تونس: كورونا يَزيد أوضاع النساء الريفيّات سوءاً

ما تزال المرأة التونسيّة في المناطق الريفيّة تتعرّض للإقصاء والاستغلال على الرغم من الدور المحوريّ الذي تؤدّيه في الحفاظ على الأمن الغذائيّ خلال جائحة كورونا. فبينما تعمل في ظروف معروف بالفعل أنّها شاقّة، فاقمت الأزمة الصحّيّة العامّة من حالة انعدام الأمن الاجتماعيّ والاقتصاديّ التي تعاني منها. تتناول هذه الورقة المعاملة الاستغلاليّة الممنهجة التي تتلقاها النساء العاملات في قطاع الزراعة والمناطق الريفيّة، وعجز الدولة إلى الآن عن حمايتهن، ودور المنظّمات غير الحكوميّة المحلّيّة في تحسين معيشتهنّ.

نساء يعملن في مزرعة في بلدية سوق السبت، معتمدية جندوبة، ولاية جندوبة، تونس. © Alessandra Bajec

كثيراً ما توصف تونس بأنّها دولة رائدة في مجال حقوق المرأة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مع ذلك ما تزال المرأة الريفيّة تواجه التهميش الاجتماعيّ والاقتصاديّ. تشكّل النساء النسبة الأكبر من العاملين في قطاع الزراعة وصغار التجار وعادة ما يتلقّين أجوراً متدنّية للغاية، ويقمن بأعمال شاقّة بدنيّاً مع افتقارهنّ إلى الحماية الاجتماعيّة وضعف إمكانيّة وصولهنّ إلى المرافق الصحّيّة الجيّدة. وفي ظلّ التفاوتات الجنسانيّة الصارخة، تعاني الريفيّات من عدم مساواة في الدخل والفرص الاقتصاديّة؛ وقد أدّى تفشّي وباء كورونا إلى زيادة هذه التفاوتات، ممّا يجعل المُزارِعات بوجه خاصّ ضمن الفئة الأشدّ تأثّراً بهذا الوباء.

على الرغم من الدور الأساسيّ الذي ما تزال تضطلع به المُزارِعات في الحفاظ على سلاسل الإمدادات الغذائيّة في البلاد وسط هذه الأزمة الصحّيّة العالميّة، فإنّهنّ يعملن في ظلّ غياب الحماية القانونيّة والاجتماعيّة الكافية التي تكفل لهنّ ظروف عمل لائقة. فقد زار الرئيس التونسيّ قيس سعيد يوم 13 آب/أغسطس منطقة المرايديّة، في ولاية جندوبة، والتقى المُزارِعات بمناسبة العيد الوطنيّ للمرأة التونسيّة. وشدّد الرئيس على ضرورة إعادة النظر في القوانين الحاليّة من أجل توفير مزيد من الضمانات التشريعيّة الثابتة التي من شأنها حماية حقوق المرأة الاجتماعيّة والاقتصاديّة. وعلى أرض الواقع، تتوق النساء الريفيّات بالفعل لهذا التغيير الذي طال انتظاره، إذ يكافحن يوميّاً من أجل توفير لقمة العيش لأنفسهنّ ولعائلاتهنّ.

ظروف عمل في غاية الإجحاف

حسب البيانات الصادرة عن "وزارة الفِلاحة التونسيّة"، تعيش 32% من النساء التونسيّات في مناطق ريفيّة. وذكر المعهد الوطنيّ للإحصاء أنّ 65% من النساء الريفيّات انقطَعن عن التعليم في سنّ مبكرة، لتتجاوز بذلك نسبة الأمّيّة بين النساء الريفيّات 30%.

تشكّل النساء 70% من القوى العاملة في قطاع الزراعة في تونس، لكنّ أجورهنّ أقلّ بحوالي 50% من نظرائهن الرجال، ويتمتع عدد قليل للغاية منهنّ بالحماية الاجتماعية، إذ إنّ 33% فقط من النساء العاملات في المجال الزراعيّ لديهنّ ضمان اجتماعيّ، وهو عدد أقلّ أيضاً بكثير من مثيله لدى العاملين الرجال - إذ تستفيد 93,500 سيّدة من نظام الحماية الاجتماعيّة مقابل 377 ألف رجل.1https://www.webmanagercenter.com/2019/11/19/441491/tunisie-pres-de-70-des-travailleuses-agricoles-nont-pas-de-couverture-sociale/

وتعمل نساء كثيرات إمّا يوميّاً أو خلال المواسم في المَزارِع الشاسعة، غالباً لصالح أصحاب عمل مختلفين؛ ويتقاضَين أجراً يوميّاً زهيداً يتراوح من 7 إلى 15 ديناراً تونسيّاً (ما يقرب من 3 إلى 6 دولارات أميركيّة) في حين يتقاضى الرجال ما بين 14 إلى 30 ديناراً (ما يقرب من 6 إلى 10 دولارات أميركيّة) نظير نفس العمل.2أظهرت دراسة تناولت النساء العاملات في القطاع الزراعي التونسيّ أعدّتها "وكالة الديمقراطيّة المحلّيّة" بالقيروان في آب/أغسطس من عام 2020 أنّ 58% من العاملات في الفِلاحة تتقاضَين أجراً يوميّاً يتراوح من 10 إلى 15 ديناراً تونسيّاً، وأنّ 30% منهنّ تتقاضين أقلّ من 10 دنانير تونسيّة يوميّاً. انظر: https://www.tap.info.tn/en/Portal-Society/13024256-58-of-female-farm

ومن المعتاد أيضاً أنْ تقبل نساء كثيرات العمل نظير 7 دينارات فقط يوميّاً حتّى لا يعدن خاويّات الوفاض لأسرهنّ المحتاجة.3مقابلة مع صابرين رشيد نايت الإمام، وهي عضو في جمعيّة المرأة الريفيّة بجندوبة، 24 أيلول/سبتمبر 2020.

عادةً ما يتحمّلن أعباء وظيفيّة ثقيلة للغاية، إذ يتعيّن عليهنّ الجمع بين متطلّبات العمل الزراعي الشاقّة بدنيّاً والتزامات التعليم المنزليّ ومسؤوليّات تقديم الرعاية. وفقاً لدراسة أعدّتها "الجمعيّة التونسيّة للنساء الديمقراطيّات" عام 2015، فإنّ حوالي 60% من النساء في الريف التونسيّ يعانين من مشاكِل صحّيّة ناتجة في معظمها عن ظروف العمل. يرجع السبب في ذلك إلى افتقار المناطق منخفضة الدخل -مثل جندوبة والكاف والقصرين وقصفة- إلى مراكز الرعاية الصحّيّة الجيّدة.

