تونس: ثورة لا تزال تنتظر نُصبها التذكارية

بعد عشر سنوات، لم تقرر تونس بعد كيفية إحياء ذكرى ثورتها علنًا. تبحث هذه الورقة في آثار الثورة – أو بالأحرى غيابها – في العاصمة تونس وكيف تظل المساحات العامة ساحة سياسية عميقة ممزقة بين أولئك الذين يعتقدون أن الثورة كانت نقطة تحول في التاريخ الوطني التونسي وأولئك الذين يعتبرونها. ليس أكثر من زوبعة صغيرة على طول الطريق.

لوح تذكاري لشهداء الكرم الغربي. بعدسة: مريم عامري

مرت عشر سنوات منذ أن دوت صرخة "ارحل" من أمام البوابات المهيبة لوزارة الداخلية في شارع الحبيب بورقيبة، في قلب العاصمة تونس. في غضون عشر سنوات، تحوّل "الشارع" إلى متاهة من الحواجز والأسلاك الشائكة. وتحوّلت مناطق برمتها، إلى ممرات للراجلين، نتيجة حواجز الشرطة الكثيرةوأصبحت أجزاء واسعة من الأرصفة غير متاحة للجمهور، بما في ذلك الجزء  الذي شيد فيه تمثال الفروسية لبورقيبة منذ عام 2016، على قاعدة رخامية بارتفاع عدة أمتار، على بُعد خطوات قليلة من موقعه الأصلي، بعد أن تم تفكيكه بعد عام من انقلاب بن علي. في المكان الذي أصبح يحمل اسم ساحة "7 نوفمبر"، شيّد بن علي ساعة كبيرة أولى (احتل فيها الرقم السابع من نوفمبر مكان الـسادس)، ثم استبدلها بساعة ثانية في عام 2000، ولا تزال هذه الساعة  قائمة إلى يومنا هذا، على ارتفاع 32 متراً. أصبحت "ساحة 7 نوفمبر" بعد أيام قليلة من الثورة، تحمل اسم "ساحة 14 يناير 2011"، لكن لو قام  شخص ما بزيارة الموقع، يصعب عليه معرفة ذلك، لأنه سيجد أن اللوحة الارشادية الكبيرة التي كان يُفترض أن تُشير إلى الاسم الجديد للساحة، لا تزال تحمل اسم "شارع الحبيب بورقيبة"، ومن ثمّ، لم يقتصر الأمر على عدم التوفيق في تسمية ساحة الثورة، بل إنها غير موجودة بكل بساطة، على طول شارع الحبيب بورقيبة المتواصل. وهذا التفصيل الخاص بمجال تسمية المواقع، له دلالته ويُعبر بشكل واضح عن الاندثار التدريجي للنزر القليل من الأثر الذي تركته الثورة التونسية في الفضاء العام في تونس العاصمة.

الصورة 1: لوحة توضيحية، بضعة أيام بعد ثورة 2011،بعدسة  م. رئيس

 

الصورة 2: نفس المكان في [1]2021. بعدسة  ملاك الأكحل

يُلاحظ ذلك التناقض بين صمت الثورة من جهة، وآثار الصخب الأقرب إلى الكوميديا التي كان يعرضها بن علي وبورقيبة لإثبات وجودهما في الفضاء العام. بالنسبة للأول (بن علي)، كانت له صوره العملاقة، وأرقام 7 (إشارة لـ"7 نوفمبر 1987"، تاريخ الانقلاب الطبي الذي أطاح بحكم بورقيبة)، واللون البنفسجي (لونه المُفضل) و"الساعات الكبيرة الصامتة"1يعود هذا التعبير لإيهاب غرمازي في قلب المدن. أما بالنسبة للثاني (بورقيبة)، فنجد تماثيل نصفية وتماثيل كاملة، بالإضافة بطبيعة الحال إلى  "شارع الحبيب بورقيبة" في جميع مدن البلاد تقريباً.

