرح علاقة الاسلاميين المغاربة ـ سواء كأفراد أو مجموعات ـ بالاطارات الحقوقية المركبة واشتغالهم من داخلها إلى جانب توجهات ومكونات أخرى، مجموعة من الاسئلة والتحديات تتعلق في جانب منها بسقف التوافقات وكذا إشكالية المرجعية المؤطرة لهوية تلك الاطارات ولمضامين عملها. وتستعرض الفقرات التالية بعض التجارب في هذا المنحى وتحديدا في المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف، والمركز المغربي لحقوق الإنسان والائتلاف المغربي لهيئات حقوق الإنسان.
تأسس المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف في 1999 في سياق سياسي انتقالي (حكومة التناوب في 1998، وتولي الملك محمد السادس الحكم في عام 1999)، وبانخراط "العهد الجديد" في عملية مصالحة ومسعى لطي ماضي سنوات الرصاص عبر الاستماع الى شهادات بعض ضحاياها وصرف تعويضات لهم. وفي خضم عملية التصالح، صار المنتدى إطارًا مركبًا وتعدديًا يضم في صفوفه أطيافا مختلفة من الضحايا باختلاف الملفات والقضايا المتعلقة بانتهاكات حقوق الانسان خلال تلك الفترة. وتميزت تجربة منتدى الحقيقة عن باقي الاطارات الاخرى في المزاوجة بين الطابع النقابي والابعاد الحقوقية في الدفاع عن الحقوق المعنوية والمصالح المادية لقواعده وأعضائه من جهة، ومن خلال أهدافه، طرق عمله وخدماته من جهة أخرى.
باعتبارهم أحد فئات ضحايا سنوات الرصاص، شارك في المنتدى معتقلون اسلاميون سابقون إلى جانب افراد ومجموعات معنية بالمسألة مع اختلاف انتماءاتهم السياسية ومشاربهم الاديولوجية: يساريون، عسكريون، مناضلو احزاب سياسية وحركات اسلامية (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، حزب النهج الديمقراطي، حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، الحزب الاشتراكي الموحد، المؤتمر الوطني الاتحادي، حزب البديل الحضاري، نشطاء الشبيبة الاسلامية، إلخ). وطالب المنتدى بإطلاق سراح ما تبقى من المعتقلين الاسلاميين في السجون المغربية وكذلك بقضايا الاختفاء والاختطاف في صفوف السلفيين مع مايرتبط بذلك من شهادات ومزاعم بشأن المعتقلات السرية (تمارة مثلا).
وبالنظر إلى محدودية المراس الحقوقي للاسلاميين مقارنة بالاجنحة اليسارية، فقد اتسم حضورهم بالتواضع سواء على مستوى التأسيس النظري، التنظيمي أو الحركي لفكرة ومسار المنتدى في سبيل المساهمة في خلق مسار العدالة الانتقالية بالمغرب. وخضع تمثيل التيارات السياسية والحركية المختلفة في المنتدى لعملية تفاوض هدفها ضمان أكبر قدر من التوافق حول مواقف المنتدى بين مختلف أطياف الضحايا والفاعلين. وفي غياب تمثيل لجماعة العدل والاحسان، فإن موقع الاسلاميين وحضورهم إلى جانب باقي المكونات داخل الهياكل التنظيمية للمنتدى (المجلس الوطني، المكتب التنفيذي) ظل محكوما بمنطق التوافقات والتوازنات بين مختلف التيارات التي تألف منها المنتدى.
وشارك إسلاميون أيضًا في نموذجين آخرين من الاطارات المركبة وهما المركز المغربي لحقوق الإنسانوالائتلاف المغربي لهيئات حقوق الإنسان. وعانت تلك الإطارات من الخلافات حول التمثيل النسبي وتقسيم مناصب صنع القرار وتولي المسؤوليات والانسجام مع الرهانات والتصورات السياسية للفرقاء؛ إلخ.
ونشأ المركز المغربي لحقوق الإنسانفي أبريل 1999 من جانب نشطاء وفعاليات اسلامية (حزب العدالة والتنمية بالدرجة الأولى) أو ذات توجهات يسارية (الحزب الاشتراكي الموحد والمؤتمر الوطني الاتحادي) اضافة إلى مستقلين متعاطفين. وهيمن التيار الإسلامي على المركز سنوات عديدة عبر رئيسه، خالد الشرقاوي السموني، المحسوب على العدالة والتنمية. وعندما انعقد المؤتمر الثاني للمركز سنة 2010 تفجر صراع على القيادة وانسحب اليساريون من الإطار بدعوى أن هناك اختلالات تنظيمية واختلاف مع مرجعية المركز الحقوقية ومع رئيس المركز. وفي يوليو 2010، أسست لجنة تحضيرية من أبرز أعضاء التيار اليساري المنسحب إطارا حقوقيا جديدا، وهو الهيئة المغربية لحقوق الإنسان، بهدف التمايز عن تجربة المركز وكرد ضمني على زملائهم الاسلاميين السابقين. وأولت وثائق الهيئة الجديدة اهتماما بالغا لتأكيد هويتها ومرجعيتها المغايرة المستندة إلى مبادئ الكونية والديمقراطية والاستقلالية والشمولية استنادا إلى المواثيق والعهود الدولية والبروتوكولات الملحقة بها.
