منذ استقلال البلاد عام 1956 إلى رحيل الرئيس السابق بن علي (1987-2011)، وصولا إلى يومنا هذا، تعتمد الظروف التي تعمل فيها وسائل الإعلام على الاضطرابات السياسية، التي تتقلب بدورها وفقًا للأحداث التي تهز البلاد. ففي دولة قوية، شكّلها بورقيبة منذ الستينيات وما بعدها، لا يمكن لوسائل الإعلام أن تعمل خارج الإطار المقيّد الذي تفرضه السلطة السياسية. وفي هذا السياق، يتم تقليص ممارسة الحريات الأساسية مثل حريات الصحافة والرأي إلى الحد الأدنى تحت ذريعة ”المصلحة العامة للبلاد“ أو ”القيد الضروري“. لكن في ظل الأزمات الاجتماعية والسياسية التي تؤثر على هياكل الدولة، قد يشهد المجال السياسي ”انفلاتًا سلطويًا" يتسم بـ”انفتاحات“ سياسية محدودة زمنيًا. ونتيجة لذلك، يتأثر قطاع الإعلام والمعلومات بهذه ”الانفتاحات“، مما يؤدي، ولو لفترة محدودة، إلى بعض الانفتاح السياسي والإعلامي.
وقد فتحت القطيعة التي أحدثها رحيل الرئيس بن علي الطريق أمام دورة سياسية جديدة. وستتميز العشرية الممتدة من 2011 إلى 2021 بانفجار النشاط السياسي، حيث ستظهر الأحزاب والجمعيات السياسية بفضل عدد من الأحكام الليبرالية. وفي ظل هذه الظروف، سيشهد عالم الإعلام خلال هذا العقد فترة من الحرية الاستثنائية في تاريخ البلاد. فقد ازداد عدد الصحف والمحطات الإذاعية والقنوات التلفزيونية بشكل ملحوظ. كما أتاحت الحريات المكتسبة حديثاً للمواطنين والصحفيين إمكانية نقل الأخبار والنقاش بحرية تامة، وإن كان ذلك في كثير من الأحيان دون توجه واضح. وتحولت الاستوديوهات التلفزيونية أحيانًا إلى ساحات حقيقية للصراع بين مختلف الفاعلين السياسيين.
ومع ذلك، سيتلاشى هذا ”التحسن“ تدريجيًا اعتبارًا من عام 2021 فصاعدًا، ولسبب وجيه: لم تكن الإصلاحات التي أُجريت ذات تأثير عميق على عالم الصحافة وقطاع الإعلام. فهي لم تنجح في إقامة ضمانات حقيقية تحول دون استغلال ”الانتقال الديمقراطي“ لأغراض سياسية وشخصية. علاوة على ذلك، تراجع دور الدولة كمروِّج لهذه الإصلاحات إلى حد كبير بسبب تكاثر مصالح وممارسات الفاعلين الخواص في قطاع الإعلام، الذين سارعوا إلى التغلغل في مفاصله .
كما أن المشاحنات الداخلية التي فتّتت النخبة السياسية التي حكمت البلاد على مدى العقد الماضي (2011-2021)، وإخفاقاتها المتتالية في الحد من انعدام الأمن الاجتماعي وفي كبح الظلم الاجتماعي والفساد، ومسؤوليتها عن سوء استخدام ”الثورة“ ألقت بثقلها على مسار ونتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2019 .
ونتيجة لخيبة الأمل التي عبّر عنها العديد من التونسيين تجاه ”الانتقال الديمقراطي“ والإحباطات التي يشعر بها، على وجه الخصوص، أولئك الذين تركتهم ”الثورة“ خلفها، برزت بسهولة شخصية سياسية جديدة ذات ميولات شعبوية، وهي قيس سعيد، في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية لعام 2019. وقد شكّل سعيد نقيضًا تامًا للنخب التقليدية التي حكمت البلاد منذ عام 2011.
منذ يوليو 2021، فاجأ الرئيس قيس سعيد البلاد بإعلانه حالة الطوارئ، ثم استحوذ على جميع مقاليد الحكم، ليتصرف في نهاية المطاف كــ”السيد الوحيد على متن السفينة“.
