مُلخّص
نزوحٌ وتشرذُم وحرمانٌ من الجنسيّة وتحوُّلات كبرى في علاقات القوى: تلك هي أبرزُ الصفات التي تعرِّف الشتات الفلسطيني وتَحول دون قدرة أفراده على التواصل فيما بينِهم ومع وطنهم الأمّ. تُناقش هذه الورقة البحثيّة إشكاليّة العلاقة بين فلسطينيّي الشتات وبلدِهم الأمّ، وكيفيّة تشكُّلها بفعل الاستعمار الاستيطاني والعَولمة. كذلك تؤثِّر عمليَّة تكوين الشتات (diasporisation) على ديناميّات القوّة بين الفلسطينيّين، وهو ما تجلَّى في انتِقال مركِز ثقل السياسة الفلسطينيّة إلى الأراضي المُحتلّة، والتهميشِ المتزايِد لفلسطينيّي المهجَر، لاسيَّما المُقيمين في الدوَل العربيّة المجاوِرة. كما تتناوَل دراستَنا نشأةَ النخبة الفلسطينيّة في دوَل الشتات، وما تُمارسه من تأثير في الديناميّات الداخليّة المحرِّكة لعمليّة بناء الدولة، مع الإشارة بصفةٍ خاصّة إلى مُحاوَلات تعبئة “المغتربين الفلسطينيّين” المتزايدة، بهدف تعزيز مشاركتِهم في التنميَة الاقتِصاديّة وعمليّات بناء الدوْلة.
اقرأ المزيدتُركّز الدراسة على مشاركة الجاليات الفلسطينية في المَهجر – والتي يُطلق عليها اصطلاحًا "الشتات" – في عمليّة بناء الدولة، وهي تَطرح في هذا الإطار تساؤلَين مِحوَريّين: كيف يَنخرط فلسطينيّو الشتات في عمليّة بناء الدولة؟ وإلى أي مدى يَلعب بناء الدولة دورًا في صياغة عمليّة "تكوين الشتات"؟ ثمّة افتراضٌ أساسيٌّ يقضي بأن التزام مُجتمعات الشتات إزاءَ وطنِها الأمّ يؤثِّر على علاقات القوى بين الفلسطينيّين – ويُحدث تغييرًا في السرديّة القوميّة الفلسطينيّة –، وذلك ضمنَ سياقٍ أوسعَ من الخضوع الدائم لسياسات الاستِعمار الاستيطاني الإسرائلي. وقد تناوَلت العديدُ من الدراسات حجمَ الشتات الفلسطينيّ – ومن ثمّ حجمَ الظاهرة وأهميَّتَها السياسيّة – من وُجهاتِ نظَرٍ مُختلِفة، مستعرضةً الأدبيّاتِ والنقاشات النظريّة ذاتِ الصلة بالشتات الفلسطيني، بما يتجاوَز نطاقَ دراستِنا.
حيث آثرنا في دراستِنا هذه تسليطِ الضوء على نشأة نُخب فلسطينيّة عبرقومية ومعوْلمة، باتت مع مرور الوقت قادرةً على العمل والاغتِناء في الأراضي الفلسطينيّة المحتلة. ويَختلف أبناءُ النخَب عن بَني جِلدتِهم من اللاجئين، إذ تظلُّ علاقتُهم ببلدِهم الأم، حيثُما توجد، محكومةً بالرغبة في العودة . وفي حين تشكِّل هذه النخبُ نسبةً متواضعة من الشتات الفلسطينيّ، إلّا أنّ نفوذَها الاقتِصاديّ مكنَّها من الإمساك بدفَّة عمليّة بناء الدوْلة نحوَ الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، فضلاً عن تيْسير مشاركة الاقتِصاد الفلسطينيّ في العوْلمة النيوليبراليّة. وتتبنّى تلك الدراسةُ مقارباتِ الاقتِصاد السياسي، التي تسلِّط الضوء على علاقات القوى المتغيِّرة بين شرائح المجتمَع الفلسطيني.
في القسم الأوَّل من دراستِنا، نُعطي لمحةً عامّة عن الإشكاليّة المحيطة بالنقاشات الأكاديميّة المثارة حول الشتات الفلسطينيّ. ويقدِّم القسمان الثاني والثالث تحليلاً نقديًا لتشكُّل نُخب المغتربين الفلسطينيين المشارِكة في عمليّة بناء الدولة قبل وبعد عام 1993. ويَعرض القسم الرابع أنماطَ المشاركة الجديدة التي سلَكها فلسطينيّو المَهجر بعد تراجع دوْر منظّمة التحرير الفلسطينية، والتي تتجاوز في نطاقها عمليّات بناء الدولة القائمة في الأراضي الخاضِعة للسلطة الفلسطينيّة. وأخيرًا، يتناوَل القسم الخامس السياسات الرامِية إلى حشدِ وتعبئة "المغترِبين" الفلسطينيّين في إطار رؤية السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة لبناء الدولة.
