ما وراء الطفرة الزراعية في المغرب: قوى عاملة نسائية غير مرئية تعاني أوضاع هشة

تلعب النساء العاملات في قطاع الزراعة دوراً رئيسياً بالمغرب، لكن تظل ظروف عملهن مزرية. وجاءت الأزمة الناتجة عن جائحة كوفيد-19 لتزيد من صعوبة هذه الظروف وتفاقم من انعدام الأمن الاقتصادي والاجتماعي لديهمن. تناقش هذه الورقة المعاملة الاستغلالية للعاملات في الزراعة وضعف والدعم الاجتماعي والحكومي المقدم لهن حتى الآن، كما تطرح توصيات حول كيفية تحسين حياتهن.

ثلاثة عاملات ينتظرن عند "موقف" بمنطقة سايس. © ليزا بوسنبروك

"لم أعمل أثناء الحجر الصحي [...] لم أعد أغادر البيت. آكل ما يتيسر لي (نأكل لي كتبو الله)، أقضي يومي في مشاهدة التلفاز والنوم. لم أتلق أي مساعدة [...] لقد أثر ذلك على كثيرًا (تغددتُ) لأن الميسورين تلقوا المساعدة، وحتى أخوتي تلقوا المساعدة، في حين، أنا التي في أمس الحاجة لذلك لم أتلق أي شيء. شعرت بالظلم، أغلقت باب بيتي  ولم أعد أغادره." (مقابلة مع عزيزة ١٣ أكتوبر ٢٠٢٠) [1]

في المغرب، أدت الأزمة التي تمخضت عنها جائحة كورونا إلى تفاقم الصعوبات اليومية وغيرها من أصناف الظلم الاجتماعي والمادي الذي تتعرض له العديد من العاملات في مجال الزراعة بصفة يومية. فهناك عدد كبير منهن يعملن بدون عقود عمل وبدون ضمان اجتماعي، ويواجهن يوميًا شتى أشكال الوصم الاجتماعي. ورغم كل ذلك، فلا غنى عن هؤلاء العاملات لتحقيق  التنمية الزراعية للبلاد، حيث تقمن بمهام مختلفة في المزارع غالبًا ما يُنظر لها نظرة متدنية، من قبيل غرس شتلات البصل، والتخلص من الأجزاء المعطوبة من الثمار لنمو أفضل، وإزالة الأعشاب الضارة، والحصاد... وكلها مهام، تتناسب، من منظور بعض المزارعين ومسيري المزارع، مع التركيبة الجسدية للمرأة وشخصيتها. فبفضل قدرتهن على التحمل وعلى أداء مختلف المهام الزراعية، تشكل العاملات حلقة أساسية في الإنتاج الزراعي والطفرة التي يعيشها هذا القطاع في البلاد خلال العقود الأخيرة، ولا سيما أن هذه الطفرة تعود لتوجه الدولة التي جعلت من الزراعة محرك الاقتصاد الوطني من خلال تحفيز الاستراتيجيات الزراعية المختلفة، بما في ذلك مخطط المغرب الأخضر (PMV) الذي هيكل التنمية الزراعية والريفية ما بين عامي 2008 و2020. ولذلك يُلاحظ في منطقة لوكوس الغرب، على سبيل المثال، أن المساحة المزروعة بالفراولة، قفزت تدريجيًا من 100 هكتار في أوائل التسعينيات إلى 3600 هكتار في 2016-2017 (هاربوز وآخرون. 2019).

وفي هذه المقالة، سوف نتخذ من جائحة كورونا مدخلًا لتوضيح 1) مدى الهشاشة الاجتماعية والاقتصادية التي يعيش في كنفها قطاع كبيرمن العاملات في المجال الزراعي، و2) كيف أن هذه الجائحة زادت من حدة هشاشة أوضاعهن. وفي هذا الصدد، نحن نعتمد على تواصلنا لِما يقرب من عقد من الزمان، مع العاملات في المجال الزراعي، وعلى المقابلات الهاتفية التي أجريناها منذ مارس 2020 مع العاملات ومع المزارعين من سهل سايس الزراعي في شمال غرب البلاد والمنطقة الساحلية للغرب واللوكوس في شمال شرق البلاد. وفي البداية، نتتبع مراحل ظهور القوى العاملة النسائية مدفوعة الأجر في المغرب، في المجال الزراعي، وننقل صورة كاملة لمختلف أنماط العاملات في المجال الزراعي، لكي نفهم مَن هُن هؤلاء النسوة وما هي الأسباب التي دفعتهن لقبول العمل في ظروف محفوفة بالمخاطر، ثم نشرع بعد ذلك في وصف ظروف العمل والصعوبات التي تواجهها هؤلاء النسوة في العموم، وعلى الأخص منذ بداية هذه الجائحة. إن غياب عاملات المزارع عن المشهد السياسي والنقاش العام، يدفعنا إلى ختام المقالة بتقديم بعض التوصيات، كما عبرت عنها العاملات أثناء إجراء المقابلات معهن.

