مقدمة: التحويلات السياسـية ودور شـتات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مرحلة ما بعد 2011؟

لا تعتبر ظاهرة التعبئة التي يضطلع بها المغتربون من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ظاهرةً جديدة على عدة أصعدة. فقد تشكّلت جاليات المهجر العريقة - مثل الجاليات الأرمينية والفلسطينية والكردية واللبنانية - منذ عدة عقود وسجلت المؤلفات البحثية والدراسات إسهاماتها في أوطانها الأم، وشجعها صناع السياسات والمؤسسات التنموية على حدٍ سواء. تتضمن تلك الإسهامات التأثير الاقتصادي للمغتربين من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والأهمية البالغة لِتحويلاتهم المالية في دعم تطور أوطانهم ونموها،1انظر على سبيل المثال: وأيضاً أشكال التعبئة السياسية المتنوعة التي يضطلع بها أبناء المهجر بهدف المساهمة في بناء الدولة/الوطن2انظر على سبيل المثال: وعمليات الاعتراف [بحقوق الأقليات]3انظر على سبيل المثال: ، أو في ظل ظروفٍ معينة، الاحتشاد ضد الأنظمة الحاكمة في الوطن.4للاطلاع على المزيد حول الظروف التي يتعرض فيها المغتربون للقمع العابر للحدود الوطنية والتعبئة ضد الأنظمة الاستبدادية، انظر: ومن هذا المنطلق، ركزت كثير من المؤلفات البحثية على الأشكال الأكثر تقليدية من التعبئة السياسية للشتات5Benedict Anderson, “Long Distance Nationalism”, In The Spectre of Comparisons: Nationalism, Southeast Asia and the World, London: Verso, 1998. ، بما في ذلك ممارسة الضغط السياسي والأنشطة التوعوية الرامية إلى تشكيل رأي عام دولي والضغط على حكومات الدول الأجنبية. لهذا فإن الرأي القائل بأن مجمعات الشتات العربية ليست فقط مجرد طرف اقتصادي فاعل بل ربما تكون أيضاً طرفاً سياسياً نشطاً ليس رأياً جديداً في حد ذاته. لكن مع ذلك، ركزت معظم المؤلفات التي تتناول الشتات العربي على التدفق أحادي الاتجاه للتحويلات، من أبناء الشتات إلى أوطانهم. وبالمثل، نجد أن وجهة النظر التي تعتبر مجتمعات الشتات إما أداةً ينبغي تسخيرها أو تهديداً لا بد من احتوائه تنبثق إلى حدٍ كبير من الواقعين السياسي والجيوسياسي للدول المضيفة والأوطان الأم.6Bahar Basar and Amira Halperin, “Diasporas from the Middle East: Displacement, Transnational Identities and Homeland Politics”, British Journal of Middle Eastern Studies Vol.46 No.2, 2019;

منذ عام 2011، تزايدت أبحاثنا ودراساتنا التي تتناول ديناميات التعبئة السياسية للشتات والدور الذي تؤديه مجتمعات الشتات العربية في تشكيل سياسات الوطن. فعلى مدار العقد الماضي، أدت الاضطرابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الكثيرة التي شهدتها المنطقة - التي تشمل الانتفاضات الوطنية على الأنظمة القائمة، والاستبداد الذي تفاقم للغاية وإغلاق الفضاء المدني والانهيار الاقتصادي وتقويض الروح المعنوية الجماعية، واندلاع نزاع عنيف معقد - إلى تولد موجات عديدة من الهجرة بين مَن يبحثون عن ملاذٍ آمن خارج البلاد.7Philippe Fargues, “Mass Migration and Uprisings in Arab Countries: An Analytical Framework”, International Policy Development 7, 2017. وبينما تستحوذ صورة المهاجرين السوريين الذين يُقدِمون على رحلات محفوفة بالمخاطر للوصول إلى السواحل الأوروبية على الطرح العام، فإن حقيقة تلك الهجرات الجماعية من العالم العربي على مدار العقد الماضي أكثر تعقيداً بكثير.8اطلع أيضاً على:

يمكن القول إن الأمر الذي استجد بالفعل في مرحلة ما بعد 2011 هو تشكُّل تلك الجاليات التي تتمتع بملامح اجتماعية وسياسية مختلفة وأكثر تنوعاً عن مثيلاتها في الفترات السابقة، مع وجود تفاوتات في مدى الارتباط بالوطن والإحساس بالانتماء له والتفاعل معه، سواء بين المهاجرين الجدد، أو على نحوٍ أكثر أهمية، بين من قضوا فترات طويلة في المهجر أو أبناء الجيل الثاني أو الثالث من المهاجرين. وقد شهدت المواقع الجغرافية لأماكن إعادة التوطين للجاليات العربية في المهجر ازدياداً أيضاً في تبعثرها، سواء من ناحية اتساع رقعتها ومدى تمايزها في البلدان المضيفة الموجودة بالفعل أو ظهور وِجهات جديدة للهجرة.

إضافة إلى تلك التحولات في ملامح هذه الجاليات العربية وأماكن تواجدها، ظهرت كذلك أشكال جديدة من التحويلات السياسية [أو جلب سياسات البلد المضيف إلى الوطن]، اشتملت على نقل الأفكار والأعراف والممارسات السياسية من خلال تدفقات متعددة الاتجاهات مثَّلت تحدياً لمفهوم السياسات العابرة للحدود الوطنية الذي يُقيد الدولة.9Melissa Finn and Bessma Momani, “Established and Emergent Political Subjectivities in Circular Human Geographies: Transnational Arab Activists”, Citizenship Studies 21(1), 2017; في كثير من الحالات، تسعى تلك التحويلات السياسية والأنماط الجديدة من التنظيم والتعبئة التي يضطلع بها الشتات جاهدة إلى إحداث تغييرات جوهرية في سياسات الوطن والاستجابة للأزمات المتلاحقة فيه. لكن في حالات أخرى، يبذل بعض أفراد الشتات بدلاً من ذلك جهوداً لاجتياز حالة الحديّة وعدم اليقين الناجمة عن كونهم عالقين في مكانٍ ما على طول المدى "هنا" و/أو "هناك".