أوّلًا - الإشكاليّة المحيطة بقضيّة "الشتات" الفلسطينيّ
على مَدى عدّة عقود، أصبحَ مَفهوم الشتات محوريّاً في خطاب العلوم الاجتماعيّة الذي يُحاول "مناقشةَ وفهم، ليس الحراكَ البشريَّ فحسب، ولكن أيضًا علاقتَه بالتدفُّقات عبر القوميّة للأموال والسِّلَع والمنتَجات الثقافيّة والأيديولوجيّات، بوصفِها جزءًا لا يتجزّأ من ظاهِرة العوْلمة الأوسع والأشمل" . ويَعكس ذلك "الطبيعة المتغيِّرة لعمليّات – بل وتجاربَ – النزوح والتهجير والتنقُّل والاستيطان التي ميَّزت التجمُّعات البشريّة" . لذلك تولي الدراسات المتزايدة المعنيّة بالشتات اهتمامًا كبيرًا للقضايا الخاصّة ببناء المجتمعات عبرالحدوديّة، والمشاعرِ المتعلِّقة بالانتِماء والهويّات المجزَّأة، إضافةً إلى أوْجهِ العلاقات بين أفراد الشتات ووطنِهم الأمّ والدول المضيفة. وقد تناول الباحثون جيّدًا مدى إمكانية وأهمية إسقاط هذا المفهوم على الحالة الفلسطينية.
لا يُعدُّ مصطلح الشتات محايدًا على الصعيدين السياسي والمَعرفي ، ويرتبط استخدامُه بوفرةٍ من قِبل الباحثين بمجال ناشئ من البحوث لا يُعنى بشكل مباشر بسياسات الاستِعمار الاستيطاني الإسرائلي أو بمعركة التحريرالفلسطينية. بل كان تحليلُ الشتات الفلسطينيّ غالبًا ما يتمُّ في إطار أعمال بحثيّة أوسعَ نطاقًا عن المواطنة والهويّة والثقافة. تلك النقلة النوعيّة، كما سيتبيّن لنا في السطور التالية، ما هي إلا نتاج مباشر لآخر التطوُّرات التي شهدتها السياسة الفلسطينيّة، والديناميّات الاقتصاديّة والاجتماعيّة المحرِّكة لها. ولئن كان مفهوم الشتات غيرَ كاف وحدَه لتفسير التجربة الفلسطينيّة بأسرها، إلّا أنّه من المفيد دراسة العمليّة المعياريّة التي تقودُ إلى إعادة صياغة العلاقات بين "الداخل" و "الخارج"، وتكييف تلك العلاقات مع عمليّة العوْلمة.
تشير التقديرات إلى أنّ نحو 50% من الفلسطينيّين يعيشون في المهجر ؛ حيث يعيش 5.59 مليون فلسطينيّ في الدول العربية (44%) وحوالي 700 ألف (5.5%) حول العالم، بينما يعيش 4.88 مليون (38.4%) في الضفة الغربية وقطاع غزّة، و 1.53 مليون (12.1%) داخلَ الخطّ الأخضر من حاملي الجنسية الإسرائيليّة . وتتألّف غالبيّةُ الجاليات الفلسطينيّة في الخارج من اللاجئين الذين غادروا البلاد إثر نكبة 1948 . وتَعكس موجات التهجير القسريّ المتعاقبة التي تعرّض لها الفلسطينيّون، سواءً من أرضهم أو من الدول المضيفة، هشاشة أوضاعِهم داخل وخارج فلسطين. وقد تأثَّر التوزيع الجغرافي للشتات الفلسطينيِّ حول العالم بعدّة عوامل، منها الحرب والاعتداءات على مخيَّمات اللاجئين، والسياسات التمييزيّة التي تمارَس عليهم في الدول المضيفة، وصعود منظَّمة التحرير الفلسطينيّة وثم اضمِحلالها، هذا ناهيك عن عوامل أخرى اجتماعيّة واقتصاديّة.
نتجَ عن ذلك تعرُّض الفلسطينيّين لظروف ثقافيّة واجتماعيّة وسياسيّة مُتبايِنة ، واكتسابُهم حقوقًا مدنية وأوضاعًا قانونية مختلفة، ما أعاق قدرتهم على الحركة والتواصل فيما بينهم ، ومع وطنهم الأم. زاد التضييق الإسرائيلي عليهم الأوضاع سوءًا، إذ يصل في أغلب الأحيان إلى حدّ المنع التامّ من دخول البلاد. وفي أعقاب اتفاقيّة أوسلو ، لم يغيِّر قيامُ السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة وإحياء المواطنيّة الفلسطينيّة رسميّاً من الواقع في شيء؛ فلا تزال إسرائيل تُسَيطر على الحدود وتَحتكر منحَ حقوق الإقامة الدائمة في الأراضي المحتلّة. ورغم أن اللاجئين الفلسطينيين من حاملي جوازات السفر الأجنبية يُمكنهم عمليًّا دخول البلاد باعتبارهم أجانبَ بعد الحصول على تأشيرة سياحة إسرائيلية لمدة ثلاثة أشهر، إلا أنَّهم يتعرَّضون باستمرار للمضايَقات والمنع التعسُّفي من الدخول بسبب أصولهم الفلسطينية.