أما بالنسبة للثورة، فليس هناك الكثير ليذكر بها: ساحة "14 يناير 2011" غير مرئية. و"شارع محمد البوعزيزي" سابقاً "شارع 7 نوفمبر"، يشار إليه حالياً بالاسم الإداري "الطريق الوطني R21"، وأخيراً، بضعة ألواح رخامية، وضعتها العائلات أو الجيران، تكريماً لضحايا عنف الدولة (يصفهم أهل تونس بالشهداء) الذين قُتلوا في شوارع بعض الأحياء. يتطرق موضوع هذه المقالة إلى الذاكرة الرسمية للثورة، أو بالأحرى غياب هذه الذاكرة الرسمية في العاصمة. حتى وإن قدمت "رسميا" تبريرات إدارية لتفسير هذا الغياب، فلا يمكن تغطية عمقه السياسي. هذه المسألة، التي ترسم خطا فاصلاً واضحاً بين من جهة، الذين يعتبرون الثورة لحظة قطيعة في التاريخ الوطني، ومن جهة ثانية، الذين لا يرون فيها أكثر من فترة عابرة وجب إغلاقها، تكشف أيضاً فشل أنصار الثورة في تحويل لحظة ثورية وعجزهم عن ترجمتها إلى أفق سياسي.

غياب قائمة مناسبة سياسياً

بالنسبة لبلدية تونس التي ترأسها حالياً سعاد عبد الرحيم من حزب النهضة، فإن الذي حال رسميا، من دون تشييد نُصب تذكارية2أكدتها مستشارة البلدية هندة بالحاج علي هو غياب قائمة رسمية بأسماء شهداء وجرحى الثورة. وقد نُشرت أخيراً في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية (JORT) في 19 مارس/آذار 2021.

استغرق الأمر عشر سنوات من التعبئة والحشد من قبل الجرحى وعائلات الشهداء لكي ترى هذه القائمة النور أخيراً.  في خلال العقد الماضي، أصدرت ما لا يقل عن أربع مؤسسات قوائم بأسماء الشهداء والجرحى: هيئة شهداء وجرحى الثورة، العضو في اللجنة العليا لحقوق الإنسان والحرّيات الأساسية، وهي هيئة رسمية مسؤولة عن إعداد القائمة؛ وهيئة الحقيقة والكرامة (IVD) التي نشرت قائمتها الخاصة استناداً إلى الشكاوى والشهادات التي تلقتها؛ ووزارة الداخلية وولاة  وأخيراً المحاكم العسكرية.

في حين أن هيئة شهداء وجرحى الثورة نشرت بالفعل قائمة في 8 أكتوبر/تشرين الأول 2019 على موقعها، إلا أن هذه القائمة لم تُقارن مع غيرها من القوائم للتأكد من التطابق بينها، لا سيما تلك التي أصدرتها هيئة الحقيقة والكرامة. وأشار خيام الشملي، المسؤول عن ملف العدالة الانتقالية بمنظمة محامون بلا حدود (ASF) أن "اللجنة رفضت لفترة طويلة التعاون مع هيئة الحقيقة والكرامة عندما كانت قائمة، في حين كان من شأن ذلك التعاون توفير كثير من الوقت وتجنب العديد من الأخطاء".3مراسلة خيام الشملي، تونس، مارس/آذار 2021

وكان رئيس الهيئة نفسه، توفيق بودربالة، صرح في ديسمبر 2020 أنه لا يستبعد وقوع أخطاء وهفوات أثناء إعداد القائمة. لا تشمل القائمة التي أعدتها اللجنة ونُشِرت في آخر المطاف في الرائد الرسمي ، سوى 129 قتيلًا و619 جريحًا. وعلى سبيل المقارنة، أحصت اللجنة المكلفة في فبراير 2011 بنفس المهمة، والتي ترأسها توفيق بودربالة، 338 قتيلاً و2147 جريحًا في تقريرها النهائي. ويمكن إحالة هذا التباين الجزئي ، إلى طبيعة التعريف المعتمد بموجب المرسوم القاضي بإنشاء هيئة شهداء وجرحى الثورة داخل الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية. تُعرف المادة 6، "الشهداء" على أنهم "الأشخاص الذين خاطروا بحياتهم من أجل الثورة، وقد ماتوا أو أصيبوا بجروح سببت لهم إعاقة، وذلك في الفترة ما بين  17 ديسمبر 2010 و28 فبراير 2011". بالإضافة إلى ذلك، اتهم بودربالة، خلال أشغال اللجنة، بعض الجرحى بتقديم شهادات طبية مزورة. والآن مع نشر القائمة في الجريدة الرسمية، يتعين على أي معترض تقديم شكواه أمام المحكمة الإدارية، التي تلقت منذ نشر القائمة على موقع الهيئة في أكتوبر 2019 أكثر من ألفي طلب استئناف.