وتأسس الائتلاف المغربي لهيئات حقوق الإنسان في 2011 وضم أكثر من 20 جمعية من توجهات حقوقية مختلفة. ومرة أخرى كان الاختلاف حول مرجعية العمل الحقوقي هو أحد أسباب الصراع داخل الائتلاف. وعلى سبيل المثال إنسحبت جمعية عدالة من الائتلاف لعدة أسباب منها المرجعية كما أوضحت في المقتطف التالي من رسالة الانسحاب:
"من احد الاهداف التي سطرها الائتلاف في ارضيته التنظيمية ... الدفاع عن مبادئ الديمقراطية والحرية والكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية واعمال المواثيق الدولية لحقوق الانسان... لكن صدمنا في عدة محطات نضالية ومحورية بوجود هيئات حقوقية تتحفظ على قضايا ومطالب حقوقية أو تعارضها كإلغاء عقوبة الاعدام وعدم تجريم الاجهاض وقضايا المساواة واحترام الحريات الفردية... بسسب اختلاف في المرجعيات مما أتبث صعوبة إن لم نقل استحالة العمل معها لتحقيق الاهداف المسطرة بما يضمن تحصين الحقوق والحريات في إطارها الشمولي وليس التجزيئي والانتقائي. وبالمقابل اصطدمنا عدة مرات بعدم تقبل الرأي الآخر والمخالف وتبادل الاتهامات فيما بين الاعضاء إن علنا أو سرا...".
وهكذا ظلت مسألة المرجعية قنبلة غير موقوتة عندما تشارك إطارات محسوبة على الحركة الاسلامية مثل منتدى الكرامة والمركز المغربي لحقوق الانسان مع منظمات واطارات علمانية في شبكة او ائتلاف حيث يمكن إدارة التوترات والقيام بعمل مشترك في بعض القضايا الحقوقية بالمغرب طالما لم تتجاوز حدود المناطق المحظورة عند الإسلاميين.
الإسلاميون المغاربة ومحك الممارسة الحقوقية
يمكن التمييز بين أربع مراحل كبرى من اجل تحقيب علاقة الاسلاميين المغاربة بالمسألة الديمقراطية وقضايا حقوق الانسان، منذ بداية ظهور تنظيمات الحركة الاسلامية في أواخر الستينيات الى اليوم. وتعكس هذه المراحل تطورات الحركة الإسلامية الايديولوجية، وفيما يخص بنياتها التنظيمية، ومواقع فاعليها داخل المشهد السياسي بالمغرب:
- تزامنت المرحلة الاولى مع بدايات ظهور الاسلاميين وأتسمت بمنطق العداء والرفض المطلق لمبادىء الديمقراطية والحقوق والحريات. وتأسس هذا المنطق على مفاهيم وتصورات ايديولوجية ودينية منغلقة ومتشددة تعكس الموقع الهامشي للفاعلين الاسلاميين في الحقل السياسي خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي. وشيطّن الإسلاميون المنظومة الديمقراطية والممارسات الحقوقية واعتبروها بدعة. ولاتزال بعض تداعيات هذه المرحلة تلقي بظلها على علاقة الاسلاميين بالحركة الديمقراطية والحقوقية بالمغرب (لعل أهمها اغتيال الرمز اليساري والنقابي عمر بنجلون سنة 1975).
- وتمتد المرحلة الثانية من فترة الثمانينيات الى منتصف التسعينيات حيث تعامل الإسلاميين بحذر مع قضايا الديمقراطية وحقوق الانسان وحاولوا استثمارها في الصراع مع السلطة في ظل سياق تاريخي عرف مجموعة من المتغيرات السياسية على المستوى الوطني والاقليمي والدولي. وطنيا، شهدت الساحة السياسية تنامي الحركات الاحتجاجية والاضطرابات الاجتماعية (اضرابات 1981، 1984، و1990) وبروز الحركة الاسلامية بالمغرب كقوة معارضة وازنة، لاسيما في اعقاب الثورة الايرانية، مع ما رافق ذلك من تعرض نشطائها للتضييق، والملاحقة والاعتقالات. على الصعيد الإقليمي (مثلما حدث مع الانقلاب العسكري على الاكتساح الانتخابي لجبهة الانقاد الاسلامية بالجزائر في عام 1991). وعلى المستوى الدولي، سقط جدار برلين في 1989وجرى تدويل مسألة الديمقراطية وحقوق الانسان مع نهاية الحرب الباردة. ووجدت كل هذه المتغيرات صداها على مستوى الانتاج النظري والايديولوجي الاسلامي من خلال المجهودات التأصيلية للانتلجنسيا الاسلامية للتوفيق والموالفة بين الشورى والديمقراطية وكذا مكانة المسألة الحقوقية في الاسلام. وقد تميزت ملامح هذه المرحلة عموما بالتعامل الانتقائي للاسلاميين المغاربة مع المنظومة الحقوقية وايلائهم الاهمية البالغة للحقوق والحريات السياسية أساسا.
