عناصر كيفية من أجل مقاربة سوسيو-سياسية لنظام الدعم الاجتماعي في الجزائر

تُنشر هذه الورقة ضمن منشور أطول حول موضوع الاحماية الاجتماعة في الجزائر، وممكن قراءتها خلال هذا الرابط.

عرضٌ للفرضيات

لا تدّعي هذه الورقة الإحاطة الكاملة بمختلف أبعاد وجوانب نظام الدعم الاجتماعي في الجزائر، بل تهدف فقط للإسهام في النقاش العام حولها من خلال جملة من الفرضيات التي تشكل صياغة تحليلية لعناصر أولية لمقاربة كيفية تستند أساساً وفي المقام الأول إلى مفاهيم ومقولات علم الاجتماع السياسي. ما يدعم - في اعتقادنا - جدوى هذا الاختيار المنهجي والمعرفي هو مغالاة النقاش العام حول سياسات وإجراءات الدعم الاجتماعي في الجزائر في الطرح الاقتصادوي والتقني، مع تغييب للتناول السوسيولوجي للمسألة، وإغفال لافت - إعلاميًّا وحتى أكاديميًّا- للوظيفة السياسية المنوطة بإجراءات ومختلف سياسات الدعم في السياق الجزائري. الفكرة الأبرز التي يستند إليها التحليل في هذه الورقة مفادها أنه لا يمكن تناول منظومة الدعم الاجتماعي - في حالة الجزائر أو غيرها من البلدان - بمعزل عن شكل السلطة السياسية، طبيعة الدولة واقتصادها السياسي، وكذلك النموذج الاقتصادي السائد.

تجادل هذه الورقة بأن منظومة الدعم الاجتماعي في حالة الجزائر، ومع الإقرار بالمكاسب الاجتماعية الكثيرة التي حققتها عبر مختلف مراحل الجزائر المستقلة، لها وظيفة سياسية تؤديها، ليس بدافع ذاتي لدى من يتمتعون بالسلطة، بل بحكم الطبيعة النيوباتريمونيالية للسلطة والزبونية للدولة1للإحاطة بهذين المفهومين، النيوبتريمونيالية والزبونية، وكذا بمفهوم الاقتصاد الريعي، في السياق الجزائري، يمكن العودة إلى أعمال لهواري عدي العديدة في الموضوع. نذكر منها: Lahouari Addi, L’Algérie et la démocratie, pouvoir et crise du politique dans l’Algérie contemporaine, Ed. La Découverte, Paris, 1994. ; Lahouari Addi, Le système de pouvoir en Algérie, son origine et ses évolutions, In : Confluences Méditerranée, n 115, 4/2000, pp 103-113. ; Lahouari Addi, Sociologie politique d’un populisme autoritaire, In : Confluences Méditerranée, n 81, 2/2012, pp 27-40. ; Lahouari Addi, Les obstacles à la formation de la société civile en Algérie, In : Anna Bozzo, Pierre-Jean Luizard (dir.), Les sociétés civiles dans le monde musulman, Ed. La Découverte, Paris, 2011. ; أما باللغة العربية فيمكن الإحالة إلى المقال الثري لــ:نوري دريس، الجيش، السلطة والدولة في الجزائر، من الإيديولوجيا الشعبوية إلى الدولة النيوباتريمونيالية، مجلة سياسات عربية، العدد 35، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2018. والطبيعة الريعية للاقتصاد الجزائري. وهذا أمر ينسلّ من خصوصيات التاريخ السياسي للجزائر الحديثة، حيث تشكلت ثقافة سياسية وتصورات شعبوية الطابع للدولة وللمجتمع، والتي لا تزال حتى اليوم تحدّد في جانب كبير ماهية ومخرجات السياسات العمومية بما فيها سياسات وإجراءات الدعم الاجتماعي. إن المآل أو المُخرج السوسيولوجي للوظيفة السياسية المنوطة بإجراءات الدعم الاجتماعي ضمن المنظومة العامة للحكم في الجزائر، هو تعطيل سيرورة التشكّل الطبقي للمجتمع، عبر تكريس مختلف سياسات الدعم (الموجهة إلى السلع الأساسية والسكن والشغل، إلخ) لواقع مساواتي (egalitariste)، ينفي التمايز الاجتماعي ويعطل ديناميته التي هي ذاتها دينامية تشكّل ونشوء المجتمع الحديث (وفق أطروحات مؤسسي علم الاجتماع الأوائل من تونيز إلى دوركايم). بعبارة أخرى، إن نظام الدعم الاجتماعي في الجزائر ولاعتبارات تاريخية وبنيوية، يساهم في تعطيل وتأجيل الانتقال من الجماعة إلى المجتمع بتعبير فيرديناند تونيز2Cf. Ferdinand Tönnies, Communauté et société, Editions Puf, Paris, 2010. .