 

الصورة 1: عاملات في مجال الزراعة يقمن بتخليص محصول البصل من الأعشاب الضارة في سهل سايس (مصدر الصورة ليزا بوسنبروك)

بروز أيدى عاملة نسائية مدفوعة الأجر

واصلت المرأة الريفية في المغرب العمل دون توقف، فبالإضافة إلى الأعمال المنزلية (كالطهو والتنظيف والغسيل وتربية الأطفال، إلخ.)، فهي تعمل في الأراضي الزراعية المملوكة للأسرة، وذلك من خلال تكفلها ببعض المهام المحددة جدًا، مثل الغرس والحصاد وإزالة الأعشاب الضارة والعمل في الحظيرة. لكن العمل الزراعي النسائي مدفوع الأجر، لم ير النور إلا بدءً من حقبة الثمانينيات. أما قبل ذلك، مثلما تبينه أعمال بول باسكون ومحمد الناجي (1985)، كان يقل تواجد المرأة بشكل كبير، وفجأة "في بعض المناطق، مثل الحوز، اضطرهم الأمر للجوء حتى لليد العاملة النسائية الحضرية، نظرًا لعدم توفرها بعدُ بكثرة في سوق العمل في الريف، بسبب القيود التقليدية والمحظورات القائمة "(ص 58). أما اليوم، فقد تغيرت الأوضاع، وأصبحت مشاركة المرأة الريفية في العمل الزراعي مدفوع الأجر، حقيقة يومية واقعة، حتى وإن كانت المحظورات والوصمة المرتبطة بعمل الإناث في الزراعة، لا تزال تشكل السمات المهيمنة على مجتمع الريف حتى يومنا هذا.

قل قليلة فقط من العاملات يعملن بعقود عمل ويحظين بالضمان الاجتماعي، في حين أن الغالبية العظمى منهن تباشرن العمل  بدون عقود، وبدون ضمان اجتماعي ولا تتاح أمامهن سوى فرص ضئيلة للترقي على المستوى المهني، على عكس الرجال (بوسنبروك، وآخرون 2013). فبالفعل، بوسع العمال الذكور من ذوي الخبرة المتراكمة في المجال الزراعي، الترقي مهنيًا وتحسين أوضاعهم ومكانتهم، ليصبحوا بسهولة أكبر "كابران" (مشتق من "كابورال" بمعنى "عريف"، وهو مصطلح محلي يُطلق على الشخص المسؤول عن إدارة وتعبئة العمال)، أو حارس أو مسؤول عن تشغيل الآلات، أو وسيط، إلخ. لكن نادرًا ما تتاح أمام النساء العاملات فرصة للارتقاء إلى مستوى "كابران"، ناهيك عن الصعوبة الأكبر التي يواجهونها في اكتساب مكانة مهنية أخرى في مجال الزراعة المتخصصة. ولذلك فهن يواصلن العمل في المزارع المختلفة، سواء بالعمل مباشرًا لدى  مزارع معين أو بالمرور عن طريق "الموقف"، وهو عبارة عن مكان يقع غالبًا على أطراف المراكز الريفية الصغيرة، حيث يتجمع العمال والعاملات، منذ الساعات الأولى من الفجر، بحثًا عن عمل يومي (انظر الصورة 2). وللوصول إلى مكان العمل، غالبًا ما يتم حشد العمال، نساءً ورجالًا، وتكديسهم بأعداد كبيرة داخل شاحنات صغيرة أو سيارات بيك آب غير مغطاة، لنقلهم إلى المزارع. ويتحمل تغطية تكاليف النقل، إما المزارع أو "الكابورال" الذي يقتطع جزءً من أجور العاملات مقابل نقلهن. ونظرًا لعدم الاهتمام بالحفاظ على سلامة الركاب أو احترام قوانين المرور، تقع حوادث الطرق بشكل متكررللغاية.