- ثم جاءت مرحلة التطبيع النسبي مع المنظومة الحقوقية ومأسسة الفعل الحقوقي الإسلامي بين نهاية التسعينيات وحتى قدوم الربيع العربي في 2011، في سياق الانفتاح السياسي المحسوب وعملية الادماج التدريجي للاسلاميين الاصلاحيين في اللعبة السياسية والتي بدأت قبل تولي محمد السادس في 1999. واحتفظ الإسلاميون بمنطق التطبيع الجزئي حيث شددوا على أهمية عدم تعارض الحقوق مع "الخصوصية الدينية والحضارية." ودخل إسلاميون في جدال مع فاعلين اخرين حول مسائل وسياسات تمس الحقوق مثلما حدث خلال مناقشة الخطة الوطنية لادماج المرأة في التنمية والجدال حول الحريات الفردية.وحسب طبيعة العلاقة مع السلطة، اختلفت أشكال مأسسة العمل الحقوقي من قبل الاسلاميين المغاربة وشملت تأسيس حزب العدالة والتنمية لمجموعة اطارات قانونية، حقوقية ونسائية مثل منظمة تجديد الوعي النسائي في 1995، ومنتدى الزهراء للمرأة المغربية في 2002، ومنتدى الكرامة لحقوق الانسان في 2005. وأنشأت جماعة العدل والإحسان المحظورة هيئة حقوقية وهياكل قطاعية داخلية (قطاع نسائي، نقابي، طلابي) تعمل عبر المحامين المرتبطين بالجماعة مثل رابطة محامي العدل والإحسان. وأخيرا ظهرت إطارات حقوقية (لجان، تنسيقيات، جمعيات) للدفاع عن المعتقلين الاسلاميين السلفيين.
- وأخيرا، تؤرخ المرحلة الرابعة لانتقال الاسلاميين الاصلاحيين من موقع الادماج المراقب الى موقع المسؤولية والتدبير الحكومي. وتجد هذه المرحلة تعبيرها في حكومة عبد الإله بنكيران زعيم حزب العدالة والتنمية 2012)ـ 2016) مع ما رافق ذلك من توجسات عديد من الفاعلين بسبب إرث المراحل السابقة في تعاطي الاسلاميين مع المسألة الحقوقية.
ممارسات وإطارات إسلامية للفعل الحقوقي
في سياق عملية الانصاف والمصالحة بالمغرب، صارت مسألة الدفاع عن المعتقلين السلفيين بموجب قانون الارهاب مدخلا عمليا لتحقيق رغبة مجموعة من المعتقليين الاسلاميين السابقين في اقتحام المجال الحقوقي ووسمه بالطابع الاسلامي؛ وذلك بعد تعثر مجهودات بعضهم في هذا الاتجاه خلال سنوات التسعينيات. وأمام استعصاء الانخراط في الجمعيات الحقوقية ذات التوجه اليساري (الجمعية المغربية لحقوق الانسان مثلا)، أو العمل داخل اطارات مركبة منفتحة نسبيا مثل منتدى الحقيقة والانصاف، عمد معتقلون سابقون الى التقارب مع فعاليات ونخب ذات توجه اسلامي ومنافسة للهيمنة اليسارية على المجال الحقوقي، وبشكل خاص بعد تطبيع العلاقات بين النظام وجزء من الاسلاميين الاصلاحيين (حركة التوحيد والاصلاح وحزب العدالة والتنمية) وإدماجهم في اللعبة السياسية (إبتداء من برلمان 1997).
وفي إطار دراسة نماذج إسلامية للفعل الحقوقي، سننظر في إطارات الدفاع عن المعتقلين السلفيين وتجربة منتدى الكرامة لحقوق الانسان.
- الإطارات الاسلامية للدفاع عن المعتقلين السلفيين
ارتبطت هذه الجهود ومحاور اشتغالها بتجاوزات الاجهزة الامنية في مواجهة أعمال وتهديدات ارهابية، وخاصة عقب تفجيرات 16 مايو 2003 بالدار البيضاء والاحكام الصادرة بشأنها.وتميزت هذه الجهود بطابع فئوي وتآزري وشملت المعتقلين السلفيين وعائلاتهم. وتزايد عدد الأطر العاملة في هذا المجال بالنظر الى استمرار الملاحقات الأمنية والاختلافات والانشقاقات بين الفاعلين في المجال، اضافة الى المنافسة حول شرعية التمثيلية والوساطة في هذا الملف سواء فيما بين هذه الاطارات نفسها أو بينها وبين اطارات أخرى (منتدى الكرامة مثلا)، وذلك في ظل رهانات مجموعة من الاحزاب السياسية (العدالة والتنمية، النهضة والفضيلة، الحركة الديمقراطية والاجتماعية) في احتواء واستقطاب الاصوات والقيادات السلفية. في جزء منه، ينهل الخطاب الحقوقي لهذه الاطارات من بعض المفاهيم المرتبطة بمسلسل المصالحة بالمغرب من خلال الحديث عن "ضحايا" العهد الجديد إضافة الى تعابير مستقاة من المرجعية الدينية عبر الاستشهاد بالآيات القرآنية واللجوء الى المصطلحات المتعلقة بالمظلومية، والنصرة، إلخ.
