دور إيران الإقليمي في العالم العربي والعلاقات بين الدولة والمجتمع الإيرانِيّين

يتأثر دور إيران الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشكل كبير بتطور علاقات الدولة والمجتمع الإيرانيَّين والتحولات داخل مؤسسات الدولة. تجادل هذه الوروقة أن الدور الإقليمي المتنامي لفيلق الحرس الثوري الإسلامي هو انعكاس لعسكرة النظام السياسي داخل إيران وإضفاء الطابع الأمني عليه. وفي المقابل، فإن الإحباط الذي تشعر به شرائح من الشعب الإيراني بسبب عدم قدرة النظام السياسي على الإنجاز الاقتصادي يتجلى بشكل متزايد في حركات تنازعية تنتقد دور النظام الإقليمي.

arab-reform-initiative-bawader-irans-regional-role-in-the-arab-world-and-iranian-state-society-relations-scaled.jpg
الرئيس الإيراني حسن روحاني، والقائد الأعلى للجيش عبد الرحيم موسوي (يمين)، والقائد العسكري للحرس الثوري الإسلامي الإيراني الجنرال محمد باقري أثناء حفل بمناسبة العيد السنوي للجيش الوطني في طهران، إيران، نيسان/أبريل 2019. © EPA-EFE/عبدين طاهر قناره

* تنشر مبادرة الإصلاح العربي هذه المقالة بالتعاون مع تشاتام هاوس، وهي جزء من سلسلة تتناول مستقبل الحوكمة والأمن في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتأثيرهما على دور الدولة في المنطقة.

في أواخر أيار/مايو 2020، أدلى حشمة الله فلاحت بيشه، النائب الإيراني الإصلاحي السابق ورئيس لجنة السياسة الخارجية بتصريح لصحيفة اعتماد الإصلاحية قائلاً إنّ إيران أنفقت ما بين 20 إلى 30 مليار دولار في سوريا. واعتُبر نشر مثل هذا الرقم الصريح بشأن السياسات الإقليمية الإيرانية غير مسبوق في بلد غالباً ما يجري تناول سياسته الخارجية وتحليها - من قبل المراقبين المحليين والدوليين - بكونها مستقلة عن الاعتبارات الداخلية أو الاقتصادية.

في حقيقة الأمر، يتأثر دور إيران الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشكل كبير بتطور علاقات الدولة والمجتمع الإيرانيَّين والتحولات داخل مؤسسات الدولة. وإن الحضور المتنامي لفيلق الحرس الثوري الإسلامي كممثل إقليمي هو في جزء منه انعكاس لعسكرة النظام السياسي داخل إيران وإضفاء الطابع الأمني عليه. وفي مقابل ذلك فإن الإحباط الذي تشعر به شرائح من الشعب الإيراني بسبب عدم قدرة النظام السياسي على الإنجاز الاقتصادي يتجلى بشكل متزايد في انتقاد دور النظام الإقليمي والطعن فيه. لقد أثَّرت هذه الديناميات المتغيرة على طريقة تسويغ النظام الإيراني لتدخله الإقليمي وتبريره له، ويمكن رؤية ذلك في الانتقال من خطاب يركز على نشر النفوذ الشيعي إلى صيغ أكثر واقعية تتمحور حول المصالح الأمنية والاقتصادية.

الدور الداخلي المتنامي للحرس الثوري الإيراني وتجلياته الإقليمية

تقدم إيران للعالم العربي صورة لمواطنين إيرانيين مخلصين لدولتهم أيّما إخلاصٍ. ومع ذلك، حتى خلال فترات النمو الاقتصادي في التسعينيات، ظلّت يران تشهد موجات من المعارضة الداخلية التي ردت عليها السلطات الإيرانية بزيادة العسكرَة. وفي مطلع التسعينيات، مُنح الحرس الثوري الإيراني منبراً أوسع وازدادت مشاركته في الاقتصاد، ما عزَّز مكانته في الداخل الإيراني.

