ملخَّص
في 25 يناير 2011، الموافق لعيد الشرطة، زحفت على شوارع مصر مظاهرات كبيرة استجابة لدعوات من نشطاء، وبتأييد واسع من حركات وجماعات مختلفة، ومن أغلب الجمهور فيما بعد. وأدت التعبئة الجماهيرية غير المسبوقة التي شهدها عام 2011 إلى إيجاد فرصة مثالية لتطور الحركة الحقوقية، فقد ظهرت في مصر ما بعد 2011 مساحة عامة تفوق أية مساحة وجدت في عهد مبارك، للتفاعل الحر فيما بين الأطراف كافة: الإعلام، والأحزاب السياسية، والقضاء، والمنظمات الحقوقية، في غياب ملحوظ لجهاز أمن الدولة القمعي. كانت المنظمات الحقوقية تتعامل مع نظام ضعيف حريص على الاسترضاء، وراغب في الاستماع، ومنفتح على الإصلاح والحوار، بغضِّ النظر عن صدق نواياه.
وفي أعقاب انقلاب 2013 واستيلاء الجيش بعد مظاهرات شعبية ضد حكومة الأخوان المسلمين على السلطة، اتضحت هشاشة بعض المكاسب التي حققتها تلك المنظمات، ففي غضون شهور قليلة عادت الدولة الأمنية بكل قوتها. لكن على رغم الاتفاق العام على تدهور الأوضاع الحقوقية في مصر لما هو أسوأ بكثير من سنوات مبارك، إلا أن بعض عناصر النجاح باقية من حصاد سنتي “الثورة” القصيرتين، 2012-2013، خصوصًا في الشهور الأولى عقب سقوط مبارك، وهي عناصر لا ينبغي التهوين من شأنها ولا من جدارتها بالتحليل.
اقرأ المزيد
"تحدث في البداية اللواء حامد عبد الله رئيس قطاع الأمن الوطني في كلمة مقتضبة حول القطاع الجديد، أصر فيها على أن القطاع ليس إصلاحًا لجهاز أمن الدولة وإنما هو "أحدث قطاعات وزارة الداخلية" وهو قطاع جديد يبدأ عمله بفلسفة جديدة وضباط وعاملين أغلبهم جدد.أعجبني في كلمته أنه استخدم تعبير "الفساد المؤسسي" في وصف جهاز أمن الدولة، وكذلك اعترف بأن الجهاز كان يعمل باستقلال شبه كامل عن وزارة الداخلية وبشكل يضعه فوق الوزارة. بعدها شاهدنا عرضًا على شاشة حول القطاع الجديد وفلسفته وهيكله الإداري وآليات الرقابة على أدائه. عندما جاءتني الفرصة للحديث طلبت نسخة من العرض فجاءني في خلال دقائق أحد ضباط العلاقات العامة وأعطاني سي دي عليه العرض بالكامل".
الاقتباس هو مقتطف من تدوينة كتبها حسام بهجت، مؤسس المبادرة المصرية للحقوق الشخصية ومديرها السابق، في 2011 عن ندوة لم يسبق لها مثيل حضرها في وزارة الداخلية، مع صحفيين وآخرين من نشطاء حقوق الإنسان والساسة والكُتَّاب. وقد قُدمت في أثناء الاجتماع الكثير من الوعود، بما فيها خضوع الضباط السابقين للفحص، وحصول الضباط الجدد على دورات تدريبية تشمل حقوق الإنسان، ووجود قانون جديد يحكم القطاع ويضمن المحاسبة وإنهاء الإفلات من العقاب ويشجع النساء والأقباط على الانضمام للقطاع الجديد. إن ما وصفه بهجت أعلاه هو مناخ مختلف تمامًا عن المناخ الذي ساد في مصر بنهاية 2016، بعد ما يقرب من ستة أعوام من انتفاضة هبَّت للمطالبة بالكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية.
في 25 يناير 2011، الموافق لعيد الشرطة، زحفت على الشوارع أعداد مهولة من المواطنين في استجابة لدعوات أطلقها نشطاء، وبتأييد واسع من حركات وجماعات مختلفة. وأدت التعبئة الجماهيرية غير المسبوقة التي شهدها عام 2011 إلى إيجاد فرصة مثالية لتطور الحركة الحقوقية، إذ يتضح، من تدوينة بهجت والكثير من التطورات السياسية في ذلك العام، أن النشطاء كانوا يتعاملون مع نظام ضعيف حريص على الاسترضاء، وراغب في الاستماع، ومنفتح على الإصلاح والحوار، بغض النظر عن صدق نواياه. فقد ظهرت في مصر ما بعد 2011 مساحة عامة تفوق أية مساحة وجدت في عهد مبارك، للتفاعل الحر فيما بين الأطراف كافة: الإعلام، والأحزاب السياسية، والقضاء، والمنظمات الحقوقية، في غياب ملحوظ لجهاز أمن الدولة القمعي. وتمكنت المنظمات الحقوقية في بعض الحالات من استغلال هذا الانفتاح لترويج المزيد من الإصلاحات، فكانت هناك جهود مناصرة واضحة في طيف من القضايا الحقوقية (تحت مظلة العدالة الاقتصادية والاجتماعية، وإصلاح العدالة الجنائية، وحماية الحريات المدنية وكذلك ترقية الديمقراطية والحقوق السياسية)، إلا أن تلك الجهود لم تكلل كلها بالنجاح.
وسوف تتولى هذه الورقة مراجعة عدد من المبادرات والقضايا الحقوقية التي تقدمت بها منظمات حقوقية في أعقاب ثورة يناير 2011، بغرض تكوين فهم أفضل لتأثير تلك المنظمات في مصر ما بعد الثورة. وعلى رغم وجود عدد من المبادرات المقدمة من مجموعات مختلفة (لا تمثل بالضرورة منظمات حقوقية رسمية)، إلا أننا سنقصر مراجعتنا على مجموعة منتقاة من دراسات الحالة المقدمة من أطراف حقوقية فاعلة، بهدف تحليل الأنماط التي أدت إلى نجاح تلك المبادرات أو إخفاقها. والأهم أن هذا من شأنه أن يعيننا على فهم ما كان يمكن عمله على نحو مختلف ـ إن أمكن ـ لتعظيم نجاحات تلك المنظمات وتحجيم خسائرها.
والأساس في تحقيق هذا هو مناقشة مبادرات وقضايا منتقاة بعناية، يتم تقديمها من خلال روايات مباشرة من باحثي المنظمات الذين اشتغلوا عليها. وتقوم المؤلفة بتقييم التأثير استنادًا إلى مدى النجاح في تحقيق الأهداف كما وضعها أصحابها (بمن فيهم باحثو المنظمات، سواء تمثلت في تبني قانون أو تغيير سياسة، أو تغيير مواقف الجمهور العام ومنظوره..إلخ). كما تقوم المؤلفة بقياس تأثير تلك المنظمات من خلال تغطية المنافذ الإعلامية المختلفة لعملها، سواء كانت التغطية إيجابية أو محايدة أو مستهينة أو سلبية.
والفترة الخاضعة للفحص هي 2011-2013، مع اتخاذ صيف 2013 علامةً فارقة تمثل التآكل المتسارع في المساحة المتاحة لتحرك المجتمع المدني نتيجة لاستيلاء الجيش على الحكم وإزاحة الرئيس الإخواني محمد مرسي، في نهاية خاطفة لأقل الفترات قمعية في التاريخ المصري منذ 1952. وفي أعقاب انقلاب 2013 العسكري اتضح أن بعض مكتسبات المنظمات الحقوقية كانت قصيرة العمر، وفي غضون أشهر قليلة عادت الدولة الأمنية بكل قوتها. لكن على رغم الاتفاق العام على تدهور الأوضاع الحقوقية في مصر لما هو أسوأ بكثير من سنوات مبارك، إلا أن بعض عناصر النجاح باقية من حصاد سنتي "الثورة" القصيرتين، 2012-2013، وخصوصًا في الشهور الأولى عقب سقوط مبارك، وهي عناصر لا ينبغي التهوين من شأنها ولا من جدارتها بالتحليل.