الصور 2: ثلاثة عاملات ينتظرن عند "موقف" بمنطقة سايس. (المصدر: ليزا بوسنبروك) © ليزا بوسنبروك

وعمومًا، عندما تعمل النسوة مباشرة لدى المزارع، فهن يتقاضين ما بين 60 إلى 70 درهم (5.7 -6.6 يورو) في اليوم. أما إذا تحصلن على فرصة عمل، عن طريق الموقف وكان الطلب على العمالة مرتفعًا (بحسب الموسم الزراعي)، فقد تكون الأجور أعلى ويمكن أن تصل على سبيل المثال من 150 إلى 180 درهم (14.2 -17 يورو)، وربما أكثر. لكن تجدر الإشارة، أن العمل عن طريق الموقف قد يعرضهن للكثير من المخاطر، إذ لا تجد النساء دائمًا عملاً هناك، وخاصة النساء الأكبر سنًا. وبهذا الخصوص، توّضح لنا عزيزة، البالغة من العمر 60 عامًا قائلة: "آتي إلى هنا [إلى الموقوف] كل يوم وأصل حوالي الساعة 4 صباحًا وانتظر حتى الساعة 10 أو 11 صباحًا. وهذا الأسبوع، أتيت كل يوم لكنني لم أعمل سوى يومين فقط من أصل سبعة أيام ".

مَن هن هؤلاء النساء "النينجا"؟

لباس هؤلاء العاملات أكسبهن لقب "النينجا"، إذ يغطين وجوههن بوشاح كثيف، يسمح بالكاد بظهور أعينهن. تشرح هؤلاء النسوة أن الغرض من هذا النمط من الملابس هو حماية أنفسهن من أشعة الشمس الحارقة ومن الغبار والمبيدات الحشرية، لكن، بالإضافة إلى هذه الاعتبارات العملية، تقر الكثيرات منهم أيضًا باستعمالهن لهذه الأوشحة لإخفاء وجوههن، مما يسمح لهن بالبقاء متوارين عن الأنظار و"غير محددى الهوية".

تمكنّا من خلال لقاءاتنا معهن، من إعداد أنماط متعددة لشخصيات هؤلاء العاملات "المجهولات"، ووجدنا أن غالبًا ما ينحدرن من بيئات اقتصادية متواضعة جدًا أو فقيرة حتى، والكثير منهن لا يملكن أراضي. يعود ذلك بالأساس لعدم المساواة في فرص حصولهن على ملكية الأرض، بسبب بعض العادات والقواعد العرفية والممارسات الخاصة بالميراث حيث تحصل المرأة على نصيب أقل مما يحصل عليه أشقائها، بل يحرمن منه تمامًا في بعض الأحيان. أما أحوالهن الزوجية فهي في غاية التباين، حيث نجد من بينهن المطلقات والأرامل والعازبات إلى جانب المتزوجات. ورغم اختلاف أوضاعهن، فهن يشتركن جميعًا في كون معظمهن المعيل الرئيسي لأسرهن، هذا إذا لم يكن يتشاركن هذه المسؤولية مع غيرهن من أفراد الأسرة. وفي كلتا الحالتين، فلا غنى عن أجرة العاملات، إذ تُستخدم في توفير الغذاء والدواء وسداد الفواتير وتربية الأطفال.

يد عاملة غير مرئية وموصومة بالعار

على الرغم من أن دخل العاملات ضروريًا لإعالة أسرهن وتوفير مستلزمات الحياة، فقلما يحظى عملهن بالاعتراف الاجتماعي والتقدير. ولا تزال سائدة ومنتشرة في الوسط الريفي، تلك الصورة التقليدية التي ترى الرجل المعيل الرئيسي لأسرته، بينما تحصر دور المرأة في الاهتمام بحسن سير شؤون المنزل وتربية الصغار. كما يعزز غالبية أصحاب العمل هذه الصورة التقليدية، والذين يجعلوهن يعملن دون عقود عمل في أغلب الأحيان. كما يتيح عدم الاعتراف بالمرأة كمعيل رئيسي لأسرتها لأصحاب العمل فرض أجور متدنية على العاملات، حيث غالبًا ما تقل أجورهن بنسبة 20 إلى 40٪ عن أجور نظرائهن من الرجال. كما يُبرر هذا الوضع أيضًا بنوعية الأنشطة التي تضطلع بها النساء، والتي يُزعم أنها لا تتطلب سوى "القليل من القوة". ولا يوجد فارق كبير بين أجور العمالة الدائمة من النساء وبين أجور أولئك التي يعملن بالمياومة، غير أن اللاتي يعملن بدوام يحظين بمزايا أخرى مثل الشعور بالأمان الوظيفي إلى جانب الضمان الاجتماعي.