في هذه الورقة، نسعى أولًا إلى رصد انتشار وسائل الإعلام خلال الانتخابات الرئاسية لعام 2024، مقارنةً بدورها خلال الحملة الانتخابية السابقة (2019)، عندما كانت لاعبًا حاسمًا. ثم ننظر إلى وضع وسائل الإعلام اليوم (2024) بهدف دراسة أسباب فشل أو هشاشة إنجازات ”الانتقال الديمقراطي“، لا سيما في ما يتعلق بحرية الصحافة والعودة إلى الممارسات الاستبدادية والقمعية للسلطة السياسية.
انتخابات غير مفاجئة وإعلام مرتبك
منذ انطلاق عملية الانتقال السياسي في 14 كانون الثاني/يناير 2011، اتسمت المواجهات الانتخابية بالحماس والاندفاع بين المترشحين. فقد أثار تعدد وتنوع الترشيحات (26 مرشحًا للانتخابات الرئاسية لعام 2019) اهتمام الناخبين، وأجج النقاشات المتباينة، وبلور التوجهات المعارضة، ودفع وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي إلى مواكبة ونقل أداء المرشحين، بل وتضخيمه في بعض الأحيان. وقامت مؤسسات استطلاع الرأي بتقديم نتائجها بانتظام حول نوايا التصويت، مما حافظ على عنصر التشويق، حيث لم تكن نتيجة الانتخابات محسومة مسبقًا.
ولكن في الوقت نفسه وطوال الحملة الانتخابية لعام 2019، تحدّت وسائل الإعلام السمعية البصرية الكبرى المبادئ التي تحكم الحملة الانتخابية من خلال تحيزها وعدم احترامها للحياد والشفافية. وتكشف هذه الإخفاقات عن الاختلالات المتتالية للسياسات العامة تجاه وسائل الإعلام، والتي مهدت الطريق للعودة إلى الممارسات الاستبدادية التي مارستها السلطة السياسية ضد وسائل الإعلام والصحفيين.
وبالفعل، فمع الحملة الانتخابية الرئاسية في تشرين الأول/أكتوبر 2024، ازداد السياق السياسي تصلبًا في ظل سلطة سياسية مطلقة وظروف لم تعد تضمن منافسة حرة ونزيهة وتعددية. إن انتخابات 2024 لا تشبه سابقاتها، على الأقل تلك التي أعقبت ثورة 2011. فقد شهدت عودة إلى الممارسات الاستبدادية وردود الأفعال القمعية التي كانت سائدة قبل”الثورة“، حيث وُضع شاغل المنصب في مواجهة منافس مسجون وآخر يدعمه منذ فترة طويلة. لم يكن مفاجئًا فوز قيس سعيد في الجولة الأولى بنسبة 90.69% من الأصوات، في انتخابات بلغت نسبة المشاركة فيها 28.8%. ويعود ذلك لأسباب وجيهة: تشويه مصداقية الهيئة العليا المستقلة للانتخابات منذ أن تم تعيين أعضائها من قبل رئيس الجمهورية بدلًا من انتخابهم من قبل البرلمان؛ وتجميد أنشطة الهيئة العليا المستقلّة للاتّصال السّمعي والبصري(HAICA) بسبب رفض السلطات اعتبار المرسوم بقانون رقم 116 أداة قانونية لا يزال من المفترض أن تحكم هذا القطاع؛ ورفض الهيئة المستقلة للانتخابات تنفيذ قرار المحكمة الإدارية بإعادة ثلاثة مرشحين سبق استبعادهم؛ وإقرار البرلمان، قبل عشرة أيام من التصويت (24/09/27)، على تعديل ”مستعجل“ للقانون الأساسي رقم 2014-16 المؤرخ في 26 مايو 2014، ألغى بموجبه اختصاص المحكمة الإدارية في الفصل في النزاعات الانتخابية، ونقل صلاحيات المحاكم الإدارية والمالية إلى القضاء العادي. ولم تحصل المنظمات غير الحكومية الرئيسية التي كانت تراقب حسن سير الانتخابات على اعتماد من الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، بحجة أن مصادر تمويلها ”مشبوهة“. وللمرة الأولى منذ عام 2011، لم يُسمح لمراقبي الاتحاد الأوروبي بمتابعة عملية التصويت.