لا تتمتّع المُزارِعات أيضاً بتغطية صحّيّة. ولا تحصل سوى نسبة ضئيلة للغاية من النساء الريفيّات، تقدَّر بـ 10% فقط، على الرعاية الصحّيّة المجّانيّة وذلك لطبيعة عملهنّ غير الرسميّة.

إضافةً إلى الأجر الزهيد للغاية، تواجه العاملات في المَزارِع مخاطر جسيمة بسبب وسائل النقل غير الآمنة التي ترتدنها من وإلى أماكن عملهنّ. إذ عادة ما ترتاد عاملات الفِلاحة شاحنات مكتظة، وهو ما يؤدّي أحياناً إلى حوادث سير مميتة - الأمر الذي بدأ يتّخذ منحىً مثيراً للقلق خلال السنوات الأخيرة.4سَجَّل المنتدى التونسيّ للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة 40 حالة وفاة و530 إصابة بين النساء على مدار الأعوام الخمسة الماضية:https://www.webmanagercenter.com/2020/06/11/451919/des-associations-et-organisations-de-la-societe-civile-appellent-a-lapplication-de-la-loi-portant-creation-dune-categorie-de-transport-de-travailleurs-agricoles/

وتدفع كلّ عاملة جزءاً من أجرها اليوميّ (من دينار إلى ثلاثة دنانير) إلى سائقي الشاحنات الذين كثيراً ما يكدّسون الركّاب داخل الشاحنة لتحقيق ربح أكبر من كلّ رحلة، حتّى لو كان هذا يعني تكديس الشاحنة بصورة مفرطة. بل في حالات كثيرة، يسكب السائقون مياه على أرضيّة الشاحنة لإجبار النساء على الوقوف وتوفير مساحة إضافيّة تسمح بتحميل عدد أكبر من الركّاب.

عادةً ما يقود شاحنات النقل غير الرسميّة تلك وسيط (أو سمسار)، وهو من يقوم بالتواصل والتنسيق مع أصحاب العمل، ويجد عملاً في الحقول لِعاملات الفِلاحة، الأمر الذي يجبرهنّ على تحمّل مشقّة التنقّل لأماكن عملهنّ في ظلّ ظروف غير آمنة من أجل تأمين دخلهنّ اليوميّ.5مقابلات مع أعضاء في جمعيّة المرأة الريفيّة بجندوبة، 24 أيلول/سبتمبر 2020.

وبهذا يكون السمسار حلقة الوصل بين كبار المُزارِعين وأصحاب الضيعات وعاملات الفِلاحة، ويقود أيضاً وسائل النقل غير الرسميّة لنقل المُزارِعات من قراهم إلى المَزارِع والحقول، في رحلة تستغرق من 15 دقيقة إلى ساعتين. يأخذ السمسار أيضاً عمولات من كلا الطرفين: من كلّ سيّدة عاملة ومن صاحب العمل. في بعض الأحيان يوفّر ملاك المَزارِع وسيلة النقل للعاملات. لكن بما أنّ الشاحنة مستأجرة خصّيصاً لهذا الغرض، يُقتطع جزء من رواتبهنّ لتغطية نفقات نقلهنّ.

قالت إبتسامة غربي، وهي أم لثلاثة أطفال صغار تبلغ من العمر 31 عاماً وتعيش في بلديّة سوق السبت، التابعة لولاية جندوبة، إنّها وكلّ واحدة من زميلاتها العاملات يدفعن دينارين يوميّاً من أجورهنّ مقابل نقلهنّ لمكان العمل. لكنْ مع بداية عام 2020، طالبت إبتسامة وبعض زميلاتها الأخريات زيادة أجورهنّ لتشتمل على أجرة المواصلات، وأصبحن الآن يتقاضين 15 ديناراً في اليوم، بدلاً من 12 دينارا (تقريباً من 4.5 دولار إلى 5.5 دولار)، نظير 6 ساعات من العمل الشاقّ بدنيّاً.6مقابلة مع إبتسامة غربي، قرية العزيمة، بلديّة سوق السبت، معتمديّة جندوبة، 6 تشرين الأوّل/أكتوبر.

يعاني أحد أطفال إبتسامة من ضعف في السمع وزوجها عاطل عن العمل، وهو ما يعطي عائلتها الحقّ في الحصول على رعاية صحّيّة مجّانيّة. لكنّ إبتسامة تضطرّ مع ذلك لطلب المساعدة الماليّة من جيرانها عندما تتكبّد أيّة تكاليف باهظة بسبب طفلها الذي يعاني من ضعف السمع. وتتعيّن عليها في معظم الأوقات الاستدانة لتتمكّن من تلبية احتياجات الأسرة.

لحلّ مشكلة المواصلات غير الآمنة، صادق مجلس وزاريّ في آب/أغسطس 2020 على أمر ترتيبيّ خاصّ بتنظيم خدمة نقل عامّة غير منتظمة للعاملات في الفِلاحة. ويتّصل هذا الأمر بالقانون عدد 51 الصادر سنة 2019.

تتطلّب الفِلاحة خلال مواسم السنة المختلفة ضرورة تحمّل الظروف المناخيّة القاسية، حيث تشهد المناطق الريفيّة في أقاليم الشمال الغربيّ والوسط الغربيّ أيام شتاء قارسة البرودة.

هدى ترهاني، وهي سيّدة تبلغ من العمر 49 عاماً تعيش في قرية العزيمة ببلديّة سوق السبت، وتعمل في الفِلاحة منذ 20 عاماً. تعمل هدى طوال العام خلال جميع المواسم. عندما تفكّر في قرب قدوم الشتاء تبكي، لأنّها تعلم مدى صعوبة العمل في الحقول الشاسعة خلال الطقس البارد.7مقابلة مع هدى ترهاني، قرية العزيمة، 6 تشرين الأوّل/أكتوبر 2020.

يعاني زوجها، الذي يعمل مربّياً للمواشي، من مرض خطير وهي نفسها مصابة بفقر الدم، لكن ليس لديهما أيّة تغطية صحّيّة. تواجه هدى صعوبة بالغة في تلبية احتياجات الأسرة، خاصّة أنّ ابنتها الكبرى لا تعمل، ولديها طفلان آخران، أحدهما في المدرسة الإعداديّة والآخر في الثانويّة. ذكرت هدى أنّها مع اندلاع جائحة كورونا تجنّبت هي وزميلاتها الفلّاحات السفر إلى المناطق البعيدة للعمل، حرصاً على صحّتهنّ، وأدّى ذلك بالتبعية إلى تقلّص فرصهنّ في العمل.8مقابلة مع السيّدة هدى في قرية العزيمة.