إلى جانب الغموض الذي أحاط بالقائمة، ساهم تأخير نشرها من قبل رئاسة الحكومة في الجريدة الرسمية في تعقيد الوضع. ومنذ نشر القائمة من قبل اللجنة على الإنترنت في 2019، توالت الإعلانات عن منشورات وشيكة في الرائد الرسمي JORT، دونما تنفيذ، إلى غاية 19 مارس 2021، عندما نُفِذ الإعلان الذي صرح به رئيس الحكومة هشام ميشيشي قبل يومين. بالنسبة لخايم شملي، هذا التأخير طابعه سياسي:

في عهد الباجي قائد السبسي ويوسف الشاهد، كان الجو   معارضا للعدالة الانتقالية بشكل عام، وحتى إزاء الاعتراف بالثورة . وقد عرقلت جميع الوزارات عمل هيئة الحقيقة والكرامة [...] في عهد قيس سعيد، أولت حكومة إلياس الفخفاخ ( فبراير - سبتمبر 2020) الأولوية للعدالة الانتقالية، بما يفسر نشر تقرير هيئة الحقيقة والكرامة IVD في الرائد الرسمي JORT ، غير أن هشام مشيشي [ الذي خلفه ] تم استخدامه من قبل النهضة وقلب تونس، وهما حزبان مناهضان العدالة الانتقالية . في الواقع، من الناحية السياسية، كانت الطبقة السياسية كلها مسؤولة عن هذا الفشل الذريع .4مراسلة خيام شملي، تونس، مارس 2021

من ديسمبر إلى يناير الأخرين، احتلت أسر الشهداء والجرحى، مقر الهيئة العامة للمقاومين وشهداء وجرحى الثورة والعمليات الإرهابية. وجاءت عملية احتلال المقر ردا على عنف الشرطة، في 17 ديسمبر 2020، يوم إحياء ذكرى حرق محمد البوعزيزي نفسه– وهي تمثل بالنسبة لكثير من التونسيين، التاريخ الشرعي لإحياء ذكرى الثورة - حيث نظمت مظاهرة أمام مقر رئاسة الحكومة. وجاء الجرحى وأهالي الشهداء يوم ذاك، للمطالبة بنشر القائمة.

وكانت هذه العائلات والأقارب، وراء مبادرات التكريم القليلة جدًا، احتفاء بالشهداء في الأماكن العامة في العاصمة تونس. كانت مجرد مبادرات خاصة أو من طرف جمعيات،  من دون حضور من الدولة المركزية  ومن دون سلطات البلديات،  عدا استثناءات قليلة. توجد في وسط تونس العاصمة، حديقة حلمي المناعي، تكريمًا من سكان الحي للشاب البالغ من العمر 23 عامًا الذي قتلته الشرطة في 13 يناير 2011، في حين  وضِعت في الكرم الغرب، في الضاحية الشمالية لتونس العاصمة، لوحة رخامية تكريما لثمانية أشخاص قتلوا على يد الشرطة في الحي في يناير 2011، قبل أن يضاف لها دوار في يناير 2019،  صممه فنان بتكليف من مجلس المدينة.

خيارات محلية ذات أهداف سياسية

تُعتبر بلدية الكرم واحدة من البلديات القليلة في البلاد التي تطوعت لوضع نصب تذكاري تخليداً لذكرى الثورة.

اشتُهر فتحي العيوني، رئيس بلدية الكرم، الذي فاز في الانتخابات البلدية عام 2018، بخلافاته مع الدولة المركزية بعد إنشائه صندوق للزكاة، وخلافاته مع قيس سعيد، والدوارات المرورية الخارجة عن المألوف5تُعِد كاتبة هذا المقال فيلماً وثائقياً حول الدوارات المرورية في الكرم. . ومنذ انتخابه، شهدتِ المدينة ظهور منحوتات عند الدوارات المرورية (سلحفاة بحرية، وطائرة  من دون طيار تُحلق في سماء فلسطين في عام 1948، وجزيء فيروس كورونا تُحطمه عصا هيرميس التي ترمز للصحة، إلخ.) والتي كانت مادة للسخرية على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام. يُعتبر أحد هذه الدوارات المرورية المتواجدة في مدخل غرب الكرم (يُطلق عليها الآن اسم "الكرم المدينة")، تخليداً لذكرى الشهداء الثمانية الذين سقطوا في يناير/كانون الثاني 2011، في هذا الحي الشعبي في تونس العاصمة. بالنسبة للعيوني، فإن غياب اللائحة لم يكن أبداً عائقاً أمام بناء النصب التذكاري:

وقد صرح في سبتمبر/أيلول في عام 2020: "إنها مدينة صغيرة، حيث يعرف الجميع بعضهم البعض. وبالتّالي، يعرف السكان الشهداء. عندما وصل مجلسنا البلدي، وجد لوحة رخامية وضعها السكان مكتوب عليها أسماء شهداء الكرم. لم نرغب في الدخول في تفاصيل تلك اللائحة الرسمية، لأنه وكما ترون بعد مرور 10 سنوات، لم تصدر لائحتهم بعد. نحن نعرف شهدائنا، ولذلك أخذنا زمام المبادرة لكي تجد أوجاع وآلام أهاليهم ملاذاً في هذه المدينة". 6حوار مع فتحي العيوني، الكرم، سبتمبر/أيلول 2020

 

الصورة 3: لوح تذكاري لشهداء الكرم الغربي. بعدسة: مريم عامري

 

الصورة 4: دوار مروري لتخليد ذكرى شهداء الكرم الغربي . بعدسة: مريم عامري

أما الآن، بعد نشر لائحة الشهداء والجرحى رسمياً، ليس من المفاجئ أن تأخذ مسألة تخليد ذكرى الثورة مُنعطفاً سياسياً، يكشف مواقف البعض من شرعية ما يُسميه الكثير من مناصري النظام السابق "ثورة البرويطة" على سبيل الاستهزاء، إشارةً إلى عربة الفواكه والخضراوات التي صادرتها الشرطة من محمد البوعزيزي.

بالنسبة لبلدية تونس، تؤكد هندة بالحاج علي، مستشارة بلدية المدينة ورئيسة لجنة التسميات والنُصب التذكارية، على ضرورة تحري الدقة في اختيار طريقة تخليد ذكرى الثورة "حتى لا نسقط في فخ الشَعبوية الذي يُفقد هاته  المبادرات قيمتها المعنوية"7 حوار مع هندة بالحاج، تونس العاصمة، فبراير/شباط 2021 ، مشيرةً إلى العيوني الذي تعتبره شخصيةً شعبويةً. ولتعزيز وجهة نظرها، أعطت مثالاً لساحة في حي الخضراء في تونس العاصمة، كان يُطلق عليها اسم "ساحة الحبيب بورقيبة" قبل الثورة، ثمّ أصبح اسمها "ساحة الشهيد X" 8 في الواقع يُطلق على الساحة اسم "ساحة الشهداء"، تخليداً لذكرى شهيدين سقطا إثر مواجهة مع الشرطة في يناير/كانون الثاني 2011: إلياس كرير (قُتل في 16 يناير/كانون الثاني 2011 حينما كان يحرس الحي ليلاً بمعية مجموعة من سكان الحي، وقُتل إلياس على يد مُسلح مجهول خرج من سيارة سوداء حسب الشهود) وعلاء الدين الطهيري. لكن لم يظهر إلا اسم علاء الدين الطهيري وحده في اللائحة الرسمية لشهداء الثورة. (كذا) مباشرة بعد الثورة. وحسب ما قالت، فإن الشهيد المذكور:

"لم يكن ناشطاً، ولم يخرج للتظاهر. فالشاب رحمه الله، كان قد خرج في الظلام لتدخين سيجارة من الحشيش، والتي رأى أحد القناصين شرارتها من بعيد، فأطلق عليه النار وقتله […] وحين أتحدّث أنا شخصياً عن ساحة أو شارع، يتبادر إلى ذهني أشخاص قدّموا شيئاً لتونس، وضحّوا من أجلها. أشخاص شاركوا في   التظاهرات، وكانوا مُدركين أنهم بذلك عُرضة للخطر، أشخاص كانوا مستعدين للعطاء من أجل أن تشهد تونس التغيير، هؤلاء هم الذين ضحّوا، وإليهم يجب أن يُعطى الحق أولاً".