ومن الأمثلة الأخرى على الحالة المزرية للحريات، الظروف التي تعمل فيها وسائل الإعلام والصحفيون خلال الحملة الانتخابية الرئاسية لعام 2024. ففي الماضي، تمتعت هذه الوسائل بحرية كبيرة في لهجتها وحركتها، كما كانت قادرة على تغطية الحملات الانتخابية دون قيود تُذكر. ونظمت محطات التليفزيون – تحت إشراف الهيئة العليا المستقلة للانتخابات – مناظرات تنافسية بين المرشحين جذبت اهتمامًا واسعًا من الناخبين.
أما بالنسبة لانتخابات 2024، فقد اكتفى التلفزيون الوطني، الذي كان من المفترض أن يغطي الحملة الانتخابية، ببث أخبار الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وومضات عن حملات المرشحين، وتقارير عن عمليات التصويت، وفقرات مصغرة عن سؤال "لو كنت رئيسًا؟" ولم تُنظَّم أي مناظرات بين المرشحين، كما غابت التغطية الإخبارية أو كانت شبه منعدمة، مع ندرة التقارير عن ردود أفعال المواطنين، باستثناء بعض البرامج الإذاعية أو المقالات الصحفية التي حاولت إيصال الأصوات المعارضة. علاوة على ذلك، نددت نقابة الصحفيين بالضغوط التي يتعرض لها الصحفيون العاملون في وكالة الأنباء الرسمية – وكالة تونس أفريقيا للأنباء – من قبل إدارتهم منذ انطلاق الحملة الانتخابية.
ويرجع تدهور ظروف عمل الصحفيين اليوم إلى أن حرية التعبير والإعلام والحق في الحصول على المعلومات قد تعرضت لتقويض خطير منذ سنة عام 2022. وتميل الأحكام القانونية غير الدستورية التي تلقي بثقلها على عمل الصحفيين ونشر الآراء عبر شبكات التواصل الاجتماعي إلى تقييد مساحة التعبير والإعلام.
الحقوق والحريات المتغيرة
مع فرض حالة الطوارئ في 25 تموز/يوليو 2021، تعرضت حرية التعبير والإعلام والحق في الحصول على المعلومات، التي تم كسبها بشق الأنفس يعد ”الثورة“، لتقويض خطير. صحيح أن دستور 2022 يكرس حرية الإعلام والاتصال. كما ينص على أن حق الوصول إلى المعلومات وشبكات التواصل الاجتماعي مكفول من قبل الدولة. ومع ذلك، في نظام استبدادي ورئاسي بامتياز، تعتمد القاعدة القانونية بشكل أساسي على التفسير والاستخدام الذي يقوم به ”الزعيم“ (القائد) لها وفقًا الظروف.
وفي ظل غياب المحكمة الدستورية، فإن المرسوم بقانون الذي أصدره رئيس الجمهورية، إلى جانب الأوامر الإدارية والقرارات القضائية، كافيًا للحد من حرية مناورة الصحفيين، والتحكم في البث على شبكات التواصل الاجتماعي، وتقييد استخدام الحق في الحصول على المعلومات.
التحكم في البث على شبكات التواصل الاجتماعي وتقييد ممارسة العمل الصحفي
المرسوم بقانون رقم 54 لسنة 2022 مؤرخ في 13 سبتمبر 2022 المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال هو مثال نموذجي على الأحكام السالبة للحرية، ويهدف إلى التحكم في نشر التعليقات والوثائق على الشبكات الاجتماعية وقمعها بذريعة تعديها على حقوق الآخرين. تنص المادة 24: "يعاقب بالسجن مدة خمسة أعوام وبخطية قدرها خمسون ألف دينار كل من يتعمّد استعمال شبكات وأنظمة معلومات واتّصال لإنتاج، أو ترويج، أو نشر، أو إرسال، أو إعداد أخبار أو بيانات أو إشاعات كاذبة أو وثائق مصطنعة أو مزوّرة أو منسوبة كذبا للغير بهدف الاعتداء على حقوق الغير أو الإضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني أو بث الرعب بين السكان... وتضاعف العقوبات المقررة إذا كان الشخص المستهدف موظفا عموميا أو شبهه." إن وفرة المصطلحات الغامضة الواردة في هذا النص تفتح الباب أمام تفسيرات مختلفة من قبل القضاة، الذين يمكنهم الشروع في إجراءات وإدانات جنائية ضد أي شخص تثبت إدانته بموجب هذا المرسوم "لمجرد أنه عبر عن آرائه." وقد تمت مقاضاة أكثر من 60 شخصًا من بينهم صحفيون ومحامون ومعارضون سياسيون بموجبه.