علاوةً على الأجر الزهيد ومهام العمل الشاقّة والخطيرة، تتعرّض العاملات في القطاع الفِلاحيّ للعنف الجنسانيّ رغم دخول القانون الأساسيّ عدد 58 لسنة 2017 المتعلّق بالقضاء على العنف ضد المرأة حيز التنفيذ. فقد كشفت دراسة حديثة أنّ 59% من هؤلاء النساء وقعن ضحايا للعنف في المَزارِع، وقالت 40% منهنّ أنّهنّ تعرَّضن للتعنيف المعنويّ كالإهانة والاحتقار أو التقليل من شأنهنّ، بينما أشارت 31% إلى تعرّضهنّ للعنف اللفظيّ وذكرت 29% تعرّضهنّ للعنف البدنيّ.9دراسة أعدتها وكالة الديمقراطيّة المحلّيّة بالقيروان، آب/أغسطس .2020

قالت سيّدة في أواخر الثلاثينات من عمرها تعيش في بلديّة سوق السبت، وفضّلت عدم ذكر اسمها، إنّ الضرورة دفعتها إلى العمل في الحقول لأوّل مرّة قبل شهرين.10مقابلة مع سيّدة ريفيّة في قرية العزيمة لم ترغب في ذكر اسمها.

وأضافت أنّها أصلاً من مدينة تونس، لكنّها انتقلت إلى ولاية جندوبة، مسقط رأس زوجها الذي يعمل بصورة متقطّعة في مواقع البناء. مشيرةً إلى أنّها تكافح لتغطية نفقات العيش بينما يكبر أبناءها وتزيد متطلّباتهم، خاصّة في ظلّ ندرة العمل. فخلال الموسم الزراعيّ الشحيح، لا توجد تقريباً أيّة أعمال فِلاحيّة يمكن للريفيّات القيام بها، سوى حصاد البامية.

أوضحت السيّدة الشابّة أيضاً أنّ الفلّاحات يتقاضين أجرهنّ وفقاً للكمّيّة المحصودة وليس عدد الساعات، حسب نوع المحصول، وهو ما يعني أنّها لن تتقاضى أجرها حتّى تنتهي من حصاد الكمّيّة المطلوبة منها بغضّ النظر عن الوقت الذي تستغرقه.

قالت سيّدة أخرى، انتقلت هي الأخرى إلى بلديّة سوق السبت للإقامة مع زوجها وبدأت من فترة قريبة العمل في الفِلاحة، إنّ الأجر يعتمد على متطلّبات العمل الفِلاحيّ، سواء بالزيادة أو النقصان.11مقابلة مع سيّدة ريفيّة في قرية العزيمة.

عادة ما يكون أجر حصاد البامية 15 ديناراً تونسيّاً في اليوم، بينما يتراجع الأجر لبعض المحاصيل الأخرى، كالفول والبطاطس، ليصل إلى 13 ديناراً تونسيّاً.

تعاني النساء في المناطق الريفيّة الأخرى، خاصّة في مناطق الشمال الغربيّ والوسط الغربيّ (باجة وجندوبة والكاف وسليانة‎ والقيروان والقصرين) من أوضاع مماثلة للغاية. إذ ترتفع نسبة الفقر في تلك المناطق ذاتها للغاية، مثلما كشفت دراسة حديثة بعنوان "خارطة الفقر في تونس"، أعدّها المعهد الوطنيّ للإحصاء بالتعاون مع البنك الدوليّ.

كورونا يَزيد الأوضاع سوءاً

تكون العاملات في القطاع الزراعيّ أكثر عُرضةً، من الرجال، لتردّي ظروف العمل خلال أزمة كورونا؛ وذلك نظراً لاعتمادهنّ على أمان وظيفيّ أقلّ ممّا يحظى به الرجال، ونظراً لحرمانهنّ من أبسط متطلّبات الحماية الاجتماعيّة أو القانونيّة، ولوقوعهنّ ضحايا مخاطر الاستغلال، ولكفاحهنّ أيضاً ضدّ القيود المجتمعيّة والدينيّة والثقافيّة.

خلال الإغلاق الناجم عن فيروس كورونا، بين شهرَي آذار/مارس ونيسان/أبريل من العام الجاري، تأثّرت كثيراتٌ منهنّ بتدهور الوضع الاقتصاديّ والاجتماعيّ للمرأة في المناطق الريفيّة. ومع أنّ العمل في المَزارِع لم يتوقّف، فإنّ العاملات اللواتي اعتمدن على وسائل النقل للوصول إلى المَزارِع قد اقتصر عملهنّ على المواقع التي استطعن الوصول إليها بسبب قيود الحركة، ممّا يعني عملاً أقلّ ودخلاً أقلّ. وكنّ أيضاً يعرّضن أنفسهنّ لخطر العدوى بفيروس كورونا أثناء التنقّل في وسائل المواصلات المزدحمة.

إضافة إلى العمل في ظروف غير آمنة، نتيجة عدم توفير أصحاب العمل معدّاتٍ واقية لهنّ تناسب عملهنّ في الزراعة، لم يتمّ أيضاً تزويد العاملات بمعدّات واقية كأقنعة الوجه والقفّازات منذ اندلاع أزمة فيروس كورونا.12مقابلات مع نساء ريفيّات في قرية العزيمة، 6 تشرين الأوّل/أكتوبر 2020.

من جانبهنّ، فإنّ صاحبات المَزارِع الصغيرة -وهنّ المُزارِعات اللواتي تمتلكن قطعاً صغيرة من الأراضي، وتَبِعن منتجاتهنّ عموماً من خلال أكشاك الطعام أو الأسواق- وجدن أنفسهنّ دون ضمانات للدخل، وصِرن فجأة عاجزات عن بيع منتجاتهنّ في ظلّ حالة الإغلاق التي شملت أكشاك الطعام واختفاء الزبائن من الشوارع. إضافةً إلى ذلك، تعتمد معظم أسَر المُزارِعين على محاصيل الكفاف والمواشي التي يقومون بإنتاجها وتناولها. غير أنّ هذا نفسه صار أصعب بالنسبة للأسَر التي تعولها نساء، ممّا دفع تلك الأسَر من صغار المُزارِعات إلى حافّة الفقر. ونتيجة الحجر الصحي الذي تمّ تطبيقه في آذار/مارس، اضطرّت بعض المُزارِعات إلى بيع العدد القليل من المواشي التي يمتلكْنها لتلبية الاحتياجات الأساسيّة لأسرهنّ.