تهدف هذه السلسلة من الدراسات، التي كتبتها عُلا كاظم وهدى مزيودات وميساء شجاع الدين، إلى البحث عن كثب في تلك التحولات التي شهدتها الجاليات العربية في مرحلة ما بعد 2011، وتسليط الضوء على التحولات "الجديدة" فعلياً التي طرأت عليها. من خلال ثلاث دراسات حالة متعمقة تتناول الجاليات العراقية والليبية واليمنية في بلدان مختلفة، تُقيّم الدراسات المطروحة هنا التحولات التي شهدتها هذه الجاليات من ناحية الخصائص المميزة لأفرادها وأماكن النفى وكيف أن ديناميات النزاع في الوطن لا تُنبأنا فقط بِأنماط الهجرة، بل وبطبيعة العلاقات داخل مجتمعات الشتات نفسها.

تكشف الدراسات أيضاً عن أشكال واتجاهات جديدة لِتدفقات التحويلات السياسية التي يضطلع بها المغتربون، والعوامل المختلفة التي تساهم في تمهيد الطريق أمام عملية التحويل السياسي تلك. يتضمن ذلك تقييم الكيفية التي يتم من خلالها تشكيل/تحويل الهوية السياسية أثناء تجربة المنفى، ومعاينة ديناميات النزاع من عدة زوايا خارجية مختلفة إلى حدٍ كبير، إضافةً إلى تأثير هياكل الفرص السياسية المتعددة والمتراكبة. أخيراً، تُسلط الدراسات الضوء على تأثير تلك التحويلات السياسية وتُقدم تقييماً للفرص المتاحة أمام أولئك المغتربين الجدد، من العراقيين والليبيين واليمنيين، وكذلك القيود التي تُعيق جهودهم الرامية إلى المساهمة في إعادة بناء وإعمار وتصور أوطانهم.

تنوع ملامح الشتات ومناطقه الجغرافية

تستقصي الدراسات ضمن هذه السلسة موجات الهجرة المختلفة وكيفية تشكُل الجاليات الوافدة من العراق وليبيا واليمن على مدار العقد الماضي الذي شهد اضطرابات عديدة، مع الانتباه على وجه الخصوص إلى الكيفية التي تؤثر بها تطورات الصراع في الوطن على طبيعة مَن يهاجرون وتوقيت الهجرة. وفي الوقت ذاته، تستكشف الدراسات كيفية تأثير الصراع وكذلك الديناميات الثورية الساعية لإحداث تغيير في الوطن على أولئك الذين كانوا بالفعل في الشتات قبل عام 2011. كان أحد الاتجاهات البارزة التي لاحظناها في كافة الدراسات هو زيادة تنوع التوجهات السياسية للمغتربين والسمات التي تميزهم، إضافةً إلى التنوع في التوزيع الجغرافي ووِجهات الهجرة.

وكان لدى البلدان الثلاثة التي شملتها الدراسات جاليات تاريخية مهمة تشكلت قبل 2011، ويمكننا في الحالات الثلاث العثور على جاليات كبيرة متمركزة في مناطق رئيسية بعينها. من بين هذه المناطق المملكة المتحدة والولايات المتحدة - حيث تُقيم مجموعات كبيرة من المغتربين منذ فترة طويلة - بالإضافة إلى بلدان من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا - وهي وِجهات سهلة الوصول ومُرحبة بالوافدين - كتونس ومصر ودول الخليج العربي. وبينما تميزت مجموعات الشتات الثلاث بِتباين التوجهات السياسية لأفرادها التي لا يمكنها بأي حالٍ من الأحوال أن تُشكل جبهة سياسية "موحدة"، فقد أدى اندلاع النزاع الجديد وديناميات التعبئة الاجتماعية في الوطن إلى زيادة هذا التنوع في الملامح السياسية لأبناء الشتات.

في حالة ليبيا على سبيل المثال، كانت الواجهة السياسية للشتات تتألف إلى حدٍ كبير من المنشقين عن نظام القذافي خلال فترة السبعينيات وما بعدها،10Alice Alunni, “Long-Distance Nationalism and Belonging in the Libyan Diaspora (1969-2011)”, British Journal of Middle Eastern Studies, Vol. 46 No.2, 2019. وعلى الرغم من التنوع الداخلي للشتات من ناحية الخلفية الاجتماعية والاقتصادية والموقع في الطيف السياسي، بقيت معارضة نظام القذافي هي النقطة المشتركة التي تجمع أبناء الشتات. وبالمثل، تَشكل الشتات العراقي خلال الفترة التي سبقت حرب 2003 في معظمه من المستبعدين من قِبل نظام صدام حسين أو المعارضين له واتسم فيما بعد بتوجهات سياسية تتماشى مع الانقسامات العرقية والطائفية التي ميزت النظام السياسي في فترة ما بعد عام 2003.11Oula Kadhum, “Ethno-Sectarianism in Iraq, Diaspora Positionality, and Political Transnationalism”, Global Networks Vol 19. No.2, 2019. أما في حالة الشتات اليمني، فعلى الرغم من التنوع السياسي في ملامحه بسبب موجات الصراع الداخلي المتعددة التي شهدتها البلاد قبل 2011، فقد أدت الجهود التي تبذلها النخب السياسية لفرض أيديولوجياتها السياسية على أفراد الشتات إلى استمرارية المواقف القائمة نوعاً ما.12Mohammed Sharqawi, “Dire et faire communauté en diaspora. Le cas de l’immigration yéménite en Angleterre (1950-2015)”, Unpublished Dissertation, Paris: Ecoles de hautes études en sciences sociales, 2020.

في الدراسات الثلاث الواردة هنا، يشرح المؤلفون كيف أن موجات الشتات الجديدة التي أطلقت شرارتها الأحداث التي وقعت خلال العقد الماضي - إضافة إلى معاينة ودراسة تلك الديناميات لدى من يعيشون بالفعل في الشتات قبل 2011 - قد اقترنت بتزايد في التوجهات السياسية. فعلى سبيل المثال، توضح هُدى مزيودات كيف أدت انتفاضة 2011 والعملية الانتقالية الأولية في ليبيا إلى إسراع الموالين للقذافي لمغادرة البلاد، ثم ما أعقب ذلك في 2014 من ازديادٍ في أعداد النشطاء الموالين للثورة الذين قرروا الرحيل عن ليبيا إما بسبب خيبة أملهم الشديدة بعد اندلاع الحرب أو اضطرارهم إلى العيش في المنفى بسبب القمع السياسي المناهض للثورة في الوطن. وبهذه الطريقة، لم يقتصر الأمر على موجة واحدة بل في الواقع سلسلة من موجات الرحيل عن ليبيا، التي نجمت عن ديناميات الصراع في الوطن، والتي أدت إلى زيادة في تنوع الانتماءات السياسية والميول الأيديولوجية لدى أبناء الشتات.