كما اتُّخذت إجراءات إدارية وقضائية أخرى لمنع الصحفيين من الوصول إلى مصادر المعلومات من أجل تغطية أخبار اللحظة، وبالتالي حرمان المواطنين من الحق في الحصول على المعلومات الكاملة: فقد أعلن رئيس مجلس نواب الشعب في 15 حزيران/يونيو 2023 أنه لن يُسمح للصحفيين بتغطية اجتماعات اللجان البرلمانية، وأن المعلومات المتعلقة بأعمال اللجان لن تُنشر إلا في البيانات الصحفية الرسمية، ويمكن الوصول إليها عبر الموقع الإلكتروني للمجلس وصفحته الرسمية على شبكات التواصل الاجتماعي .وفي السياق نفسه، أصدر قاضي التحقيق من المركز القضائي لمكافحة الإرهاب في 17 حزيران/يونيو 2023 أمرًا قضائيًا بمنع وسائل الإعلام المرئية والمسموعة من تغطية ما يسمى بقضية ”التآمر على أمن الدولة“ من أجل” الحفاظ على حسن سير التحقيقات. “وهي في الواقع قضيتان تورط فيهما أكثر من عشرين من قادة المعارضة والمحامين والنشطاء.
مكتسبات محطمة
في أعقاب الإصلاحات القانونية الكبرى التي أطلقتها الحكومات الأولى لـ ”الثورة“ في عام 2011، تم وضع أحكام قانونية جديدة تحكم الصحافة المكتوبة والقطاع السمعي البصري. ومع ذلك، يبدو أن هذه القوانين لم تعد سارية المفعول بعد فرض حالة الطوارئ. هذا لا يعني أنها أُلغيت. ولكن في الممارسة العملية، عندما يتم اتخاذ إجراءات قانونية ضد الصحفيين أو المواطنين الذين عبروا عن آرائهم في الصحافة أو عبر شبكات التواصل الاجتماعي، يميل القضاة إلى الاستناد إلى أحكام تأتي في إطار نصوص قانونية أخرى، بما في ذلك النصوص الحديثة مثل المرسوم بقانون رقم 2022-54 المؤرخ في 13 سبتمبر 2022، أو النصوص القديمة مثل مجلة الاتصالات التي وضعت في عهد الرئيس السابق بن علي، والتي تحتوي على عدد من الأحكام التي تنتهك الحريات. وعلى نفس المنوال، يُستخدم قانون مكافحة الإرهاب، الذي اعتمده مجلس نواب الشعب في عام 2015، كأساس لتجريم المناضلين السياسيين وغيرهم. ويضع هذا القانون قيودًا على الحريات بشكل عام، ويفتح الباب أمام جميع أنواع الانتهاكات، بما في ذلك تصنيف المعارضين السياسيين كــ”إرهابيين“.
وبالإضافة إلى الإطار القانوني الذي يميل إلى تقييد حريات التعبير والتحكم في عمل الصحفيين، فإن أنشطة الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري مجمدة تماماً اليوم. ولم تعد مدرجة ضمن الهيئات الدستورية في دستور 2022. والأكثر من ذلك، فهي تعمل الآن تحت سيطرة الحكومة. علاوة على ذلك، لم تعد تعيينات رؤساء وسائل الإعلام السمعية البصرية العمومية خاضعة ”لموافقتها“.