ومع أنّ وزارة الشؤون الاجتماعيّة اتّخذت تدابير استثنائيّة للدعم الاجتماعيّ، تستهدف الأسَر الأقلّ حظّاً، في صورة مبلغ يُدفَع مرّة واحدة مقداره 200 دينار تونسيّ، لكنْ لم يتمّ التفكير في تدابير معيّنة لدعم العاملات في القطاع الزراعيّ.

استجابة حكوميّة غير كافية

تمّ وضع آليّات وطنيّة في السنوات الأخيرة لتعزيز المستوى المعيشيّ للنساء في المناطق الريفيّة، مع تدخّل وزارة شؤون المرأة والأسرة والطفولة من أجل زيادة قابليّتهنّ للعمل وتعزيز مساهمتهنّ في الاقتصاد.

كان من بين الخطوات الإيجابيّة إطلاق برنامج "رائدة" لتعزيز ريادة النساء في الأعمال، الذي أنجزته وزارة شؤون المرأة بالتعاون مع البنك التونسيّ للتضامن، مستهدفةً النساء ومنهنّ نساء المناطق الريفيّة، اللواتي يرغبن في إطلاق مشاريع صغيرة أو متوسّطة الحجم.

منذ إطلاقه في عام 2016، نفّذ البرنامج الوطنيّ أكثر من 4400 مشروع في جميع المناطق، تغطّي العديد من الأنشطة باستثمارات تُقدَّر بحوالي 37 مليون دينار تونسيّ (حوالي 13.5 مليون دولار أميركيّ). تسعى المبادرة، التي تستمرّ حتّى نهاية العام الجاري، إلى إقامة 8 آلاف مشروع.

تتلقّى المستفيدات تدريباً ودعماً لإنشاء مشاريعهنّ التي يجري تمويلها لاحقاً من خلال قروض مبدئيّة تتراوح قيمتها بين 10 آلاف إلى 100 ألف دينار تونسيّ.

وقد وضّح أنيس زهراز، مدير شؤون المرأة بالوزارة، أنّ المخطّط إلى الآن استفادت منه بشكلٍ أساسيّ المشاريع متناهية الصغر، ولكنّه يأمل أنْ يضمّ مزيداً من المشاريع الصغيرة والمتوسّطة الحجم في المستقبل القريب، وأنْ يشجّع مزيداً من الأعمال التي تقودها نساء في أوساط المجتمع الريفيّ.

وخطَت الوزارة خطوة مهمّة لصالح المرأة الريفيّة، من خلال رفع مخصّصاتها الماليّة للقطاع الزراعيّ من 5% إلى 30%، ومن خلال الحرص على إدراج المناطق الداخليّة من أجل تعزيز مبدأ التمييز الإيجابيّ.13مقابلة مع أنيس زهراز، 12 تشرين الأوّل/أكتوبر 2020.

وفيما تُبذل المزيد من الجهود من أجل خلق فرص العمل والتمكين الاقتصاديّ وتنظيم عمل المرأة الريفيّة، يوضّح مدير شؤون المرأة أنّ تنفيذ التشريعات المتعلّقة بآليّات التمويل ما يزال معلّقاً، ممّا يعيق البنوك عن صرف الأموال اللازمة المخصّصة لأولئك النساء في إطار الاقتصاد الاجتماعيّ والتضامنيّ.

تتمثّل إحدى المشكلات الجوهريّة في أنّ الآليّات التشريعيّة الحاليّة لا تُعالج الديناميّات الجنسانيّة، وتتجاهل خصوصيّات المرأة الريفيّة. وفي حالة القروض المقدَّمة للمشاريع الزراعيّة، عادةً لا تحصل النساء على تسهيلات ائتمانيّة، نتيجة معايير تمييزيّة جنسانيّة، من قَبيل حيازة وضعيّة مُزارِع أو ملكيّة الأراضي أو الاستئجار.14مقابلة مع سلوى كنّو السبيعي، 9 تشرين الأوّل/أكتوبر 2020.

هناك خطط تَجري داخل وزارة شؤون المرأة لتشجيع استيعاب قوى المُزارِعات في مجموعات التنمية الزراعيّة والشركات التعاونيّة للخدمات الفِلاحيّة، من أجل ضمان التعيين الرسميّ لأولئك النساء، إضافةً إلى وجود مقترحات قيد المناقشة لإدماج الوسيطات العاملات بشكلٍ غير رسميّ في القطاع الرسميّ.15مقابلة مع ربيع عيّادي، رئيس مصلحة شؤون المرأة الريفيّة باللجنة الجهويّة لوزارة شؤون المرأة في جندوبة، 24 أيلول/سبتمبر 2020.

وفيما يتعلّق بالحماية القانونيّة، جرّبت الحكومة العام الماضي إجراءً من شأنه زيادة تغطية الضمان الاجتماعيّ للمُزارِعات من خلال تطبيق على الجوّال يُدعَى "احميني"، الذي سيُساعد في دمج نصف مليون امرأة في نظام الضمان الاجتماعيّ الرسميّ. وقد نشأت المنصّة من خلال شراكة بين مطوّرها، ماهر الخليفي، وشركة "اتّصالات تونس" والصندوق الوطنيّ للضمان الاجتماعيّ. مع ذلك، ومنذ حزيران/يونيو، لم تسجِّل سوى 15 ألفاً من النساء المستهدفات في منصّة "احميني"، وكثيراتٌ منهنّ ليست لديهنّ خبرة في التعامُل مع التطبيقات الإلكترونيّة وتغطية الإنترنت ضعيفة في أماكن عيشهنّ.

من المتوقّع أنْ يفيد مشروع القانون حول الاقتصاد الاجتماعيّ والتضامنيّ، الذي اعتُمِد في حزيران/يونيو 2020، المرأة الريفيّة من خلال تعزيز عمل مستدام وخلق أكبر عدد ممكن من المشاريع الصغيرة والمشاريع المتكاملة. من خلال هيكلة الاقتصاد غير الرسميّ ودعم الشركات التشاركيّة (التبادليّة) والتعاونيّات والجمعيّات، يسعى هذا القانون إلى تنشيط آليّة تمويل مصمّمة لإنشاء و/أو تقوية المشاريع الصغيرة ومتناهية الصغيرة في مجالات الزراعة وتربية المواشي والحرف اليدويّة، المكرَّسة أساساً للنساء الأقلّ حظّاً في المناطق الريفيّة. وفي نهاية المطاف، سيُسهم التشريع الجديد في إحداث تحسينات اجتماعيّة واقتصاديّة في حياة هذه النساء.

