طموح وطني، رؤية متباينة: الإجماع والانقسام بين الشباب العراقي الناشط في حركة تشرين

.تم كتابة هذا المقال بالتعاون مع المركز الفرنسي للأبحاث العراقية

تحشد المتظاهرين في صفوف التحرير معلنين ثورة كبرى شبابية عفوية. ©تصوير مصطفى نادر/Mondalawy/Wikimedia

منذ تشرين الأول/أكتوبر 2019، يشهد العراق حركة احتجاجية جماهيرية، تتسم بالكثافة الكبيرة رغم عدم انحصارها في بغداد والمحافظات الجنوبية للبلاد، ويهيمن عليها الشباب. ورغم أن وقود هذه الانتفاضة الجديدة -التي يشار إليها باسم ثورة تشرين أو تظاهرات تشرين- تمثل في البداية في المظالم الاجتماعية والاقتصادية ونقص الخدمات الأساسية، إلا أنها سرعان ما تحولت إلى حركة سياسية أوسع نطاقاً وتنادي بإحداث تغيير جذري في النظام السياسي. أضحى الالتفاف حول شعار "نريد وطناً" -الذي يعد السمة المميزة لهذه الحركة الجديدة- هو انعكاس للجهود التي يبذلها النشطاء لطرح هوية عراقية جماعية جديدة، وتجاوز الانقسامات الطائفية، ورسم علاقات جديدة بين الدولة والمجتمع مقطوعة الصلة بالمعاملات المبنية على العقد الاجتماعي المعمول به حالياً.

لكن على الرغم من هذه الرؤية الشاملة للتجديد الوطني من خلال الإصلاح السياسي الجذري، والأسس المعاد تصورها للانتماء الجماعي؛ فمن غير الواضح على الإطلاق المدى الذي تمثل فيه الحركة الاحتجاجية -في الواقع- رؤية موحدة للأمة العراقية ووسيلة استراتيجية لتجديد الدولة. فقد أدت المسارات السياسية المختلفة جذرياً -التي اتبعتها المناطق المختلفة في البلاد منذ عام 2011، ولا سيما منذ عام 2014- إلى انقسامات مؤثرة داخل الرؤى الأمنية والأيديولوجيا وهياكل السلطة على المستوى ما دون الإقليمي. ونتيجة لذلك، فإن العلاقات والمواقف تجاه مختلف الأفكار وأشكال العمل الجماعي والفاعلين في مجالي السياسة والأمن تختلف اختلافاً كبيراً من منطقة إلى أخرى. وبالمثل، فإن الصعوبة التي تواجه حرية اجتماع النشطاء وتحركهم وانتشارهم تعني أن التبادل وتوطيد حركتهم حول مجموعة موحّدة من المطالب لم يكتمل بعد.

في الواقع، عند التحدث مع القادة الشباب في حركة تشرين من مختلف المدن في جميع أنحاء البلاد،1في محاولة لتحديد نقاط التوافق والانقسام داخل حركة تشرين الاحتجاجية، ولتوفير مساحة آمنة للتبادل بين قادة الحركات؛ عقدت "مبادرة الإصلاح العربي" في المركز الفرنسي للبحوث حول العراق في 28 تشرين الأول/أكتوبر 2021 مناقشة مائدة مستديرة خاصة مع 14 شاباً وناشطاً من مختلف المدن العراقية (البصرة، بغداد، النجف، كربلاء، الناصرية، ديالى، وكردستان العراق).   فإن ما يتضح هو أن ثمة اتفاقاً على الخطوط العريضة للتجديد الوطني -الحاجة إلى هوية عراقية جديدة وأساس جديد للقومية العراقية، وتحول جذري في ممارسة السلطة- وفي الوقت نفسه يمكن الوقوف على نقاط الانقسام المهمة في رؤيتهم الخاصة، وكذلك طرق تحقيق التغيير. ومع ذلك، فإن اشتراكهم في الوعي والتفاني في المعارضة -فضلاً عن الأهمية الكامنة (وربما العابرة للأجيال) والكبيرة المخصصة للعلمانية- تمثل مصادر للتعبئة المستمرة على الرغم من القمع والمأزق الاستراتيجي.