على المنوال نفسه، تشرح لنا ميساء شجاع الدين كيف أصبحت مجموعات الشتات اليمنية أكثر تسييساً وأكثر تنوعاً على الصعيد السياسي أيضاً بسبب الديناميات القائمة في الوطن منذ 2011 لا سيما بعد ازدياد حدة الصراع في 2015. ومثلما توضح ميساء، فقد تميزت عمليات النزوح الجماعي لليمنيين لمدنٍ مثل القاهرة بتدفق النخب السياسية والصحفيين والمثقفين، الذين يمثلون جزئياً قوى موالية للثورة تحمل رؤية سياسية للتغيير نابعة من السياق العام في مرحلة ما بعد 2011. في الوقت ذاته، يعكس الشتات اليمني أيضاً حالة التشرذم السياسي التي تشهدها الساحة السياسية اليمنية اليوم، ويتجاوز الانقسامات بين الجنوب والشمال في فترة ما قبل 2011 ليشمل أفراد الشتات الذين يتمتعون بميول سياسية قوية لِحزب الإصلاح ولِيشمل أيضاً ذوي الانتماءات الإقليمية الأخرى مثل حضرموت.

وفي دراستها التي تتناول بالتفصيل التحولات التي شهدتها الجالية العراقية في المملكة المتحدة على مدار عدة عقود ماضية، تُوضح عُلا كاظم كيف أدت الديناميات المستجدة خلال الفترة الأخيرة إلى ظهور مواقف سياسية جديدة، يتضمن ذلك الميول السياسية الجديدة المناهضة للطائفية والانتماءات إلى الحركات المدنية الشبابية التي تطالب بإعادة هيكلة النظام السياسي، إضافةً إلى الموقف السياسي الموحد ضد داعش بعد سيطرتها على الموصل في 2014. وكما أوضحت عُلا في دراستها، تصطدم تلك الديناميات مع الانقسامات السياسية العرقية-الطائفية التقليدية التي ميَّزت ملامح الشتات في مرحلة ما بعد 2003.

في الوقت الذي تتزايد فيه التوجهات السياسية تنوعاً، برز توزيع جغرافي جديد لمجتمعات وجماعات الشتات. فقد كشفت الدراسات الثلاث جميعها أن الأماكن التي يوجد فيها مجتمعات الشتات بالفعل، وهي لندن والقاهرة وتونس العاصمة، وغيرها من الأماكن الأخرى، ما زالت تُشكل وِجهات مهمة يقصدها المهاجرون الجدد في مرحلة ما بعد 2011. والواقع أن سهولة إعادة التوطين في مثل هذه الأماكن، بسبب وجود مجتمع محلي قائم بالفعل أو العلاقات التاريخية التي تجمع بين تلك الدول، كانت بمثابة عوامل رئيسية تجذب المزيد من المهاجرين لإعادة التوطين في هذه الأماكن. على سبيل المثال، كانت سهولة ومعرفة مدن مثل تونس العاصمة بالنسبة لليبيين والقاهرة بالنسبة لليمنيين، التي تتسم أنظمة تأشيرات الدخول إليها بالتساهل، فضلاً عن الأنماط القائمة منذ أمد بعيد في التردد ذهاباً وإياباً على هذه الوجهات، مما أسفر عن إقامة روابط مسبقة بين الدول المضيفة والأوطان الأم، سبباً في اجتذاب المهاجرين الجدد بأعداد غير مسبوقة حتى الآن.

بيد أن الدراسات تُبين أيضاً أن الجاليات العراقية والليبية واليمنية بدأت تستقر بشكل دائم أو شبه دائم في أماكن جديدة، وينشئون فيها مجتمعات الشتات. فقد أصبحت تركيا، على سبيل المثال، وِجهة جديدة لليمنيين، ولا سيما الطلاب الذين يبحثون عن فرص الدراسة في الخارج وكذلك رجال الأعمال. وعلى نحو مماثل، تشير الدراسات التي تتناول الجاليات العراقية والليبية إلى توجهات جديدة للانتشار في مختلف أنحاء أوروبا خلال العقد الماضي،13اطلع أيضاً على: متجاوزةً بذلك الأنماط السابقة من الهجرة التسلسلية الأسرية، ولكنها أدت رغم ذلك إلى تكوين مجتمعات الشتات في هذه الأماكن (وليس مجرد هجرة غير نظامية)، وذلك يُعزى إلى الروابط العابرة للحدود من خلال شبكات النشطاء والمساحات الافتراضية.

أظهرت الدراسات، وتماشياً مع النتائج التي توصلت إليها الدراسات الأخرى،14Elise Féron, “Transporting and Re-inventing Conflicts: Conflict-Generated Diasporas and Conflict Autonomisation”, Cooperation and Conflict 52(3), 2017. أن ديناميات الصراع في الوطن الأم تتبع تلك الموجودة في الشتات وتتجلى في الانقسامات الاجتماعية وانعدام الثقة بين أفراد مجتمع الشتات، وتنقسم وفقاً لأسس الصراع (سواء أكانت إقليمية أم عرقية طائفية أم غيرها). على سبيل المثال، توضح الدراسات المطروحة هنا حول الحالتين العراقية واليمنية كيف أن اندلاع الصراعات الجديدة منذ عام 2011 أدى إلى تدهور مستويات الثقة والتفاعل الاجتماعي داخل مجتمعات الشتات التي استقرت منذ فترة طويلة في المملكة المتحدة. وفي كلتا الحالتين، يعكس هذا الانهيار في الثقة وغياب الاختلاط الاجتماعي المعتاد محاور التوتر في الوطن الأم. وعلى هذا النحو، تجد الجاليات العراقية السُنّية والشيعية في المملكة المتحدة نفسها لا تعيش بمعزل عن بعضها البعض فحسب، بل إنها غير مدركة إلى حد كبير بوجود بعضها البعض.