في وقتٍ سابق من عام 2018، تمّت تجرِبة مبادرة حافلات تجريبيّة لمدّة قصيرة، لكنْ اتّضح أنّها مكلّفة للغاية وليست مناسبة للطرق الريفيّة. فقد أدخلت الشركة الجهويّة للنقل بولاية جندوبة خطّين للحافلات المخصّصة للعاملات في المَزارِع، ولكنّها تخلّت لاحقاً عن المخطّط الجديد بحجّة أنّه دون وسيط يقود تلك الحافلات ويتعامل مع مالك المزرعة، لن يكون هناك أيّ عمل أصلاً. وإضافةً إلى هذا، لن تستطيع الحافلات الوصولَ إلى الطرق الريفيّة أو التوقّف ونقل النساء من حقل إلى آخر.16مقابلات مع رحمة جوادي وحنان السعيدي، عضو مجلس بلديّة جندوبة، وسناء مدفعي، نائب رئيس بلديّة وادي مليز، 24 أيلول/سبتمبر .2020

وفي منتصف أيلول/سبتمبر الماضي، أطلق "المنتدى التونسيّ للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة" ومنظّمة "أصوات نساء" النسويّة التونسيّة، بالتعاون مع جمعيّات محلّيّة أخرى حملةَ "سالمة تعيش"، داعين جميع الوزارات المعنيّة -لا سِيَّما وزارات النقل والصحّة والوظيفة العموميّة- إلى حشد الأموال في موازنة الدولة للعام 2021 من أجل تنفيذ المرسوم الحكومي عدد 724 للعام 2020 المتعلّق بظروف النقل للعاملات في القطاع الزراعيّ.

دعت تلك المنظّمات تحديداً إلى تحسين البنية التحتيّة العموميّة في المناطق الريفيّة الداخليّة في البلاد، لضمان قدرة وسائل النقل، كما نصّ المرسوم، على السير بأمان والوصول إلى الأراضي الزراعيّة. وطالبوا أيضاً السلطات المعنيّة بتقديم الحوافز الماليّة والنقديّة لتسهيل شراء المركبات لنقل العاملات في القطاع الزراعيّ.

تفكّر وزارة شؤون المرأة في أنْ تدرس بالتعاون مع شركاء محلّيّين، ربّما في مناطق جندوبة وسيدي بوزيد، خطّة لوضع نموذج مناسب للنقل، وللحصول على تمويل خارجيّ لتنفيذ المشروع التجريبيّ.17مقابلة مع زهراز.

وقال ربيع العيّادي، رئيس مصلحة شؤون المرأة الريفيّة باللجنة الجهويّة لوزارة شؤون المرأة في جندوبة، "ليست هناك استجابة جادّة في إطار السياسات الاجتماعيّة" لمحنة المرأة الريفيّة. مؤكّداً أيضاً على أنّ تخطيط السياسات أمر شديد المركزيّة، ممّا لا يترك سوى مجال محدود لما يمكن للمؤسّسات الجهويّة أنْ تقدِّمه على المستوى المحلّيّ بميزانيّاتها المضغوطة.18مقابلة مع عيّادي.

على نحوٍ مماثل، انتقد نشطاء المجتمع المدنيّ التونسيّ عدمَ وجود سياسات فعّالة على مستوى الدولة لدعم المرأة الريفيّة، وما يرونه "شللاً مؤسّسيّاً" في عمليّة صنع القرار وإنفاذ القوانين لدى الحكومة؛ وأعربوا أيضاً عن أسفهم لعجز المؤسّسات المحلّيّة عن أخذ زمام المبادرة أو إحراز أيّ تقدّم في ذلك الملفّ.19مقابلات مع صابرين نايت الإمام وهنيّة عُشّي.

مبادرات محلّيّة: منظّمات شعبيّة تسعى جاهدةً إلى تقديم المساعدة

تسعى مجموعة من المنظّمات المحلّيّة إلى تحسين حياة النساء في المناطق الريفيّة. ويبدو أنّ تلك الجهود تتركّز أساساً في مبادرات مخصّصة لمشاريع قصيرة المدى تدعمها وتموّلها منظّمات دوليّة غير حكوميّة ومصمَّمة حول أنشطة التدريب الفنّيّ وتمكين المرأة والوعي الذاتيّ. ومع أنّ بعض المنظّمات غير الحكوميّة تسعى دائماً إلى تأمين تمويل إضافيّ لتغطية الموارد المادّيّة والبشريّة اللازمة لعمليّة الإشراف والمتابعة بعد التدريب ولإنجاز المشاريع، تظلّ جهودهم غير كافية.

تركّز "جمعيّة المرأة الريفيّة بجندوبة" -بقيادة رحمة جوادي، الناشطة في مجال حقوق المرأة ورئيسة لجنة المرأة والأسرة في بلديّة جندوبة- جهودَها على تعزيز مشاركة المرأة الريفيّة في الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، و"مساعدة المرأة على تحقيق التوازن بين مسؤوليّتها والتزاماتها العائليّة من ناحية وبين نشاطها الثقافيّ والسياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ والفكريّ من ناحية أخرى". وتعقد الجمعيّة دورات تدريبيّة بصفة دوريّة -تستهدف بها النساء في الحضر والريف- حول موضوعات إقامة أنشطة مُدِرَّة للدخل (وخاصّة في مجال الزراعة والحرف اليدويّة والمناحل)، ودورات حول الاستقلاليّة الماليّة، بالإضافة إلى دورات الوعي الذاتيّ بالقانون عدد 58 للعام 2017 الخاصّ بالقضاء على العنف ضدّ المرأة (ويشمل ذلك الوصولَ إلى المساعدة القانونيّة والدعم النفسيّ والاجتماعيّ). إضافةً إلى ذلك، تساعد الجمعيّة النساءَ في متابعة تنفيذ المشاريع متناهية الصغر مع تقديم الدعم الميدانيّ.

أشارت صابرين نايت الإمام، وهي عضو في "جمعيّة المرأة الريفيّة بجندوبة"، إلى أنّه على الرغم من اهتمام المرأة الريفيّة ومشاركتها في الوُرَش التي تتناول الإقراض متناهي الصغر وتمكين المرأة الاقتصاديّ، فإنّها تعزف عن بدء المشروعات والأعمال الصغيرة الخاصّة بها في القطاع الزراعيّ، وذلك لأنّ مثل هذه المشروعات تتطلّب استثمارات في رأس المال والوقت إلى جانب الخبرة الفنّيّة والمعدّات والآلات. فضلاً عن أنّ المرأة المُزارِعة صاحبة المشروع الصغير عادةً ما تواجه صعوبات كبيرة في الحصول على الخدمات الماليّة، كالتسهيلات الائتمانيّة أو القروض أو المدّخرات؛ ويتعيّن عليها أيضاً أنْ تنتظر إلى أنْ يؤتي مشروعها الزراعيّ ثمارَه حتّى تتمكّن من تحقيق دخل، إضافةً إلى أنّ تسويق المنتجات الزراعيّة ليس بالمهمّة السهلة. كلّ هذا من شأنه أنْ يجعل مثل هؤلاء النساء يلجأن إلى ممارسة أنشطة أسرع وتدِرّ أرباحاً أكثر، كتَربية النحل أو بيع المعجّنات والمخبوزات.20مقابلة مع صابرين نايت الإمام.