هناك بُعدٌ آخر تجادل الورقة لصالحه هو أن دينامية تسييس إجراءات الدعم الاجتماعي في سياق السلطة النيوباتريمونيالية والدولة الزبونية والاقتصاد الريعي، يُفضي إلى إفراغ العلاقة بين الدولة والمجتمع من مضامينها السياسية، ويجعل الطلب الاجتماعي الموجه إلى الدولة خالياً من المطالب السياسية (مطلب التمثيل، الرقابة، الحريات ...الخ)، ويُبقي فقط على المضمون والمطلب المعيشي (توفير السلع والمواد الأساسية، مزيد من الدعم والإمكانيات، إلخ)، ما يؤدي إلى تضييق لإطار العقد الاجتماعي القائم وبالتالي لمفهوم المواطنة ككلّ. وفي ذلك تعزيز لنزعة مزدوجة تعمل على طفلنة المجتمع وتقليص مشاركته في الحكم وفي صنع القرار وزيادة تبعيته من جهة، وعلى تكريس أبوية الدولة من جهة أخرى، وهي نزعة توفر السند لإعادة إنتاج ثقافة وممارسة سياسية تقليدية وما قبل حداثية.

صياغة أخرى للفرضية الرئيسية التي تعتمدها هذه الورقة هي في اعتبار الريع3لا يُقصد بعبارة الريع هنا المورد المالي المتأتي من تصدير المحروقات في ذاته، بل المقصود هو المنظومة السياسية والإدارية التي يتم ضمنها وبها الإشراف وتنظيم عملية توزيع المورد الريعي. عامل ركود سياسي، أو بعبارة أخرى أداة تحييد سياسي للمجتمع ولمختلف القوى الاجتماعية فيه. لم يكن الدافع الوحيد للنموذج التنموي والاقتصادي الذي انتُهج بعد الاستقلال تحقيق العدالة والرفاهية، بل كانت هناك رهانات وحسابات سياسية تقف وراء هذا الخيار، أبرزها السعي لتفادي الكُلفة الاجتماعية/السياسية لأي مشروع تنموي فيه إقلاع اقتصادي، خصوصاً في مراحله الأولى. فاستثمار الدولة الكبير في الحقلين الاقتصادي والاجتماعي، وإخضاعها قوى السوق وقوانينه لها عبر التحكم بأدوات سياسية وبيروقراطية فيه، جعل السيرورة التنموية سيرورة توافقية فوقية، خالية من الجوانب الصراعية العنيفة المميزة لأي إقلاع اقتصادي. وحيّدت الدولة بذلك المجتمع سياسيًّا بإضفائها السلمية على الحقل الاقتصادي الذي هو في الأساس حقل تنازعي بامتياز.