وقد كان لاتفاقية أوسلو أثرًا بالغًا في تغيير مجرى النضال الوطنيّ، وتفتيتِ طموحِ الفلسطينيين السياسي وخطابهم واستراتيجيّاتهم. كما تزداد علاقة الفلسطينيّين بوطنهم الأم سوءًا من جراء الاستيطان وتقطيعِ أوصال فلسطين التاريخيّة، وعزْل الأراضي التابعة رسميًّا للسلطة الوطنيّة الفلسطينيّة وتحويلها إلى ما يُشبه "البانتوستانات" . كما تسبَّب تقسيم الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة إلى كيانَين منفصلَين تمامًا في عام 2007، والحصار الإسرائيلي المفروض على غزّة، وتوسيع المستوطَنات الإسرائيليّة في الضفّة الغربيّة، في تضاؤل الفرص المحتمَلة لبناء الدولة.
ثانياً - بناءُ الدولة وتشكُّل النخَب في الشتات
نتج عن مِحنة الفلسطينيّين أن خرجَ من عباءة الشتات في شتّى البقاع نشطاءٌ بارزون. حيث تحالَف اللاجئون الفلسطينيّون مع أحزابٍ سياسيّة عربيّة في الخمسينيات والسنوات الأولى من ستينيات القرن الماضي، ولم يّمنعهم ذلك من المشاركة في عمليّات مسلَّحة عابرة للحدود ضدَّ أهداف إسرائيليّة. وشهدت تلك الفترة تنامي الشعور بالفخر والاعتِزاز القومي، وصاحَب هذا ظهور منظَّمات سياسيّة فلسطينيّة عمَّقت الإحساس بهويّة وطنية. في أعقاب هزيمة 1967، اتَّجهت الجماعات الفلسطينيّة المسلَّحة المتمركِزة في الدول العربية إلى تسليم منظَّمةَ التحرير الفلسطينية مقاليدَ الصراع .
منذ ذلك الحين، صارت منظَّمة التحرير الفلسطينيّة ممثِّلة عن الحركة الوطنية بمباركة شعبيّة واسعة؛ فقد كانت بمثابة "منظّمة أمّ" ينضوي تحت لوائها عددٌ هائل من الفصائل والاتِّحادات والمؤسَّسات التي تقدِّم للّاجئين الفلسطينيين خدماتٍ حيويّة ودعمًا في مجالات الصحّة والتعليم والرفاهية الاجتماعية، فضلاً عن دورها في تأمين وإدارة مخيَّمات اللاجئين. بهذا، صاحَب الكفاحَ المسلَّح ضغطٌ دبلوماسيٌّ مكثَّف.
كانت منظَّمة التحرير الفلسطينية أشبهَ بحكومةٍ في المنفى، لها "برلمان" عبروطني منتخَب (المجلس الوطني الفلسطيني) و "مجلس تنفيذي" (اللجنة التنفيذيّة). هكذا واجهت الحركة الوطنية آثار تشتُّت الفلسطينيين في أرجاء العالم بتوفير إطارٍ سياسيّ مشترَك للنضال، ليكون منبرًا للتعبير عن الطموح الوطنيّ الفلسطينيّ وتلبيَته . أسفرَت تلك العمليّة عن ظهور قيادة سياسيّة فلسطينيّة حديثة العهد، استطاعت إحكامَ سيطرتِها على المشهد السياسيّ الفلسطينيّ في الأراضي المحتلَّة منذ عام 1993.
على صعيد آخر، أثَّرت التطوُّرات الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي طرأت على المشهد الإقليميّ في تلك الفترة بدورِها على بنيَة الشتات الفلسطيني. حيث أدّى الارتفاع الحادُّ في صادرات البترول، الذي شهدَه الخليج العربي من الستينات وحتى ثمانينات القرن الماضي، إلى الإسراع في وتيرة التحوُّل الصناعي والتوسُّع الحضَري في دوَل الخليج، ومن ثَمَّ إلى توفير منافذ جديدة للعمالة في منطقة الشرق الأوسط. أدّى ذلك إلى هجرة مئات آلاف الفلسطينيين من الدوَل العربية والضفة الغربيّة وقطاع غزة إلى دوَل الخليج العربيّ للعمل في المشاريع الإنشائيّة والصناعيّة، بالإضافة إلى عملِهم في التدريس والهندسة والوظائف الحكوميّة المتوسطة .
هكذا تشكَّلت في دول الخليج العربي، خاصةً الكوَيت والمملكة العربية السعودية والإمارات وقطر، مجتمعاتٌ جديدة من الفلسطينيين من أبناء الطبقتَين الوسطى والعليا، نتجت عنها نخبةٌ وليدة من رجال الأعمال والسياسة والثقافة. ورغم أنَّ عددَهم لم يكن يتجاوَز مئات الآلاف، إلا أنّ تأثيرهم امتدَّ في أوساط الفلسطينيّين خارج وداخل الأراضي المحتلَّة. وقد شكَّلت تحويلات العاملين في دول الخليج مصدرًا هامًا للدخل لذويهم في المهجر ولمنظمة التحرير الفلسطينية، كما شكَّلت دول الخليج بيئةً مؤاتية لتراكم رؤوس الأموال الفلسطينيّة.