- جمعية النصيرلمساندة المعتقلين الإسلاميين بالمغرب
في سياق إنشاء هيئة الانصاف والمصالحة، تأسست جمعية النصير لمساندة المعتقلين الإسلاميين بالمغرب في ديسمبر 2004 كأول إطار حقوقي إسلامي يعنى بالدفاع حصرا عن المعتقلين الاسلاميين، وتحديدا السلفيين المعتقلين في اطار قانون مكافحة الارهاب. وعلى رأس المؤسسين، واكثرهم من عائلات معتقلين، يقف عبد الرحيم مهتاد وهو معتقل اسلامي سابق من فترة سنوات الرصاص، وناشط منخرط في مجموعة منظمات حقوقية مثل منتدى الحقيقة والانصاف. وعن حيثيات تأسيس هذا الإطار الجديد في في ظل تواجد منظمات حقوقية راسخة بالمغرب، يقول مهتاد:
"طرقنا جميع الأبواب لدى الهيئات والمنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان، بحكم عضويتي في فرع منتدى الحقيقة والإنصاف بالدار البيضاء، وخبرتي مع جمعيات حقوقية مغربية. كنت دائماً أضع أمام الحقوقيين مشكلة المعتقلين الإسلاميين ... فمنهم من كان يتنكر بصفة قطعية قائلاً: إنهم يستحقون الاعتقال، ومنهم من كان يقول: إن الموضوع ما يزال غير ناضج ... الإطارات القانونية التي كانت موجودة رفضت تبني الملف وكلما طرقنا بابها لم يفتح لنا، فصرنا أمام الباب المسدود، وأمام خيارين: إما أن تؤسس بشكل مستقل، وإما أن تذهب لحال سبيلك. هذا هو السؤال الذي طرحناه أخيرا في الاجتماعات السابقة للتأسيس. اتجهت الإرادة في النهاية إلى تأسيس إطار قانوني خاص يدافع عن المعتقلين."
ولا يمنع عدم الاعتراف القانوني بالجمعية، رغم استيفاءها الشروط الشكلية لذلك، من تنظيم انشطتها في ظل التسامح النسبي للسلطات العامة. وبالرغم من تواضع امكانياتها وطاقاتها البشرية، فقد تمكنت الجمعية ان تفرض ملف " المعتقلين السلفيين" على الاجندة الحقوقية وعلى ساحة النقاش الاعلامي والسياسي بالمغرب. واستطاعت الجمعية ايضا لفت الانتباه الى معاناة نوع آخر من ضحايا الحرب على الارهاب (عائلات المعتقلين السلفيين) وعملت على تعبئتهم وتأطيرهم.
- اللجنة المشتركة للدفاع عن المعتقلين الإسلاميين
من خلال موقعها الالكتروني، تقدم اللجنة المشتركة للدفاع عن المعتقلين الإسلاميين نفسها بصفتها لجنة مدافعة عن حقوق المعتقلين الإسلاميين تحت طائلة قانون الإرهاب وذلك عبر "كل الأساليب السلمية والمشروعة لوضع حد لكل الانتهاكات والتجاوزات التي تطالهم دون تمييز أو تخصيص." وتأسست اللجنة في 14 مايو 2011 كإطار مشترك يضم تنسيقيتين تهتمان بقضية المعتقلين السلفيين تحديدا:
أولًا: تنسيقية الحقيقة للدفاع عن معتقلي الرأي والعقيدة والتي تمثل عائلات المعتقلين فعليًا في إطار قانون مكافحة الإرهاب. وتأسست هذه التنسيقية في أواخر 2010 في سياق احتجاجات المعتقلين السلفيين داخل السجون والتي واكبتها مبادرات تآزرية من طرف عائلات المعتقلين.
ثانياً: تنسيقية المعتقلين الإسلاميين السابقين والتي تمثل المعتقلين الإسلاميين السابقين في إطار قانون مكافحة الإرهاب. وتأسست هذه التنسيقية بعد اتفاق 25 مارس2011 من طرف معتقلين إسلاميين سابقين وذلك بهدف الدفع لتنفيذ الاتفاق المذكور والمطالبة بإسقاط قانون مكافحة الإرهاب وجبر الضرر الذي لحقهم جراء اعتقالهم.