القومية العراقية والدولة: غموض مفاهيمي وانقسام استراتيجي

في حين أن قضية القومية العراقية تربط وتجمع القادة الشباب في الحركة الاحتجاجية، فإنها تُشكل أيضاً إحدى المساحات التي يظهر فيها غموض وانقسام ومأزق استراتيجي. يعتقد القادة الناشطون من الشباب أن القوميات العرقية (العربية والكردية) والطائفية الدينية (الشيعة والسنة) أمراض تمنع هيكلة العراق وأمنه واستقراره وتنميته. في الواقع، إنهم يدعمون تماماً فكرة تطوير قومية عراقية تتجاوز العرق والدين وحتى الجماعة. على الصعيد الشخصي، أعرب النشطاء عن إرادة تعميم الزيجات المختلطة بين العرب والأكراد والمسلمين والمسيحيين والسنة والشيعة باعتبارها جزءًا من بناء أمة عراقية جديدة.

لكن عند التعمق في آثار القومية العراقية، وبنائها وتفعيلها في الممارسة العملية؛ سرعان ما تصبح الأمور أكثر تعقيداً. يعمل مفهوم "القومية العراقية" نفسه في فراغ -إذ إنه مفهوم خالٍ من المعنى الأيديولوجي والإسقاط- ولكنه يفتقر أيضاً إلى استراتيجية قابلة للتنفيذ. بهذا المعنى، يواجه النشطاء صعوبة في تحديد كيفية بناء وإدارة هوية وطنية شاملة. يمتد هذا من المستوى الرمزي -مثل: كيف يمكن تحويل العَلَم العراقي إلى شعار وطني يحظى بقبول كافة أطياف المجتمع- إلى إدارة التنوع والاختلاف في البلاد. هذا الافتقار إلى الإجماع على القومية العراقية لا يعيق طريق النشطاء إلى تطوير رؤية واضحة لما تعنيه الهوية العراقية وما تبدو عليه في الممارسة العملية فحسب، بل يمنعهم أيضاً من التعبئة الكاملة للتنوع العراقي باعتباره جزءًا من رؤية تحولية.

يعكس هذا الغموض فيما يتعلق ببناء قومية عراقية جديدة وشاملة عدم وجود توافق في الآراء بين القادة الناشطين من الشباب فيما يتعلق بأهداف النشاط السياسي، وكيف ينبغي -أو لا ينبغي- للحركة العمل مع النظام السياسي القائم. في الواقع، هناك قادة ينظرون إلى النظام السياسي العراقي على أنه عدو يخوضون حرباً ضده، معتقدين أن الخيار الوحيد الممكن هو التخلص منه على كافة المستويات. وبهذا المعنى، فإن التفاوض ليس ممكناً ولا مفضلاً. من ناحية أخرى، يعتقد آخرون أنه لا يزال هناك مجال للإصلاح والتغيير التدريجي، وأن العمل السياسي والنشاط والمشاركة الديمقراطية يمكن أن تؤدي إلى الإصلاح.

ومِن ثَمَ، قد لا تعتبر الحكومة عدواً بل خصماً يمكن التفاوض معه. وبالنسبة لهؤلاء النشطاء، فإن إعادة تشكيل المجتمع أمر ممكن من القاعدة إلى القمة: فإذا كان الإصلاح أو التغيير في السياسة من القمة شبه مستحيل، لا تزال قاعدة المجتمع منطقة يسهل الوصول إليها، ومتاحة لمختلف أساليب العمل. ولا يزال آخرون يجدون أنفسهم مترددين بين هذه الخطابات الإصلاحية مقابل الخطابات الثورية وبين فهم الوسائل الاستراتيجية التي تستطيع الحركة من خلالها تحقيق طموحها الوطني الشامل.