قُبَيل تلك الفترة، كان الفلسطينيون ينتقصون إلى الفرَص الاجتماعية والاقتصادية التي تمكِّنهم من ترسيخ رؤوس أموالهم في وطن بِعيْنه، لذا نما رأس المال الفلسطينيّ في كنف رأس مال عربيٍّ أوسع نطاقًا، يتركز على الأخصّ في منطقة الخليج. ويَنطبق هذا التوصيف بصفة خاصّة على شريحة صغيرة من أبناء الطبقة العليا الذين أتاح لهم وضعُهم الاستِفادةَ من التراكُم السريع لرؤوس الأموال حول قطاع البترول في بدايَة الطفرة؛ لذلك هُمِّش رأس المال الفلسطيني رغم حجمِه، لصالح رؤوس الأموال المحلّيّة، وأُجبِر على النموِّ كقطاع تابع. وكانت قد صدرت في دول الخليج، بدءًا من الستينيات، سلسلةٌ من المراسيم التي تَدعم المستثمرين المحليّين على حساب الوافِدين. وتزامَنت تلك الإجراءات مع تعرُّض مِنطقة الخليج لانخِفاضٍ في عائدات البترول وتباطؤ اقتِصادي، ممّا أدّى إلى تشديد القيود على العمالة الوافدة وأسرها .
علاوَةً على ذلك، قادت الاضطرابات السياسية التي سادَت العالم العربيّ خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي إلى تقليص هامشِ المناوَرة الذي كان متاحاً في السابق لدى النخبة الاقتصاديّة الفلسطينيّة. إذ باتت بعضُ الحكومات العربيّة ترى في الفلسطينيين تهديدًا على أمنِها القوميّ، وهو ما جعلهم عرضةً للتنكيل السياسي والتضييقات وسحبِ حقّ الإقامة في بعض الدول العربية . إلا أنَّ تلك النخب كانت تفتقِر إلى قاعدة إقليميّة تمكِّنها من إعادة أموالِها إلى الوطن وتأمين حقوق المُلكيّة الخاصة بها.
أدركت النخب إذًا هشاشة أوضاعِها، وسارعت إلى البحث عن ملاذ آمن خارج المنطقة العربيّة، وإلى توطيد علاقتِها بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية عبرَ إمدادها بالدعم والمهارات الإداريّة اللازمة. بتلك الإجراءات، سعى فلسطينيّو الشتات إلى التغلّب على المخاطر الناجِمة عن انعِدام الجنسيّة، وخلق قَنوات جديدة لاستغلال تأثير الشتات المُتنامي على السياسة الفلسطينيّة. كما نجحَت النُخب في لعبِ دَور همزة الوصل مع الأُسر الحاكِمة والثريّة في الخليج، وعملت جاهِدة على "تحقيق التوافُق مع الرؤى الأمريكيّة الداعِيَة إلى حلِّ الدولتَين والاعتِراف الفلسطينيِّ بإسرائيل" .
ثالثاً- الاندِماجُ الاقتِصادي الإقليميِّ ودورُه في عمليَّة بناء الدولة
بدأت العلاقات بين فلسطينيّي "الخارج" و"الداخل" تأخذ منحىً مختلفًا عقبَ نكسة 1967 والاحتِلال الإسرائيليّ للضفّة الغربيّة وقطاع غزة. ففي الوقت الذي ظهر فيه الفلسطينيّون كلاعِبين أساسيّين على الصعيدَين الإقليميّ والدوليّ، كانت قدرتُهم على خوضِ كفاحٍ مسلّح ضدَ إسرائيل تتقلَّص تدريجيًّا. وقد أدّى نفيُ إسرائيل لمنظّمة التحرير الفلسطينية من الأراضي المحتلَّة، وطردُها من الأردن عام 1971 ثمَّ من لبنان عام 1982، إلى إصابة فلسطينيّي المهجر يومًا بعد يوم بالشلَل والجمود. هكذا باتت مسألةُ قيام الدولة، وليس تحرير فلسطين بالكامل، هي شغلُ الفلسطينيّين الشاغل؛ إذ إنَّ خلاصَهم من الضغوط والتهديدات الخارجيّة لن يأتي دونَ نشوء قاعدةٍ إقليميّة مستقلَّة يَحتمون بها .
كان اندلاعُ احتجاجات يومِ الأرض الفلسطينيّ عام 1976 في إسرائيل والانتِفاضة الفلسطينيّة عام 1987 في الأراضي المحتلّة إيذانًا بانتِقال الصراع إلى الداخل. كما نتجَ عن اتفاقيّات أوسلو المُبرَمة عام 1993 وقيامِ السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة في المناطق الخاضعة لحكم ذاتي فلسطيني تهميشُ فلسطينيّي المهجر، لا سيِّما لاجئي المخيَّمات . في واقع الأمر، كان من أبرز آثار عمليّة أوسلو تدهورٌ مستمرٌّ لمؤسَّسات منظمة التحرير الفلسطينية، واستئثارُ جهاز السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة بعمليّة صنع القرار السياسي.
تزامن ذلك مع عَودة عشرات آلاف المقاتلين السابقين، بالإضافة إلى أعضاءِ جهاز منظَّمة التحرير الفلسطينيّة التنفيذي والبيروقراطي، الذين سمحت لهم السلطاتُ الإسرائيليّة بالبقاء مع أُسرِهم في الأراضي المحتلَّة. وقد التحم هؤلاء العائدون مع النخَب المحلِّيّة ليشكِّلوا قاعدةً اجتماعيّة للسلطة الوطنيّة الفلسطينية. بحسب غينيار (Guignard)، يشير الاستخدام الشائع لمصطلَح "العائدين" في المجتمع الفلسطيني الراهن ضمنًا إلى "مركز قوّة". فلم يَقتصر دورُهم على المشارَكة في عمليّة بناء الدولة المزعومة فحسب، وإنما نجحوا في الهيمَنة على الاقتِصاد الفلسطينيِّ في الأراضي المحتلّة برمَّته .