إن هذه الصورة التقليدية السائدة في الأوساط الريفية بشأن مسؤوليات الرجل والمرأة، تعززها وتعيد تداولها الشائعات والأحكام المسبقة التي تنتشر حول النسوة اللواتي يعملن بمقابل في القطاع الزراعي. ويشير المزارعون أو مديرو المزارع أحيانًا لكون العاملات في المزارع مجرد شابات عازبات مشكوك في سلوكهن. ويشرح ذلك أحد المسؤولين الزراعيين فيقول: "عندما تصير الفتاة حاملاً، تتوّجه إلى الموقف بحثًا عن عمل لإعالة طفلها، لأنها لا تستطيع العودة للعيش في كنف عائلتها. وتضطر بعض الفتيات للاعتماد على العمل عن طريق الموقف، فتتزوجن لمدة ستة أشهر ثم تحصلن على الطلاق، ولكنهن يستمرن في العيش في المراكز الريفية، حيث يواصلن العمل في القطاع الزراعي أو يشرفي ممارسة الدعارة – تلتجئ إلى الشارع [حرفيًا – إنهن لا يجدن غير الشارع ملجاءً لهن] ". وفي حالات أخرى، وُصفت العاملات بأجر بأنهن "نساء ُيذهبن لُب المزارعين"، أو بالنساء "المتحررات". ومن ناحية أخرى، لا تتردد النساء الريفيات اللاتي ينحدرن من الأسر الميسورة، في تحقير العاملات في الزراعة وإبداء ملاحظات سلبية حولهن، من قبيل "هنا، من "العيب" أن تعمل المرأة. كانت النساء تعملن في السابق، وكنا نسخر منهن لأنهن يعملن مع الرجال. إذا كنتِ تعملين إلى جانب رجل، سيقال إنك صديقته "(نعيمة، 50).

وفي هذا السياق، يصعب على المرأة الريفية التي تقوم بعمل مدفوع الأجر، التوفيق بين الأنشطة التي تدر عليها دخلًا والحفاظ على مكانتها كامرأة عفيفة. ومع ذلك، فهذا الأمر لا يغيب عن هؤلاء النسوة اللواتي يدركن حساسية الوضع، ومن ثم يتفاوضن بمهارة ويضعن الحدود اللازمة بين الفضاء العام والخاص، لأجل كسب عيشهن دونما المساس بعفتهن (بوسنبروك، 2018). ولذلك، فهن يخترن، على سبيل المثال، العمل والتنقل في صحبة جيرانهن من الرجال والنساء، بحيث يبقون في محيط الأقارب ويمددن من نطاق الحماية الاجتماعية، بينما تختار أخريات العمل في مزارع مملوكة لأفراد من الأسرة أو من المعارف  المقربين، بهدف الحفاظ على الحماية الاجتماعية دون حرمانهن من فرص العمل، ويضاف إلى ذلك، طريقة ارتدائهن الوشاح والتي تتيح لهن التنقل في الأماكن العامة دون أن يتم التعرف عليهن.