وعقِب المواجهات التي وقعت عام 1999 بين الطلاب في جامعة طهران وقوات الأمن خلال رئاسة محمد خاتمي، أصبح الحرس الثوري الإيراني أكثر انخراطاً في السياسة الداخلية، وأدى انتقاد خاتمي للطريقة التي تعاملت بها المؤسسة الأمنية والعسكرية مع احتجاجات الطلاب إلى رد عنيف من قبل الجنرال رحيم صفوي، القائد العام للحرس الثوري الإيراني، الذي صرح بأن الجيش سيرد "بتحطيم أقلام المنتقدين وقطع حناجرهم."

خلال فترة رئاسة محمود أحمدي نجاد، أصبح وجود الجيش في المشهد السياسي الإيراني أكثر بروزاً، فقد عُيِّن مسؤولون سابقون في الحرس الثوري في مناصب حكومية مختلفة، ولا سيّما في وزارة الداخلية، ومُنِحت المؤسسات الاقتصادية للحرس الثوري دوراً في المشاريع الاقتصادية الكبرى. وفُسِّر ذلك على أنه نوع من المقايضة من قِبل الرئيس أحمدي نجاد الذي كان مدعوماً من الحرس الثوري الإيراني خلال الانتخابات. وخلال عهد أحمدي نجاد تضاعفت الميزانية العسكرية من 6.8 مليار دولار في عام 2005 إلى 12.58 مليار دولار في عام 2009. واستمرت العسكرة خلال فترة روحاني أيضاً، وذلك على الرغم من جهوده لتقويض الحرس الثوري وتهميشه. ولا يزال الحرس الثوري الإيراني يسيطر على جزء كبير من الاقتصاد السري في إيران. قامت الحكومة بنزع فتيل احتجاجات 2017 بالاعتراف بشرعية بعض مظالم المتظاهرين، وكذلك استخدام القوة القمعية، ومنع إمكانية الدخول إلى وسائل التواصل الاجتماعي، واعتقال المتظاهرين.1https://www.hsdl.org/?view&did=833942 في 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، ذكر الرئيس روحاني أن النظام حقق "النصر" من خلال إخماد الاضطرابات.2https://www.bbc.com/news/world-middle-east-50486646 وفي عام 2019، زادت الميزانية الإجمالية للحرس الثوري الإيراني من 202 تريليون إلى 255 تريليون ريال أو 4.7 مليار دولار أميركي.3https://en.radiofarda.com/a/iran-defense-ministry-budget-declines-irgc-more-funding/29679511.html وساهم تخفيف العقوبات خلال فترة روحاني أيضاً في الاستثمار في القوات المسلحة من خلال زيادة نفوذها المستفحل في الاقتصاد الإيراني وإتاحة المزيد من الأموال لأنشطتها.

 النهج الأمني: إسكات المعارضة في الداخل والخارج

ثمّة إستراتيجية أخرى للبقاء ينتهجها النظام الإيراني هي النهج الأمني، ويمكن تعريفها على أنها تصوُّر أو النظر إلى جميع أشكال المظاهرات على أنها تهديد للأمن القومي يتطلب استجابة فورية باستخدام أقصى طاقة أو قوة. كان النظام الإيراني قادراً على التعامل مع مختلف التعبيرات عن المعارضة التي حدثت في إيران من خلال تصويرها على أنها تهديدات. ومن خلال وصم المتظاهرين باتهامات شتّى وتشويه سمعتهم وتصنيفهم كأدوات للجهات الخارجية، تمكَّن النظام من سحق الحركات أو محاولات التصدي له، وبالتالي قمع أي معارضة محتملة في المستقبل.

اتُّخذت إجراءات النهج الأمني ضد جميع المظاهرات التي اندلعت منذ عام 1999 حتى اليوم. وقد برز ذلك على نحوٍ كبير في احتجاجات الانتخابات الرئاسية الإيرانية في عام 2009 (الحركة الخضراء الإيرانية)، التي طالب فيها المتظاهرون بإقالة الرئيس محمود أحمدي نجاد من منصبه بعد إعلان فوزه في انتخابات اعتبرها المتظاهرون تزويراً.

