قراءة مالية في تحولات النظام الصحي في مصر: معضلة البحث عن "المجانية" والحق في الصحة

لقراءة المقال كاملا، اضغط/ي على “حمّل الملف” على اليمين

سيارة إسعاف تدخل مستشفى العريش في مدينة العريش شمال محافظة سيناء، 20أذار/ مارس 2022 ©EPA/خالد الفقيه

المقدمة

على مدار نشأة وتطور الدولة الحديثة في مصر،1تُنسب الدولة الحديثة في مصر إلى عهد محمد علي الذي بدأ في 1805، بينما تُنسب الدولة الوطنية إلى حقبة دستور 1923 الذي تم إعداده بعد الاعتراف بمصر كدولة مستقلة. كان للسياسات الصحية دوراً بارزاً تمثل في ملمحين أساسيين: الأول هو دور حاضر ومؤثر للدولة في تقديم الخدمة العلاجية من خلال منشآت ممولة من إيرادات الخزينة العامة، والثاني هو الحرص على تقديم هذه الخدمات بأقل تكلفة ممكنة أو بدون مقابل، وهوما يُعرف بسياسة "المجانية".

ومثل العديد من السياسات الاجتماعية المجانية التي ترسخت في فترة ما بين الحربين العالميتين واتخذت زخماً جديداً مع مشروع الاشتراكية العربية في الستينات، فإن مبدأ "المستشفى الحكومي المجاني" كان مسرحاً للصراع بين تيارين يتنافسان بقوة على صياغة السياسة العامة خلال العقود الأخيرة: الأول هو التيار المدافع عن استمرار نمط "المجانية" وتعزيزه من خلال سياسات مالية توسعية تعتمد على ضرائب تستهدف الفئات الأكثر ثراءً، في نموذج أشبه بنمط دولة الرفاه في بعض بلدان أوروبا الغربية. والتيار الثاني الذي يرى ضرورة الحد من الضرائب وسياسات إعادة التوزيع بصفة عامة من أجل تهيئة البلاد لجذب الاستثمارات وتحقيق أفضل معدّل للنمو الاقتصادي وللتراكم الرأسمالي، في محاكاة لصعود النيوليبرالية عالمياً.

ويقترح التيار الثاني تبني سياسات مالية تهدف إلى الحد من العجز المالي للموازنة بحجة أنه يؤثر على فرص الاستثمار بطرق عدة، مثل إسهامه في رفع معدلات التضخم أو مزاحمة الدين العام لفرص الاقتراض الخاصة وغير ذلك. ويدعو هذا التيار لتحويل ميراث سياسات ما بين الحربين وسياسات الاشتراكية العربية إلى نمط جديد يعتمد بشكل أقل على الخزينة العامة وبشكل أكثر على مساهمات الطبقة الوسطى، مع اقتصار سياسات "المجانية" على الطبقات الأكثر فقراً في ظل عملية مستمرة من تطوير قاعدة البيانات عن مستويات مدخول المواطنين مما يساعد في تصنيفهم بين قادرين وغير قادرين.

وقد استطاع هذا التيار الأخير بأن يعزز من حضوره في مصر بفضل أزمتين ماليتين كبيرتين مرت بهما البلاد: الأولى كانت في أواخر الثمانينات مع تفاقم المديونية الخارجية والتي أوصلت مصر لمرحلة سياسات التحرر الاقتصادي في بدايات التسعينات بدعم من صندوق النقد والبنك الدوليين، فيما يعرف بـ "التثبيت والتكيف الهيكلي". والثانية مع تفاقم تداعيات الأزمة المالية العالمية على مصر وعدم الاستقرار السياسي بعد ثورة 2011 وما تبع ذلك من تداعيات أزمة تفاقم السوق السوداء للعملة الصعبة في 2016، ممّا أدى إلى الدخول في مرحلة جديدة من السياسات المالية والنقدية بدعم من صندوق النقد الدولي وحزمة من المانحين الدوليين. خلال الأزمتين كانت مؤسسات التمويل الدولية تعزز تصوراتها في مصر بشأن تقليل كلفة سياسات الحماية الاجتماعية على الخزانة العامة.

في هذا السياق، تم طرح قانون جديد للتأمين الصحي وإقراره في 2018 ومثلت نصوص هذا القانون تحولاً كبيراً في مفهوم دور الدولة في الصحة بمصر.

يمثل القانون أوّل تشريع يستهدف إعادة هيكلة نظام التأمين الصحي في مصر منذ الستينات، ويهدف في جوهره إلى تقليل الاعتماد على نموذج "المستشفى المجاني الممول من الخزانة العامة"، والدخول في نموذج جديد يعتمد بشكل أكبر على تمويل الطبقات الوسطى للنظام الصحي العام عن طريق الاشتراكات المستقطعة من الدخول. وذلك بحجة سماح هذا النموذج في تحسين مستوى الخدمة الصحية العامة واستمرار دور الدولة الاجتماعي في دعم غير القادرين.