كيف انتقلنا من مشهد إعلامي متنوع ومتعدد خلال عشرية 2011/2021، رغم الاختلالات والتجاوزات التي ميزته، إلى سياق يتسم بتضييق مساحات التعبير الحر وإدانة الصحفيين؟
الأسباب كثيرة ومتشابكة. فهي ترتبط بتداخل عالم الإعلام مع السلطة السياسية منذ سنوات الاستقلال، كما تعود إلى ضعف وهشاشة مهنة الصحافة في تونس. فاليوم، يقف الصحفيون في غرف الأخبار في حيرة من أمرهم بسبب الاعتقالات التي تطالهم والقيود القانونية التي تثقل كاهل العديد منهم. والأكثر من ذلك، فإن أوضاعهم المادية وظروف عملهم آخذة في التدهور. ففي بعض المؤسسات، يتم دفع رواتب الصحفيين في وقت متأخر، كما تتكرر حالات الاستغناء عن الموظفين بسبب تراجع عائدات الإعلانات. لفهم أسباب هذا التدهور بشكل كامل، علينا العودة إلى العقد الذي أعقب ”الثورة“.
مرحلة انتقالية غير مكتملة
خلق العقد الممتد من 2011 إلى 2021 آمالاً كبيرة بين المدافعين عن الحريات. وفي مجال الإعلام تحديدًا، أدت هذه التطلعات إلى بدايات الإصلاحات في تعزيز حرية الإعلام والاتصال، لكنها لم تترك أثرًا عميقًا على عالم الصحفيين وقطاع الإعلام. ولم تنجح هذه الإصلاحات في إرساء ضمانات حقيقية ضد مخاطر اختطاف التحول الديمقراطي وإساءة استخدامه لأغراض سياسية وشخصية. فقد ظلت هذه الإصلاحات إما غير مكتملة أو ضعيفة بسبب تداخل جهات فاعلة ذات مصالح متباينة، استغلت وسائل الإعلام، وخاصة الإعلام السمعي البصري، لتعزيز نفوذها السياسي. ويُعزى ذلك إلى فشل الهياكل الحكومية في إطلاق إصلاحات جوهرية وتنفيذها، بسبب الخلافات العميقة التي مزقت النخب الحاكمة، إلى جانب الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أثقلت كاهل المرحلة الانتقالية.
وفي هذا الصدد، فإن انعدام الثقة المتبادلة بين مختلف الأطراف الفاعلة في العملية الانتقالية، من جهة، وبين الحكام والمحكومين، من جهة أخرى، وتدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي يؤثر على الشرائح الاجتماعية الأكثر حرمانًا، أدى إلى شعور قوي بالاستياء لدى قطاعات واسعة من السكان. ويعكس هذا الشعور خيبة الأمل وخيبة الأمل التي أصابت هؤلاء تجاه النخب السياسية بمختلف توجهاتها. وقد تجلى هذا الاستياء في صناديق الاقتراع. أولًا عبر نجاح المرشحين المستقلين في الانتخابات البلدية لعام 2018، ثم من خلال انتخاب قيس سعيّد، المرشح ”الشعبوي بالأساس“ في الانتخابات الرئاسية لعام 2019. لاحقًا، قام بـــ ”انقلاب القوة“ في 25 تموز/يوليو 2021 وأعلن حالة الطوارئ. وكان ذلك إيذانًا بنهاية العملية السياسية التي بدأت في 2011 وعودة إلى الممارسات الاستبدادية والقمعية.
2011-2021: تجميل إعلامي بلا عواقب
في أعقاب 14 كانون الثاني/يناير 2011، انتقلت تونس بسرعة من وضع استمر 50 عامًا اتسم بتضييق السلطات السياسية على وسائل الإعلام إلى سياق غير مسبوق من الحرية في تاريخ تونس المعاصرة. فلأول مرة يأتي هذا الوضع من الحرية والتحرر من السلطة السياسية من الأسفل، وليس بقرار من أعلى هرم الدولة. فقد جاءت بإرادة شعبية لا قائد لها ولا برنامج، تمثلت في تقويض الدولة والمؤسسات العامة مع سقوط الرئيس السابق بن علي (1987-2011). إلا أن رحيل بن علي ومجيء نخب حاكمة جديدة لم يساعد على القطيعة مع الممارسات القديمة ولم يستبدل المؤسسات القديمة بهياكل جديدة قائمة على رؤية إصلاحية.