وعلى نحو مماثل، أصبح أبناء اليمن الشمالي والجنوبي، الذين كانوا يتواصلون من قبل في التجمعات الاجتماعية، منفصلين على نحو متزايد، ونتيجة لذلك تم تقليص الاختلاط غير الرسمي بين المواقف السياسية المختلفة. وكما يوضح المؤلفون، فإن هذه الانقسامات في العلاقات لها تأثير سلبي على قدرة مجتمعات الشتات على التعبئة، وخاصةً في مجال العمل السياسي. وتُبين الدراسات أيضاً كيف أن استنساخ أسس الصراع في الشتات يحدد أيضاً في بعض الحالات الأماكن التي يقصدها المهاجرون للاستقرار فيها، مما يسهم في تكوين بؤر متجانسة من جماعات الشتات المتوافقة أيديولوجياً. ولكن في الوقت نفسه، تُشير الدراسات أيضاً إلى أن الاختلاط الواسع النطاق الذي يحدث في المدن الكبرى التي تشهد تدفقاً ضخماً من المهاجرين الدائمين وشبه الدائمين، مثل تونس والقاهرة، يهيئ آفاقاً جديدة للتفاعلات الاجتماعية التي لم نشهدها من قبل. وبذلك يمكن لهذه الأماكن أن تستخدم كمناطق لحشد جهود الشتات على نحو أكثر تنسيقاً في المستقبل.

التحويلات السياسية والعوامل المؤثرة

تكشف مجموعة الدراسات الواردة هنا عن طائفة متنوعة من الطرق المختلفة التي تشهد من خلالها الجاليات العراقية والليبية واليمنية في الشتات تحولاً سياسياً وثقافياً، إضافةً إلى التحول الاقتصادي. وهذا يشمل أشكالاً يغلب عليها الطابع التقليدي من نشاط الشتات في حالات الصراع، بما في ذلك الجهود الرامية إلى توجيه المساعدات الإنسانية إلى المجتمعات المحلية في الوطن الأم، وممارسة الضغوط على الحكومات الأجنبية، علاوةً على مجموعة متنوعة من الأشكال الجديدة من النشاط والمشاركة السياسية. وكما يُبين المؤلفون، فقد تضمن نشاط الشتات الجديد منذ عام 2011 جهوداً مختلفة لتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان، وتسجيلها، والسعي إلى تحقيق العدالة بشأنها من خلال المشاركة العابرة للحدود الإقليمية، وربط الدول المضيفة والأوطان الأم بهدف نقل الموارد المادية وغير المادية، فضلاً عن أنشطة المشاركة الثقافية، بما في ذلك حماية التراث، وكذلك التبادل الثقافي والإحياء الثقافي. على سبيل المثال، توضح هدى مزيودات كيف تمكنت المجتمعات العابرة للحدود الوطنية لأعضاء الجالية الليبية في الشتات من السماح بظهور حركة إحياء للثقافة الأمازيغية عبر الإنترنت، بينما تناقش ميساء شجاع الدين سُبل تنظيم أماكن التجمعات الثقافية مثل متاجر بيع الكتب اليمنية لنقل الثقافة الوطنية في الدول المضيفة. وعلى نحو مماثل، تُشير عُلا كاظم إلى أشكال جديدة من جهود التعبئة التي تضم أعضاء من جميع الطوائف منذ عام 2014 بغرض حماية التراث الثقافي العراقي.

بيد أن ما تشير إليه الدراسات أيضاً هو المجموعة المعقدة من العوامل التي تؤثر على متى وأين يُمكن تعبئة جهود أفراد الشتات وأنواع التعبئة التي يختارون الاضطلاع بها. والواقع أن مسارات النشطاء قبل عام 2011 وبعده ليست خطية، كما يتضح من الدراسات المعروضة هنا: ففي حين أصبح البعض ممن لم يسبق لهم الحشد من أجل القضايا المتصلة بوطنهم الأم يهتمون بمراقبة الأحداث الأخيرة التي تشهدها بلدانهم الأصلية، فقد توقف الآن آخرون ممن كانوا يشاركون بنشاط في الحركات الاحتجاجية أو غيرها من أشكال المشاركة عن ممارسة نشاطهم. والواقع أن العديد من الذين غادروا منذ عام 2011، وخاصة في حالتي ليبيا واليمن، يمثلون النشطاء المؤيدين للثورة الذين أُجبروا على الهجرة إلى المنفى بسبب ديناميات الصراع؛ غير أنه بالنسبة لبعض أولئك النشطاء، لم يستمر مسار نشاطهم هذا في البلدان المضيفة. ولكن من ناحية أخرى، نجد من بين أولئك الذين غادروا بلدانهم خلال العقد الماضي، المهاجرين الذين لم يكونوا أبداً نشطاء سياسيين من قبل، ومع ذلك، يشاركون الآن في حشد الجهود من مواقعهم في المنفى. إن العوامل التي تؤثر في تعبئة جهود الشتات متنوعة إلى حد كبير، وتشمل العلاقة الحالية والمستقبلية بالوطن الأم، وجيل الهجرة، وتشكيل الفرص السياسية المتعددة السياقات والمواقف، وجميعها تتداخل بطرق معقدة.

تبين العلاقة بالوطن، سواء القائمة، أو المتصورة، أو المتوقعة، أو المنشودة، إلى حد كبير ما إذا كان أولئك الذين يعيشون في الشتات يشاركون في جهود التعبئة والسُبل التي يتم من خلالها ذلك. ففي دراستها حول الليبيين في تونس، على سبيل المثال، تُبين هُدى مزيودات كيف أن حركة المغتربين ذهاباً وإياباً ورغبتهم في العودة والاستقرار في ليبيا بمجرد أن تتحسن الأوضاع تعمل بمثابة ثغرة في جهود تعبئة الشتات: وبسبب الخوف من خلق مشاكل في المستقبل لأنفسهم عند عودتهم (بحسب النتائج التي سيؤول إليها الصراع)، يُفضل بعض الليبيين في المنفى في تونس البقاء بعيداً عن الأنظار وبالتالي تجنب المشاركة في أي شكل من أشكال التعبئة التي يمكن بوضوح اعتبارها مشاركة سياسية. غير أن توقع أو خطط العودة لا تُشكل عائقاً موحداً أمام جهود التعبئة.

فعلى سبيل المثال، تكشف الدراسة التي أجرتها عُلا كاظم حول تطور الشتات العراقي في المملكة المتحدة، كيف أن إمكانية وجود هياكل سياسية واجتماعية أكثر تشجيعاً في الوطن قد فضلت بالفعل تعبئة الشتات، وخاصة في أعقاب عام 2003 عندما بدا أن العودة ممكنة في ظل ظروف أفضل.