قضايا النوع الاجتماعي: بعد تجاهل أولي، ارتقاء تدريجي إلى قمة جدول الأعمال بفضل الزخم العام
في 8 مارس 2011، الموافق لليوم العالمي للمرأة، نزلت إلى الشوارع مجموعة من الشابات الناشطات النسويات، لمطالبة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الحاكم وقتذاك، بإشراك المرأة في الجهود الجارية لإعادة بناء الدولة. وعلى رغم انضمام أعداد قليلة إلى المسيرة إلا أن المتظاهرين تعرضوا للاعتداء في ميدان التحرير من قبل "المارة"، الذين سخر بعضهم من المطالب. وتعرضت بعض المتظاهرات للتحرش الجنسي، الذي كان عندئذ قد تزايد انتشاره شكلاً من أشكال الاعتداء على النساء في شوارع مصر، في أثناء التجمعات الحاشدة. وقد زعمت دراسة أجريت في 2008 ونشرت في 2010 أن 62% من رجال مصر اعترفوا بالتحرش بالنساء، بينما أقر 83% من المصريات في العينة الخاضعة للدراسة بالتعرض للتحرش، وقال نصفهن إنه يحدث بشكل يومي. علاوة على هذا أفاد 98% من الأجنبيات بتعرضهن للتحرش في أثناء زيارة مصر. وعلى رغم هذه الأرقام المفزعة إلا أن حكومات ما قبل الثورة لم تبذل أي جهود جدية للتصدي لقضية استفحال التحرش الجنسي. بل إن سوزان مبارك، سيدة مصر الأولى، استخفت بالقضية برمتها، على رغم تزعمها لمعظم التغييرات السياسية المحيطة بقضايا النوع الجنسي في عهد زوجها. فضلاً عن هذا فإن الدولة نفسها اتهمت بتدبير بعض جرائم العنف الجنسي سلاحًا ضد المتظاهرات.
وتقول داليا عبد الحميد، مسؤولة النوع الاجتماعي وحقوق المرأة في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية إنه "قبل 2011 كان هناك مرض منتشر وسط المجتمع المصري يتمثل في تقبل جرائم التحرش والعنف الجنسي في المجال العام، وانتحال الأعذار لمرتكبيها...وكانت المرأة التي ترفع صوتها تؤمر بالسكوت كيلا تفضح نفسها، أو تتهم بأنها استدعت التحرش من خلال ملابسها، كما كان الشهود أحيانًا ينكرون رؤية أي شيء." وساهم الإعلام في هذه الحملة التشهيرية ضد كل امرأة جرؤت على الجهر بالاحتجاج.
بعد قليل من واقعة 8 مارس استغل المجلس العسكري سلطته التشريعية وأصدر قانونًا يغلظ عقوبة جرائم العنف الجنسي، وحاول بدون نجاح كبير أن يعيد تعريف التحرش الجنسي بحيث يرفع حماية الأفراد ـ وهو مطلب قديم للمنظمات الحقوقية.
لكن ما أعاد قضية التحرش الجنسي إلى الصدارة بعد 2011 هو تزايد أعداد الحالات الموثقة من الاعتداءات الغوغائية المتزايدة والعنيفة في أثناء التظاهرات، مما يبدد أسطورة اختفاء هذه الظاهرة من التجمعات الحاشدة. وبحلول 2012 "أصبح صعبًا على المجموعات الثورية أن تواصل إنكار حدوث هذا الأمر على نطاق واسع، مع تعرض أعداد كبيرة من الأشخاص، من دوائرنا نفسها، للعنف بهذا الشكل"، كما تقول عبد الحميد. ومع ذلك لم تكن القوى الثورية كلها على اتفاق، حيث طلب البعض الاستمرار في السكوت عن المشكلة حتى لا "نشوه صورة الميدان [ميدان التحرير]".
أما الحكومة فكانت في البداية في حالة إنكار تام، ولم تحاول تأمين التظاهرات أو حتى التحاور مع المنظمات الحقوقية لتكوين فهم أفضل لحجم المشكلة، في استنساخ لرد فعل نظام مبارك. كان تنسيق الاعتداءات وتنظيمها يذكِّر الكثيرين باستئجار نظام مبارك للبلطجية منذ 2005، للاعتداء على المتظاهرات. ومع هذا فقد كان إثبات تلك المزاعم صعبًا، لكن ما يتضح من الدراسة التي أجريت في 2008 والاعتداءات الجماعية منذ 2011 هو أن هناك ظاهرة اجتماعية تتطلب تدخل الدولة.
وفي يونيو 2012، عندما بدأت المنظمات الحقوقية العمل على توثيق تلك الحالات، اكتشفت اتخاذ الاعتداءات الجماعية لاتجاه أكثر حدة وعنفًا مما تم توثيقه قبل الثورة، ولم يسعها في ذلك التوقيت سوى تقديم الدعم النفسي والطبي للناجيات، ونشر شهاداتهن في بعض الأحيان. ثم تغيرت الاستراتيجية في نوفمبر 2012، واستعانت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية بعدد محدود من المتطوعين من أجل مظاهرة مزمعة، وكان معظمهم من العاملين في المنظمة، وبعض أفراد مجموعة "مُصرِّين"، وهي مجموعة كانت تعمل وقتذاك لتوثيق الثورة وقد جمعت الكثير من مقاطع الفيديو، وذلك بغرض توثيق الوقائع وإنقاذ المتعرضات للاعتداء من التظاهرة. ونشرت المجموعة رقم الخط الساخن المخصص للإبلاغ عن الوقائع على تويتر وفيسبوك تشجيعًا للآخرين أيضًا. وقالت عبد الحميد "كنا نريد إنقاذ البنات فقط، ولم يكن لدينا أمل كبير".
وبعد المحاولات الأولى، بدأت مجموعة رصد التظاهرات في التحرير في الانتظام على نحو أكثر كفاءة، فانقسموا إلى جماعات أصغر تكلف كل منها بمهمة محددة، وصاروا معروفين رسميًّا باسم "مجموعة ضد التحرش". وشاركت منظمات أخرى من المعنية بحقوق المرأة في هذه الجهود، فنشرت نداءً لطلب متطوعين وتقدم نحو 80 منهم، مما أدهش المنظمين. واتسم الاجتماع الأول بالسخونة، مع حضور رجال بتصورات مسبقة عن منع الفتيات من المشاركة في التظاهرات، أو دفع المنظمة إلى تشجيع الفتيات على الالتزام بزي معين. وتحول الاجتماع إلى نقاش تفاعلي عن قضايا حقوق المرأة، وإلى "نضال على مستوى القاعدة عن المصطلحات التي نستخدمها".
واعتبارًا من 2013 بدأ النضال الذي تخوضه تلك المنظمات يلفت انتباه الإعلام والجمهور العام على نحو غير مسبوق. وبعد التظاهرات التي واكبت ذكرى ثورة 25 يناير، ظهر بعض أفراد مجموعة ضد التحرش في برامج التليفزيون للتحدث عن مشاهداتهم، كما أصدرت المجموعة أول بياناتها الصحفية الذي أدان الأحزاب السياسية وتخاذلها حتى ذلك الحين عن تولي أية مسؤولية عن الاعتداءات المريعة التي وقعت في تظاهرات كانت الأحزاب هي الداعية إليها. ووقعت أبشع الاعتداءات في تظاهرات 25 يناير، والاحتجاجات العامة التي صاحبتها في الأيام التالية. وتقدمت المجموعة بدعوة للإدلاء بالشهادة، وأدت الشهادات التي تم جمعها، وجسامة الوقائع الواردة فيها، إلى المزيد من الاهتمام الإعلامي والسعي إلى الناجيات لإجراء المقابلات معهن. وبدأت مجموعة ضد التحرش أيضًا في التواصل مع مجموعات أخرى في أنحاء مصر، وحصلت على عدد من بيانات التضامن في ذلك الوقت. وتخلص عبد الحميد إلى أن الناجيات أرادت "نشر شهاداتهن بالأسماء وصور الوجوه. كانت معركة حقيقية ضد التنميط والقولبة. لن أختبئ ولن أشعر بالخزي. لحظة ثورية حقيقية. فجأة صار الأمر جزءا لا يتجزأ من الثورة وليس قضية نخبوية. ونجح في إنهاء حالة الإنكار".
وعلى رغم حصول القضية على تأييد الأحزاب السياسية إلا أن مجلس الشورى الذي هيمنت عليه جماعة الإخوان المسلمين حاول التهوين من تلك الوقائع في جلسة للجنة حقوق الإنسان به بتاريخ 11 فبراير 2013، ولكن أثر الجلسة كان ضئيلاً في مواجهة تصاعد قوة شهادات الناجيات. وبدأ المتطوعون أنفسهم ينظرون إلى القضية من زاوية نسوية، معترفين على سبيل المثال بأنه ليس من حقهم أن يفرضوا على النساء حضور التظاهرات أو التخلف عنها، أو توجيه النصح إليهن بشأن الزي "اللائق" عند المشاركة في تجمعات عامة.
وبحسب عبد الحميد فإن الجهد الجماعي، على رغم أنه بدأ مبادرةً من المجتمع المدني، وواصل تلقي الدعم من منظماته (بما فيه الدعم المالي)، إلا أن ما جعل "مجموعة ضد التحرش" تكتسب شكلها الخاص هو الناس أنفسهم في الشارع. وأدى نجاح المبادرة إلى تبرعات فردية، من داخل مصر ومن خارجها.