جائحة كورونا والحجر الصحي يزيدان الوضع سوءً

تتمثل هشاشة وضع العاملات في حصولهن على أجور منخفضة هيكلياً، وعدم وجود عقود العمل والضمان الاجتماعي بالنسبة لمعظمهن، فضلًا عن عدم ضمان وجود الفرص الوظيفية. وقد تضاعفت حدة هذا الوضع، بفعل الجائحة والحجر الصحي الذي فُرض في المغرب، منذ مارس 2020 (بوسنبروك وفتوحي، 2021). وأثناء بعض المقابلات الهاتفية التي أجريناها خلال فترة الحجر الصحي، أوضحت لنا هؤلاء النسوة أن فرص العمل قد تقلصت: "قبل جائحة كورونا، كنا عادة ما نعمل بشكل يومي، أما الآن فلا نعمل سوى ثلاثة أيام فقط أسبوعيًا، بل وأحيانًا يومًا واحدًا فقط في الأسبوع. فبسبب كورونا لم يعد هناك عمل". كما قُدِمت عدة أسباب لتفسير هذا الوضع. فبالفعل، نظرًا للقيود المفروضة على حركة المواطنين، واجهت العاملات صعوبة في الوصول إلى المزارع والمؤسسات التجارية الزراعية حيث تتوفر لهن فرص العمل. بينما في الأوضاع العادية، كانت العاملات تُنقل على متن شاحنات صغيرة وسيارات بيك آب، إلى المزارع، ولكن منذ فرض إجراءات الحجر الصحي، اشترطت السلطات تخفيض عدد ركاب كل مركبة إلى ما بين 3 إلى 5 أشخاص (بحسب حجم السيارة)، مع ضرورة الحصول على تصريح يسمح بالتنقل، صادر من السلطات المحلية، للتمكن من اجتياز العديد من نقاط التفتيش التابعة للشرطة المتواجدة على الطرق المختلفة. لكن بما أن معظم العاملات اللواتي قابلناهن لا يتوّفرن على عقود عمل، فيصعب عليهن الحصول على مثل هذه التراخيص، مما يعيق فرصهن في العثور على عمل، لا سيما في المزارع الواقعة في البلدات القروية البعيدة عن منازلهن. وعلاوة على ذلك، ونظرًا لحظر التجمعات، فقد مُنع اجتماع الناس بالمواقف. وأوضحت لنا العاملات اللواتي حاولن التجمع في المواقف أن السلطات المحلية طردتهن، أو اقتادتهن إلى مركز الشرطة، وفقًا لما ذكرته لنا حسنة: "اقتادونا عدة مرات إلى مركز الشرطة، وقالوا لنا:"إن التجمعات محظورة، وممنوع الصعود على متن المركبات المكتظة، ويجب أن تحصلن على ترخيص بالتنقل، مع الالتزام بارتداء كمامة الوجه...".

وقد نجم عن هذا الوضع مشاكل مختلفة تحملت تبعاتها العاملات في مجال الزراعة، حيث واجهن الضائقات المالية التي تسبب فيها بالأساس عدم قدرتهن على سداد الفواتير وشراء الأدوية، وعجزهن عن دفع مصروفات التعليم المدرسي عن بعد لأطفالهن وتقديم وجبات غذائية لائقة لأفراد أسرهن، كما جاء في شهادة فضيلة: "لم أستطع أن أوفر لطفلي الوسائل الللازمة لمتابعة دروسه عبر الإنترنت ... فلا أملك هاتفًا ذكيًا... كما لم يستطع ابني حتى  متابعة الدروس التي تُبث من خلال التلفازلأن جهازنا معطل ولا أملك المال الكافي لشراء جهاز جديد".

تواجه هؤلاء العاملات من ناحية أخرى، بعض المشكلات نفسية المرتبطة بعدم قدرتهن على تلبية حاجياتهن وحاجيات أفراد أسرهن، فضلاً عن خوفهن من الإصابة بالفيروس في مكان عملهن وبالتالي نقل الوباء إلى باقي أفراد الأسرة مثلما توضحه حكيمة: "أصبحنا نعيش في جو من الذعر... نقول اليوم قد أصيب الآخرون بالوباء، وغداً يأتي دورنا. لقد سُجِلت حالات كورونا في قريتنا، فُأصِبنا بالهلع بعد سماع هذا الخبر ... وشعرنا بالرعب، فكنتُ أستيقظ في الليل، وأشعر بالخوف".

دعم حكومي ومجتمعي ضعيف

بعد دخول تدابير الحجر الصحي حيز التنفيذ، وعلى الرغم من عدم تخصيص أي دعم مالي حكومي للعاملات في المجال الزراعي تحديدًا، تمكنت بعضهن مع ذلك، من الاستفادة من عملية "تضامن" التي أطلقتها الدولة لمساعدة الفئات الضعيفة من السكان الذين تضرروا بفعل الإجراءات التقييدية المفروضة من طرف الدولة. تهدف هذه العملية لتقديم المساعدة المالية لأرباب الأسر العاملين في القطاع غير الرسمي والأسر التي تعاني معيشيًا. وتموّل هذه العملية مباشرة من قِبل "الصندوق الخاص بتدبير جائحة فيروس كورونا "كوفيد -19"، الذي أطلقه الملك محمد السادس في 15 آذار/مارس 2020. غير أن بعض العاملات، لا سيما الأميات منهن، لم يتمكن من الاستفادة من هذه المساعدة، لعدم قدرتهن على تقديم الطلب عبر الإنترنت. وفي حالات أخرى، حتى عندما تكون الزوجة هي المعيل الرئيسي للأسرة، يعتبر الزوج أو الحمى ربًا للأسرة، مما يحرم الزوجة بحكم الأمر الواقع، من التقدم بطلب المساعدة بنفسها مباشرة.