في أعقاب عام 1967، شرعَت إسرائيل في تطبيق سياسات تهدف إلى سلب ودمج الأراضي المحتلّة حديثًا في الاقتِصاد بصورة غير متكافئة. وفي حين كانت إسرائيل توسع سيطرتَها على الأراضي ومصادرة الموارد الفلسطينيّة من خلال المستعمَرات، عمدَت إلى استِغلال الفرص الاقتِصادية التي أتيحت أمامها، من خلال السيطرة على الشعب الفلسطينيّ. فصار الفلسطينيّون، بفعل تلك السياسات، تابعين هيكليًّا إلى الاقتِصاد الإسرائيلي، ولم يشهد هذا الوضع تغييرًا جوهريًا منذ عام 1993 . بيد أنّ "عملية السلام" وتحرير التجارة على الصعيد الإقليميّ فتحا آفاقًا جديدة للنخب الفلسطينيّة والإسرائيليّة على حدٍّ سواء، والتي كانت تطمح إلى تحقيق مكاسبَ من الاندماج الإقليميّ في الشبكات المعولَمة . وقد انعكست هذه الاستراتيجية بشكل خاص في دعم اتفاقيات التجارة الحرة الإقليمية، والاستثمارات المشتركة، وتدفقات رأس المال عبر الحدود. كما تم تسهيل التطبيع والتكامل االقتصادي من خلال اعتماد تدابير نيوليبرالية، افتراضيًا من قبل جميع حكومات في المنطقة تقريبا، بتشجيع من مؤسسات مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. )انظر: Taher Labadi, De la dépossession à l’intégration économique.)) ).
كانت تحويلات العاملين الفلسطينيين بالخارج، كما أشرنا آنفًا، تمثِّل مَوردًا ماليًا هامًا لذويهم في الضفة الغربية وقطاع غزّة . في عام 2012، بلغت التحويلات إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة 2.3 مليار دولار، وشكَّلت 23% من الناتج المحَلّيّ الفلسطيني. إلا أن نصف تلك التحويلات تقريبًا كانت تضخّها العمالة الفلسطينيّة في إسرائيل. وفي الفترة الممتدّة من 1995 إلى 2013، كان ما يقرب من 69% من إجمالي التحويلات موجَّهًا إلى تمويل الاستِهلاك الخاصّ والأنشطة غير الربحيّة، بينما وُجِّه 31% تقريباً لتمويل مشاريع استثماريّة، منها 11.5% في مجال البناء .
كان لتلك التدفُّقات الماليّة، أكان مصدرُها استثماراتٍ عائليّة أم مشاريعَ تنمويّة أو هبات ، دورٌ محوريٌّ في الحفاظ على تماسك النسيج الاجتِماعي والاقتِصادي الفلسطيني، ولاسيَّما أثناء الانتفاضة الثانية؛ إذ ساهمت بشدّة في تخفيف وطأة الأوضاع الاقتصاديّة القاسية الناجمة عن سياسات الحصار الإسرائيلي. بدءًا من عام 1993، شرَعت النخَب الفلسطينيّة الثريّة، خاصّةً تلك التي تربطها علاقاتٌ وطيدة بالعائلات الحاكِمة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزة، في الانتقال إلى تلك المناطق والاستِثمار فيها ؛ حيث كانت تتطلَّع إلى تحقيق مزيد من الأمن والاستقرار لأصولها الماليّة، ومن ثَمَّ التربُّح من مشاريع البناء والتنميَة المُقامة على الأراضي الخاضِعة للسلطة الفلسطينية.
هكذا نشأت تكتُّلات اقتصاديَّة قويَّة، على غرار "الشركة الفلسطينيّة للتنميَة والاستِثمار" و "الشركة العربيّة الفلسطينيّة للاستثمار"، لتكون بمثابة وكيل عن النخب الفلسطينية عبرالقومية في الأراضي المحتلة. احتلَّت تلك الشركات بفروعها المختلفة مكانةً بارزة في الاقتصاد الفلسطيني، بامتلاكها عددًا كبيرًا من الأسهم في معظم المؤسسات الكبيرة ومتوسطة الحجم، وتمتُّعها بامتياز الوكالة الحصرية للعلامات التجارية الدولية . علاوةً على ذلك، كانت تلك الشركات القابِضة تضطلِع بدورٍ محوَري في استِثمارات القطاع العام؛ حيث كانت تنفذ خططَ الإنماء الوطنيّة في مجالات الاتِّصالات والصناعة والزراعة والسياحة؛ ممّا يَعكس تداخل النُّخب السياسيّة والاقتصاديَّة بشكل متزايد. لذا كان من المألوف أن نجد أفرادًا من عائلاتِ قيادات السلطة الوطنيّة الفلسطينية في مجالسِ إدارات العديد من الشركات الفلسطينيّة الرئيسية المذكورة .