وفي 5 يونيو 2014 قام الرئيس المؤقت عدلي منصور بإصدار مرسوم يعدل قانون العقوبات ويتضمن لفظ "التحرش" للمرة الأولى في تاريخ مصر القانوني، على رغم اقتران اللفظ بالقصد الجنسي (المادة 306 مكرر ب). كما أنه غلَّظ عقوبة الاعتداء في المادة 307 أ، واستبدل بكلمة "أنثى" كلمة "الغير" مما يجعل الجريمة محايدة بغير التفات إلى جنس الضحية. وكان مشروع القانون قد نوقش في اجتماعات نظمها مجلس المرأة بالأمم المتحدة، كما كان زياد بهاء الدين، نائب رئيس الوزراء آنذاك، قد دعا العديد من المنظمات غير الحكومية المشاركة في تلك الجهود للتشاور حول مشروع القانون. وكان الكثير من المصطلحات المستخدمة في التعديلات من اقتراح منظمات حقوقية.
لم يقتصر نجاح المجموعة إذن على تمرير قانون، بل إن الحكومة تبنت العديد من المطالب الأخرى غير العقابية، مثل وضع استراتيجية وطنية شاملة لمحاربة العنف ضد المرأة، ووضع بروتوكول طبي للتعامل مع الناجيات. كما أنشأت الحكومة قطاعًا في وزارة الداخلية لمكافحة العنف ضد المرأة.
وكانت حادثة التحرش الجماعي التي وقعت يوم تنصيب الرئيس عبد الفتاح السيسي في 3 يونيو 2014 نقطة تحول في دفع الهيئات الحكومية لاحترام القانون بمزيد من الزخم، لأن الحادث عمل على تشويه اللحظة الاحتفالية الكبرى للسيسي ومؤيديه، ولا سيما بفعل توثيقها الحي. واضطر السيسي للاعتراف بفداحة الواقعة فاتخذ خطوة رمزية تتمثل في زيارة الناجية في المستشفى، وكان في هذا تجلٍ واضح لاهتمام الرئيس، وإشارة قوية لسائر مؤسسات الحكومة بضرورة منح الأولوية لهذه القضية، على عكس مبارك الذي أسقطت زوجته القضية من حسابها. وبعد هذا بقليل جاءت أول إدانة قضائية في حادث تحرش جماعي.
وفي بلد يتعذر فيه الحصول على الإحصائيات، وتتقاعس الحكومة عن نشرها، يصعب قياس احترام القانون ومدى تنفيذه. ومع ذلك فقد قام "دفتر أحوال"، وهو مركز بحثي معني بـ"أرشفة الإحصائيات والدراسات وتوثيقها"، بنشر دراسة في 2015، بعد عام واحد من تمرير القانون الجديد، تشير إلى أن المقبوض عليهم بموجبه يصل عددهم إلى 2259، بخلاف المحكوم عليهم، نتيجة لـ 402 حملة أمنية في أنحاء البلاد، وعلى رغم أن القانون لم يقض على الظاهرة بحال من الأحوال، إلا أنه شجع المزيد من النساء بوضوح على تقديم البلاغات، وشجع المزيد من الناس على المساعدة في الإمساك بالجناة، كما بدأت الشرطة فعلاً في تسجيل البلاغات وأخذها بجدية أكبر.
وعلى رغم أن مشكلة التحرش الجنسي وقضايا النوع الاجتماعي لم تكن على جدول أعمال الكثيرين من أصحاب المصلحة في أعقاب الثورة مباشرة، إلا أن تظاهرات ميدان التحرير وتسامح الحكومة معها سلطت الضوء على التحرش الجنسي وسعة انتشاره، فضلاً عن أن تلك الوقائع كانت "تشوه" صورة الميدان الذي اكتسب قيمة رمزية كبيرة لدى الأطراف كافة تقريبًا. لكن الحشد الجماهيري حول القضية، والأشخاص الذين تبنوا المبادرات، هو ما شكل العامل المحفز للشروع في إصلاح حقيقي متعلق بالسياسات والاهتمام الجماهيري والتشريع.
لقد تباطأ نضال المنظمات المعنية بالنوع الاجتماعي في سبيل حقوق المرأة وقضايا النوع بعد 2013، وكاد يتوقف من بعض الجوانب مع عودة الحكم السلطوي، والحملة القمعية على منظمات المجتمع المدني، والإجراءات المتخذة لإسكات المعارضة بكل أشكالها تقريبًا (من فرض عقوبات غليظة على التظاهر إلى التضييق على المنافذ الإعلامية والأطراف السياسية المستقلة، بجانب المنظمات الحقوقية.. إلخ). ومن شأن التغيرات الهيكلية طويلة الأجل، من قبيل إدخال التثقيف الجنسي في المقررات الوطنية بغرض تغيير النظرة إلى النوع الاجتماعي، أن تتطلب فترات زمنية أطول مما أتيح للنشطاء في فترة الانفتاح الديمقراطي القصيرة نسبيًّا في 2011-13. ومن ثم فلا ينبغي أن يدهشنا لجوء مذيعي التليفزيون وممارسي السياسة بعد 2013 إلى مصطلحات فجة تشي بكراهية المرأة فيما يتعلق بقضايا النوع الاجتماعي، حتى أدت سلوكياتهم إلى استنكار النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي.
وحشية الشرطة: نجاحات محدودة دون تغير طويل الأجل على رغم الزخم العام
ربما كان التعذيب حتى الموت ووحشية الشرطة في التعامل مع المشتبه بهم والمحتجزين هو الشرارة المباشرة التي أنزلت الناس إلى شوارع القاهرة في 2011، وهذا بحسب العديد من المحللين. وقد كانت واحدة من المجموعات الداعية إلى تظاهرات 25 يناير صفحة على الفيسبوك باسم "كلنا خالد سعيد"، على اسم الشاب الذي ضربته الشرطة حتى الموت في يونيو 2010، وتبادلت شبكات التواصل الاجتماعي صوره قبل الوفاة وبعدها على نطاق واسع. وفي 28 يناير، عند انسحاب قوات الشرطة من شوارع القاهرة وغيرها من المدن، نزل الكثيرون في أنحاء البلاد إلى الشوارع لإحراق أقسام الشرطة في أحيائهم.
وفي بدايات الثورة والأشهر التالية كان هناك زخمًا كبيرًا للمطالبة بإصلاح القطاع الأمني. وكان الانسحاب قد اتخذ علامة على الهزيمة، وعجز القطاع الأمني عن استنئاف نشاطه المعتاد، وهو ما اعترفت به السلطات في ذلك الوقت. لكن مع عودة روايات التعذيب للظهور بعد استقالة مبارك، اتضح أن القضية تتطلب الكثير من العمل الشاق والضغط الحقيقي. وكان من بين حوادث انتهاكات الشرطة حادثة ناقشها للمرة الأولى مذيع التلفاز يسري فودة، بعد شهور قليلة من معارك يوم 28 يناير، في برنامجه "بدون كلام" المتمتع بنسبة مشاهدة مرتفعة. علاوة على هذا فإن قضية الإصلاح لم تُناقش وسط المنظمات الحقوقية ومنافذ الإعلام فقط، بل ناقشها ضباط الشرطة أنفسهم أيضًا، وكان بعضهم قد ترك الخدمة، لكنهم أبدوا الرغبة في إدخال إصلاحات حقيقية وجادة على تلك المؤسسة.
وفي يوليو 2011 نشرت مجموعة من الأفراد المنتمين إلى منظمات حقوقية ومؤسسات تعليمية ومن الفنانين ورجال الأعمال وغيرهم من المهنيين، أول خارطة طريق شاملة لإصلاح القطاع الأمني. وكما يقول بيان المهمة فإنه "وحيث إن وزارة الداخلية، بعد الثورة، لم تتبنَ استراتيجية واضحة لمعالجة هذه الاختلالات، وإرساء علاقة صحية بين أجهزة الأمن والشعب، تحكمها مبادئ سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان؛ لذلك، فقد بادرنا نحن بتشكيل مجموعة عمل مستقلة لإعداد تصور متكامل للإجراءات والتعديلات التشريعية والهيكلية الكفيلة بإعادة بناء الشرطة على أسس سليمة... نطرح هذه المبادرة، متطلعين إلى المشاركة والتفاعل والدعم من أفراد وهيئات المجتمع المصري كافة، وصولاً إلى توافق مجتمعي حول إجراءاتها، بما يؤدى إلى اعتمادها، شعبيًا ورسميًا، كخارطة طريق لإعادة بناء الجهاز الأمني". وانطلقت المبادرة، التي عرفت باسم "شرطة لشعب مصر"، رسميًّا في أكتوبر 2011، وحصلت على تغطية واسعة في وسائل الإعلام، المرئية والمقروءة على السواء، واستمرت الدعاية لها لبعض الوقت بعد ذلك.
ويقول كريم عٍنّارة، مسؤول إصلاح القطاع الأمني في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، والتي كانت إحدى المنظمات المؤسسة لتلك المبادرة: "من 2011-2013 كان إنجازنا الرئيسي [شرطة لشعب مصر] هو الوجود والتأثير والتواصل مع الهيئات الحكومية. في السنة الأولى كان وجودنا مستمرًا في وسائل الإعلام... وكانوا يستعينون بنا دائمًا إذا أراد أي شخص [في الإعلام] التحدث عن الشرطة."