ومن ناحية أخرى، استفادت عدة نساء أو أحد أفراد أسرهن من سلال المواد الغذائية الأساسية التي وزعتها البلديات أو المجتمع المدني على الأسر الضعيفة، عندما أغلِقت قرى بأكملها في أعقاب انتشار فيروس كورونا بين بعض سكانها.

مصير العاملات بعد مرور سنة على انتشار الجائحة

على الرغم من تعليق عملية الحجر الصحي وتخفيف الإجراءات التقييدية، فلم يتحسن وضع العاملات في مجال الزراعة. وبالفعل، حتى مع فتح نقط المواقف من جديد، وعدم منع حواجز الشرطة للمركبات من نقل العاملات إلى المزارع، لا تزال هؤلاء النسوة يعانين من تبعات الحجر الصحي، كما توضح خديجة لنا ذلك: "... الأزمة لا تزال قائمة. لم يعد باستطاعة المزارعين نقل العمال من الموقف إلى مزارعهم ودفع أجور عملهم. لقد توّقف النشاط الزراعي بشكل شبه كلي". بالفعل، بدافع التوّجس من تطورات الوضع، قلّص بعض المزارعين المساحات المزروعة ولم يقدموا سوى أجوراً منخفضة، حتى في فترات الذروة المعتادة للنشاط الزراعي، خوفًا من عدم قدرتهم على بيع إنتاجهم في نهاية الموسم الزراعي ومن تكبد الخسائر المالية. وبهذا الشأن توّضح لنا إحدى العاملات من سهل سايس فتقول: "في الحالات العادية، تكون هذه هي الفترة من العام التي يمكننا فيها التفاوض على أجر معتبر، يتراوح ما بين 130 و150 و200 درهم في اليوم. أما حاليًا، فلا نكاد حتى نعثر على مزارعين يقبلون أن يدفعوا لنا 50 درهمًا فقط في اليوم. وإذا ما طالبنا بأجر أعلى، يجيبوننا بأنهم لو منحونا أكثر من ذلك، فكأننا نتقاسم الأرباح معهم، لأن المزارعين أنفسهم لم يعد بإمكانهم تمويل أنشطتهم الزراعية".

وتتمثل تبعات الجائحة، التي تتحدث عنها العاملات، في الديون التي تراكمت عليهن ولم يعُد في قدرتهن اليوم سدادها بالكامل، بالإضافة إلى عدم تمكنهن حتى اليوم، من سداد فواتير الماء والكهرباء التي كُنّ يرغبن في سدادها بعد رفع تدابير الحجر الصحي.

صمت سياسي أمام المعاناة اليومية للعاملات ونقاش عام متحفظ

فيما يخص السياسات العامة، لم يتم قط التطرق إلى إشكالية العمال والعاملات في مجال الزراعة بشكل حصري، باعتبارها جزء يختص به قانون العمل المغربي أو الاستراتيجيات الزراعية في مجملها (تشجيع الإنتاج، والتسويق، والقطاعات، والمنظمات والتعاونيات، إلخ). أما بالنسبة للعامل الزراعي، يُحدِد القانون، الحد الأدنى القانوني لأجور القطاع الزراعي (SMAG) بحوالي 76.70 درهمًا في اليوم، مع وجوب إضفاء الطابع الرسمي على العمل من خلال صياغة عقد عمل، فضلًا عن الحصول على تغطية الضمان الاجتماعي والمعاش التقاعدي الذي يستتبع ذلك، لكن، إذا اعتبرنا أن 90٪ من العمالة في القطاع الزراعي والريفي، تقع ضمن العمل غير الرسمي، يبدو جليًا أن العامل الزراعي غائب عن المشهد ولا يحصل على  الحقوق المكفولة له بموجب القانون.