إن الكثير من إجراءات الدعم (إجراءات دعم تشغيل الشباب عبر المشاريع كمثال) تندرج ضمن ما أسماه رشيد سيدي بومدين بـمتطلبات "الحوكمة المحلية للمنظومة الزبونية الريعية"4Cf. Rachid Sidi Boumediene, Aux sources du Hirak, Editions Chiheb, Alger, 2019. . والمقصود هو شراء السلم الاجتماعي بحصة من الريع، ضمن عقد اجتماعي ضمني يهيكل علاقة دولة - مجتمع في سياق نظام زبوني واقتصادي ريعي، يستفيد به الشباب مثلاً من حصة من الريع على شكل قرض لدعم مشروع اقتصادي مقابل تحييدهم سياسيًّا. وفي هذا الإطار، يمكننا بسهولة الوقوف على تساهل وتغافل السلطات العمومية عن مختلف التجاوزات المرتكبة من طرف الشباب المستفيد من هذه القروض لناحية أوجه وطرق صرفها ومدى التزامهم بتسديد مستحقاتها للبنوك5يسهل ملاحظة نفس هذا المنطق، منطق الاستغلال السياسي لإجراءات الدعم، أو بعبارة أوضح، منطق تسييس الدعم كإجراء يهدف إلى تحييد المجتمع سياسيًّا، في مجالات أخرى عديدة لمنظومة الدعم. فبخصوص دعم السكن وآليات منحه يبقى تصريح الوالي السابق للجزائر العاصمة (2013-2019)، عبد القادر زوخ، معبراً وكاشفاً عن معايير منح وتوزيع المساكن، والهدف السياسي (إضافة للاجتماعي طبعاً) من العملية. جاء في تصريح السيد زوخ: "الانتخاب شرط من أجل الحصول على سكن". المصدر: يومية النهار، 25 سبتمبر 2014، مقال بعنوان "بطاقة الناخب، شرط للحصول على مسكن في بلدية الجزائر الوسطى". . ويختلط في هذه الحالة الهدف الاقتصادي مع الهدف السياسي لإجراء الدعم. وكلما ضعفت وتراجعت شرعية نظام الحكم زاد انتهاجه واعتماده على مثل هذه الممارسات6أحدث مثال على هذه الممارسات هو إقرار منحة البطالة الذي أقره الرئيس تبون مطلع سنة 2022 واستهدف الشباب. حسب تقرير للبنك الدولي فقد تقدم 4 ملايين شاب بطلب للاستفادة من الإقرار، وجاء في تصريح للرئيس تبون أن مليون شاب استفادوا فعليًّا من المنحة. المصدر: www.tsa-algerie.dz/lincroyable-secces-de-lallocation-chomage-en-algerie/ .

بسطٌ للمقاربة

من ناحية أخرى، وفي سبيل بسط وفهم أكبر لفرضيات هذه الورقة ومقاربتها، نرى حاجة ملحّة لعرض أطروحتين اثنتين تؤطران هذه الورقة التحليلية وتوجّهاتها:

أولاً: التحوّل الذي أخذ فعلياً وعلى أرض الواقع دلالة الانحراف، يتعلق بـ "تغيير المسار"7مثلت وفاة الرئيس الهواري بومدين (27 ديسمبر 1978) وتقلّد الشاذلي بن جديد منصب الرئاسة، إعلان نهاية نمط تسيير معين للدولة والمجتمع والاقتصاد ووضع أسس لنمط جديد. وشمل الأمر تغييراً في الكادر البشري لمنظومة الحكم تم من خلالها استبعاد التكنوقراط (الذين يعتبر بلعيد عبد السلام ممثلاً عنهم) وبسط نفوذ البيروقراط (ممثلين في أعضاء الحزب وقياداته التي زاد نفوذها مقارنة بفترة حكم بومدين). وقد أعطيت الكثير من التوصيفات لهذا التغيير/التحول، فنجد من يتحدث عن تصفية إرث وجماعة بومدين (déboumedianisation)، وتراجع عن خيار التصنيع (désindustrialisation) ...الخ، واعتمد الخطاب الرسمي عنوان مراجعة السياسات السابقة. الذي ميز نهج وممارسات الدولة سياسياً واقتصادياً منذ بداية الثمانينيات، مع اعتلاء الشاذلي بن جديد سدّة الحكم، والتغيّر الذي طرأ لناحية مقاربة المعطى الريعي واستعمالاته، من أداة لتحقيق التنمية ودعم مشروع تحديث المجتمع والاقتصاد وتعزيز بناء الدولة، إلى وسيلة في خدمة أجندة الحكم للنخبة المسيطرة الجديدة. وتساعد هذه الفرضية بجرأتها في النقاش حول موضوع سياسات ونظام الدعم في الجزائر، لأنها تلقي الضوء على نحو واضح على البُعد السياسي للمسألة وتحرّرنا من قيد التناول الاقتصادوي والتقني الضيق والحصري لمسألة الدعم. فكما لسياسات الدعم وظيفة اقتصادية واجتماعية، فإن لها كذلك وظيفة سياسية وجب الكشف عن عناصرها ورهاناتها، خصوصاً في ما يتعلق بشكل العلاقة بين الدولة والمجتمع التي تعمل على تكريسها وإعادة إنتاجها. فلا يتم تقرير إجراءات الدعم وإدارة عملية توزيعها على مختلف المستويات ضمن فراغ سياسي، بل هي تعبير وامتداد لميزان قوى يخترق المجتمع والدولة ويتجسد في فاعلين سياسيين، اجتماعيين واقتصاديين، لكُلّ منهم مصالحه وحساباته الخاصة8يلقي العدد الخاص من يومية الوطن (الناطقة بالفرنسية) والمعنون « La république des fils de .. » (جمهورية أبناء ...) الصادر في 28 جويلية 2018، الضوء على جانب مهم من التداخل بين عالمي السياسة والاقتصاد في الجزائر المعاصرة. El Watan, 28/07/2018. . وهي إذن عملية سياسية إضافة إلى كونها عملية محاسبية/تقنية ذات دلالة وأثر اقتصادي.