تدير جمعيّة جندوبة أيضاً مشروعاً لمواجهة ظاهرة التسرّب من التعليم المدرسيّ وعَمالة الأطفال بين الفتيات، وهي ظاهرة تؤثّر على الأطفال من الأسَر الكبيرة والفقيرة في المناطق الريفيّة. إذ تُرغم الفتيات القاصرات، ولا سِيَّما من شمال غرب البلاد (فهناك تقارير عن وجود حالات كثيرة في مدينة فرنانة التابعة لولاية جندوبة)، على ترك المدرسة؛ ويرسلهنّ الوالدان -خاصّةً الأب- للعمل خادماتٍ في منازل العائلات الثريّة في تونس العاصمة والمدن الساحليّة الرئيسيّة. وتُرسل أجورهنّ مباشرة إلى آبائهنّ، ويتمّ تقاسمها مع الوسطاء الذين يتلقّون عمولة على تسهيل هذه المعاملات. يتعيّن على هؤلاء الفتيات القيام بالأعمال المنزليّة وتحمّل أعباء غير مناسبة لأعمارهنّ، ويقعن أحياناً ضحايا للعنف الجسديّ والنفسيّ والاعتداء الجنسيّ.

تمارس "جمعيّة المواطنات والتنمية" أنشطتها في قرية ببوش التابعة لمعتمديّة عين دراهم، في منطقة جندوبة، على بعد 3 كيلومترات من الحدود مع الجزائر. وتعمل على تشجيع إدماج المرأة في جميع الأنشطة وتعزيز التنمية الاجتماعيّة والثقافيّة فضلاً عن دعم المجتمع المحلّيّ.

وتقوم الجمعيّة، التي ترأس فرعَها المحلّيّ هنيّة عُشّي، بتنفيذ مشاريع بانتظام، تستهدف المرأة الريفيّة من خلال التدريب المهنيّ الذي يركّز أساساً على الأنشطة الزراعيّة (كتربية الأغنام والماعز والأرانب والدجاج وتربية الماشية وعمل المناحل)، ويشمل أيضاً برامج خاصّة للتدريب على الإدارة الماليّة والتوجيه والمتابعة. تهدف الوُرَش إلى تطوير قدرات المرأة لكي تصبح من منتِجي الماشية والأغذية.21مقابلة مع هنيّة عُشّي، 23 أيلول/سبتمبر 2020.

تعمل الجمعيّة أيضاً بمثابة "مركز للمعلومات" للعديد من النساء اللواتي يحتجن إلى توجيه بشأن التخطيط لبدء أنشطتهنّ الخاصّة وفرص التدريب والدعم المهنيّ.22مقابلات مع الموظّفين والمتدرِّبين في "جمعية المواطنات والتنمية".

وهذا الأمر يتّسم بأهمّيّة حيويّة للنساء اللواتي يعشن في هذه القرية الحدوديّة النائية.

إذ إنّ الظروف المناخيّة القاسية والطبيعة الجغرافيّة الوعرة في قرية ببوش تجعل الزراعة أمراً مستحيلاً، ولذا فإنّ البدائل الاقتصاديّة الوحيدة المتاحة هي تربية الماشية وإنتاج النباتات الطبّيّة والعطريّة.

من بين المستفيدين من برامج التدريب التي تقدِّمها الجمعيّة سيّدة تُدعى فريدة، تبلغ من العمر 35 عاماً، وتعمل في مجال التقطير العشبيّ وتربية الماشية. مع بداية جائحة كورونا، أصبح زوجها عاطلاً عن العمل بسبب الإغلاق الاقتصاديّ الذي شهدته البلاد، الأمر الذي أثار لديها العديد من المخاوف الماليّة حول قدرتها على إعالة زوجها وطفليهما. ولذا قرّرت فريدة على الفور أنْ تبيع قطيعها المكوّن من تسعة أغنام، كالعديد من النساء الأخريات اللواتي اضطُرِرن إلى القيام بذلك في المراحل الأولى من تفشّي الوباء من أجل إعالة أسرهنّ.23مقابلة مع هنيّة عُشّي.

بعد مضيّ بضعة أشهر، تمكّنت من الحصول على منحة لكي تساعدها على إطلاق مشروعها التجاريّ المتكامل لتربية الماعز والدجاج بالتعاون مع شقيقة زوجها، إلى جانب عملها في التقطير العشبيّ لإنتاج الزيوت العطريّة.24مقابلة مع فريدة، 23 أيلول/سبتمبر 2020.

تدير نعيمة خزري، 42 عاماً، حتّى اليوم متجراً لبيع الملابس المستعملة، إلى جانب عملها في صناعة المخبوزات لكي تتمكّن من كسب دخل كافٍ. بيد أنّ الإغلاق الذي فُرِض جرّاء جائحة كورونا أثّر تأثيراً شديداً على مصادر دخلها، إذ لم يكن بوسعها العودة إلى ممارسة عملها إلّا في شهر تمّوز/يوليو الماضي. وبعد أنْ اقترضت بعضَ المال من شقيقتها، بدأت في الآونة الأخيرة مشروعها الخاصّ لتربية الدجاج وإنتاج البيض الذي أسّسته بـ 300 فرخ. وبعد أنْ اكتسبت الخبرة المناسبة، تأمل أنْ تحقّق استثماراتها العوائد المرجوّة.

غير أنّ فرص العمل المتاحة للمرأة في منطقة عين دراهم الريفيّة ما تزال قليلة. فقد ندّدت رَجاح، وهي خرّيجة جامعيّة متخصّصة في الاقتصاد والشؤون الماليّة، تبلغ من العمر 28 عاماً وما تزال عاطلة عن العمل، بأنّ الممارسات البيروقراطية المضنية واللوائح التنظيميّة المعقّدة على المستوى الوطنيّ تَعوق الاستثمار وتأسيس المشروعات.25مقابلة مع رَجاح، 23 أيلول/سبتمبر 2020.

وعبّرت عن استيائها إزاء عدم وجود قوانين داعمة لصالح المرأة، والمرأة الريفيّة على وجه التحديد؛ مشيرةً إلى أنّ النتيجة هي أنّ "المرأة لا خيار لها سوى القبول بأيّ عمل"، وأنْ تواجه ظروفاً استغلاليّة بائسة مقابل أجور زهيدة، وترزح تحت وطأة ضغوط توفير الضروريّات التي تحتاجها الأسرة.