وفي أول تفاعل جدي للمبادرة مع هيئة رسمية، تعاملت المبادرة مع البرلمان بعد واقعة استاد بورسعيد المأساوية في فبراير 2012، وبعد شهور قليلة من طرح المبادرة. وبحسب عٍنّارة فقد اتصل البرلمان بالمجموعة عقب استشعار الضغط الشعبي، فوضعت المجموعة مشروع قانون وأرسلته إلى لجنة الدفاع والأمن القومي، بالاستناد إلى مبادئ المبادرة وأولوياتها. لكن على رغم وجود ثلاث مشروعات قوانين معروضة على نواب الشعب آنذاك (وكلها تستند بدرجة أو أخرى إلى مبادرة "شرطة لشعب مصر") إلا أن أيا منها لم يتم تبنيه، وفي النهاية اقتصر البرلمان على تعديلات محدودة لقانون الشرطة تتعلق بهيكل الأجور، لتهدئة الغضب المتصاعد من صغار الضباط وقتها، وهم القائمون بالعمل الفعلي.
وانحل البرلمان في يونيو 2012 بعد حكم قضائي بعدم دستورية قانون الانتخاب، إلا أن محمد مرسي المنتمي إلى الإخوان المسلمين اُنتخب رئيسًا بعد ذلك بقليل. وظلت مبادرة "شرطة لشعب مصر" تتفاعل مع الحكومة الجديدة، وبخاصة أحمد مكي وزير العدل، وإحدى الهيئات الاستشارية الرئاسية. ويسترجع عنّارة: "كنا نجلس مع مكي شخصيًّا (بالنظر للدور الذي أداه خلال سنوات مبارك في حملة استقلال القضاء) وكان الكثيرون منا يعقدون عليه آمالاً كبيرة. طلبنا منه مباشرة أن يكون واسطتنا مع وزارة الداخلية، وأبدينا الاستعداد للالتقاء بهم. وفي تلك الفترة بدأنا أيضًا نكيِّف مبادرتنا حسب التغيرات السياسية، حيث كانت المسودة الأولى هي الأكثر راديكالية."
وتعاونت مبادرة "شرطة لشعب مصر" عن كثب مع الأحزاب السياسية، بل والمرشحين الرئاسيين في أثناء حملاتهم التي سبقت الانتخابات في 2012. واستعانت عدة أحزاب بالمصطلحات الواردة في الوثيقة لاستعراض موقفها من إصلاح الشرطة، فاستخدم المرشح الرئاسي والمحامي الحقوقي خالد علي المبادرة برمتها جزءًا من برنامجه في القسم المتعلق بالقضايا الأمنية، بينما استغل عمرو موسى وعبد المنعم أبو الفتوح أجزاء كبيرة من المبادرة في برنامجيهما. ويقول عنّارة: "قضينا ساعات طويلة مع مديري حملتيهما، وكانت قضية إصلاح الشرطة من أهم القضايا."
وحتى بعد انقلاب الجيش على الرئيس مرسي في يونيو 2013، وعودة النظام تحت الهيمنة العسكرية، واصلت المجموعة الاشتباك مع الحكومة وغيرها من الهيئات الرسمية، فالتقت برئيس الوزراء آنذاك حازم الببلاوي، ودُعيت إلى جلسة استماع بمجلس الشورى حول مشروع قانون التظاهر. ولكن تمرير ذلك القانون الأخير تعسفًا، وما ورد فيه من قيود مشددة، أنهت أية محاولة للتواصل الجدي مع الحكومة.
وفي تلك الفترة كانت هناك حالات قليلة أدى فيها الزخم الشعبي إلى المحاسبة، ومنها القضية التي عرفت بقضية "قناص العيون"، ففي نوفمبر 2011، وفي أثناء تظاهرات أدت إلى اشتباكات مع قوات الشرطة، تمكن أحد الصحفيين من التقاط مقطع فيديو لضابط يستهدف أعين المتظاهرين ببندقيته. وفجرت القضية موجة استنكار شعبي أدى في النهاية إلى الحكم على الضابط محمود الشناوي بالسجن ثلاثة أعوام.
ولكن على رغم نقاط القوة في المبادرة، وأهمية القضية، إلا أنه لم يحدث أي إصلاح للقطاع الأمني بعد سقوط نظام مبارك. ولعل أهم العوامل التي عرقلت مبادرة "شرطة لشعب مصر" هي الفكرة السائدة لدى العديد من الجهات عن وجود "بواعث قلق أمنية ملحة"، مما جعل من شبه المستحيل أن يتحقق إصلاح هيكلي حقيقي وتغيرات تشريعية، على رغم من الزخم والتأييد الشعبي. وقد تولدت "بواعث القلق" بعد انسحاب قوات الشرطة في 28 يناير 2011، وامتناعها عن تقديم الخدمات الأمنية المعتادة، فصار هذا من بواعث القلق الحقيقية لدى الكثيرين، لشعورهم بتصاعد معدلات الجريمة، مما منعهم من المطالبة بالإصلاح باقتناع تام. كما أدى هذا إلى تناقض في المواقف، حيث إن الفئات الديموغرافية والمناطق المختلفة، التي أعلن أفراد منها عن غضبهم بإحراق أقسام الشرطة في 28 يناير، كانت هي نفسها من تطالب الشرطة باحتواء الجريمة المتصاعدة. وقد بدأ هذا منذ 2011، فعمل على إبطاء أية ضغوط حقيقية لإصلاح القطاع الأمني.
وتجلت هذه التناقضات بصور مختلفة طول السنوات التي أعقبت سقوط نظام مبارك، فأدت أحداث مثل أحداث استاد بورسعيد إلى عودة قضية الإصلاح إلى الصدارة، والضغط على الأطراف من أجل التحرك. لكن الدولة نجحت في استعادة السيطرة على الأوضاع المماثلة باتباع أساليب بث الخوف، فتبدد الزخم الشعبي المطالب بإصلاح الشرطة تدريجيًّا. وكما يتذكر عنّارة فإن "اللحظة كانت حاسمة لأنها قسمت العديد من المجموعات الثورية ومنظمات المجتمع المدني."
تتطلب التغييرات الهيكلية طويلة الأمد وقتًا، كما كان الحال بالنسبة للنضال ضد التحرش الجنسي في الفضاء العام، لكن الوقت ترف لم يكن متاحًا للمنظمات الحقوقية، حيث كان المد يعلو ضد الإصلاح والحقوق بسرعة كبيرة.
ولا يمكن إنكار أن جسامة الانتهاكات الحقوقية، ورداءة الظروف في أماكن الاحتجاز، في مصر، لم يسبق لها مثيل منذ منتصف 2013، بحسب توثيق العديد من المنظمات الحقوقية، ومع ذلك فقد مرت، دون استغلال، لحظات توحي بعودة الزخم الشعبي المشهود في أيام الثورة الأولى، ووجود حكومة تستشعر الضغط بما يكفي للاستجابة.
ومن تلك اللحظات واقعة اعتداء رجال الشرطة على الأطباء في أثناء عملهم في مستشفى المطرية بالقاهرة، في 28 يناير 2016، حيث انطلق آلاف الأطباء إلى الشوارع احتجاجًا، بقيادة نقابة الأطباء التي دعت إلى جمعية عامة في 12 فبراير، وتبنت بعض القرارات الراديكالية، تشمل دعوة الأطباء للامتناع عن تقديم جميع الخدمات الطبية مدفوعة الأجر اعتبارًا من 27 فبراير، والاكتفاء بالخدمات المجانية والعاجلة فقط، في جميع المستشفيات الحكومية، وأن يغلق الأطباء العيادات الخاصة يوم 19 مارس. وتم توجيه الاتهام إلى رجال الشرطة، وفي 20 سبتمبر حكمت عليهم إحدى محاكم الجنح بالسجن لمدة 3 سنوات. وفي الاغلب تعود السرعة التي تمت بها إجراءات القضية إلى الزخم الذي حركه الأطباء وما حصدوه من تأييد شعبي.
ومن الحالات الأخرى التي كان لها أثر واسع، حالة سائق النقل الذي قتله فرد من الشرطة بعد خلاف على الأجر في فبراير 2016، حيث تجمع مئات الأشخاص حول مديرية أمن القاهرة، ثم انطلقوا في مسيرة من مبنى المديرية إلى مستشفى أحمد ماهر الذي نقل إليه الجثمان. وفي أبريل حكم على فرد الشرطة بالسجن المؤبد. وبعد الواقعة بقليل كلَّف الرئيس السيسي وزير داخليته بتعديل قانون الشرطة، في تصريحات تم تداولها على أنها اعتراف بالمشكلة، والأهم أنه كان أول اعتراف من نوعه من أحد قادة الدولة في مصر. وقال السيسي آنذاك إنه لا بد من المحاسبة على مثل هذه التصرفات غير المسؤولة، مما يستتبع تعديل القانون المنظم للأداء الأمني. وتم تمرير التعديلات في 10 أغسطس 2016.