ثانياً: في الغالب، وعند تناول موضوع سياسات ونظام الدعم في الجزائر، إعلامياً أو أكاديمياً، يتم توظيف مفهوم "الدولة الاجتماعية". إن مفهوم الدولة الاجتماعية (أو دولة الرفاه) مرتبط من ناحية النشأة التاريخية بالسياق الغربي، فهذا الشكل من التنظيم السياسي والمؤسساتي للدولة هو نتاج مباشر وتعبير عن التسوية التي تمت بين القوّتين الاجتماعيتين الأساسيتين للمجتمع الرأسمالي الصناعي: رأس المال والعمل. أما في الحالة الجزائرية، فإن ما يسمى بالدولة الاجتماعية هو نتاج لسياق تاريخي مُخالف تماماً، يُكرّس علاقة السيطرة والتناقض السياسي في الأساس أكثر من علاقة السيطرة والتناقض الاقتصادي (كما في حالة الغرب الصناعي الرأسمالي الذي شهد ولادة المفهوم)، وهو السياق الذي شهد ولادة الدولة الوطنية والذي يعبر على علاقة مباشرة بالحالة الاستعمارية المميزة التي مارستها فرنسا على المجتمع الجزائري وبُناه الاجتماعية والسياسية والثقافية. فقد عمل الاستعمار - عبر مختلف مراحله - على إنتاج وإعادة إنتاج علاقة سيطرة شاملة ومستمرة على المجتمع الجزائري، قوامها التكريس المادي والرمزي، الموضوعي والذاتي، للامساواة سياسية واقتصادية وكذلك ثقافية، فشلت أمامها كل مطالب المساواة التي عبرت عنها الحركة الوطنية، وفشلت معها مبادرات الإصلاح التي حاول اليسار تمريرها وقاومها لوبي المعمرين. جعل هذا الواقع الموغل في اللامساواة بمختلف أبعادها من مشروع الدولة الوطنية المنشود مرتبطاً أشد الارتباط بهدف بناء دولة ذات طابع اجتماعي واضح وصريح. وقد عبّر بيان أول تشرين الثاني/ نوفمبر9يمكن الاطلاع على مضمون النص الكامل لبيان 1 نوفمبر 1954 على موقع رئاسة الجمهورية الجزائرية: www.el-mouradia.dz/ar/algeria/texts/statement-of-november عن هذا المطلب على نحو جلي، حيث جعل ضمنيًّا دليل الاستقلال وشرعية الدولة هو مدى قيامها وتصديها لمهمتها الاجتماعية. وعليه، فالدولة الاجتماعية في حالة الجزائر هي أمر يحيل إلى لحظة التأسيس لا إلى لحظة تالية لتطور البنية الاقتصادية - الطبقية للمجتمع (طبقة برجوازية وطبقة عمالية). وفي اعتقادنا، تكمن أهمية إبراز هذا الفارق في مضامين "الدولة الاجتماعية" ودلالاتها في الحالتين، بأنه كفيل بمساعدتنا على فهم ماهية وغايات سياسات وإجراءات الدعم الاجتماعي من منظور الدولة الجزائرية، ومن منظور توقعات وطموحات مختلف الفئات الاجتماعية. لقد أقرن وعد تشرين الثاني/ نوفمبر هدف الاستقلال السياسي، بمدلول انتزاع السيادة الوطنية، بوضع حدّ نهائي لحالة اللامساواة التي عاناها الجزائريون طيلة فترة الاستعمار، إلى درجة تماهت فيها - على مستوى التمثيل والممارسة - لدى الجزائريين لحظة الاستقلال وزوال الاستعمار مع لحظة نهاية الفقر و"الحُقرة" بشكل لا رجعة فيه.10اهتمت سوسيولوجيا بيير بورديو (P. Bourdieu) في مرحلتها الجزائرية كثيراً بهذه المسألة، حيث بيّنت كيف أن الجزائريين يفسرون البطالة وهشاشة الوضعية الاجتماعية التي يعانون منها بإرادة المعمرين، وأنهم هم المسؤولون عن الفقر والبؤس الذي يعيشونه. وتلازم نهاية الاستعمار في أذهان الجزائريين بنهاية البطالة والفقر. نجد هذا التحليل لبيير بورديو بشكل واضح في: Pierre Bourdieu, Travail et travailleurs en Algérie, Editions Raisons d’agir, Paris, 2021. ; Pierre Bourdieu, Algérie 60, Editions Minuit, Paris, 1977. دليل الاستقلال والسيادة وفق هذا المنظور هو دولة وطنية تعمل بلا هوادة على تحقيق المساواة (l’égalité) وفق تصور لهذه الأخيرة يحيل في الحقيقة إلى مفهوم المساواتية (l’égalitarisme)، وهو تصور له جذور ثقافية وأنثربولوجية عميقة في التجربة السياسية الجزائرية الحديثة المتأثرة بالاستعمار الفرنسي، حيث يقترن بالنموذج الشعبوي للدولة (الذي تحمله النخب السياسية) ويتوافق ومدلولات "دولة الزواولة" لدى الفئات الشعبية. وفي هذا تأكيد مرة أخرى على أهمية السياق التاريخي المميز في حالة الجزائر الذي شهد ولادة مطلب الاستقلال ونشوء الدولة الوطنية، وهو سياق الاستعمار. الدولة في حالة الجزائر أكثر من أي بلد آخر، إن من ناحية النشأة والتأسيس أو من ناحية ديناميات البناء والتطور، هي دولة مرهونة بأداء وظيفة القضاء على اللامساواة ويتم تقييمها شعبيًّا على هذا الأساس. تعدى في حالة الجزائر أداء هذه الوظيفة الحد من تناقضات السوق ومعالجة التفاوتات التي تنتجها إلى نزعة صريحة في السيطرة على الاقتصاد ووأد السوق بمفهومه الليبرالي. على هذا الأساس، يمكننا فهم الإصرار الدائم لدى النخب الحاكمة لتأكيد عزم الدولة على مواصلة أداء دورها الاجتماعي وعدم نيتها - مهما كانت الظروف - التراجع عنه. وعليه، فإن أحد أهم مرتكزات شرعية منظومة الحكم في السياق الجزائري مرتبط فعليًّا باستمرار نظام الدعم.