وأولّى عمل اللجنة المشتركة اهتماما بالغا للدعاية الاعلامية للملفات المطروحةحيث نشطت على عدة وسائل تواصل اجتماعي، وعملت على تعبئة عائلات المعتقلين والضغط على المسؤولين عبر اشكال احتجاجية مثل الاضراب عن الطعام، والتظاهر، والوقفات (أمام المساجد، البرلمان، وزارة العدل، مقر المجلس الوطني لحقوق الإنسان بالرباط، مقر حزب العدالة والتنمية). وعلى غرار باقي الاطارات الحقوقية للدفاع عن المعتقلين السلفيين، وجهت اللجنة انتقادات لاذعة الى حزب العدالة والتنمية لموقعه في رئاسة الحكومة وتوليه وزارة العدل والحريات في شخص مصطفى الرميد الذي كان من أبرز المدافعين عن القضية من موقعه السابق كمحامي وبرلماني سابق في المعارضة أو رئيس منتدى الكرامة.
- الجمعية الوطنية للادماج والاصلاح
تأسست هذه الجمعية في مارس 2016 على يد ناشطين ومعتقلين سابقين بموجب قانون الإرهاب وفي مقدمتهم عبد الكريم الشاذلي، أحد أبرز المعتقلين السلفيين المفرج عنهم. وتمحور عمل الجمعية حول تسهيل إعادة إدماج المعتقلين السلفيين السابقين في المجتمع وتوفير فرص عمل لهم إضافة إلى اثارة النقاش الحقوقي والسياسي والاجتماعي حول وضعيتهم.
بالنظر الى حيثيات إنشائها (الدعم المالي، مكان التأسيس) وكذا الانتماء الحزبي لرئيسها وجل مؤسسيها (حزب الحركة الديمقراطية والاجتماعية)، تعتبر الجمعية في نظر البعض ذراعًا حقوقيًا لهذا الحزب الذي ينافس تنظيمات سياسية أخرى في استمالة واستقطاب الاصوات والتيارات السلفية إلى ولوج المعترك السياسي المؤسساتي. وبين أهم الانتقادات الموجهة الى هذه الجمعية إرتباط أسم مؤسس ورئيس الحزب (عميد الشرطة السابق محمود عرشان) بملفات تعذيب وانتهاكات جسيمة لحقوق الانسان بالمغرب.
- الفعل الحقوقي الإسلامي: "منتدى الكرامة لحقوق الإنسان" نموذجا
بعد ستة أشهر من ظهور جمعية النصير، تأسس منتدى الكرامة لحقوق الإنسان"في يونيو 2005، باعتباره أول جمعية حقوقية إسلامية تسعى الى الموالفة بين مرجعيتين متمايزتين حيث أنه قام " إنطلاقا من المرجعية الإسلامية التي تكرم الإنسان وتجعله أفضل المخلوقات " أولا، ثم "إستنادا للمرجعية الدولية لحقوق الإنسان المجسدة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتضمنتها العهود والمواثيق الدولية " ثانيا.
مقارنة بالتنظيمات الحقوقية الاسلامية السابقة، تمايز منتدى الكرامة بنوعية الأطر، وتنوع التركيبة، ودرجة الاحترافية واتساع دائرة الاشتغال. فبالاضافة الى المعتقلين الاسلاميين السابقين، ضمت البنية الاجتماعية لأعضاء ومؤسسي المنتدى أطر وشرائح من الطبقة الوسطى المتدينة والمحافظة والمشتغلة في مجموعة من القطاعات (محامون، أساتذة جامعيون، صحافيون). وتتوزع الانتماءات الايديولوجية والسياسية لهذه النخبة على التوجه المحافظ (الحبيب الفرقاني مثلا) والعديد من التيارات الاسلامية (البديل الحضاري وقدماء الشبيبة الاسلامية مثلا)، وحركة التوحيد والاصلاح وحزب العدالة والتنمية. وتتجسد احترافية المنتدى في مجموعة من المؤشرات منها تأسيس فروع؛ العمل المهني ؛ الشراكات ؛ التشبيك والتحالفات؛ إعداد التقارير الموازية، إلخ.
وبالرغم من التصاق صورته الاعلامية والحقوقية أساسا بالترافع في ملف المعتقلين السلفيين، فإن مجالات ومحاور اشتغال المنتدى اتسعت منذ تأسيسه لتشمل إصلاح منظومة العدالة، الحكامة الأمنية، مناهضة التعذيبذ والوقاية منه، مراقبة الإنتخابات، مكافحة الاتجار بالبشر، الوساطة والمؤازرة في مجموعة من الملفات والقضايا، إلخ.
ويرى المنتدى أنه أحرز عدة إنجازات منها التقدم في ملف المعتقلين السلفيين والمشاركة في محطات حقوقية متعددة مثل رفض "محاكمات معتقلي 6 أبريل ومحاكمة معاذ بلغوات ولمحاكمة بعض نشطاء 20 فبراير وللتدخلات الأمنية العنيفة ضد المعطلين وضد المظاهرات السلمية وموقفه الرافض لمحاكمة عدد من الصحافيين وموقفه الرافض للعفو عن المجرم "كالفن" ولمنع مخيم أمنستي (منظمة العفو الدولية)."