ومن جهة أخرى، نادرًا ما يطرح النقاشُ العام حول إشكالية العمالة الزراعية برجالها ونساءها حصريًا لدى دوائر صنع القرار أيضًا (كالبرلمان، والأحزاب السياسية، والحكومة، وما إلى ذلك). ويندرج هذا النقاش في إطار احترام قانون العمل الخاص بجميع القطاعات ويخص وزارة الشغل والفلاحة على حد سواء. كما تجدرالإشارة إلى أن كوْن 70٪ من المحاصيل الزراعية، تنحصر في مساحات أقل من 5 هكتارات وذات طابع عائلي، فذلك يجعل من الطابع غير الرسمي وغير المُهيكل للعمل الزراعي أمرًا "بديهيًا". وبالفعل، إذا استثنينا المساحات الزراعية الكبرى، فإن عدد قليل فقط من المزارع، تخضع لمحاسبة منتظمة، بما يجعل العلاقة مع التوظيف عملية معقدة، خاصة مع العمالة الإضافية الموسمية. من ناحية أخرى، فلا يبرم سوى عدد قليل من المزارع الكبرى والمشغلين في صناعة الأغذية الزراعية، عقودًا مع موظفيهم.

وهو ما يفسر العدد القليل جدًا من "المتحدثين" حول وضعية العمال الزراعيين، وندرة المدافعين عنهم لدى السلطات المختصة. ومما لا شك فيه أن النقاشات العامة النادرة التي جرت حول وضع العاملات على وجه الخصوص، تمت في أعقاب حوادث الطرق المميتة المأساوية، بسبب ظروف النقل المزرية وعدم احترام قانون السير. والأمرنفسه ينطبق خلال جائحة Covid 19، عندما أصبحت بعض محطات تعبئة المنتجات الزراعية  بؤرًا وبائية ساخنة.واتخذت عملية إدراج هذه القضية على جدول الأعمال العام، شكل تغطية إعلامية قوية، وطرحت مجموعة من الأسئلة بشأنها في البرلمان وقامت مرافعات بشأنها من طرف نقابات العمال. فعلى سبيل المثال، في أعقاب مأساة وقعت على الطريق، وجّهت المجموعة البرلمانية التابعة للكونفدرالية الديمقراطية للشغل (CDT) سؤالًا مكتوبًا حول الموضوع إلى وزير الشغل والإدماج المهني. أما من جهة النقابة الوطنية للعاملات والعمال الزراعيين بالمغرب (‎(SNOA، فقد نُشرت مرافعة مطولة في 20 شباط/فبراير 2021 تصف الجحيم الذي يعيشه ملايين العمال في الحقول والمزارع ومحطات التعبئة في جميع أنحاء البلاد. وفي أيار/مايو 2021، كان وزير الشؤون العامة قد صرح أمام مجلس النواب "بانعقاد اجتماع مع وزارتي الفلاحة والشغل لتحديد مواصفات جديدة لنقل العمال الزراعيين".

كان للمجتمع المدني أيضًا دورًا معتبرًا في إدراج مأساة العاملات في مجال الزراعة على جدول الأعمال العام، وقد نُظمت عدة حملات للتوعية بهذا الشأن، منها على سبيل المثال، حملة التوعية الرقمية "يودا" (Youda) التي أطلقتها مجموعة شابات من أجل الديمقراطية (GJFD) في سهل سوس للتوعية ضد العنف المنزلي الذي تتعرض له العاملات أثناء الحجر الصحي أو المبادرة التي أطلقتها OXFAM في عام 2008 للنضال من أجل حقوق العاملات الزراعيات في قطاع الفواكه الحمراء (مختلف أنواع التوت) (Théroux-Séguin 2016). لكن على الرغم من أن هذه الأعمال والمبادرات المخصصة، تقوم بها عددٌ من الجمعيات والمنظمات غير الحكومية، إلا أنها تظل محلية وذات مفعول محدود.

الخاتمة

إن البيانات المقدمة في هذه المقالة تبرز هشاشة الوضع الاجتماعي والاقتصادي الذي تعاني منه العاملات في مجال الزراعة في المغرب، مع تركيزها الخاص على حالة العاملات في اثنتين من المناطق الزراعية الرئيسية في البلاد: منطقة سايس والمنطقة الساحلية للغرب واللوكوس. هذا الوضع الهش زاد من حدته تفشي الجائحة والإجراءات التقييدية التي رافقتها. وعلى الرغم من حدة هذه الهشاشة، تظل هذه الوضعية متوارية عن الأنظار، ولا تلقى عناية كبيرة في السياسات الزراعية العامة.