فيما أعربت أمل -وهي سيّدة أخرى من عين دراهم تبلغ من العمر 32 عاماً وحاصلة على درجة الدكتوراه في الجيولوجيا ولكنْ ليس لديها عمل- عن أنّ النساء بحاجة إلى رؤية مشروعات مستدامة وثابتة قادرة على إدرار الدخل، وهو ما يتطلّب تدخُّل المنظّمات النسائيّة بالتنسيق مع الحكومة.

ضمن إطار التنمية الاقتصاديّة الذاتيّة للمرأة الريفيّة، أنشأت "جمعيّة النساء التونسيّات للبحث حول التنمية"، بمساعدة ماليّة من الاتّحاد الأوروبّيّ، تعاونيّةً واحدة في الحديقة الوطنيّة بالفايجة في منطقة جندوبة، في عام 2014، بعد تدريب وتوجيه نحو 28 سيّدة في عدد من الأنشطة، مثل السياحة البيئيّة، وصناعة الصابون اليدويّ، وتربية النحل، والحراجة الزراعيّة (زراعة الأحراج). وأضافت الرئيسة السابقة للجمعيّة، سلوى كنّو السبيعي، أنّ منظّمتها عملت بدأب من أجل إدماج مجموعة النساء في الشركة التعاونيّة للخدمات الفِلاحيّة بهدف تنظيمهنّ، ولكنّ ذلك لم ينجح بسبب بعض المسائل البيروقراطيّة التي أثارتها السلطات المحلّيّة. وأشارت كنّو إلى مدى التأثير السلبيّ لحالة الإغلاق بسبب جائحة كورونا على وضع الجمعيّة النسائيّة مع توقّف الزيارات إلى الحديقة الوطنيّة ممّا ترك النساء بدون دخل إلى جانب أزواجهنّ العاطلين عن العمل. وباستخلاص بعض الاستنتاجات من تجرِبتها في العمل مع المرأة الريفيّة، قالت الرئيسة السابقة للجمعيّة إنّ من الضروريّ تصوّر أنْ تمتدّ الفترة الإشرافيّة من عامين إلى ثلاثة أعوام على الأقلّ بعد تنفيذ مشروع اقتصاديّ، لضمان قدرة المرأة على مواصلة العمل بنجاح. وأكّدت على ضرورة أنْ تتضمّن الوُرَش دورات حول تقدير الذات وبناء الثقة، وترسيخ الإدراك في النساء بأنّ تعرّضهنّ للعنف الجنسانيّ أمر غير مقبول.26مقابلة مع سلوى كنّو السبيعي، 9 تشرين الأوّل/أكتوبر .2020

من جهته قدَّم "الاتّحاد التونسيّ للتضامن الاجتماعيّ" -وهو منظّمة غير حكوميّة تسعى إلى توفير القروض متناهية الصغر وفرص التنمية الذاتيّة- الدعمَ إلى المرأة الريفيّة من خلال برامجه التنمويّة وبعث موارد الرزق على مدى السنوات العشرين الماضية، إذ وصل عدد المستفيدات إلى 2600 في 20 ولاية تونسيّة. فضلاً عن أنّ الاتّحاد قد موّل مشروعات متناهية الصغر في قطاع الزراعة، وتربية الماشية، والحرف الصغيرة (كالخياطة، وصناعة المخبوزات، والحرف اليدويّة، والتقطير العشبيّ)، والأعمال التجاريّة الصغيرة.27الأرقام المقدَّمة من "الاتّحاد التونسيّ للتضامن الاجتماعيّ".

علاوةً على ذلك، قدَّم الاتّحاد برامج التدريب والمساعدة الفنّيّة، ممّا عاد بالنفع على 3500 امرأة وفتاة، بُغيَة مساعدتهنّ على تطوير قدراتهنّ الشخصيّة الأساسيّة وتعزيز مهاراتهنّ في ريادة الأعمال (من قبيل تقدير الذات، والاستقلال الاقتصاديّ، وإدارة المشروعات الصغيرة، والتوعية الماليّة).

بالإضافة إلى تقديم الدعم الماليّ للمرأة والعمل على تعزيز قدراتها، أنشأ الاتّحاد مجموعتين نسائيّتين للتنمية الزراعيّة في ولايتَي الكاف ونابل، إلى جانب تعاونيّة نسائيّة محلّيّة واحدة في منطقة قابس. وقام أيضاً بتدريب ما يقرب من 30 منظّمة مهنيّة محلّيّة (على غرار مجموعات التنمية الزراعيّة والشركات التعاونيّة للخدمات الفِلاحيّة والجمعيّات) التي تضمّ سيّدات بين أعضائها.

خلال فترة الإغلاق، تدخَّل الاتّحاد للمساعدة في تقديم المعونات الماليّة إلى عشرِ مشروعات صغيرة تديرها النساء وتأثّرت تأثّراً سلبيّاً بالقيود المفروضة نتيجة تفشّي فيروس كورونا، وكانت على وجه التحديد مشروعات زراعيّة ومحلّات تجاريّة.28مقابلة مع فاطمة بن محمود، مديرة برنامج التنمية، 13 تشرين الأوّل/أكتوبر 2020.

خاتمة

بالرغم من أنّ المرأة الريفيّة تمثّل الركيزة الأساسيّة للأمن الغذائيّ في تونس، ومورداً حيويّاً في ظلّ تفاقم خطر الجائحة، فإنّ وضعها الذي طال تجاهله، ولم يتغيّر، يشكّل ملامح الواقع القاسي الذي تعانيه النساء الريفيّات كمواطنات من الدرجة الثانية.

سلّطت جائحة كورونا الضوء على المرأة الريفيّة، وكيف باتت -نتيجة وجودها القويّ في الأنشطة الاقتصاديّة غير الرسميّة- من بين أكثر الفئات عُرضة للمخاطر في ظلّ هذه الظروف الصعبة، بدايةً من تدهور ظروف العمل وصولاً إلى فقدان العمل تماماً. وينبغي للأزمة الصحّيّة الراهنة أنْ تكون بمثابة الدعوة التي طال انتظارها لاستجابة سياسيّة جادّة.