كما يمكن الرجوع إلى سياق الحراك الشعبي حيث عرفت الحملة الانتخابية لرئاسيات 12 ديسمبر 2019 منافسة كبيرة بين المرشحين الخمسة لها (عبد المجيد تبون، علي بن فليس، عزالدين ميهوبي، عبد القادر بن قرينة، عبد العزيز بلعيد) لاستقطاب أصوات الشباب ورفع نسبة مشاركتهم في الانتخابات، حيث دخلوا في مزايدة بينهم لمن يعد بتقديم امتيازات أكثر للشباب. وفي هذا الصدد وعدوا جميعهم بمسح أو بإعادة جدولة ديون الشباب المستفيد من التمويل العمومي لمشاريع الأنساج (الوكالة الوطنية لدعم تشغيل الشباب Ansej).

Endnotes

Endnotes
1 للإحاطة بهذين المفهومين، النيوبتريمونيالية والزبونية، وكذا بمفهوم الاقتصاد الريعي، في السياق الجزائري، يمكن العودة إلى أعمال لهواري عدي العديدة في الموضوع. نذكر منها: Lahouari Addi, L’Algérie et la démocratie, pouvoir et crise du politique dans l’Algérie contemporaine, Ed. La Découverte, Paris, 1994. ; Lahouari Addi, Le système de pouvoir en Algérie, son origine et ses évolutions, In : Confluences Méditerranée, n 115, 4/2000, pp 103-113. ; Lahouari Addi, Sociologie politique d’un populisme autoritaire, In : Confluences Méditerranée, n 81, 2/2012, pp 27-40. ; Lahouari Addi, Les obstacles à la formation de la société civile en Algérie, In : Anna Bozzo, Pierre-Jean Luizard (dir.), Les sociétés civiles dans le monde musulman, Ed. La Découverte, Paris, 2011. ; أما باللغة العربية فيمكن الإحالة إلى المقال الثري لــ:نوري دريس، الجيش، السلطة والدولة في الجزائر، من الإيديولوجيا الشعبوية إلى الدولة النيوباتريمونيالية، مجلة سياسات عربية، العدد 35، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2018.
2 Cf. Ferdinand Tönnies, Communauté et société, Editions Puf, Paris, 2010.
3 لا يُقصد بعبارة الريع هنا المورد المالي المتأتي من تصدير المحروقات في ذاته، بل المقصود هو المنظومة السياسية والإدارية التي يتم ضمنها وبها الإشراف وتنظيم عملية توزيع المورد الريعي.
4 Cf. Rachid Sidi Boumediene, Aux sources du Hirak, Editions Chiheb, Alger, 2019.
5 يسهل ملاحظة نفس هذا المنطق، منطق الاستغلال السياسي لإجراءات الدعم، أو بعبارة أوضح، منطق تسييس الدعم كإجراء يهدف إلى تحييد المجتمع سياسيًّا، في مجالات أخرى عديدة لمنظومة الدعم. فبخصوص دعم السكن وآليات منحه يبقى تصريح الوالي السابق للجزائر العاصمة (2013-2019)، عبد القادر زوخ، معبراً وكاشفاً عن معايير منح وتوزيع المساكن، والهدف السياسي (إضافة للاجتماعي طبعاً) من العملية. جاء في تصريح السيد زوخ: "الانتخاب شرط من أجل الحصول على سكن". المصدر: يومية النهار، 25 سبتمبر 2014، مقال بعنوان "بطاقة الناخب، شرط للحصول على مسكن في بلدية الجزائر الوسطى".