رغم ذلك، يرى هنيّة أنّ مجال النشاط الرئيسيّ للنُّخب عبرالقومية ليس محصورًا في النطاق المحلّي وبمعزَل عن الشرق الأوسَط، رغم مَوقع النُّخب الوسيط في مراكمة رأس المال في الضفَّة الغربيَّة وقطاع غزّة. وبناءً عليه، لا يُمكن فهم سلوك النخب واستراتيجيّاتها في إطارٍ وطنيٍّ بحت، لكونِها معنِيّة بصفة أساسيّة بنقل التدفُّقات المالِيَّة الإقليميّة والدوليّة والمشاركة في صناعتِها. وقد أدّى بها هذا التوجُّه إلى تبنّي نهجٍ نيوليبرالي في بناء الدولة، بدعمٍ من البنك الدولي والمانحين الغربيّين. وتهدف أجندتُها تلك بشكلٍ أساسي إلى إحلالِ الأمن والاستِقرار في الأراضي المحتلة، ولو كان ذلك في ظلِّ سيادةٍ فلسطينيّة واهنة. يمكن أن نلمسَ هذا في سياسات التحرير الاقتِصادي العديدة التي اعتنقتها الحكومات المُتعاقبةُ في السلطة الوطنيّة الفلسطينية، وفي تعسُّفِ الجهاز الأمني الفلسطيني المتعاظم .
رابعاً - إعادةُ صياغةِ علاقةِ الشتات بالوطنِ الأمّ عَقب انحِسار دَور منظَّمة التحرير الفلسطينيّة
عَقب قيام السلطة الوطنيّة الفلسطينية في أوائل التسعينيات، تراجَع دور منظّمة التحرير الفلسطينيّة الحاسم في تنظيم وتمثيل الجاليات الفلسطينية في الخارج. في الوقت نفسِه، لم تكن السلطة الوطنية تتمتّع بالقدرة أو الشرعية لممارسة سلطة فعليّة على تلك الجاليات. أدّى هذا الفراغ السياسي في تمثيل الشتات إلى إطلاق الكثير من المبادرات خارجَ فلسطين. ولعلَّ أهمَّ ما ميَّز هذه المرحلة الجديدة هو تزايد مشاركة الفلسطينيّين السياسيّة في الدوَل الغربيّة وتهميشِهم في الدوَل العربيّة، كما تعكس تلك المرحلةُ الخبرات والمسارات المتباينَة التي طوَّرها الجيلُ الثاني والثالث من فلسطينيّي الشتات . وقد قدَّم تطوُّر وسائل الإعلام وشبكة الانترنت للمجتمَعات الفلسطينيّة المبَعثَرة طرقًا جديدة للتواصل فيما بينها، وأعاد تعريفَ أهميّة الحدود والجغرافيا .
كان الشتات الفلسطيني ولا زال يضمُّ في رِحابه شريحة عريضة من النشطاء، ولاسيَّما الشباب، الذين يدعمون الحركات والحملات التضامنيّة في جميع أنحاء العالم، بالإضافة إلى دورهم الفعَّال في تنظيم المظاهرات والفاعليّات ردًّا على الجرائم الإسرائيليّة في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، وكذلك في التعبير عن المطالب السياسيّة الفلسطينية، خاصةً المتعلِّقة بحقّ العودة. وهم يَكتبون مقالات رأي ويُدلون بتصريحات صحفيّة ويستخدمون شبكاتِ التواصل الاجتماعيّ بانتظام لإسماع أصواتهم. إلى جانب ذلك، فهم يواظبون على إحياء الذكرى السنويّة لقضاياهم الوطنيّة (النكبة ويوم الأرض على سبيل المثال)، وتنظيمِ البرامج التثقيفيّة، وممارسةِ العمل الاجتِماعي، من أجل المساهَمة في بناء المجتمَع والحفاظ على الإرث الفلسطينيّ .
كما يعقدون العديدَ من اللقاءات والمؤتَمرات التي تهدف إلى لمِّ شمل الفلسطينيين، متجاوِزين الحدود الوطنية، لتعزيز مشاركتِهم في عمليّة صنع القرار الوطني جنبًا إلى جنبٍ مع إخوانِهم في الأراضي الفلسطينيّة المحتلة. وفي ظلِّ الانقِسام الداخلي الفلسطيني، صار الشتات محلَّ منافسةٍ بين شتّى القوى السياسيّة التي تسعى إلى إكساب تحرُّكاتها وسياساتِها مزيدًا من الشرعيّة والدعم. من الأمثلة على ذلك التجمُّعات السنويّة التي ينظِّمها الفلسطينيون في أوروبا أو الولايات المتحدة، ومحاوَلات إحياء المجلس الوطنيّ الفلسطينيّ أو تشكيل "حركة الشباب الفلسطيني" عبرالقومية. وإذ ذُكرت قضيّة الشتات، ذُكر الإنتاج الفكريُّ والثقافيّ والفنّي الفلسطيني. فقد قدَّم الكتّاب والشعراء والموسيقيّون والفنانون البصريّون الفلسطينيّون إسهاماتٍ كبرى في نشر وإثراء الثقافة الفلسطينيّة، كما يَنعم بعضُ الأكاديميّين الفلسطينيّين بمكانة مرموقة في مجالاتهم؛ ذلك أنّهم لم يكتفوا بصياغة حقلِ دراسات فلسطينيّة، ولكنَّهم أصبحوا أيضًا مُتحدثين باسم القضية الفلسطينية، وهم يشاركون بقوّة في صياغة حدودِها وتوسيع نطاقها. ويلعبُ المثقَّفون والفنّانون الفلسطينيّون نفسَ الدور في أوساطهم.