على صعيد آخر، تأثر المنتدى سلبًا بعد اعتقال وإدانة بعض مؤسسيه وأعضائه ومنهم محمد الأمين الركالة ومصطفى الحسناوي بشأن مزاعم مرتبطة بقانون الارهاب. وفي بعض الحوارات والمقابلات، أثيرت قضية ارتباط اسم الرئيس الحالي للمنتدى (عبد العلي حامي الدين) في ملف مقتل أحد نشطاء الفصائل الطلابية الراديكالية بجامعة فاس (الطالب اليساري أيت الجيد بنعيسى) سنة 1991.
وعلى غرار إطارات حقوقية مغربية اخرى، تمحورت أهم إشكاليات المنتدى حول علاقة الحقوقي بالسياسي والحزبي، حيث اعتبره الكثيرون ذراعا حقوقيا لحزب العدالة والتنمية. وساهم تحول الحزب من موقع المعارضة الى تولي الحكومة في خلق توترات داخل المنتدى، وخصوصا بعد انتقال رئاسته بين قياديين بارزين في حزب العدالة حيث حل حامي الدين محل مصطفى الرميد. ورافق ذلك اعتراضات تتعلق بالحكامة الداخلية وانتقادات بخصوص التحول في أساليب وأولويات الاشتغال والتماهي مع اجندة وخطاب الحزب الحاكم وسياساته الرسمية المتبعة. وشكلت انتخابات الاجهزة المسيّرة للمنتدى مناسبة لتوجيه بعض أعضائه انتقادات لاذعة مثلما فعل أحد المؤسسين، أحمد بوعشرين الأنصاري قائلًا، "إنه مسلسل سينتهي بالاستيلاء التام على المنتدى وبإقصاء كل مخالف للتوجه الحزبي للرئيس ومن معه وبوضع علامة حزبية خالصة أن المنتدى انتهت مهمته الحقوقية وبدأت مهمته الحزبية والرسمية ليصبح احدى ملحقات الحزب واحد المدافعين الشرسين عن توجهات وزارة العدل والحريات."
وتفجر الصراع الداخلي بهذا الخصوص في عام 2014 في شكل توترات تنظيمية ومواجهات إعلامية بين رئيس المنتدى وعدد من أعضاء مكتبه التنفيذي، وتحديدا في شخص المدير التنفيذي محمد حقيقي، أحد أبرز النشطاء الحقوقيين الاسلاميين بالمغرب. واتضحت هذه الأزمة في حرب بيانات مضادة واتهامات متبادلة بين الفريقين تخللها حديث عن إعفاءات، وانسحابات ومشاريع تصحيحية. ويمكن تلخيص اسباب ودواعي الخلاف المعلنة من خلال بيانات وتصريحات معارضي الرئيس، الذي أعيد انتخابه في بداية 2016، فيما يلي:
- ضعف مبدأ الاستقلالية التامة عن السلطة العمومية والأحزاب السياسية مما أصبح محل مشاحنات بين "الرئيس وأعضاء في المنتدى خصوصا بعد ظهور ...مؤشرات وإنزلاقات التي تمت تزكيتها عبر بعض التصريحات"، وذلك في ايماءة لموقف حامي الدين.
- أختلف الرئيس والمدير التنفيذي حول ملف المعتقلين بمقتضى قانون مكافحة الإرهاب حيث انتقد المدير ما وصفه بتنصل الدولة من التزاماتها الواردة في اتفاق مارس 2011. وتأزم الخلاف بعد حضور المدير التنفيذي لوقفات احتجاجية نظمتها اللجنة المشتركة للدفاع عن المعتقلين الإسلاميين ضد الحكومة.
- مسألة الشراكة: ارتبط الخلاف الأساس هنا ب "مقاربة الرئيس الذي يسعى إلى أن يقتصر دور المنتدى على عقد شراكات وإعداد دراسات، والابتعاد عن العمل الميداني والاهتمام بالانتهاكات والشكايات، وهو ما يراه المدير التنفيذي يفرغ المنتدى من هويته النضالية".
وعموما عبرت مواقف المنتدى،انسجاما مع مرجعيته الاسلامية، عن توجه محافظ في العديد من الملفات والقضايا الحقوقية منها عقوبة الاعدام، الحقوق المدنية للنساء، الاجهاض، إلخ. وقد ساهمت هذه المواقف المحافظة في تأزيم علاقاته داخل مجموعة من الشبكات والتحالفات مع الاطارات الحقوقية المغربية التي تتبنى المرجعية الكونية لحقوق الانسان.
" الحكومة الإسلامية " لبنكيران وتدبير الملف الحقوقي
خلال السنوات التالية لحراك 2011 انخرط المغرب في مسار جديد لتدبير الشأن الحقوقي وبشكل خاص فيما يتعلق بالتشريعات التي تخص حماية الحقوق والحريات والتفاعل مع المواثيق والآليات الدولية في مجال حقوق الإنسان.ويمكن مقاربة الحصيلة الحكومة، التي ترأس دفتها حزب العدالة والتنمية الاسلامي، وخاصة فترة عبد الإله بنكيران (2011-2017) عن طريق سرد التعديلات التشريعية والسياسات المعلنة وجوانب النجاح والقصور، وعن طريق النظر إلى الممارسات الفعلية في ضوء طبيعة الحقل السياسي المغربي وعلاقات وموازين القوى داخله.