بيد أن أحد العوامل الثانوية التي تؤثر في العلاقة مع الوطن الأم هو جيل المغتربين في الشتات: فقد كشفت جميع الدراسات الثلاث عن أفكار ثاقبة جديرة بالاهتمام فيما يتصل بالجيل الثاني والثالث من الجاليات العراقية والليبية واليمنية في مختلف مواقع الشتات، وكيف أدت مراقبة الديناميات منذ عام 2011 إلى تغيير درجة ارتباطهم بالوطن الأم. وتماشياً مع البحوث في مناطق أخرى،15Lea Müller-Funk, “Fluid Identities, Diaspora Youth Activists and the (Post-)Arab Spring: How Narratives of Belonging Can Change Over Time”, Journal of Ethnic and Migration Studies 46(6), 2020. تكشف الدراسات الثلاث جميعها عن أن لحظات التحول المحتمل تُحدِث أثراً إيجابياً على تعبئة أبناء المهاجرين في الشتات. ولذا على سبيل المثال، شهد أبناء الليبيين الذين ولدوا في أميركا الشمالية وأوروبا شعوراً جديداً بالمواطنة والانتماء إلى الأمة الليبية في أعقاب أحداث 2011 وتحرير البلاد من قيود نظام القذافي.

وعلى نحو مماثل، شارك الجيل الثاني من العراقيين في المملكة المتحدة بحماس في جهود التعبئة أو على أقل تقدير، في تقديم الدعم المعنوي لفكرة إنقاذ الدولة العراقية في أعقاب استيلاء داعش على الموصل في عام 2014، وفشل الحكومة في الدفاع عن الأراضي العراقية. وفي المقابل، تُبين الدراسات أيضاً كيف يُمكن أن يدفع الإحباط بسبب الثورات أو التغيرات المنهجية الفاشلة أبناء الجيل الثاني والثالث من الشتات إلى قدر أقل من المشاركة في جهود التعبئة والارتباط بالهوية الوطنية. ففي حالة اليمنيين في المملكة المتحدة، على سبيل المثال، فإن عدم القدرة على العودة لزيارة البلاد نتيجة للصراع إلى جانب الشعور باليأس إزاء الوضع الذي تشهده البلاد، أدى إلى انخفاض الشعور بالارتباط وبالتالي قلة اهتمام أبناء الجيل الثاني بالمشاركة في جهود التعبئة.

بيد أنه إلى جانب العلاقة مع الوطن، تُبرهن الدراسات بوضوح تام على أن التعبئة السياسية في الشتات وطبيعة التحويلات السياسية التي تحدث تتبنى إلى حد كبير "البنية الثلاثية للفرص السياسية"،16Ali R. Chaudhary and Dana M. Moss, “Triadic Political Opportunity Structures: Re-Conceptualising Immigrant Transnational Politics”, Working Paper 129, International Migration Institute, Oxford Department of International Development, 2016. وهي السياقات السياسية المتعددة والمتأصلة للأوطان الأم، والدول المضيفة، والتفاعلات العابرة للحدود الوطنية والعلاقات الجيوسياسية بينهما. وكما تُبين الدراسات هنا، فإن البنية الثلاثية للفرص السياسية هذه تشتمل على الفضاء المدني المتاح أمام مجتمعات الشتات؛ والقدرة على التنظيم السياسي في الدول المضيفة أو عدمها؛ وإمكانية الوصول إلى النخب والبيئة التي تتقبل جميع الآراء تجاه الوطن الأم في الدول المضيفة؛ وخطر التعرض للتهديد (على الصعيدين الوطني والعابر للحدود على حد سواء) والقدرة على ممارسة القمع؛ والعلاقة بين الدول المضيفة والأوطان الأم.  على سبيل المثال، توضح ميساء شجاع الدين في دراسة حول الشتات اليمني منذ عام 2011، كيف أن مقدار الحيز المتاح لنشاط الشتات بالإضافة إلى إمكانية الوصول إلى النخب السياسية في المملكة المتحدة مقارنة بمصر، يُفسر الأشكال المختلفة للغاية لعملية التحويل التي تحدث. فبالنسبة لمجتمعات الشتات التي تعيش في المملكة المتحدة، لا يُسمح لها بممارسة النشاط السياسي فحسب، بل أيضاً يتم تنظيمه من قبل الجهات الفاعلة السياسية الوطنية التي يتاح لها المجال لتنظيم مجتمعاتها في الشتات وتتمتع بالقدرة على الوصول إلى المؤسسات السياسية البريطانية. ولكن بالنسبة لمجتمعات الشتات التي تعيش في مصر، فإن الفضاء المدني المغلق إلى جانب القيود المتزايدة على حقوق الهجرة قد ساعد على التعبئة الثقافية بدلاً من التعبئة السياسية.

وعلى نحو مماثل، أظهرت هُدى مزيودات في دراستها حول تعبئة الشتات الليبي، كيف أدى انخفاض خطر القمع العابر للحدود بعد سقوط نظام القذافي إلى زيادة مشاركة نشطاء الشتات في جهود التعبئة، ولكن في المقابل كيف نجحت تهديدات القمع الجديدة التي ظهرت في الدول المضيفة (وخاصة في تونس) في إعادة إقامة العراقيل التي تحول دون تعبئة الجهود. وفيما يتصل بهذا التغيير في خطر التعرض للقمع، تكشف أيضاً دراستها كيف أن موقف تونس تجاه ليبيا، القائم على أساس العلاقات القوية تاريخياً، والمحاولات المضنية للبقاء على الحياد طوال الصراع، أدى إلى تقييد جهود التعبئة السياسية - باستثناء الأنشطة الموجهة من خلال عمليات بناء السلام الرسمية التي تقودها الأمم المتحدة والتي تستخدم تونس كقاعدة للعمليات.

بيد أن ما تُبينه الدراسات أيضاً هو أن البنية الثلاثية للفرص السياسية لا تؤثر في جميع أبناء الشتات بالطريقة نفسها. بل على النقيض من ذلك، توضح عُلا كاظم كيف أن الموقف إزاء ديناميات الصراع يؤدي إلى خلق فرص مواتية للبعض وغير مواتية للبعض الآخر، وبالتالي تمكين جماعات أو مجتمعات شتات معينة من التحويل السياسي بينما يُحرم الآخرين من ذلك. وكما يُظهر بحثها، فإن هذه المواقف تؤثر في الروابط العابرة للحدود ونقاط الوصول، بل تؤثر أيضاً في الشعور بالانتماء والقدرة على إقامة علاقات مستقبلية مع الوطن الأم و/أو البلد المضيف. وعلى هذا النحو، على سبيل المثال، تم استبعاد أبناء الشتات الذين ينحدرون من أصول سُنية عراقية من المشاركة في إعادة إعمار العراق لأن وضعهم في إطار الديناميات الحالية في الوطن أدى إلى تعرضهم للتهميش.