تُبرز سياسة الإصلاح الإعلامي التي روّجت لها الحكومات الانتقالية الأولى في تونس (2011) هذا التناقض الصارخ القائم. فهي تسلط الضوء على الفجوة بين النصوص القانونية التي كانت من المفترض أن تحكم قطاع الإعلام، وبين تطبيقها الفعلي من قبل مختلف الجهات الفاعلة في هذا المجال. دعونا أولاً نتفحص الأحكام الرئيسية التي تم إدخالها منذ عام 2011، ثم نحدد بعد ذلك الاختلالات والانحرافات التي أدت إليها.
التحرير غير المكتمل
في فجر العملية الانتقالية في عام 2011، تبلور إجماع واسع النطاق بين النخبة الحاكمة الجديدة على ضرورة تحرير وسائل الإعلام من قبضة الحاكمين وأن يخضع القطاع السمعي البصري للتنظيم المؤسسي وذلك من خلال هيئة عامة مستقلة.
وهكذا، رأت الأحكام القانونية الجديدة المنظمة للصحافة المكتوبة والقطاع السمعي البصري النور في تشرين الثاني/نوفمبر 2011: التشريع المتعلق بالصحافة والطباعة والنشر (المرسوم بقانون رقم 115 بالجريدة الرسمية عدد 84 بتاريخ 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2011)، والذي تمحور حول أربعة فصول تتناول على التوالي نظام المؤسسات الصحفية، ووضعية الصحفي المحترف، وحق التصحيح والرد، والمسؤولية الجنائية للصحفيين. المرسوم بقانون رقم 116 المؤرخ في 2 نوفمبر 2011 المتعلق بحرية الاتصال السمعي البصري الذي يكرس حرية الاتصال السمعي البصري ويوفر لأول مرة في تونس أداة لتنظيم الإعلام السمعي البصري، وهي الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري. ويمنح النص، المستوحى من التشريعات الفرنسية والبلجيكية في هذا المجال، الهيئة العليا صفة مدنية واستقلالية مالية، ويجعلها مسؤولة عن ”ضمان حرية وتعددية الاتصال السمعي البصري“ و”إعطاء موافقتها على تعيين الرؤساء التنفيذيين لوسائل الإعلام السمعية البصرية العمومية“.
علاوة على ذلك، في النص الدستوري المعتمد في 26 كانون الثاني/يناير 2014: حريات الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة (المادة 31) و”لا يجوز ممارسة أي رقابة مسبقة على هذه الحريات“ (المادة 31). وبالمثل، فإن الحق في الحصول على المعلومات والحق في الوصول إلى المعلومات مكفولان من قبل الدولة التي ”تسعى إلى ضمان الحق في الوصول إلى شبكات الاتصال“ (المادة 32).
وقد توسعت الساحة الإعلامية وتنوعت بشكل كبير منذ ذلك الحين، وأصبحت حرية الرأي والتعبير واقعًا ملموسًا، وهو ما يشكل الإنجاز الرئيسي لـ”الثورة“. وقد أدى استخدام هذه الحرية واعتماد إطار قانوني ليبرالي إلى ظهور العديد من وسائل الإعلام على اختلاف أنواعها. وينبغي أن نتذكر أنه قبل اندلاع ”الثورة“ كانت وسائل الإعلام قليلة العدد وتسيطر عليها الحكومة إلى حدٍّ كبير.
ثغرات الإصلاح
على الرغم من ذلك، ظلت التحسينات الإعلامية التي شهدها عقد 2011-2021 نسبية، وهشة للغاية. فمن ناحية، لم يؤد تطوير الإطار القانوني والمؤسسي إلى الإصلاحات الحقيقية اللازمة داخل غرف الأخبار أو في المشهد الإعلامي ككل. ومن ناحية أخرى، تُركت معظم المؤسسات الإعلامية دون توجيه واضح، وغالبًا ما استسلمت لنداءات صفارات الإنذار التي تطلقها نسب المشاهدة من خلال الضجيج والإثارة. ومن ناحية أخرى، يشكل إغراء المال والغموض الذي يحيط بمصادر تمويل معظم وسائل الإعلام الخاصة تهديداً كبيرًا لاستقلاليتها.