قابَلَ النظام الاحتجاجات بقبضة مُحكمة وبسلسلة من الحملات والاعتقالات وعمليات الاحتجاز، كما تضمنت جهود النظام في النهج الأمني ملءُ المؤسسات الحكومية غير المنتخبة بالموالين، بدلاً من الأشخاص المؤهلين. وقد ساد هذا النمط طيلة الثمانينيات وحتى منتصف التسعينيات. وعندما أصبح محمد خاتمي رئيساً عام 1997، استعاض عن الشخصيات الرئيسية في الحكومة بشخصيات من التكنوقراط. إلا أن ذلك استمر حتى فاز أحمدي نجاد بالمقعد الرئاسي في عام 2005 وفضَّل الولاء على المؤهلات، ما جعل هذا النمط تقليداً شائعاً مرة أخرى بتعيين حوالي نصف أعضاء حكومته والعديد من حكام المقاطعات من صفوف الحرس الثوري الإيراني.4https://onlinelibrary.wiley.com/doi/abs/10.1111/mepo.12360

من تصدير الثورة إلى تصدير البضائع

تطور تسويغُ النظام الإيراني لدعم الجهات الفاعلة من غير الدول ومن الدول في العالم العربي على مر السنين. بعد ثورة 1979، عزز النظام الجديد شرعيته المحلية بحكم الأمر الواقع من خلال تقديم نفسه على أنه يوسِّعُ نفوذ الشيعة في العالم العربي ويُصدِّرُ الثورة الإسلامية. وبرَّر النظام دعم جماعات مثل حزب الله على هذا الأساس. وبعد وفاة آية الله الخميني، احتاجت المؤسسة السياسية والدينية إلى تجديد الشعور بالشرعية للاستجابة للتحديات الجديدة الناشئة في البلاد. وبينما ظل توسيع النفوذ الشيعي هو المُسوِّغ لتدخل الدولة الإقليمي، فإن تدهور الظروف الاقتصادية المحلية إلى جانب توسيع دعم إيران لمختلف الجهات الفاعلة في العالم العربي استلزم مسوِّغاً وخطاباً جديدين.

كان أحد العناصر تبرير المشاركة الإقليمية من الناحية الاقتصادية، ولا سيّما بعد تشديد العقوبات الدولية بدءاً من عام 2006. أصبح العراق ولبنان وسوريا بوابات للصادرات الإيرانية. ومع استمرار العقوبات الأمريكية في الضغط على حجم صادرات النفط الإيراني، يبدو أن سوريا هي المستفيد الأكبر لكونها أكبر مستورد للخام الإيراني. وبلغ متوسط واردات الخام الإيراني 84 ألف برميل في اليوم منذ أيار/ مايو 2019.5 https://www.mees.com/2020/4/10/geopolitical-risk/syria-emerges-as-irans-top-crude-customer/425de6d0-7b37-11ea-89bc-23bf20e49277#:~:text=Imports%20of%20Iranian%20crude%20have,the%20Mediterranean%20port%20of%20Baniyas.. وتُمثّل صادرات إيران أيضاً 25٪ من واردات العراق، حيث تُشكّل قيمة السلع الإيرانية 10 مليارات دولار من إجمالي 40 مليار دولار من واردات العراق سنوياً.6https://financialtribune.com/articles/domestic-economy/101090/iran-holds-25-of-iraqi-market#:~:text=%E2%80%9CTwenty%2Dfive%20percent%20of%20the,quoted%20as%20saying%20by%20ILNA. كما صدَّرت إيران سلعاً بقيمة 89 مليون دولار إلى لبنان في السنة المالية ( آذار/ مارس 2016-17)، مقارنةً بـ 83 مليون دولار في العام السابق.7https://financialtribune.com/articles/economy-domestic-economy/67191/iran-exports-to-lebanon-earn-89m#:~:text=Iran%20exported%20about%20%2489,Yahya%20Fat'hi%2C%20said. وعلاوة على ذلك، تبادلت إيران 44,668 طناً من السلع غير النفطية بقيمة 79 مليون دولار مع لبنان خلال السنة المالية (المنتهية في 20 آذار/ مارس 2019).8 https://financialtribune.com/articles/domestic-economy/98009/irans-non-oil-trade-volume-with-lebanon-up-122