غير أن المفارقة، المتوقعة، هي أن التعديلات لم تتضمن أية آليات للمحاسبة أو أية إصلاحات هيكلية جادة. ومع ذلك فقد ظهرت للمرة الأولى مصطلحات غير مسبوقة، وكما يقول عنّارة فإن "قانون الشرطة كان يتعلق دائمًا بالتزامات الأفراد حيال رؤسائهم، وتتولى بقية بنوده تنظيم الرواتب والمعاشات...إلخ. فكانت هذه المرة الأولى التي تظهر فيها ألفاظ تتعلق بواجب الضباط الدستوري من حيث احترام الحريات والحقوق. في المجمل، كانت [التعديلات] محدودة للغاية، لكن عليك أن تراعي أنها تمت في ذروة حكم السيسي ـ حينما لم يكن أحد يتوقع أية إصلاحات تشريعية أو مؤسساتية ـ وأن هذا حدث بالضرورة لأنه شعر بالضغط."
كانت تلك الومضات والحوادث التي استعاد فيها الناس الشارع، على أهميتها، قليلة وتم احتواؤهًا سريعا من جانب الحكومة، واقتصرت مبادرة "شرطة لشعب مصر" وغيرها من الجهود الحقوقية على ضمان المحاسبة في حالات فردية ومتفرقة. ويرجع هذا، بنسبة كبيرة، إلى الزخم والتأييد الشعبي لتلك القضايا حتى من قبل الثورة، علاوة على دعم الأحزاب السياسية والشخصيات العامة والإعلام المستقل في الأيام التالية للثورة. ولكن في النهاية لم تكن هناك أية نية أو إرادة من جانب القوى السياسية المهيمنة للشروع الفعلي في إصلاح هيكلي جاد للقطاع الأمني، وهذا حتى من قبل عودة السلطوية في يوليو 2013. لقد تمكن النظام وخاصة أجهزته الأمنية ووسائل الإعلام المؤيدة (أو الخاضعة) من استغلال مخاوف الناس بشأن غياب الأمن في الاحتواء السريع لأية غضبة تسربت إلى الشارع من انتهاكات الشرطة وتعدياتها.
حرية الدين والاعتقاد: كيف أدى التلاعب بالدين إلى تدهور جسيم في احترام الحريات الدينية
لعل الحريات الدينية من أدّل الأمثلة على قضية لم يتحقق فيها نجاح يذكر، وليس هذا فقط، بل إن الفترة التي أعقبت سقوط نظام مبارك مباشرة، وخاصة في عهد المجلس الأعلى للقوات المسلحة، شهدت تدهورًا خطيرًا أثار فزع الأطراف المعنية. فقد تصاعد العنف الطائفي خلال تلك الفترة على نحو جسيم.
ويقول إسحق إبراهيم، مسؤول حرية الدين والمعتقد في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية إنه "ظهر اتجاهان جديدان وجارفان، يقودان النزاعات الطائفية في تلك الفترة: إحراق الكنائس حتى إذا لم يكن لب النزاع أو منبعه يتعلق بمبنى الكنيسة نفسه، كما على سبيل المثال في حالة وجود علاقة غرامية بين مسلمة ومسيحي. والثاني هو التصعيد من الجانب القبطي في مواجهة هذا كله. في العديد من تلك الحوادث استخدم الأقباط السلاح مما أدى أحيانًا إلى وفيات أعلى في صفوف المسلمين."
وقد وقعت إحدى تلك الحوادث في إمبابة، في 7 و 8 مايو 2011، حين حاول تجمهر من المسلمين اجتياح كنيسة مار مينا بعد ظهور ادعاء بأنها تؤوي مسلمة كانت قد فرَّت من أهلها في 2010، وانتهى بهم الأمر إلى إحراق كنيسة أخرى، هي كنيسة السيدة العذراء. وقع الحادث بتحريض من جماعات دينية أصولية، وعلى رغم الوجود العسكري الكبير في الشوارع وقتذاك إلا أن الجيش أو الشرطة لم يحاولا منع الاشتباكات أو حتى احتواءها. كما كانت هذه الواقعة جديرة بالذكر بصفة خاصة من حيث ردود أفعال الأقلية القبطية على الاعتداء على مباني الكنيسة، حيث إن "تبادل استخدام الأسلحة النارية والعنف بين الطرفين بالشكل الذي أسفر عن هذا العدد الكبير من القتلى والمصابين هي جميعًا مؤشرات خطيرة قد تنذر بأحداث عنف واسع النطاق، أو بعودة العمليات الإرهابية التي كانت إمبابة إحدى ساحاتها في نهاية الثمانينيات والتسعينيات"، كما حذر بيان المبادرة المصرية للحقوق الشخصية استنادًا إلى نتائج بعثتها لتقصي الحقائق.
وظهر أيضًا تصاعد في أعداد قضايا ازدراء الأديان المرفوعة من أفراد، ففي تقرير يحلل 19 من تلك القضايا، بعد عامين من الثورة، وجدت المبادرة المصرية أن معظم القضايا رُفع على آحاد المواطنين، وليس فقط على شخصيات إعلامية أو عامة كما في عهد مبارك. وقد ترافقت القضايا بالاعتداء على المتهمين أو عائلاتهم أو ممتلكاتهم، بعد التحريض من جماعات دينية أصولية في معظمها. وعند توجيه الاتهام إلى هؤلاء الأفراد أو إدانتهم، كانت قرارات القضاة تتخذ منحى شديد المحافظة في تفسير النصوص العقابية ذات الصلة.
ثم أن الفترة نفسها شهدت تصاعدًا في الاعتداء من جانب الدولة، والحالة الصاعقة الدالة على عنف الدولة هي واقعة ماسبيرو. ففي 9 أكتوبر 2011 قامت مسيرة من شبرا في القاهرة وانتهت فجأة أمام مقر التليفزيون الحكومي في ماسبيرو. وكان قد تم تنظيم التظاهرة على خلفية هدم كنيسة في أسوان، زعم سكان مسلمون هناك أنها لم تحصل على التصريح اللازم على رغم أنها تخدم السكان الأقباط منذ أكثر من 80 عامًا. واُلتقطت مقاطع فيديو لعنف الشرطة العسكرية وقوات الأمن المركزي في فض التظاهرة، باستخدام الذخيرة الحية والمركبات العسكرية لدهس المتظاهرين، وفيما بعد انضم إلى قوات الأمن أشخاص من المنطقة، وسط تحريض واضح من الإعلام الرسمي ضد المتظاهرين الأقباط، وضرورة أن ينزل مواطنون إلى الشارع لحماية الجيش. واستخدمت وسائل إعلام مقروء لغة تحريضية، إلى جانب أفراد الجماعات الدينية الأصولية الذين أرادوا تصوير الحادث على أنه اعتداء من الطائفة القبطية، ومحاولة لتعطيل الانتخابات البرلمانية المنتظرة. وتسبب الحادث في استنكار هائل من منافذ إعلامية وأطراف سياسية عديدة. وانصب أكثر النقد على الدور الذي أداه الإعلام لكن بعضه غلب عليه الإنكار وردود الأفعال الرسمية. وقد اُفتتح تحقيق رسمي، ووجهت النيابة العسكرية الاتهام إلى ثلاثة من ضباط الجيش، لكن التحقيق لم يسفر عن شيء، وأعلنت إحدى المحاكم العسكرية تبرئة الضباط.
ومن المهم، ونحن بصدد تحليل الأسباب التي أدت إلى تدهور هذا الوضع بالذات على ذلك النحو، أن ندرك الدور الذي أداه الدين في مصر ما بعد مبارك، وكيف تلاعبت به الأطراف السياسية كافة. لقد بدأ هذا منذ مارس 2011، مع التعديلات الدستورية التي اقترحها المجلس العسكري الحاكم، والتي أيدها الإخوان المسلمون وغيرهم من الجماعات الدينية الإسلامية، وتم تصويرها اقتراعًا على هوية الدولة كما تنص عليها المادة الثانية من الدستور، على رغم عدم التعرض لتلك المادة بالذات بأي تعديل. وفي أعقاب خلع الرئيس مرسي بيد الجيش في 2013، اعتدى أنصار النظام المُنقلب عليه على الكنائس والعقارات المملوكة للأقلية القبطية. وهكذا تحولت قضية الحريات الدينية من قضية حقوق وحريات إلى قضية سياسية، وورقة للمساومة في بعض الأحيان.