من بين المداخل الأولية لتقييم نتائج ومنجزات التدبير الحكومي للملف الحقوقي يمكن الاستئناس بالرؤية الرسمية من خلال الجرد الذي قدمته حكومة عبد الإله بنكيران كحصيلة لعملها في مختلف القطاعات، وأفردت بمقتضاه حيزا كبيرا للحديث عما اعتبرته نجاحا على مستوى تطور الحقوق وصون الحريات طوال فترة إدارة شؤون البلاد وخاصة حتى انتخابات 2016. من هذه الزاوية، اتخذت الحكومة إجراءات وقرارات من أجل تعزيز حقوق الإنسان والحريات العامة، وفي مقدمتها إقرار إلزامية فتح التحقيق في قضايا التعذيب، وعدم الإفلات من العقاب في حالة ثبوت حصوله، وتعزيز ضمانات المحاكمة العادلة، كاعتماد حضور المحامي إلى جانب الأحداث والمصابين بإحدى العاهات، واعتماد تقنية التسجيل السمعي البصري لاستجوابات الأشخاص الموضوعين رهن الحراسة النظرية، وعدم مصادرة أية جريدة وطنية أو إغلاق موقع إلكتروني بقرار إداري وعدم صدور حكم بالسجن النهائي في حق الصحافيين، بالإضافة إلى تمكين الهيئات الوطنية والدولية المستقلة من زيارة أماكن الاحتجاز.
ومن بين إجراءات حكومة بنكيران في هذا المجال أيضا إلغاء العقوبات السالبة للحرية من مدونة الصحافة والنشر، واعتماد مجلس وطني للصحافة لإقرار احترام أخلاقيات المهنة، بالإضافة إلى الاعتراف القانوني بالصحافة الإلكترونية، وإيكال إيقاف الصحف وحجب المواقع الإلكترونية للقضاء. وعملت الحكومة على احترام حق التظاهر، حيث تم تسجيل معدل 30 تظاهرة ووقفة في اليوم، ومكنت المواطنين وجمعيات المجتمع المدني، من تقديم عرائض للسلطات العمومية، بالإضافة إلى إصلاح قانون القضاء العسكري عبر التنصيص على عدم عرض المدنيين أمام المحاكم العسكرية، وإحالة العسكريين على القضاء العادي في حالة ارتكابهم جرائم تخص الحق العام.
وبالإضافة الى السجل الحكومي في مجال التوقيع على الاتفاقيات الدولية (الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص ضد الاختفاء القسري، البروتوكول الاختياري المتعلق باتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة)، فقد استفاد قرابة 19 الف مهاجر خلال ولاية بنكيران من التسوية الاستثنائية الادارية لوضع الإجانب المقيمين بالمغرب بصفة غير قانونية، كما استفاد 20 الف مهاجر من الخدمات الصحية، بالإضافة إلى ضمان استفادة الأجانب المقيمين بالمغرب من برامج السكن الاجتماعي، والسكن ذو قيمة عقارية منخفضة.
في مقابل الاستعراضات التوصيفية والتمجيدية للسلوك الحكومي في المجال، تقدم مجموعة تقارير وتحليلات تقييما مغايرا للوضع الحقوقي بالمغرب لنفس الفترة. وانتقد رئيس تحرير أحد أبرز الجرائد المغربية، الصحفي توفيق بوعشرين، في مقال بعنوان "ما خسرناه مع بنكيران"، أداء الحكومة، قائلًا أن "أولى الخسائر التي تكبدتها التجربة الديمقراطية الفتية في المغرب هي التأويل غير الديمقراطي للوثيقة الدستورية، حيث عمد بنكيران إلى التفريط في صلاحياته المكتوبة في الدستور"، واضعا بذلك " أولوية التطبيع مع القصر فوق أولوية تطبيق الدستور، واحترام هندسته التي كانت ثمرة نضالات طويلة ومريرة من قبل أجيال من المناضلين". ويستعرض توفيق بوعشرين مجموعة من السلبيات التي اعترت التدبير الحقوقي خلال هذه الفترة الحكومية:
" خسرنا مع بنكيران نقاطا كثيرة في مؤشرات عالمية حول احترام حقوق الإنسان، وحرية الصحافة، ومحاربة الفساد، والحق في تأسيس الجمعيات، والحق في التظاهر السلمي، وغيرها من مظاهر الحريات الفردية والجماعية، حيث وضع بنكيران لنفسه مساحة ضيقة للحركة، وابتعد كليا عن الأنوية الصلبة للسلطة، معتبرا أنها ليست من اختصاصاته، فلم يفتح بنكيران ملف محاربة الفساد، ولم يفتح ملف الحكامة الأمنية، ولم يفتح ورش إصلاح الإعلام العمومي، ولم يفتح ملف الآلة الدبلوماسية المعطوبة، ولم يفتح علبة الريع الذي تضخم عبر عقود طويلة… كانت أوراق كثيرة بين يدي بنكيران، وأضاعها بطريقة تبعث على الدهشة ... كان في يده دستور متقدم لم يستفد منه، وكانت في يده مؤسسة رئاسة الحكومة لم ينجح في تأثيثها بطاقم كبير وخبير لملء وعاء الصلاحيات التي أصبحت لرئيس الحكومة، وكانت أمام بنكيران شعبية كبيرة لم يجعلها وقودا ينتج إصلاحات جوهرية كثيرة، واقتصر دوره على التنديد بالتحكم في الخطب والإعلام، فيما يده كانت مغلولة في السلطة."