ونظراً إلى عدم استجابة الحكومة بشكلٍ كافٍ وأوجه القصور التي حدّدتها المبادرات الشعبيّة المحلّيّة، فمن الممكن تقديم التوصيات التالية بُغيَة تحسين الظروف الاقتصاديّة-الاجتماعيّة للمرأة:

  • من بين الخطوات التي يتعيّن اتّخاذها فوراً، لا بدّ أنْ تتأكّد السلطات من توفير أصحاب العمل معدّاتٍ واقية للنساء العاملات في قطاع الزراعة والمناطق الريفيّة، لكي يتمكّنّ من العمل دون تعريض صحّتهنّ لخطر الإصابة بفيروس كورونا.
  • ينبغي للآليّات التشريعيّة أنْ تتضمّن نهجاً جنسانيّاً لتوسيع وضعيّة "المُزارِع" كعمل قانونيّ، فضلاً عن الحقّ في ملكيّة الأراضي أو تأجيرها، لتشمل المُزارِعات، وذلك بُغيَة ضمان تكافؤ فرص الحصول على تسهيلات ائتمانيّة أو قروض لبدء مشروعات زراعيّة.
  • ينبغي سَنّ تشريعات مناسبة لتفعيل آليّات التمويل التي ستفتح المجال أمام الأموال اللازمة لتمكين المرأة الريفيّة من إقامة مشروعات صغيرة ومتناهية الصغر في القطاع الزراعيّ وفي الأنشطة الاقتصاديّة الأخرى (مثل تربية المواشي، والصناعات اليدويّة، وما إلى ذلك).
  • علاوةً على تنظيم عمل المرأة الريفيّة، ينبغي أيضاً ضمان حصولها على الرعاية الصحّيّة المجّانيّة فضلاً عن الحماية الاجتماعيّة.
  • ينبغي تنفيذ المرسوم الذي أصدرته الحكومة المتعلّق بظروف النقل للعاملات في القطاع الزراعيّ، من أجل تحسين البنية التحتيّة العموميّة في المناطق الريفيّة الداخليّة في البلاد، وأيضاً لتسهيل شراء المركبات المناسبة للنقل الآمن للعمّال والوصول إلى الحقول الزراعيّة.
  • ينبغي للجهات المانحة الدوليّة والشركاء المحلّيّين تعبئة التمويل والموارد الإضافيّة من أجل تقديم الدعم المادّيّ لمشروعات مستدامة وثابتة للنساء الريفيّات، وتشمل مرحلة ما بعد التنفيذ يكون امتدادها من عامين إلى ثلاثة أعوام، لضمان الإشراف الكافي وإتمام المشروع بنجاح.
  • ينبغي للوزارات المعنيّة أنْ تَزيد من الميزانيّات وتعزّز القدرات على الصعيد الإقليميّ، لتمكين المؤسّسات المحلّيّة من اتّخاذ تدابير فعّالة في سبيل تحقيق التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة للمرأة الريفيّة.

 

Endnotes

Endnotes
1 https://www.webmanagercenter.com/2019/11/19/441491/tunisie-pres-de-70-des-travailleuses-agricoles-nont-pas-de-couverture-sociale/

2 أظهرت دراسة تناولت النساء العاملات في القطاع الزراعي التونسيّ أعدّتها "وكالة الديمقراطيّة المحلّيّة" بالقيروان في آب/أغسطس من عام 2020 أنّ 58% من العاملات في الفِلاحة تتقاضَين أجراً يوميّاً يتراوح من 10 إلى 15 ديناراً تونسيّاً، وأنّ 30% منهنّ تتقاضين أقلّ من 10 دنانير تونسيّة يوميّاً. انظر: https://www.tap.info.tn/en/Portal-Society/13024256-58-of-female-farm

3 مقابلة مع صابرين رشيد نايت الإمام، وهي عضو في جمعيّة المرأة الريفيّة بجندوبة، 24 أيلول/سبتمبر 2020.

4 سَجَّل المنتدى التونسيّ للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة 40 حالة وفاة و530 إصابة بين النساء على مدار الأعوام الخمسة الماضية:https://www.webmanagercenter.com/2020/06/11/451919/des-associations-et-organisations-de-la-societe-civile-appellent-a-lapplication-de-la-loi-portant-creation-dune-categorie-de-transport-de-travailleurs-agricoles/

5 مقابلات مع أعضاء في جمعيّة المرأة الريفيّة بجندوبة، 24 أيلول/سبتمبر 2020.

6 مقابلة مع إبتسامة غربي، قرية العزيمة، بلديّة سوق السبت، معتمديّة جندوبة، 6 تشرين الأوّل/أكتوبر.

7 مقابلة مع هدى ترهاني، قرية العزيمة، 6 تشرين الأوّل/أكتوبر 2020.

8 مقابلة مع السيّدة هدى في قرية العزيمة.

9 دراسة أعدتها وكالة الديمقراطيّة المحلّيّة بالقيروان، آب/أغسطس .2020

10 مقابلة مع سيّدة ريفيّة في قرية العزيمة لم ترغب في ذكر اسمها.

11 مقابلة مع سيّدة ريفيّة في قرية العزيمة.

12 مقابلات مع نساء ريفيّات في قرية العزيمة، 6 تشرين الأوّل/أكتوبر 2020.

13 مقابلة مع أنيس زهراز، 12 تشرين الأوّل/أكتوبر 2020.

14 مقابلة مع سلوى كنّو السبيعي، 9 تشرين الأوّل/أكتوبر 2020.

15 مقابلة مع ربيع عيّادي، رئيس مصلحة شؤون المرأة الريفيّة باللجنة الجهويّة لوزارة شؤون المرأة في جندوبة، 24 أيلول/سبتمبر 2020.

16 مقابلات مع رحمة جوادي وحنان السعيدي، عضو مجلس بلديّة جندوبة، وسناء مدفعي، نائب رئيس بلديّة وادي مليز، 24 أيلول/سبتمبر .2020

17 مقابلة مع زهراز.

18 مقابلة مع عيّادي.

19 مقابلات مع صابرين نايت الإمام وهنيّة عُشّي.

20 مقابلة مع صابرين نايت الإمام.

21 مقابلة مع هنيّة عُشّي، 23 أيلول/سبتمبر 2020.

22 مقابلات مع الموظّفين والمتدرِّبين في "جمعية المواطنات والتنمية".

23 مقابلة مع هنيّة عُشّي.

24 مقابلة مع فريدة، 23 أيلول/سبتمبر 2020.

25 مقابلة مع رَجاح، 23 أيلول/سبتمبر 2020.

26 مقابلة مع سلوى كنّو السبيعي، 9 تشرين الأوّل/أكتوبر .2020

27 الأرقام المقدَّمة من "الاتّحاد التونسيّ للتضامن الاجتماعيّ".

28 مقابلة مع فاطمة بن محمود، مديرة برنامج التنمية، 13 تشرين الأوّل/أكتوبر 2020.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.