تتجلى هذه الدرجة الهامة من الاختلاف فيما يتعلق بالدولة أيضاً في موقف قادة الحركة إزاء الميليشيات التي لا تزال موجودة على الأرض، مما يُشير إلى نقطة انقسام أخرى تتناقض مع التفاهمات المتنافسة لتشكيلات السلطة والإيمان بقدرة النظام السياسي على الحفاظ على الدولة القومية العراقية. في حزيران/يونيو عام 2014، احتل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) جزءاً كبيراً من العراق. وبسبب فتوى آية الله السيستاني بشأن الجهاد ضد داعش، تحمس الآلاف من الشباب الشيعة، الذين صدمتهم أعمال هذا التنظيم الإرهابي، وحملوا السلاح وانضموا إلى الميليشيات لتشكيل قوات "الحشد الشعبي" المدعومة من الحكومة. بيد أنه بعد مرور عام على سقوط داعش، نأى العديد من هؤلاء الشباب بأنفسهم عن "الحشد الشعبي" وتبنوا مواقف متباينة في مواجهة هذا الوجود المستمر كظاهرة تهيمن الآن على المشهد العراقي.

يعكس هذا التباين في المواقف أيضاً الوضع بين قادة النشطاء الشباب. إذ يعتقد البعض أن الميليشيات اضطلعت بدور هام في تحرير البلد وأن المشكلة تكمن في الدولة العراقية التي لم تحاول ولم تتمكن من إدماجها بعد الحرب. وفي المقابل، يرى البعض الآخر أن الميليشيات كانت موجهة منذ البداية بأجندة إيرانية لحكم العراق، وعلى هذا الأساس فإنهم يعتبرون هذه الميليشيات أعداء يجب التخلص منها. وفي حين أن مثل هذه المواقف المتباينة لا تؤثر بالضرورة على الحركة في عملياتها اليومية، فإنها تدل على غياب التوافق إلى حد كبير بشأن من يُمكن اعتباره اليوم فاعلاً سياسياً شرعياً ودور النظام السياسي القائم في هذا الصدد. تمثل نقاط الخلاف هذه حول ما تبدو عليه رؤية مستقبل الدولة القومية العراقية على أرض الواقع، والاستراتيجيات التي يتعين السعي إلى تحقيقها، عقبات كبيرة أمام تطور حركة النهضة الوطنية.

الوعي المعارض كنقطة للتوافق

على الرغم من هذه الاختلافات المفاهيمية والاستراتيجية المهمة، فإن قادة حركة تشرين يتشاركون بالفعل في نقاط هامة من التوافق، ولا سيما فيما يتعلق بالأهمية التي يمنحونها للحركة والأنشطة الاحتجاجية التي يمارسونها. والواقع أن مجرد المشاركة في الحركة الاحتجاجية يُشكل نقطة توافق بين النشطاء، الذين لا يساورهم أي شك حول قيمة أنشطتهم الاحتجاجية، رغم إدراكهم التام للمخاطر التي ينطوي عليها ذلك على سلامتهم الشخصية. فضلاً عن ذلك، يتشارك النشطاء في الشعور بالوعي المعارض، أو بأنهم مكلفون بمهمة أو نداء يستلزم التضحية. وكما يُرى عادةً في حركات الاحتجاجات السياسية في السياقات غير الآمنة، يشعر النشطاء بالفرح للمشاركة في حركة الاحتجاج وبالحزن العميق على زملائهم النشطاء الذين لقوا حتفهم أو اختفوا - وكلاهما يُعتبر عاملين مهمين في استمرار الحماس للتعبئة.2انظر على سبيل المثال: Goodwin and J.M. Jasper, eds. 2004. Rethinking Social Movements: Structure, Meaning, and Emotion. Lanham, MD: Rowan and Littlefield Publishers; Flam, H., and King, D., eds., 2005. Emotions and Social Movements. London: Routledge.