ومن ثمّ، فإن الدراسات الواردة في هذه المجموعة تسهم في زيادة فهم العوامل المتعددة الأوجه التي تؤثر في التعبئة السياسية للشتات وأنواع التحويلات غير الاقتصادية التي تحدث، بدءاً من العوامل الهيكلية السياسية المتعددة التي تُمثل فرص أو قيود تحول دون العمل الفعال، وانتهاءً بالطريقة الذاتية التي تتطور من خلالها الهوية والمجتمع والعلاقة مع الدول المضيفة والأوطان الأم، وتتحول مع تحول الديناميات السياسية.

تأثير الشتات ودوره في بناء السلام

بالطبع ليس الشتات الناتج عن الصراعات دائماً جهات فاعلة محتملة في عمليات بناء السلام؛ بل على العكس، يمكن أن يقوم الشتات بالحشد بطرق تعزّز ديناميات الصراع في الوطن17Fiona B. Adamson, “Mechanisms of Diaspora Mobilization and the Transnationalization of Civil War”, in Jeffrey T. Checkel (ed) Transnational Dynamics of Civil War, Cambridge: Cambridge University Press, 2013. أو أن يعملوا كجهات إفساد18Yossi Shain and Ravinatha P. Aryasinha, “Spoilers or Catalysts? The Role of Diasporas in Peace Processes”, in Edward Newman and Oliver Richmond (eds) Challenges to Peacebuilding: Managing Spoilers during Conflict Resolution, Tokyo: United Nations University Press, 2006. لعملية السلام. ولكن لأغراض البحث الذي نجريه هنا، استقصى مؤلفو البحث تحديداً كيف تقوم مجتمعات الشتات - التي استقصوها - في الوقت الحالي بالحشد لأهداف بناء السلام أو المصالحة أو إعادة الإعمار في الأوطان، وما الإمكانيات المتاحة لزيادة حشد الشتات في تلك الجهود. عبر كثير من المقابلات، وجد مؤلفو البحث أن مبدأ "لا ضَرَر" يشير، جزئياً على الأقل، إلى استعداد أفراد الشتات للانخراط في الحشد من أجل الوطن. وبالتالي تشرح، مثلاً، ميساء شجاع الدين كيف أن الخشية من تفاقُم الصراع تمثل عائقاً أمام الحشد والتعبئة في أوساط المغتربين اليمنيين في المملكة المتحدة. وبالمثل، كما توضح علا كاظم، فإن تراجع الثقة في النخبة السياسية العراقية، لا سيما بعد فشل الحكومة في الدفاع عن أراضي البلاد في العام 2014، قد صرف جهود التعبئة والحشد عن المجال السياسي، لتنصبّ بدلاً منه على دعم المجتمع المدني وقطاع العمل الخيري. في الواقع هناك موضوع متكرر في الدراسات الثلاث في هذه المجموعة، وهو جهود الشتات في توجيه الإغاثة الإنسانية وسد الفجوات المعلوماتية، كوسيلة لمعالجة الصراع دون التفاعل المباشر مع المجال السياسي.

غير أن جهود التعبئة وأفعال التحويل السياسي لغرض إعادة بناء الأمة أو الدولة هي جهود تقع داخل مجتمعات الشتات التي نتناولها هنا في الدراسات، ويمكن بالفعل ملاحظة أشكال مختلفة للتأثير. أحد الموضوعات التي تبرز هنا هو إعادة صياغة مفهوم الأمة وأسس الانتماء، والتي تظهر خلال عملية التحويل السياسي لدى مجتمعات الشتات. على سبيل المثال، في دراستها حول الشتات الليبي تُصوّر هدى مزيودات كيف أن بناء مجتمعات افتراضية عبر الإنترنت تربط أفراد الشتات عبر مجموعة مختلفة من المواقع المضيفة يتيح ويسمح بتوسيع المجتمع الليبي المُتخيل وتوسيع أفق ما يعنيه "أن تكون ليبيّاً". وكما أوضحَت، فإن هذه التدفقات متعددة الاتجاهات للتحويل لم تُتِح فقط ظهور عملية إحياء الهوية الأمازيغية الليبية العابرة للحدود، وإنما أسهمت أيضاً في زيادة الالتزام من جانب المستمعين المنفردين في السابق ببناء ليبيا أكثر مساواة وحرية في المستقبل.

وبالمثل، تكشف علا كاظم كيف أقيمت منظمات جديدة في المملكة المتحدة، وتفاعلت مع أوساط الجماهير البريطانية والعراقية من أجل دعم الحركات المدنية والشبابية عام 2019 في العراق، طارحة رؤية وطنية جديدة ذات أصداء واضحة لعراق مناهض للطائفية، وصارت هي الرؤية المفضلة لدى المتظاهرين في الداخل.

فيما تناقش ميساء شجاع الدين ظهور تيارات داخل الشتات اليمني لدعم تشكيل رؤية جديدة للدولة وإعادة التفكير في الهوية اليمنية إضافة إلى أنماط الحشد والتعبئة الثقافية التي تحدث دعماً لهذه الأفكار. وبهذه الطريقة، تسهم تفاعلات الشتات، سواء عبر مجتمعات المغتربين أو مع أولئك الذين ما زالوا في الوطن، في إعادة التفكير في معنى أن يكون المرء "ليبيّاً" أو "عراقيّاً" أو "يمنيّاً"، والأسس التي يجب أن تقوم عليها الدولة القومية في المستقبل.

إضافة إلى ذلك، فإن الدراسات المطروحة هنا كلها تصوِّر كيف تسهم جهود التعبئة بالشتات في عمليات بناء السلام في المسارين الأول والثاني، ولكنها أيضاً تبرز كيف تسعى الجهات الفاعلة في الشتات إلى تحقيق العدالة بشأن الجرائم المرتكبة خلال النزاع. فالدراسة حول الشتات الليبي واليمني، على سبيل المثال، تؤكد كيف يتم دمج الجهات الفاعلة بالشتات في عملية بناء السلام الرسمية، من خلال مشاركتهم في الحوار والعمليات الاستشارية. وربما الأهم من ذلك أن هذه الدراسات تصور كيف تسهم منظمات الشتات في جهود السعي نحو تحقيق العدالة، على الرغم من غياب عمليات رسمية للعدالة الانتقالية حتى اللحظة.