6 أحدث مثال على هذه الممارسات هو إقرار منحة البطالة الذي أقره الرئيس تبون مطلع سنة 2022 واستهدف الشباب. حسب تقرير للبنك الدولي فقد تقدم 4 ملايين شاب بطلب للاستفادة من الإقرار، وجاء في تصريح للرئيس تبون أن مليون شاب استفادوا فعليًّا من المنحة. المصدر: www.tsa-algerie.dz/lincroyable-secces-de-lallocation-chomage-en-algerie/
7 مثلت وفاة الرئيس الهواري بومدين (27 ديسمبر 1978) وتقلّد الشاذلي بن جديد منصب الرئاسة، إعلان نهاية نمط تسيير معين للدولة والمجتمع والاقتصاد ووضع أسس لنمط جديد. وشمل الأمر تغييراً في الكادر البشري لمنظومة الحكم تم من خلالها استبعاد التكنوقراط (الذين يعتبر بلعيد عبد السلام ممثلاً عنهم) وبسط نفوذ البيروقراط (ممثلين في أعضاء الحزب وقياداته التي زاد نفوذها مقارنة بفترة حكم بومدين). وقد أعطيت الكثير من التوصيفات لهذا التغيير/التحول، فنجد من يتحدث عن تصفية إرث وجماعة بومدين (déboumedianisation)، وتراجع عن خيار التصنيع (désindustrialisation) ...الخ، واعتمد الخطاب الرسمي عنوان مراجعة السياسات السابقة.
8 يلقي العدد الخاص من يومية الوطن (الناطقة بالفرنسية) والمعنون « La république des fils de .. » (جمهورية أبناء ...) الصادر في 28 جويلية 2018، الضوء على جانب مهم من التداخل بين عالمي السياسة والاقتصاد في الجزائر المعاصرة. El Watan, 28/07/2018.
9 يمكن الاطلاع على مضمون النص الكامل لبيان 1 نوفمبر 1954 على موقع رئاسة الجمهورية الجزائرية: www.el-mouradia.dz/ar/algeria/texts/statement-of-november
10 اهتمت سوسيولوجيا بيير بورديو (P. Bourdieu) في مرحلتها الجزائرية كثيراً بهذه المسألة، حيث بيّنت كيف أن الجزائريين يفسرون البطالة وهشاشة الوضعية الاجتماعية التي يعانون منها بإرادة المعمرين، وأنهم هم المسؤولون عن الفقر والبؤس الذي يعيشونه. وتلازم نهاية الاستعمار في أذهان الجزائريين بنهاية البطالة والفقر. نجد هذا التحليل لبيير بورديو بشكل واضح في: Pierre Bourdieu, Travail et travailleurs en Algérie, Editions Raisons d’agir, Paris, 2021. ; Pierre Bourdieu, Algérie 60, Editions Minuit, Paris, 1977.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.