يشير تقرير حول ”مالكي وسائل الإعلام السمعية البصرية الخاصة"، الذي أُعد استنادًا إلى دراسة استقصائية ومقارنة الوثائق الإدارية، إلى أن معظم مالكي وسائل الإعلام السمعية البصرية الخاصة لا يحترمون المبادئ القانونية لشفافية الملكية، رغم أن هذه المبادئ تحكم أنشطة المؤسسات التجارية وتنص عليها دفاتر التحملات الخاصة بالهيئة العليا للاتصال السمعي البصري. كما يسلط التقرير الضوء على ميل دوائر الأعمال والجماعات الدينية والسياسيين الأثرياء إلى الاستثمار في وسائل الإعلام السمعية البصرية الخاصة، مما يهدد بتقويض مبادئ التعددية والتنوع في المشهد الإعلامي.
وعلاوة على ذلك، فإن الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري غير قادرة على إنفاذ قرارات إغلاق القنوات والمحطات التي تبث دون ترخيص. ولا يمكنها ممارسة صلاحياتها بشكل طبيعي وتنفيذ قراراتها إذا لم تكن مدعومة في نهجها من قبل الهياكل الحكومية. والمرة الوحيدة التي تدخلت فيها الحكومة لإغلاق قناة تلفزيونية حظرتها الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري، وهي قناة نسمة، كانت عشية الانتخابات الرئاسية لعام 2019 من قبل الحكومة آنذاك. كان مدير القناة، نبيل القروي، مرشحًا في هذه الانتخابات، ولم يكن منافسه الرئيسي سوى يوسف الشاهد، رئيس هذه الحكومة. وبكن بعد ضغوط سياسية، استأنفت قناة نسمة بثها بعد أسبوع من إغلاقها ”مع التعهد بتسوية وضعيتها. “يبدو أن قراري الإغلاق وإعادة الفتح كانا نتيجة محادثات بين القادة السياسيين، تم خلالها استبعاد الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري، حيث ”لم تعطِ تفويضها“.
وفي معظم المؤسسات الإعلامية، تغيب الهياكل المصممة لتعزيز وحماية المبادئ الأخلاقية والمهنية، مثل مجالس التحرير ومؤتمرات التحرير ومواثيق التحرير، أو تكون غير فعالة. وبسبب عواقب تبعيتها للسلطة السياسية منذ سنوات الاستقلال وحتى عام 2011، فإن عالم الصحفيين أبعد ما يكون عن التجانس. وعلاوة على ذلك، لا تزال ظروف عمل الصحفيين غير مستقرة سواء على المستوى المهني أو المادي. وأخيرًا، لم تشهد مناهج الصحافة وأساليب تدريسها، ولا الهياكل التي توفر هذا التكوين، أي تغييرات جوهرية منذ عهد الرئيس السابق بن علي. ونتيجة لذلك، ومع دخول البلاد مرحلة انتقالية نحو دولة ديمقراطية تحكمها سيادة القانون، والتي كام من المفترض أن تؤدي إلى تحرير الخطاب الإعلامي، لم يتم إعداد وسائل الإعلام ”لتعمل [...] كأدوات لمراقبة السلطة."
قانونية أكثر من اللازم
في عام 2011، كان من المفترض أن يكون المعيار القانوني الجديد الذي سيتم وضعه بمثابة حافز للإصلاحات الهيكلية اللاحقة في وسائل الإعلام بهدف جعلها تتماشى مع ”المعايير الديمقراطية“. وفي هذه العملية، أُدخلت أحكام ومفاهيم جديدة في الإطار القانوني دون أن تستوعبها جميع الأطراف الفاعلة ودون أن تؤدي إلى قطيعة لا رجعة فيها مع النظام الإعلامي السابق لما قبل 14 كانون الثاني/يناير 2011. وتشمل هذه الابتكارات: تنظيم القطاع السمعي البصري، والتنظيم الذاتي لوسائل الإعلام المطبوعة والإلكترونية، والشفافية المالية، وتحويل الهيئات الحكومية إلى وسائل إعلام للخدمة العامة، والفصل بين الإدارة وطاقم التحرير، وتحديد الخط التحريري.