ففي حالة الشتات الليبي، على سبيل المثال، لا تقوم مؤسسات الشتات مثل منظمة "محامون من أجل العدالة في ليبيا" بأنشطة حقوقية فحسب، بل تطرح أيضاً - في المجال العام العابر للحدود - خطاباتٍ ترتكز على قيمة العدالة، وذلك من أجل تشكيل طريقة تفكيرنا حول القضايا المرتبطة بالعدالة في الحالة الليبية. بالمثل، تكشف الدراسة حول الشتات العراقي دوراً حاسماً يلعبه النشطاء في المملكة المتحدة من أجل رفع الوعي، في مجال عام أجنبي صامت إلى حد كبير، حول الجرائم التي ترتكبها الدولة ضد المتظاهرين المطالبين بالتغيير داخل الوطن. بهذه الطريقة، يسهم الشتات في فهم أوسع للانتهاكات ومطالب العدالة في الحالة العراقية، بما يتجاوز الجرائم البارزة والقضايا الجنائية الدولية المتعلقة بتنظيم داعش. تمثل هذه الإجراءات سعياً نحو العدالة من منظور الشتات بعضَ أكثر الطرق ابتكاراً التي يُسهم من خلالها الشتات العربي في تقديم الحقيقة وإنجاز المصالحة في عهد ما بعد 2011.

آفاق المستقبل

تكشف الدراسات الثلاث في هذه المجموعة عن العقبات الهائلة التي تواجه آفاق زيادة جهود تعبئة وحشد الشتات من أجل إعادة الإعمار والتجديد السياسي في الوطن. إن عملية الاستقطاب السياسي، وتزايد انعدام الثقة في أوساط الشتات، مع غلق الفضاء المدني وتراجع القدرات التشغيلية للمنظمات القائمة في الشتات، وتضاؤل وتناقص مشاعر  الانتماء نتيجة تطور ديناميات الصراع – كلها تمثل سمات مشتركة تعوق عملية تعبئة سياسية أكثر صراحة وقوة.

غير أن هذه الدراسات، مع ذلك، تؤكّد أن هناك فرص معينة للاستفادة من الموارد المتعددة لدى الشتات العراقي والليبي واليمني. فيمكن للتعبئة حول قضايا ليست ذات صبغة سياسية صريحة، مثل إعادة البناء على المستوى المجتمعي - عبر خطوط للناشطين متعدية للطابع المحلي - إضافة إلى حماية التراث الثقافي، أن تمثل وسيلة لزيادة انخراط الشتات، وهو ما يعتبر تغلّباً على الانقسامات وإسهاماً هادفاً أيضاً في إعادة بناء ساحات الوطن. علاوة على هذا، يمكن لهذه الإجراءات أيضاً أن تصبح ركائز في جهود المصالحة على المستوى المحلي،19انظر على سبيل المثال: مع عملها أيضاً على التغلب على بعض العقبات المحتملة التي تفرضها البنية الثلاثية للفرص السياسية.

وبالمثل، فإن مجال العدالة الانتقالية وإجراءات البحث عن الحقيقة هي أيضاً مجالات لدى جماعات الشتات الكثير لتقدمه وتسهم به فيها، ويمكنها بالفعل تحقيق مكاسب مهمة، نظراً لتعدد نقاط الوصول لديها، إضافة إلى القدرة على الارتباط بساحات الوطن، وما لديها من آليات قضائية مختلفة.20انظر أيضاً: إن النجاح الأخير الذي حققه النشطاء السوريون بالشتات في السعي نحو تحقيق العدالة الانتقالية من خلال الآليات الأوروبية يعتبر مثالاً مفيداً فيما يتعلق بنوع المنظومة التي يمكن إنشاؤها لكي تؤتي مثل تلك الجهود ثمارها.21انظر أيضاً:

في الواقع، كما خلصت هذه الدراسات هنا، فإنه من أجل حدوث تضخيم في الحشد والتعبئة، لا بد من زيادة القدرات التشغيلية لجماعات الشتات. فبينما تحاول بعض هذه المجموعات اليوم العثور على طرق للالتفاف والتغلّب على إغلاق الفضاء المدني أو تراجع فرص التمويل، تتطلب الاستفادة من أبناء الشتات في عملية بناء السلام وإعادة الإعمار مزيداً من التنسيق التشغيلي والمزيد من المهارات التنظيمية.

ويقدم مؤلفو الدراسات الواردة في هذه المجموعة طائفة متنوعة من الطرق التي يمكن من خلالها تحقيق هذا الأمر، ومنها الشراكة مع منظمات أخرى وخلق هياكل شاملة. ولكن بعيداً عن الحشد المنظم والمتعمَّد لأغراض بناء السلام والتأثير السياسي في الوطن، فإن ما تعرضه هذه الدراسات هو أن التحويلات السياسية تقع بعدة أشكال واتجاهات مختلفة. وبينما يتم بالفعل توجيه بعض هذه التحويلات السياسية تجاه الوطن، هناك تحويلات أخرى توجَّه بدلاً من ذلك عبر فضاءات الشتات وفي داخل البلدان المضيفة. أسهمت التحوّلات التي وقعت في مجتمعات الشتات العربية منذ العام 2011 في تبادل الأفكار والممارسات والمعايير السياسية الجديدة. ونظراً لأن من الأرجح أن تستمر خلال السنوات القادمة عملية التشتيت التي تعرّض لها سكان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإن فهم كيفية تأثير التحويلات السياسية المتنوعة في الوطن والبلدان المضيفة علاوة على مجتمعات الشتات نفسها يفتح آفاقاً جديدة لأجندة بحثية مستقبلية.