ومع ذلك كله، يبدو أن هناك الآن بصيص من الأمل، قد يأخذ في الاعتبار ويراعي هشاشة وضع العاملات ويقدم لها حلولاً. لقد شهد المغرب انتخابات وتغييرًا للحكومة في أيلول/سبتمبر 2021 وكل المؤشرات تجعل الأمل معقودًا على الاستراتيجية الفلاحية الجديدة "الجيل الأخضر 2020-2030" لتعالج  وضع العاملات في الزراعة بشكل مباشر. بالإضافة إلى ذلك، أطلقت الدولة، في أعقاب أزمة الجائحة، حملة تغطية اجتماعية معممة، مع التركيز على المزارعين بوصفهم فئة اجتماعية ذات أولوية، الأمر الذي من شأنه أن يخفف من وطأة الظروف المعيشية للعمال.

وفي هذا السياق الذي نأمل أن تشهد فيه المغرب تغييرات محتملة، نوّد نقل بعض التوصيات، على النحو الذي عبرت عنه العاملات اللواتي أجرينا معهن محادثات منذ ما يقرب من عقد من الزمان ويتمنين أن يحققها المسؤولون السياسيون:

  • الحصول على أجور مناسبة، لقاء الأعمال الشاقة التي يتكبدن عناءها، لا سيما من خلال رفع الحد الأدنى القانوني لأجور القطاع الزراعي SMAG؛
  • الحصول على وظائف مستقرة ودائمة، تحميهم من الهاجس الذي يراودهن يوميًا بشأن العثور على عمل كل يوم؛
  • إمكانية العمل في ظروف أفضل في ظل احترام قوانين العمل وضمان التغطية الاجتماعية والراتب التقاعدي؛
  • توجيه المساعدات الحكومية نحو القطاع الزراعي مع منح الأولوية لأرباب العمل الذين يحترمون ظروف العمل؛
  • وضع مكافآت، كما هو الحال بالنسبة لسيارات الأجرة الكبيرة، لتمكين الناقلين من تجديد مركباتهم القديمة؛
  • تشجيع المشروعات الناشئة والابتكارات من أجل الربط الشبكي للعمل الزراعي؛
  • الاستفادة من المشروعات الجماعية، في إطار الجمعيات أو التعاونيات، حيث يمكنهن العمل معًا ووضع خبراتهن موضع التنفيذ، مثل مشروع نسج السجاد على سبيل المثال.

إلى جانب ذلك، من المهم تجاوز المحرمات التقليدية التي تحيط بالعمل الزراعي المدفوع الأجر الخاص بالنساء، والعمل على تشجيع الخطابات وغيرها من الصور حول العاملات في الزراعة، من قبيل ترسيخ صورة تستند إلى الاعتراف بدورهن الأساسي في ضمان الأمن الغذائي للبلاد ومساهمتها في تحقيق أهداف السياسة الزراعية الوطنية.

مراجع

ليزا بوسنبروك وهند فتوحي (2021). محنة العاملات بالزراعة في المغرب خلال جائحة COVID-19. المجلة الزراعية

ليزا بوسنبروك (2019). العاملات في الزراعة في منطقة سايس بالمغرب، هل هن عناصر فاعلة في التغيير الاجتماعي؟ البدائل الريفية 7.  http://alternatives-rurales.org/les-ouvrieres-agricoles-dans-le-saiss-au-maroc-actrices-de-changements-social/

ليزا بوسنبروك، الرحج، م، العليم، ن ( (2015 )"الأساليب الجديدة للعمل الزراعي في منطقة سايس، بالمغرب. ظهور عدم المساواة في الهوية بين العامل والعاملة؟ دوبري، ب؛ رهاني ز؛ بوطالب، وفيري، ن، (محررون) المغرب في الوقت الحاضر. من حقبة زمنية إلى أخرى، مجتمع في طور التحوّل، الرباط: طبعة مركز جاك برك ومؤسسة الملك عبد العزيز: 365-374.

باسكون، ب؛ الناجي، م (1985)، فلاحون بلا أراضي في المغرب، دراسات وبحوث متعددة التخصصات من أجل التنمية الريفية. الرباط، المغرب: معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة، إدارة التنمية: 141- 155.

Théroux-Séguin،  من التمكين إلى القيادة التحويلية: تحليل متعدد الجوانب للنساء العاملات في قطاع الفراولة بالمغرب، تحرير فليتشر؛ كوبيك. النساء محور القضايا الرئيسية الخاصة بالزراعة في جميع أنحاء العالم والمقاربات العملية، ص 209 -225. روتليدج: أوكسون، نيويورك.

 

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.