وإذ يمثل ذلك تحولاً كبيراً في تاريخ السياسات الصحية في مصر، أثار قانون التأمين الصحي الجديد جدلاً واسعاً خلال تشريعه، ولا يزال متوقعاً بأن يثير الجدل خلال مراحل تطبيقه التي تمتد إلى خمسة عشرة عاماً. فهو لا يزال قيد التطبيق وغير مطبق إلا في نطاق ضيق من المحافظات منخفضة السكان.2محافظات المرحلة الأولى من نظام التأمين الصحي الشامل هي بورسعيد والأقصر والاسماعيلية وجنوب سيناء وأسوان والسويس.

لا تنحاز هذه الورقة البحثية لأيّ من هذين التيارين لكون التصورات المطروحة في كلاهما تنطوي على تناقضات عدة. فنموذج المستشفى "المجاني" الممول من الخزينة العامة كان دائماً محلّ نقد بسبب ضعف مستوى الخدمة المقدَّمة حتى خلال بداياته في الستينات. والتيار المدافع عن هذا النموذج لا يتبنى تصورات أشمل حول كيفية تعزيز السياسات الضريبية التوزيعية لتحسين موارد الخزينة العامة بقدر ما يدور حديثه في نطاق تحسين الخدمة العلاجية.

من جهة أخرى، فإن تخفيض عجز الموازنة الذي يُنشِد به النموذج الجديد أمرٌ إيجابيٌّ. ولكن الاعتماد على الطبقة الوسطى بشكل مكثّف بدلاً من الخزينة العامة لتمويل سياسات الصحة العامة، وتجميل الصورة بالحديث عن التمويل المُستهدِف لغير القادرين، ما هو في جوهره إلا وجه جديد من أوجه استنزاف الطبقة الوسطى يرافقه تحرير سريع لدعم الوقود والطاقة والعديد من الخدمات العامة.

كما أن القانون الجديد يهدف إلى تحويل هيئة التأمين الصحي إلى طرف يُجبي الاشتراكات ويتعاقد على الخدمة مع مستشفياتٍ عامة وخاصة، مع تسعير الخدمات بهامش ربح مقبول. وهناك مخاوف مشروعة من أن يكون للقطاع الخاص أو للمستشفيات العامة - بعد أن تتحول إلى كيانات هادفة للربح - دور مؤثر في رفع تكلفة العلاج ضمن منظومة التأمين، وبالتالي رفع قيمة الاشتراكات أو المساهمات المفروضة على المرضى.

الهدف الأساسي من هذه الورقة البحثية هو تقديم قراءة للاقتصاد السياسي لهذه التحولات الكبيرة التي تجري في السياسات الصحية في مصر، وذلك بالنظر إلى تاريخ "المجانية" وجذورها وأسباب نشأتها وإلى مدى قدرتها على تحقيق أهدافها. ونعطي هذه الأهمية للمجانية لأنها تمثّل دور الدولة في الصحة في أذهان الملايين من مناصري دولة الرفاه ومن المصريين بسبب تاريخها الطويل كسياسة تعود إلى نشأة الدولة الوطنية في مصر.

ونحاول أيضاً قراءة الضغوطات التي تعرضت لها المجانية في ضوء السعي للحدّ من العجز المالي للموازنة العامة، وذلك في محاولة لفهم كيف كان الميل للحد من السياسات المالية التوسعية دافعاً رئيسياً لصعود قانون التأمين الصحي الجديد بفلسفته التي تستهدف الاعتماد بشكل أكبر على تمويل الطبقات الوسطى للنظام الصحي العام من خلال الاشتراكات التأمينية.

والهدف من هذه القراءة هو محاولة وضع النقاش العام حول قضية دور الدولة في الصحة في إطار أعمق من خلال البحث في "العوامل المالية" التي قوّضت من قدرة المجانية بصورتها القديمة على تحقيق أهدافها، والتي تقف أيضا كتحدٍّ أساسيٍّ أمام قدرة التأمين الصحي الجديد على النجاح.

ويعتمد هذا البحث على الوثائق التاريخية التي تتناول جذور سياسات مجانية الصحة في مصر، وعلى تحليل للبيانات الكلية الخاصة بالإنفاق على الصحة من مصادر رسمية محلية ودولية، بالإضافة لمقابلات أجراها الباحث مع عدد من الأطباء العاملين في مستشفيات حكومية مجانية عن تجربة عملهم هناك، مع التعرض لعدد من الأدبيات المؤسِّسة في مجال الصحة.

Endnotes

Endnotes
1 تُنسب الدولة الحديثة في مصر إلى عهد محمد علي الذي بدأ في 1805، بينما تُنسب الدولة الوطنية إلى حقبة دستور 1923 الذي تم إعداده بعد الاعتراف بمصر كدولة مستقلة.
2 محافظات المرحلة الأولى من نظام التأمين الصحي الشامل هي بورسعيد والأقصر والاسماعيلية وجنوب سيناء وأسوان والسويس.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.