Jennifer M. Brinkerhoff, ed, Diasporas and Development: Exploring the Potential, Boulder, CO: Lynne Rienner Publishers, 2008;

وأيضاً: مريم مزغني مالوش وسونيا بلازا وفاني سالساك، "حشد جهود المغتربين من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من أجل تحقيق التكامل الاقتصادي وريادة الأعمال"، البنك الدولي، 2016.

https://documents1.worldbank.org/curated/en/205691490640562635/pdf/111806-REVISED-ARABIC-PUBLIC.pdf

Eva Pföstl, “Diasporas as Political Actors: The Case of the Amazigh Diaspora”, In Peter Seeberg and Zaid Eyadat (eds) Migration, Security, and Citizenship in the Middle East, New York: Palgrave Macmillan, 2013;

Jennifer Skulte-Ouiass and Paul Tabar, “Strong in their Weakness or Weak in their Strength: The Case of Lebanese Diaspora Engagement with Lebanon”, Immigrants and Minorities: Historical Studies in Ethnicity, Migration and Diaspora 33(2), 2015;

Stephen Syrett and Janroj Yilmaz Keles, “Diasporas, Agency, and Enterprise in Settlement and Homeland Contexts: Politicised Entrepreneurship in the Kurdish Diaspora”, Political Geography 73, 2019;

Maria Koinova, Diaspora Mobilization for Palestinian Statehood, In M. Koinova Diaspora Entrepreneurs and Contested States, Oxford: Oxford University Press, 2021.

Ofra Bengio and Bruce Maddy-Weitzman, “Mobilised Diasporas: Kurdish and Berber Movements in Comparative Perspective”, Kurdish Studies 1(1), 2013;

Maria Koinova, “Diaspora Coalition-Building for Genocide Recognition: Armenians, Assyrians and Kurds”, Ethnic and Racial Studies 29(11), 2019.

Dana M. Moss, “Transnational Repression, Diaspora Mobilization, and the Case of The Arab Spring”, Social Problems 63(4), 2016;

Dara Conduit, “Authoritarian Power in Space, Time and Exile”, Political Geography 82, 2020.

Elise Féron and Bruno Lefort, “Diasporas and Conflicts: Understanding the Nexus”, Diaspora Studies 12(1), 2019.

Claire Beaugrand and Vincent Geisser, “Social Mobilization and Political Participation in the Diaspora during the ‘Arab Spring’”, Journal of Immigrant and Refugee Studies Vol.14 No.3, 2016.

Félix Krawatzek and Léa Müller-Funk, “Two Centuries of Flow between ‘Here’ and ‘There’: Political Remittances and their Transformative Potential”, Journal of Ethnic and Migration Studies 46(6), 2020.

Iraqi Migration to Europe in 2016: Profiles, Drivers, and Return, 2017. Available at https://reliefweb.int/sites/reliefweb.int/files/resources/reach_irq_grc_report_iraqi_migration_to_europe_in_2016_june_2017%20%281%29.pdf

Ataa Alsalloum and Andre Brown, “Towards a Heritage-Led Sustainable Post-Conflict Reconciliation: A Policy-Led Perspective”, Sustainability 11(6), 2019.

Noha Aboueldahab, “Innovation in Transitional Justice: Experiences from the Arab Region”, Brookings Doha Center, 2020. Available at https://www.brookings.edu/opinions/innovation-in-transitional-justice-experiences-from-the-arab-region/.

وللاطلاع على أمثلة من خارج منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، انظر على سبيل المثال:

Camilla Orjuela, “Mobilising Diasporas for Justice. Opportunity Structures and the Presencing of a Violent Past”, Journal of Ethnic and Migration Studies 44(8), 2018.

Espen Stokke and Eric Wiebelhaus-Brahm, “Syrian Diaspora Mobilization: Vertical Coordination, Patronage Relations, and the Challenges of Fragmentation in the Pursuit of Transitional Justice”, Ethnic and Racial Studies 42(11), 2019.

Endnotes

Endnotes
1 انظر على سبيل المثال:
2 انظر على سبيل المثال:
3 انظر على سبيل المثال:
4 للاطلاع على المزيد حول الظروف التي يتعرض فيها المغتربون للقمع العابر للحدود الوطنية والتعبئة ضد الأنظمة الاستبدادية، انظر:
5 Benedict Anderson, “Long Distance Nationalism”, In The Spectre of Comparisons: Nationalism, Southeast Asia and the World, London: Verso, 1998.
6 Bahar Basar and Amira Halperin, “Diasporas from the Middle East: Displacement, Transnational Identities and Homeland Politics”, British Journal of Middle Eastern Studies Vol.46 No.2, 2019;
7 Philippe Fargues, “Mass Migration and Uprisings in Arab Countries: An Analytical Framework”, International Policy Development 7, 2017.
8 اطلع أيضاً على:
9 Melissa Finn and Bessma Momani, “Established and Emergent Political Subjectivities in Circular Human Geographies: Transnational Arab Activists”, Citizenship Studies 21(1), 2017;
10 Alice Alunni, “Long-Distance Nationalism and Belonging in the Libyan Diaspora (1969-2011)”, British Journal of Middle Eastern Studies, Vol. 46 No.2, 2019.
11 Oula Kadhum, “Ethno-Sectarianism in Iraq, Diaspora Positionality, and Political Transnationalism”, Global Networks Vol 19. No.2, 2019.
12 Mohammed Sharqawi, “Dire et faire communauté en diaspora. Le cas de l’immigration yéménite en Angleterre (1950-2015)”, Unpublished Dissertation, Paris: Ecoles de hautes études en sciences sociales, 2020.
13 اطلع أيضاً على:
14 Elise Féron, “Transporting and Re-inventing Conflicts: Conflict-Generated Diasporas and Conflict Autonomisation”, Cooperation and Conflict 52(3), 2017.
15 Lea Müller-Funk, “Fluid Identities, Diaspora Youth Activists and the (Post-)Arab Spring: How Narratives of Belonging Can Change Over Time”, Journal of Ethnic and Migration Studies 46(6), 2020.
16 Ali R. Chaudhary and Dana M. Moss, “Triadic Political Opportunity Structures: Re-Conceptualising Immigrant Transnational Politics”, Working Paper 129, International Migration Institute, Oxford Department of International Development, 2016.
17 Fiona B. Adamson, “Mechanisms of Diaspora Mobilization and the Transnationalization of Civil War”, in Jeffrey T. Checkel (ed) Transnational Dynamics of Civil War, Cambridge: Cambridge University Press, 2013.
18 Yossi Shain and Ravinatha P. Aryasinha, “Spoilers or Catalysts? The Role of Diasporas in Peace Processes”, in Edward Newman and Oliver Richmond (eds) Challenges to Peacebuilding: Managing Spoilers during Conflict Resolution, Tokyo: United Nations University Press, 2006.
19 انظر على سبيل المثال:
20 انظر أيضاً:
21 انظر أيضاً:

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.