ومن الأوجه الأخرى للمشكلة أن الدعوة لاحترام الحريات الدينية كانت محدودة، ولم تتواصل مع العديد من أصحاب المصلحة، ولم يكن الإعلام أو الانتباه الرسمي يلتفت إليها إلا بعد الحوادث الكبرى مثل مسيرة ماسبيرو. وعلاوة على هذا فإن القرار المتعلق بقدر الاحترام الممنوح لتلك الحقوق، مثله مثل وحشية الشرطة، ظل إلى حد بعيد في أيدي النخبة السياسية والمناخ السياسي، وسط ضعف الزخم الشعبي المحيط بالقضية. فعلى عكس قضية التحرش الجنسي أو حتى وحشية الشرطة،لم يكن هناك ضغط شعبي كاف على الحكومة للتحرك. وفي أحيان كثيرة، كما تشهد عديد من حوادث العنف الطائفي وخصوصًا خلال حكم المجلس العسكري، أخفقت قوات الجيش والشرطة في التحرك لمنع تصعيدات كان يمكن تجنبها أحيانًا. ويقول إبراهيم: "كانت القضية خاسرة، لم تنل ما تستحقه من اهتمام. والسبب هو أن [الحريات الدينية] تأتي في ذيل قائمة الأولويات لدي العديد من أصحاب المصلحة، سواء أكانوا أحزابًا سياسية أو منظمات أهلية أو السلطة الحاكمة." بل إن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية ربما كانت المنظمة الحقوقية المصرية الوحيدة التي لها برنامج قائم في مجال الحريات الدينية، يتولى بانتظام توثيق تلك القضية الحساسة ومتابعتها.
ولكن حتى المنظمات الحقوقية والأحزاب السياسية التي دعمت القضية أو اشتغلت عليها من وقت إلى آخر كانت بغير فعالية تذكر، وبدون تأييد على الأرض، فانفردت بالساحة الجماعات الدينية، والمتطرفة منها في أغلب الأحيان، لحل القضية أو تناولها على حساب الأقلية القبطية، مستغلة غياب الجهاز الأمني لصالحها. ومن ثم فقد سهل عليها التلاعب بالنعرات الطائفية وتعبئة الناس ضد احترام الحريات الدينية، باستغلال الانفتاح الحادث في المجال العام . وعلى سبيل المثال تمكن العديد من تلك الجماعات من افتتاح قنوات تلفزيونية خاصة وتأسيس أحزاب عامة. ويقول إبراهيم "كانت لدينا سلطة تحتاج إلى تلك الجماعات الدينية لتعضيد قوتها، وجماعات دينية ذات مكونات مختلفة، تؤدي دورًا في سياسات الشارع وتريد أن تثبت وجودها، على المستويين الشعبي والرسمي".
أين إذن قصص النجاح في هذه القضية إن كان ثمة نجاح؟ كان الزخم الذي تولى شباب الأقباط قيادته في أحيان كثيرة لمعارضة الكنيسة القبطية هو أول احتجاج من نوعه في وجه تلك المؤسسة الدينية، التي اختارت في أغلب الأحيان عقد الصفقات مع النظام الحاكم للحفاظ على موقعها السلطوي وسط الأقلية القبطية كبيرة الحجم "فمع اندلاع تظاهرات الشوارع والتعبئة الجماهيرية، تم إنشاء عدد من الكيانات القبطية التي تمكنت من إيجاد زخم ما على الأرض، مما امتد حتى الأحداث السياسية مثل التصويت ضد دستور 2013، أو التظاهرات التي أدت إلى خلع الإخوان المسلمين"، كما يقول إبراهيم. لكن الانهيار المؤقت لقطاع الأمن، الذي منع الأقباط من بناء الكنائس، أدى بهم إلى الاعتقاد في "قدرتهم الآن على بناء دور العبادة بدون الحسابات والتعقيدات القديمة، والشعور بأن عليهم أن يمارسوا حقوقهم، وسط مناخ جديد يطالب فيه الناس بالحرية والعدالة. لا سيما وأن هناك موجة من الغضب كانت تعتمل في نفوس ذلك الفريق، حتى منذ أيام مبارك."
وسوّق النظام العسكري الجديد بقيادة السيسي نفسه حاميًا لحقوق الأقليات، رغم أنه في جوهره كان استعادة لأوضاع عصر مبارك، الذي كان القطاع الأمني القوي يسيطر فيه على القضية. وارتدّت الحوادث الطائفية في المجمل إلى متوسط أعدادها واتجاهاتها السابقة. كما عادت الدولة وهيئاتها لتولي دورها كراع للخطاب الديني المسموح به، بما فيه خطاب الكنيسة. وتكفَّلت عودة السلطوية في نسختها الأشد ضراوة بإنهاء جهود شباب الأقباط التعبوية كلها تقريبًا، فاستعادت الكنيسة القبطية الأكثر ميلاً إلى المحافظة صفة المتحدث الوحيد نيابة عن حقوق الأقباط. وعادت أجهزة الأمن أيضًا إلى القيام بدور منع الناس من العبادة في أماكن خاصة ومحددة.
لم تكن المواد المتعلقة بالحريات الدينية في دستور 2014 كافية، على رغم أفضليتها، مقارنة بالمواد الواردة في دستور 2012 في ظل الإخوان المسلمين. فعلى سبيل المثال، تنصُّ المادة 53 على إنشاء مفوضية لمكافحة التمييز، وينصُّ الدستور الجديد أيضًا على تبني قانونين: واحد لوضع حصة للأقباط (بحيث يشملهم قانون الانتخاب) والآخر كي يحكم إنشاء الكنائس. ولا يخلو من دلالة أن البرلمان المنتخب في مطلع 2016 ضم بين صفوفه عددًا غير مسبوق من الأقباط هو 36. لكن من جهة أخرى، رسخت المادة الثالثة من الدستور هيمنة الكنيسة على الأقباط، بينما سمحت المادة 63 بممارسة الحريات الدينية طالما لا تمس القانون والنظام العام. وأخيرًا تبنت الحكومة قانونًا يحكم بناء الكنائس في 2016، لكن تبنيه تم بدون أي تشاور عام، بعد نقاش بين الكنيسة والحكومة، وهو في جوهره تقنين لأوجه التعسف وانعدام المساواة المحيطة ببناء دور العبادة في مصر.
وبحلول نهاية 2016 عادت ظاهرة التجمعات المتطرفة الإسلامية التي تهاجم أماكن العبادة المسيحية للظهور في استنئاف لنمط ظهر ربما لأول مرة بوضوح في السبعينيات اثناء نظام السادات ثم استمر متقطعا تحت نظام مبارك حتى قبيل ثورة 2013. ففي مايو 2017 فتح مسلحون عشرة النار على حافلة تقل مسيحيين بعد أن اوقفوها وهي في طريقها إلى دير في المنيا فقتلوا 26 راكباً على متنها بينهم طفلان. واستهدف انتحاريون مصلين مسيحيين في أحد الزعف قبل عيد القيامة في كنيستين في الإسكندرية وطنطا فقتلوا 29٢٩ شخصا وبعدها أعلن الرئيس السيسي حكم الطوارىء لمدة ثلاثة أشهر.
وكرس قانون بناء الكنائس اعتباطية ولا مساواة الممارسات القائمة بشأن بناء أماكن العبادة في مصر. وبين صدور القانون واوائل 2018 عام وقعت أكثر من عشرين هجمة ضد أماكن يمارس فيها الاقباط شعائرهم الدينية منذ سنوات عديدة وكثير منها كانت قد تقدمت لتوفيق أوضاعها والحصول على ترخيص تحت القانون الجديد.
وفي حادث صارخ وبعد صلاة الجمعة في 22 ديسمبر 2017 هاجم مئات من مسلمي كفر الواصلين في محافظة الجيزة كنيسة الأمير تادرس في غياب قوات الأمن. وردد المحتجون المسلمون "هتافات دينية وأخرى عدائية ضد الأقباط، تطالب بهدم الكنيسة، معللين ذلك بشروع الكنيسة في تركيب جرس، وهو ما يعترضون عليه. وأحالت نيابة اطفيح ١٩ متهمًا مسلمًا للمحاكمة بعدة اتهامات منها "التجمهر واستغلال الدين بقصد الإثارة، والصياح لإثارة الفتن الطائفية مما ترتب عليه الإضرار بالوحدة الوطنية، والإتلاف العمدي للممتلكات... والاعتداء بالضرب على المجني عليه عيد عطية." وأُحيل عطية نفسه للمحاكمة بتهمة "إنشاء مبنى دون ترخيص بالمخالفة للقانون، وإدارة ...حضانة أطفال قبل الحصول من الجهة المختصة على التراخيص اللازمة لذلك" رغم انه كان قد باع الأرض لأسقف اطفيح في 2014. وقضت محكمة بحبس كل المتهمين المسلمين سنة واحدة ومع وقف التنفيذ وغرامة 500 جنيه لكل منهم بينما قضت بتغريم عطية 360 الف جنيه (أكثر من 20 الف دولار). وتدعي المبادرة المصرية ان مجريات المحاكمة تتسق مع سلوك أجهزة الدولة تجاه مثل هذه القضايا "من حيث الاستجابة لمطالب بعض الأهالي بالقرية بغلق الكنيسة عقب الاعتداءات بحجة أنها غير مرخصة".