خامساً - بناءُ مجتمعٍ جديدٍ من "المغتربين": "توكتن" وتجاربَ أخرى
كان من المتوقَّع أن تعطي عملية أوسلو للسلام زخمًا لتدفُّقات الأموال الخاصة إلى الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، خاصة تلك التي تضخّها "الجاليَة الفلسطينيّة الكبيرة والثريّة نسبيًّا في الخارج" . لذا اتَّجهت أنظار السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة والشركاء الدوليّين نحو المغتربين، خاصّةً بعد عزوف الشركات المتعددة الجنسيات عن الاستثمار في الضفة الغربية وقطاع غزة. بناءً على ذلك، تمَّ إرساء آليات تعبوية وتحفيزية عديدة بهدف تعزيز مشاركة مجتمعات الشتات في التنمية الاقتصادية وعملية بناء الدولة . بيد أن تلك المشاركة ظلَّت ضعيفة بعض الشيء ، خاصةً بعد اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، وهو ما زاد من تحدّي إيجاد سبل جديدة لاستقطاب فلسطينيو الخارج .
من أبرز المبادرات التي أطلقت في هذا الشأن، برنامج "نقل المعرفة عن طريق الرعايا المغتربين" التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP TOKTEN(توكتن) وشبكة "العلماء والتكنولوجيين الفلسطينيين في الخارج" الالكترونية PALESTA(بالستا). أطلق برنامج "توكتن" في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1994، بغرض التعاقد مع المفلسطينيين المغتربين من ذوي الخبرات لتقديم خدمات استشارية قصيرة الأجل (3 شهور كحدٍّ أقصى). من خلال هذا البرنامج، شارك ما يزيد عن 350 متخصِّص وخبير في تقديم الدعم التقني وإسداء المشورة، فيما يتعلَّق بصنع السياسات العامة، إلى العديد من المؤسسات الفلسطينية، كالوزارات والجامعات والمنظمات غير الحكومية، وكذلك شركات القطاع الخاص، وإن في نطاق أضيق . أما بوابة "باليستا" الالكترونية، فقد أنشئت عام 1997 بمبادرة من وزارة التخطيط والتعاون الدولي التابعة للسلطة الوطنية الفلسطينية، واستمرت حتى عام 2001. كانت تلك الشبكة بمثابة بوابة مهنية تسعى إلى تكوين مجتمع افتراضي من المهنيين المهرة في المهجر، و "تسخير معرفتهم العلمية والتكنولوجية في خدمة جهود التنمية في فلسطين" .
وقد شاركت مؤخراً الحاضنة الفلسطينية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات PICTI(بيكتي)، بالشراكة مع هيئة تشجيع الاستثمار الفلسطينية PIPA(بيبا)، في تنظيم فعالية "استقطاب الكفاءات الاقتصادية المغتربة من أجل تنمية دول حوض البحر الأبيض المتوسط" MedGeneration(2013-2015). وهي مبادرة إقليمية أطلقها الاتحاد الأوروبي، عملت من خلالها كل من "بيكتي" و"بيبا" على ربط أبناء الجاليات الفلسطينية الذين حققوا نجاحًا في أوروبا بروّاد الأعمال والمشروعات المحلِّيَّة في فلسطين. وفي مطلع عام 2016، أنشئ "فريق عمل وطني" لاستقطاب المغتربين، ضمَّ مجموعةً من المنظمات الفلسطينيّة الحكوميّة والخاصة، منها "بيكتا" و "بيبا"، والجمعية الفلسطينية لتكنولوجيا المعلومات و "بالتل جروب" وبنك فلسطين ووزارة الخارجيّة الفلسطينية والمجلس الأعلى للإبداع والتميُّز وبرنامج تطوير السوق الفلسطيني . من بين الأولويّات التي يسعى إلى تحقيقها هذا الأخير: "تعزيز التجارة والاستثمار من خلال إقامة روابط مع الشتات الفلسطيني وحثهم على المشاركة الفعالة في التنمية الاقتصادية في الأراضي الفلسطينية المحتلة".
بالرغم من محدوديتها، تسلط تلك المبادرات الضوء على بعض الخصائص التي تميز العلاقة بين السلطة الوطنية الفلسطينية والشتات؛ منها أن آليات التعبئة التي تستخدمها السلطة الفلسطينيةتجاه فلسطينيو الشتات تعمل بشكل أساسي كمؤسَّسات مركزيّة وليس كشبكات تعاونيّة، وبالتالي فهي تربط أفراد الشتات بالمناطق التابعة للسلطة الوطنية، ولكنها تعوقهم عن إقامة روابط مع بعضهم البعض. (2)كما أن المبادرات المذكورة تغطّي مجالات محدودة، وتستهدف فئات بعينها من المغتربين من الطبقة الوسطى والعليا. والنتيجة أن السلطة الوطنية الفلسطينية لا تزال عاجزة عن توفير إطار مؤسسي شامل للعمل، يمكن التعاون من خلاله مع فلسطينيّي المهجر. ويتَّضح هذا أيضًا في تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية لدائرة شؤون المغتربين، وهي هيئة منفصلة عن دائرة شؤون اللاجئين معنيّة بالتواصل مع جاليات المهجر، إلا أنَّها تُعتبر مكتبًا للعلاقات العامة أكثر منها مؤسَّسة تسعى بجدِّية إلى عودة العلاقة بين القيادة الفلسطينية والشتات.