وتتعدد مضامين وعناوين الاختلالات والنقائص التي اعترت التدبير الحكومي للعديد من الملفات المربتطة بمجالات حقوق الإنسان ومنها المماطلة و الفشل في تنزيل عدد من النصوص الدستورية والقوانين التنظيمية المتعلقة بحقوق الإنسان؛ محاولة التضييق على الجمعيات الحقوقية والحريات والمطالب النقابية (الاقتطاع من أجور المضربين، قانون الاضراب، تمديد سن التقاعد على حساب المنخرطين في صندوق التقاعد)؛ انتهاك الحق في التظاهر (ارتفاع وتيرة تدخلات القوات العمومية خارج المساطر القانونية، الاستعمال المفرط للقوة في حق المشاركين في التظاهرات السلمية، الخ.)؛ تدهور الأوضاع داخل السجون؛ العجز عن خلق مناصب الشغل وتحسين مستوى العيش للمواطنين. وتتركز بعض الانتقادات على رصد التناقض بين النص والواقع وبين الممارسة وخطاب المسؤولين. والجدير بالذكر ان هذه الشهادات والانتقادات تعضدها تقارير صادرة من مؤسسات إقتصادية رسمية (المندوبية السامية للتخطيط، بنك المغرب، المجلس الأعلى للحسابات)أو من منظمات حقوقية وطنية ودولية.
وفي ارتباط مع تداعيات الازمة الاقتصادية العالمية وافرازات السياسات العمومية من نتائج على مستوى الارتفاع غير المسبوق في حجم المديونية الخارجية، فقد تأثرت الصورة الحقوقية في المغرب كثيرا بطريقة التعامل الامني مع المطالب والاحتجاجات الاجتماعية من خلال منسوب المنع والعنف الذي شاب التدخلات الامنية في حق العديد من الاشكال الاحتجاجية المنظمة من طرف فئات اجتماعية مختلفة، وعلى الأخص المعطلين، الباعة المتجولين، الأطباء الداخليين، الأساتذة المتدربين، إلخ.
خاتمة
في مقابل ارتباط نشأة وتطور الحركة الحقوقية المغربية بالتوجهات الاشتراكية واليسارية وبالصراع من أجل الديمقراطية؛ فإن التجربة الحقوقية للاسلاميين حديثة الولادة وترتهن، في جزء منها، بالنزاع مع التيارات الحداثية واليساروهيمنة نخب هذه التيارات على هذا المجال. وانطلاقا من "الحمولة الاحتجاجية والطابع التقدمي للنضال الحقوقي"، تنظر الاوساط الديمقراطية والحداثية بعين الارتياب الى مدى التزام ومصداقية خطابات الفاعلين الاسلاميين بخصوص الحريات وحقوق الانسان.
وتواجه علاقة الاسلاميين المغاربة بالمسألة الحقوقية مجموعة تحديات منها العلاقة المتوترة مع المنظمات والحركات الحقوقية الوطنية. وعلى المستوى الاديولوجي، فان العمل الحقوقي الاسلامي مجبر على تدبير متطلبات التوفيق بين المرجعية الدينية والمرجعية الكونية للمنظومة الحقوقية.
وفي جزء كبير منها، تتسم التجربة الحقوقية للاسلاميين بالطابع الانتقائي والفئوي من حيث درجة الاشتغال والانشغال بالملفات التي تهمهم (الدفاع عن المعتقلين الاسلاميين)، وإعطاء الأولوية للشق السياسي والاقتصادي في الحقوق والحريات مقابل التحفظات على مستوى الحقوق المدنية والاجتماعية التي يتم تناولها بمنطق محافظ تتداخل فيه الاعتبارات الاخلاقية والهوياتية (حقوق النساء مثلا).
ويظل التطبيع النسبي للاسلاميين مع الديمقراطية والمنظومة الكونية لحقوق الانسان محكوما بهاجس المحافظة على مسألة الخصوصية والهوية ومشروطا بمجموعة تحفظات مرتبطة بالمكانة المركزية لمرجعيتهم الدينية. ويعتبر البعض أن "مكانة الاسلاميين في المستقبل، وبلوغ مشروعهم الاصلاحي مداه، مرتبطان أشد ما يكون الارتباط بقدرتهم على دمقرطة فكرهم السياسي، وإعادة تأسيس مفاهيم الحرية والمساواة والسيادة الشعبية في خطابهم، بما يسهل عليهم عملية الاندماج في الحداثة السياسية وتسهيلها."
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.