غير أن هذه المقاربة لا تقتصر على مجرد تحويل هذه المفاهيم إلى معايير قانونية جاهزة للاستخدام، دون مراعاة عملية الاستيعاب. فلكي يتم تبني هذه المفاهيم بشكل حقيقي من قبل جميع الأطراف المعنية، كان لا بد من عمل توعوي وتثقيفي متعمق. وعلاوة على ذلك، فإن غياب إرادة سياسية حازمة لدى النخب الحاكمة لمواكبة التغييرات القانونية والمؤسسية بإصلاحات جوهرية – تشمل تدريب الصحفيين وتثقيف الجماهير وتعزيز الوعي العام في إطار عملية التحول الديمقراطي – يفسّر الاختلالات التي تعاني منها وسائل الإعلام. وعلى سبيل المثال، من الدلائل على ذلك أن التشخيص الذي وضعته الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتصال وتوصياتها بشأن التغييرات الجوهرية التي يتعين إدخالها والواردة في تقريرها العام الصادر في نوفمبر/تشرين الثاني2012 ، لم يثر أي نقاش وطني ولم يثر أدنى اهتمام من جانب سلطات البلاد. وقد أدى انعدام التماسك داخل الفريق الحكومي الذي انبثق عن الانتخابات الأولى وعدم استعداده لإجراء الإصلاحات اللازمة إلى قيام أعضاء الهيئة الوطنية المستقلة للإصلاح الجنائي والمصالحة الوطنية، بمن فيهم كاتب هذه الورقة، بإنهاء أنشطة هذه الهيئة من خلال الاستقالة الجماعية.
وبالتالي، فإن الوضع يبدو قاتمًا. فالإصلاحات الهيكلية التي طال انتظارها في قطاع الإعلام لم تتحقق أو تواجه صعوبات في تطبيقها. ومن بين الأسباب التي تُقدَّم في هذا الصدد الميل في تونس ما بعد 14 كانون الثاني/يناير إلى تفضيل المعايير القانونية على حساب نهج براغماتي القائم على ظهور إرادة سياسية جديدة من جانب الدولة، ومؤسسات عامة قوية وذات مصداقية، وشركات إعلامية مهنية حقيقية مستقلة عن نفوذ السياسة والمال.
في ختام هذا العرض حول التطور السياسي والتاريخي لوسائل الإعلام منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، يتضح أن أي إصلاح حقيقي يجب أن ينطلق من إدراك أن التشابك بين وسائل الإعلام والسلطة السياسية يشكّل العائق الرئيسي أمام تحريرها وتطويرها الكامل. وبعبارة أخرى، ستظل مسألة تحرير وسائل الإعلام إشكالية طالما أن وسائل الإعلام غير قادرة على تحرير نفسها من قبضة السلطة السياسية وطالما تظل الهيئات المستقلة لتنظيم وسائل الإعلام والتنظيم الذاتي عاجزة عن الحلول محل الهياكل الحكومية. ومن هذا المنطلق، كان ينبغي أن تحظى تجارب دور وسائل الإعلام في البلدان التي شهدت ”تحولات ديمقراطية“ منذ السبعينيات باهتمام متواصل من قبل صانعي القرار التونسيين خلال سنوات الانتقال. وكان من الممكن لحصيلة هذه التجارب والمنهجيات والنماذج التي تخللتها وتطوراتها في السياقات الانتقالية، أن تنير لنا الطريق لتوجيه النقاش حول مستقبل الإعلام في تونس بشكل أفضل. في الواقع، وكما أشار الباحث أوليفييه كوخ عن حق، فإن ”مسألة دور وسائل الإعلام في الانتقال من نظام استبدادي إلى دولة ديمقراطية تحكمها سيادة القانون تطرح نفسها على هذا النحو. ويتطلب منا الاستفادة مما تعلمناه من دراسات المناطق الجغرافية المختلفة وموجات التحول الديمقراطي. ويعني أيضًا اتخاذ موقف من النماذج المستخدمة في دراسة تغيير النظام وتقييم المنهجيات المستخدمة لدراسة الإعلام في السياقات الانتقالية.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.