ولا يمكن النظر لفشل الدولة في حماية ممارسة الاقباط لشعائرهم وحمايتهم من الاستهداف الطائفي بمعزل عن لا مبالاة الدولة بلعب دور مدافع عن الحريات الدينية عموما. وفي الحقيقة فان السياسات والاستراتيجيات التمييزية في التعامل مع الأقليات الدينية ساهمت في اذكاء العنف الطائفي. وكان هذا الأمر واضحا خلال عصر مبارك وعاد مرة أخرى في عصر السيسي.
بداية النهاية، أو كيف نضمن ألا تتكرر 2011 ثانية أبدًا
بمجرد أن تحول اتجاه المد، وبدأ الانفتاح الذي ميَّز فترة 2011-2013 في الانكماش، مع العودة التدريجية للحكم السلطوي، اتضح أن النجاحات المحدودة التي تحققت في تلك الفترة كانت حلولاً سريعة، قصيرة الأجل، لا ينبغي كما أسلفنا أن تسقط من الحسبان تمامًا، لكن لا ينبغي المبالغة في قيمتها أيضًا.
وقد كان أحد العناصر المحورية في استراتيجية النظام الخاضع للهيمنة العسكرية، في محاولته لنقض مكتسبات 2011 وكل ما حدث عقب الثورة، هو نزع تسييس المجتمع واستعادة السيطرة على المجال السياسي من أعلى. وكان من مكونات تلك الاستراتيجية استعداء المنظمات غير الحكومية، وفصلها عن بعضها بعضًا وعن شبكات النشطاء المستحدثة (سواء كان عملهم في مجال الحقوق أو الديمقراطية). بل إن الحملة القمعية على منظمات المجتمع المدني، على رغم ضعفها النسبي فعليًّا ومن حيث التأثير الاجتماعي، وخصوصًا قبل 2011، كانت قد بدأت بالفعل قبل أن تشمل جميع الفاعلين في المجال العام ـ منذ صيف 2011، حين كان الناس ما يزالون ينزلون إلى الشوارع، وما يزال الإعلام قادرًا على مناقشة أي قضية يشاء، وكانت الأحزاب السياسية قد بدأت في حملاتها للانتخابات البرلمانية المزمعة آنذاك.
في أبريل 2011 أعلن المسؤولون عن تشكيل لجنة لتقصي الحقائق بقيادة اثنين من القضاة للتحقيق في التمويل الأجنبي للمنظمات المصرية غير الحكومية في السنوات السابقة على الثورة، والدور الذي قام به التمويل في دعم الثورة. اكتمل التقرير في سبتمبر 2011، وأحيل إلى مكتب النائب العام للتحقيق. وتم تداول نسخ مسربة من التقرير في وسائل الإعلام بشكل فضائحي. وتلا هذا حملة تشويه لوَّح فيها المسؤولون بالكرامة والمشاعر الوطنية لرسم صورة توحي بأن الحكومة الأمريكية دعمت تلك الجمعيات من أجل القيام بأنشطة من شأنها تهديد الأمة. ففي 23 يوليو 2011، على سبيل المثال، وجه اللواء حسن الرويني من المجلس العسكري الحاكم إلى جماعة 6 أبريل تهمة التخابر ضد مصالح البلاد بتمويل أجنبي. في اليوم نفسه، في أثناء مظاهرة في العباسية، تم اختطاف باحث في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية واتهامه بالانتماء إلى جماعة 6 أبريل، وقال له الخاطفون إنهم سيبلغون عنه ويسلمونه إلى الجيش بما أنه جاسوس بحسب تصريح الرويني. وفي مشهد بالغ الدرامية، يوم 29 ديسمبر 2011، قام أفراد الشرطة العسكرية بمداهمة مقرات 17 منظمة غير حكومية ـ معظمها دولية ـ واعتقال عدد من موظفيها ومصادرة ملفاتهم وحواسبهم وإغلاق المقرات.
ويقول محمد زارع من مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان إنه "من البداية، عند التعامل مع المنظمات غير الحكومية، لم تكن هناك أية محاولة لتخفيف القيود، بل على العكس، كانت هناك محاولات لإغلاق تلك المنظمات. وعلى رغم عدم ذكر هذا صراحة في تقرير لجنة تقصي الحقائق إلا أنه كانت هناك تلميحات واضحة بأن المنظمات تلقت أموالاً، ونتيجة لهذا اندلعت الفوضى في 2011، وقامت الثورة وما أعقبها من أحداث. كانت الحكومة تقول بوضوح إننا لا نريد لما حدث في 2011 أن يحدث ثانية".
لكن تبعات الملاحقة القضائية لـ43 شخصًا ، معظمهم من الأجانب، ربما دفعت الحكومة لعدم التوسع في الحملة القمعية. ثم تغير الموقف في أواخر 2014 عند تحول الجهود المبذولة لاحتواء المنظمات غير الحكومية إلى تعديلات تشريعية من شأنها أن تصعب على المنظمات تلقي التمويل، وأن تغلِّظ العقوبات وتتوسع في حيثيات الملاحقة. عقب حملة 2011 القمعية على المنظمات الدولية، بدأت مجموعة من المنظمات الوطنية في تداول نسخة خاصة بها من مشروع قانون للجمعيات الأهلية. من جهة أخرى تقدمت وزارة التضامن الاجتماعي بمسودتها الخاصة في أبريل 2012. وتقدم حزب الحرية والعدالة المهيمن على البرلمان بمسودة ثالثة في الشهور الأولى من 2012، كانت إيجابية إلى حد بعيد مقارنة بمسودة وزارة التضامن الاجتماعي. لكن لم يتم تبني قانون جديد، وأخفقت جميع المسودات اللاحقة، بما فيها مسودة حزب الحرية والعدالة، والمناقشات المحيطة بالتعديلات التشريعية التي شارك فيها عدد من المنظمات الحقوقية مع مسؤولي الحكومة أو السياسيين، أخفقت كلها في حماية الغاية النهائية لأي قانون مماثل من منظور المجتمع المدني، ألا وهي حرية تكوين الجمعيات. "كانت نسخنا مختلفة كل الاختلاف، فكان تقريب وجهات النظر مستحيلاً"، بحسب زارع. في عهد مرسي دخلت المنظمات غير الحكومية في تشكيل لجنة أنشأها وزير العدل أحمد مكي بغرض وضع مشروع قانون، بل إن الوزير نفسه زار مركز القاهرة للتحدث في مائدة مستديرة، وأبلغ الحضور بأنه لا ضرورة لوضع قانون منفصل للجمعيات الأهلية، بما أن قانون العقوبات أكثر من كاف لتغطية أية مخالفات ترتكبها تلك المنظمات. في النهاية انسحبت المنظمات غير الحكومية المشاركة في اللجنة احتجاجًا على مشروع القانون الذي قُدم باسمها.
بعد 30 يونيو أنشأ الوزير أحمد البرعي لجنة ضمت بدورها عددًا من المنظمات الحقوقية، ويسترجع زارع "في البداية اشتغلت لجنة البرعي بسرعة وكفاءة كبيرتين، وكنا شديدي المرونة في مطالبنا. وفجأة بدأت الأمور تتباطأ، فاعتبرناها علامة [على أن هذا كله لن يؤدي في النهاية إلى شيء]".
مع تمرير قانون التظاهر القمعي في أواخر 2013، كانت جميع الجسور مع الحكومة قد أحرقت. وكان قانون الجمعيات الجديد الأسوأ من نوعه. وفرض القانون قيودًا مشددة على تأسيس المنظمات غير الحكومية: إذ يجب أن تكون ضرورية لاحتياجات المجتمع، وعليها أن تضمن عدم تلبية ذلك الاحتياج أو عدم وجود منظمة أخرى من النوع نفسه، وألغى القانون عقوبة الحبس للمخالفات واستبدل بها غرامات ثقيلة تصل إلى مليون جنيه مصري. وأقر البرلمان القانون في نوفمبر 2016 ووقعه السيسي ليصبح ساريا في 29 مايو 2017 مانحًا المنظمات القائمة عامًا واحدًا لتوفيق أوضاعها حسب القانون الجديد وإلا جرى إغلاقها بامر قضائي .
ومن المشكلات المبكرة التي واجهتها المنظمات الحقوقية التي كانت تقود تلك الجهود مشكلة أن حرية تكوين الجمعيات لم تكن على رأس جدول الأعمال حتى وسط منظمات المجتمع المدني الأخرى، ولم تحاول منظمات المجتمع المدني وضع تلك القضية على جدول الأعمال السياسي العام أيضًا. ولم تكن القضية من أولويات الأحزاب السياسية، التي لم تتحدث إلا لمامًا عن ملاحقة منظمات المجتمع المدني، لكنها لم تشارك بنشاط في المناوشات المحيطة بالمسودات المختلفة لقانون الجمعيات. أما الإعلام فقد كان الكثير من منافذه، من البداية، مؤمنًا بنظرية المؤامرة التي بدأ رجال الجيش بطرحها ثم تبعتهم الحكومات المتعاقبة، واقتصر على تغطية الجوانب المثيرة من التحقيق مع منظمات المجتمع المدني، وخصوصًا في مسألة التمويل الأجنبي.