لكن هذا المبرر الاقتصادي للتدخل الإقليمي لم يقنع جميع الإيرانيين، خصوصاً وأن العوائد لا يبدو أنها تبرر التكاليف. وأدى الاستثمار الاقتصادي الإيراني في دعم الأطراف المسلحة في العراق ولبنان وسوريا، في الوقت الذي كان فيه الاقتصاد الإيراني يرزح تحت وطأة العقوبات، إلى تعزيز الشعور بالاستياء بين المواطنين الإيرانيين الذين يعتقد بعضهم أن الأموال التي أُنفِقت في الخارج كان حَرِيّاً إنفاقها في الداخل. ومنذ عام 2009، سُمِعت شعارات من قبيل "ليس لغزة ولا للبنان، أضحّي بحياتي فقط من أجل إيران" أو انعكست من خلال مختلف المظاهرات المنتقدة للدور الإيراني. ومع ذلك فإن غياب وسائل الإعلام الحرة وعدم وجود مناقشات مفتوحة في البرلمان حول دور إيران الإقليمي يعني أن النقاش العام حول هذه القضايا لا يزال محدوداً - وهذا هو السبب في أن إعلان فلاحت بيشه في أيار/ مايو 2020 حول إنفاق إيران في سوريا لم يكن بالأمر المألوف.

ولكن من الواضح أنه حتى بالنسبة إلى المطلعين على بواطن أمور النظام فإن الأموال التي تُنفَق في الخارج يجب تبريرها مالياً مثلما يتبيّن من تصريح أدلى به اللواء يحيى رحيم صفوي، المستشار العسكري للمرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، وقال فيه خلال زيارة لسوريا في شباط/ فبراير 2018 بأن إيران ستَسترِدُّ الأموال التي أنفقتها في سوريا من خلال استثمارات اقتصادية طويلة الأجل.

وإدراكاً منه للفجوة بين تحويل وجهة الموارد إلى التدخُّل في سوريا واليمن والعراق من ناحية، والاحتياجات الاقتصادية غير الملبّاة للمواطنين الإيرانيين، من ناحية أخرى، يحاول النظام تصوير مغامراته خارج إيران على أنها ضرورة لحماية أمن إيران وتعبيرٌ عن النفوذ الإقليمي. وعلى سبيل المثال، بعد اغتيال الجنرال قاسم سليماني في العراق، قدّمه النظام الإيراني كبطل قومي شهيد في محاولة لتجديد شرعية النظام محلياً. وقد تجلّى هذا بصفة خاصة من خلال مساندة المواطنين الإيرانيين للنشاط الإقليمي لبلادهم باعتباره معركة ضد الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وهي المعركة التي اضطلع سليماني بدورٍ رياديّ فيها. واستخدمت إيران الإطار نفسه في محاربة ما وصفته بـ "الجهادية التكفيرية" لتبرير تدخلها في سوريا ودعمها المستمر لحزب الله في لبنان ولقوات الحشد الشعبي في العراق.

تطور النظام في إيران والعلاقات بين الدولة والمجتمع

مع هزيمة داعش عسكرياً، تضاءلت قبضة النظام الإيراني الإيديولوجية على مواطنيه في مواجهة "التهديد الوجودي"، بينما استمر الوضع الاقتصادي في التدهور. ونتيجة لذلك، أصبحت العسكرة والنهج الأمني أدوات النظام الرئيسية لإدارة بقائه. وسوف يستمر هذا التطور في العلاقات بين الدولة والمجتمع وفي أولوية المؤسسات الأمنية مثل الحرس الثوري الإيراني في التأثير المباشر على دور إيران في العالم العربي.

وبسبب الدور المتنامي للمؤسسة العسكرية في الميادين السياسية الإيرانية، وهو الدور الذي تزداد السيطرة عليه صعوبةً، فإن من المتوقع أن يكون للحرس الثوري دور متنامٍ في السياسة الخارجية أيضاً، بما في ذلك السياسات المتصلة بالعالم العربي. ومن خلال قراءة تاريخ إيران منذ الثورة الإسلامية وإقامة النظام، بالإمكان القول إن إيران كلما واجهت ضغوطاً من الولايات المتحدة والغرب، حاولت تنشيط تدخلها الإقليمي وسياستها الخارجية، ولكن هل سيكون بوسع إيران الحفاظ على هذا الواقع في مواجهة الخلاف المتصاعد بين الدولة والمجتمع المحلي؟

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.