ولكن بعيداً عن هذا الوعي المعارض المشترك، يبدو أن أهمية العلمانية تُمثل نقطة حاسمة في التوافق. ففي أوساط قادة النشطاء الشباب، يقترن الخطاب بشأن إضفاء الطابع الديمقراطي على العراق مع خطاب العلمانية، مما يدل على ما قد يكون نظرة الأجيال إلى الديمقراطية والعلمانية باعتبارهما مترابطين. إذ يرى البعض أن هذه العلمانية لا بد وأن تكون في واقع الأمر ثورية وإقصائية لمواجهة الديناميات الاجتماعية والأحزاب السياسية التي تحشد الموارد الدينية لإعداد برامجها الإقصائية. ومع ذلك، يرى آخرون أن هذا الرأي تجاه تطبيق العلمانية غير مناسب للسياق العراقي. ويعتقدون أن تطبيقها على نحو استبدادي لن يؤدي إلا إلى زيادة الفجوات وإشعال رماد حرب أهلية بدأت تلوح في الأفق بالفعل. وبالنسبة لهم، لا بد أن تقوم العلمانية على أساس المصالحة، التي تضم الأديان ورجال الدين على السواء، والتي بدونها سيكون تحقيق العلمانية "الناجحة" شبه مستحيل. وهذا الاعتقاد المشترك بأن العلمانية تُشكل بعداً حاسماً في تجديد الدولة القومية العراقية - على الرغم من الاختلاف في الرأي حول كيفية تحقيقها - يقدم موقفاً إيديولوجياً مهماً من الممكن أن يبنى حوله مزيد من التفكر والتوافق حول الهوية الوطنية والإصلاح السياسي.

في حين أن حركة تشرين تواجه عقبات داخلية مهمة وسياقاً سياسياً يعوق بشدة تطورها على المستويين الوطني ودون الإقليمي، فإن قادة النشطاء الشباب يرفضون جميعهم مغادرة البلاد، ويعتبرون أنفسهم مسؤولين عن ضمان تحول العراق وإصلاحه وتغييره. فمن وجهة نظرهم المشتركة، لا تزال الظروف التي انطلقت بسببها حركة الاحتجاج في تشرين الأول/أكتوبر عام 2019 كما هي دون تغيير، بل إنها تفاقمت من بعض النواحي، مثل الفساد وانهيار الخدمات العامة. وفي هذا السياق، يؤمنون بأن عودة الاحتجاج أمر لا مفر منه. وعلى الرغم من الانقسامات الهامة التي تواجه الحركة من حيث رؤيتها واستراتيجيتها إزاء الدولة، فإن نقاط التوافق تُشكل قاعدة هامة للتعبئة المستقبلية وتوفر الأسس المحتملة لوضع رؤية موحدة أكثر ترابطاً لمستقبل العراق.

 

Endnotes

Endnotes
1 في محاولة لتحديد نقاط التوافق والانقسام داخل حركة تشرين الاحتجاجية، ولتوفير مساحة آمنة للتبادل بين قادة الحركات؛ عقدت "مبادرة الإصلاح العربي" في المركز الفرنسي للبحوث حول العراق في 28 تشرين الأول/أكتوبر 2021 مناقشة مائدة مستديرة خاصة مع 14 شاباً وناشطاً من مختلف المدن العراقية (البصرة، بغداد، النجف، كربلاء، الناصرية، ديالى، وكردستان العراق).
2 انظر على سبيل المثال: Goodwin and J.M. Jasper, eds. 2004. Rethinking Social Movements: Structure, Meaning, and Emotion. Lanham, MD: Rowan and Littlefield Publishers; Flam, H., and King, D., eds., 2005. Emotions and Social Movements. London: Routledge.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.