في غياب أي زخم شعبي يؤيد القضية، وضعف التأييد من سائر أصحاب المصلحة، كان المناخ العام هو الذي تكفل بحماية المنظمات غير الحكومية من القمع في 2011 وحتى الانقلاب العسكري على الرئيس مرسي في 2013، فقد عمل زخم الشارع الشعبي، ووسائل الإعلام المستقلة، والمعارك السياسية بين مؤيدي الإخوان المسلمين وغيرهم من القوى السياسية، على إضعاف قدرة النظام وأجهزة الأمن على التحرك ضد المنظمات، سواء بإنفاذ القانون المعمول به، أو بتبني قانون أشد تقييدًا، ثم تغير هذا كله في منتصف 2013.
ومن العوامل الأخرى التي حمت المنظمات الحقوقية غير الحكومية من حملة الحكومة ضدها استراتيجية المناصرة التي تبنتها تلك المنظمات. وبحسب زارع "كنا نجهر باستنكار المسودات الإشكالية، ونسربها إلى الصحافة.. لممارسة الضغط على الحكومة. كنا نعمل بشكل جماعي، مما عضد موقفنا. وكان النجاح الذي حققناه يتمثل في منع المسودات السيئة، لكننا عجزنا عن تمرير مسودة جيدة".
في 2015 استؤنف التحقيق في القضية 173 التي كانت قد بدأت في 2011، وبحلول أواخر 2016 تم منع عدد يصل إلى 12 من أبرز المدافعين عن حقوق الإنسان من السفر، كما حكم القضاء بتجميد أموال عدد منهم. ويمكن لقضيتهم، المنظورة حتى توقيت تحرير هذه الورقة، أن تؤدي إلى اتهامات رسمية بموجب التعديلات التشريعية القمعية الجديدة، قد يواجهون السجن المؤبد بسببها.
أخفقت جهود المنظمات الحقوقية في إحداث أي تغيير هيكلي من شأنه حماية حرية تكوين الجمعيات، كما حدث في بقية القضايا التي تناقشها هذه الورقة. فكما في مجال الحريات الدينية، خسرت تلك الأطراف معركتها في وقت مبكر، لكن هذه القضية تحديدًا تفاقمت بفعل التأييد الضعيف من بقية الأطراف الفاعلة في الأيام الأولى بعد سقوط نظام مبارك، وحتى وسط منظمات المجتمع المدني. وظل النجاح الوحيد الذي يمكنها إدراجه في الحسبان هو نجاتها من المحاولات العديدة لإغلاقها.
خلاصة ختامية
في أعقاب ثورة 2011، تغير الفهم التقليدي لما تنطوي عليه الحركة الحقوقية في مصر. ولعلها ظلت من بعض الأوجه تتضمن بعض الأشخاص المعروفين المنتمين إلى منظمات حقوقية منخرطة في العمل الحقوقي منذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين. فقد وقع على عاتق تلك المنظمات مهمة صياغة خطاب حقوقي، ومحاولة لفت انتباه الرأي العام والحكومة باستخدام أساليب مختلفة. تراوحت القضايا من حرية تكوين الجمعيات وحرية العقيدة إلى التعذيب المنهجي في السنوات الأولى، لكنها توسعت لتشمل قضايا العدالة الاقتصادية من قبيل الوصول إلى الرعاية الصحية، الذي تعرض للتهديد بسبب السياسات الاقتصادية النيوليبرالية. ولن ننكر أن بعض القضايا الكامنة خلف المظالم التي أدت إلى الثورة كانت بين القضايا التي عالجتها المنظمات الحقوقية، وسلطت عليها الضوء أحيانًا، في ذلك الوقت، بما في ذلك الانتصارات القضائية في مجال الحد الأدنى للأجور، وإصلاح القطاع الصحي (العدالة الاجتماعية)، وتوثيق وحشية الشرطة والمناصرة الناجحة بغية تعهد الحكومة بالعمل لحلها (الكرامة).
ومع ذلك فقد فرضت ثورة 2011 تشكيلتها من القضايا الخاصة بها على جدول أعمال المنظمات الحقوقية في البلاد (مثل المحاكمات العسكرية للمدنيين، أو الديمقراطية والحقوق السياسية). وفي أغلب الأحيان كانت تلك القضايا محدودة وقصيرة الأجل من حيث طبيعتها أو نطاقها، وأقل أهمية بالنسبة للجمهور العام في بلد يعيش ما يصل إلى 40% من سكانه تحت خط الفقر. وعلى رغم وضع قضايا جديدة على جدول الأعمال الحقوقي، إلا أن بعض القضايا الأخرى انحدرت من حيث الأولوية، ولم يكن هذا بالضرورة بمبادرة من الأطراف الحقوقية نفسها، بل لعله نتج عن تسارع إيقاع الأحداث، وارتفاع مستوى العنف الجماعي، والبيئة التصادمية الملتهبة التي اجتاحت بلدًا ساده ركود سياسي لعقود طويلة. وكان ذلك هو حال حرية الدين والمعتقد وحرية تكوين الجمعيات، اللتين لم تتح للعاملين عليهم قط فرصة تحقيق تقدم حقيقي بسبب التعقيدات المحيطة بكل منهما. بل إن هاتين الحريتين تعرضتا للانتهاك والامتهان بانتظام على مدار السنوات التالية للثورة وخاصة بعد منتصف 2013.
ومن بعض النواحي ظلت المنظمات الحقوقية تمارس الدور نفسه الذي كانت تمارسه قبل الثورة: المناصرة، والإعلان، ورفع الوعي، والرصد والتوثيق. وفي بعض الحالات دُعيت المنظمات الحقوقية (على رغم عدم الاعتراف القانوني بها بتلك الصفة) للمشاركة مع هيئات حكومية في إدخال تعديلات تشريعية (قبل الثورة وبعدها على السواء). لكن الثورة غيرت طريقة تأدية المنظمات الحقوقية لعملها بطريقة واحدة وفريدة؛ فقد خلقت الثورة اهتمامًا كبيرًا وسط الجمهور العام بالمشاركة والمبادرة إلى المطالبة بالتغيير وبالحقوق. وفي أعقاب الثورة مباشرة، كان الزخم كبيرًا لإدخال إصلاحات وتغيير المؤسسات والممارسات التي كانت تعتبر فيما مضى غير قابلة للتغيير. فأعيد خوض معارك كانت المنظمات الحقوقية قد خسرتها، بنجاح أكبر بفضل الزخم الشعبي وتزايد الاهتمام والتأييد الجماهيري. على سبيل المثال كانت المنظمات العاملة على التحرش الجنسي ووحشية الشرطة قبل الثورة تجد صعوبة كبيرة، بفعل القيود الأمنية أساسًا، في حشد الجماهير وتعبئتها حول القضايا. لكن هذا الزخم الشعبي هو الذي أدى في النهاية إلى النجاح في مجال التحرش الجنسي، وجعل من وحشية الشرطة قضية ذات أولوية، على رغم ضآلة النجاح المتحقق في إصلاح قطاع الأمن. وكانت قدرة الآخرين من أصحاب المصلحة وغيرهم من الأطراف المستقلة، مثل الأحزاب السياسية والإعلام والمجتمع المدني بصفة عامة، على الاشتباك مع بعضهم بعضًا ومع الجمهور والمنظمات الحقوقية حول تلك القضايا هي العامل المحوري المحدد لمدى النجاح الذي يمكن تحقيقه في أية قضية.
لكن إزاحة الرئيس السابق مرسي بالقوة، عقب قلاقل شعبية، وتنصيب نظام يهيمن عليه الجيش في 2013، وضعت حدًا لهذه الفورة ودفعت الفاعلين الحقوقيين في مصر خلال السنوات الأربع التالية إلى ركن الدفاع، حيث يجاهد بعضهم من أجل مجرد البقاء، واضطر العديد منهم إلى مغادرة البلاد. وكما في ظل مبارك، ما يزال من الممكن تحقيق بعض النجاحات الفردية في هذه الحقبة السلطوية الجديدة. لكن هذا النظام السلطوي الجديد، في دراسات الحالة التي تم تقديمها، قد أثبت أنه أشد قمعية وقدرة على الصمود، ومن شأنه على الأرجح أن يقيد إمكانيات المنظمات الحقوقية وتأثيرها، خصوصًا إذا قرر مواصلة حملته القمعية على المنظمات غير الحكومية، أو القضاء عليها تمامًا.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.