على أي حال، شرع جيل جديد من الفاعلين في الشتات في التوافد في أواخر التسعينيات ليشارك في إعادة صياغة الروابط بين "الخارج" و "الداخل"، عُرِف بـ"المغتربين". على خلاف الـ"العائدين"، جاء هؤلاء الوافدون الجدد في غالبيتهم من أمريكا الشمالية وأوروبا واستقرّوا في الأراضي المحتلة، خاصةً عن طريق الفرص المهنيّة الفرديّة التي أتاحها لهم برنامج "توكتن" وغيره من قنوات التوظيف الأخرى. وبينما يتمتَّع العائدون بوضع أكثرَ استقرارًا، فإن وضع المغتربين الجدد أقربَ إلى الانتقالي؛ إذ لا يحمل أغلبهم أوراق السلطة الفلسطينية، فهم محرومون بالتالي من الحصول على حق الإقامة الدائم. كما لا تصدر إسرائيل بسهولة تصاريح عمل للأجانب العاملين في الأراضي المحتلة؛ لذا يتعيَّن على المغتربين، للوصول إلى تلك الأراضي، استصدار تأشيرة سياحة وتجديدها كل ثلاثة أشهر.
بسبب كل تلك القيود، يقيم العديد من المغتربين الجدد لفترات قصيرة بحسب ما تتطلَّبه عقود عملهم. رغم الصعوبات التي يواجهونها من جراء السيطرة الإسرائيلية على الحدود، تعدُّ مساراتهم المهنية نموذجًا على التقدم الوظيفي الذي يحرزونه، باعتبارهم شريحةً ذات حظوة في سوق العمل المعولم . ويتركز المغتربون بشكل أساسي في رام الله، وهم يعتلون أعلى المناصب ويتمتعون بمستوى معيشي أعلى من نظرائهم من السكّان المحلّيّين؛ لذا فهم أقدر على الانصهار مع النخب المحلِّيَّة التي يتقاسمون معها أنماطًا معيشية مشابهة وفرصًا أوفر في التنقل عبر الحدود، على عكس المحليين من الطبقات الدنيا.
خلاصة
النزوح والتشرذم والحرمان من الجنسية والتحوُّلات في موازين القوى على الصعيد الإقليمي والدولي، كلها عوامل ساهمت في وجود الشتات الفلسطيني ورسم سماته. إلا أن تلك الورقة لم تسعَ إلى تقديم تأريخ شامل لتلك الظاهرة، بقدر ما حاولت، دراسة تطور العلاقات غير المتجانس بين فلسطينيّي الشتات ووطنهم الأم، في سياقٍ أنتجته ديناميات الاستعمار الاستيطاني الإسرائلي والعولمة. بهذا وضعت الدراسة الخطوط العريضة لديناميات القوة المُعتمِلة بين "مركزٍ" قيد التشكُّل و "محيطِه الخارجي"، مع رسم حدود كلٍّ منهما. وترتبط عملية تكوين الشتات، بلا ريب، ارتباطًا وثيقًا بانتقال مركز ثقل السياسة الفلسطينية إلى الأراضي المحتلة، والتهميش المتزايد لفلسطينيّي المهجر، خاصةً هؤلاء المقيمين في الدول العربية المجاورة.
ليس بلوغ الأراضي الخاضعة للسلطة الوطنية الفلسطينية بالأمر اليسير، وهي لا تتمتع فضلاً عن ذلك بالشرعية الكافية، وكلّها أمور تجعلها عاجزة عن أن تصبح مركزاً حقيقياً لاستيعاب مجتمع الشتات الواسع والمجزَّأ. وتختلف عملية تكوين الشتات من دولة إلى أخرى، ومن فئة اجتماعيّة إلى أخرى. وقد أثبتت تلك الدراسة أن هذه العملية إنما انعكست في المقام الأول في ظهور النخب عبرالقومية وما لها من دور بالغ الأهمية في السياسة والاقتصاد والثقافة الوطنية، داخلَ فلسطين وخارجها. تلك النخب تؤثِّر على وتتأثر بصياغةٍ عمليَّة بناء الدولة. وقد تُرجِم هذا التفاعل مؤخرًا إلى سياسات تهدف إلى التعامل مع الشتات باعتباره مَوردًا للوطن، بعد أن شرَّعت فئة جديدة من المغتربين في العودة إليه.
غير أن تلك الدراسة تطرح تساؤلات عامة حول منظومة العلاقات في تكوينات الشتات: من المُمكَّن ومن المُستضعَف في تلك الفئات؟ من الذات ومن الهدف ؟ فالحق أن العديد من الفلسطينيين في المنفى، خاصةً هؤلاء الذين يرزحون في مخيمات اللاجئين، لا يتمتعون بحرية الحركة، ومن ثمَّ لا يشاركون في تدفُّقات المغتربين. هكذا وجب علينا أن نتذكَّر، وربما نستطيع أن نستخلص، أنَّ الشتات الفلسطيني لا يشكِّل فئة موضوعية بقدر ما هو ذات أو موضوع يكرِّسه الخطاب العام.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.