ثمّ تُضيف: "لا يُمكننا وضع اسم ضحية ما على حائط سيُخلد لسنوات مديدة، لكن الأولوية يجب أن تكون لشهيد حقيقي شارك في مظاهرة بالفعل أو نظمّها".9 حوار مع هندة بالحاج، تونس، فبراير/شباط 2021.

هكذا تُميز المستشارة صراحةً بين "الشهداء" وضحايا عنف الدولة. فالشهداء "الحقيقيون"، والناشطون المُسيّسون لهم الحق في أن يذكرهم التاريخ. أما الضحايا فلا حق لهم في نيل هذا الشرف باعتبارهم من الخسائر الجانبية (للثورة). وربما يعود أصل هذا التمييز إلى عجز دولة تونس بعد الاستقلال عن منح الحق في المواطنة التامة والكاملة لأولئك الذين نُبذوا على مر التاريخ بسبب وجود "نقص" و"تخلف": نقص في مظاهر العصرنة، نقص في التمدن، نقص في التعلُم، وفي هاته الحالة نقص في التسيُس.10 ملاك الأكحل "نقص" المواطنة في تونس: قراءة نقدية. رسالة ماجستير. باريس. 2017

وحسب ما ذكره زميلها أحمد بوعزي، مستشار بلدية مدينة تونس، المُنتمي لحزب "التيار الديمقراطي" المُعارض، يرجع غياب نُصبٍ تذكاريةٍ حكوميةٍ لأسباب سياسية بحتة. وقد صرّح: "إن السلطة السياسية التنفيذية ووزارة الداخلية، كلاهما ضد الثورة وضد أي شيء يُذَكِّر بها"11 حوار هاتفي مع أحمد بوعزي، تونس، فبراير/شباط 2021 . وفي رأيه، هناك مَعْلَمين يرمزان للعودة: تمثال الفروسية لبورقيبة واللوح التذكاري الذي نُصب تكريماً لشهداء وزارة الداخلية، المتموقعيْن على بُعد أمتار من بعضهما البعض: "أَخْذُ تمثال بورقيبة ووضعه في المكان الذي أُقيمت فيه الثورة، يُعتبر انتقاماً من الثورة، ومن الشباب والشهداء، إنها طريقة أخرى لإخبارنا بأنهم قد عادوا". أما فيما يتعلق باللوح التذكاري، تقول وزارة الداخلية: "وضعنا هذا اللوح لأجل شهدائنا ولا يُمكنكم المساس به أو الاقتراب منه (فوق قلوبكم)"12هذه هي العبارة التي استخدمها بوعزي . إنهم يعلمون أنه لا أحد يريد هذا اللوح، ولذلك فهو بعيد المنال، لكي لا يمسّه أحد"، وبالفعل لا يمكن وصول عامة الناس لهذين المَعْلمين نهائياً. وقد تم عرض تمثال بورقيبة لوقت قصير بعد ترميمه، لكن بعد قاعدته وذلك بالكتابة عليه عام 2016، مُنِع الاقتراب منه. أما لوح وزارة الداخلية التذكاري، فإنه يقع داخل محيط كبير تُغلقه وزارة الداخلية لغرض حمايته، ولم يُسمح أبداً للمارة الاقتراب منه. ويختم بوعزي قائلاً: "العاصمة أرض تحتلها وزارة الداخلية. تفعل فيها ما تشاء، وتضع الحواجز حيث تشاء، ولا تستطيع البلدية فعل شيء حيال ذلك". 13حوار هاتفي مع أحمد بوعزي. تونس العاصمة. فبراير/ شباط.2021

أي نُصب تذكارية لأجل أي ثورة؟

إضافة إلى عدم الرغبة في الاحتفاء بثورة جاءت لتزعزع مشهداً سياسياً قائماً على مفهوم الأمة المتحدة، المبنية على التوافق والعصرنة، يقول إيهاب قرمازي، معماري وطالب دكتوراه في معهد ماساتشوستس للتقنية (MIT)، أن "اعتبار الثورة مشروعاً أيديولوجياً يحكم عليها بالفشل" لذلك وجب تمثيلها، ويتسائل إيهاب: "الثورة لم تكن يوماً فكرةً، لقد بقيت لحظةً مُخلدةً14حوار مع إيهاب قرمازي. تونس العاصمة. مارس/ آذار 2021 . ولكن كيف يمكننا تمثيل لحظة ما؟".

ويرى قرمازي أن هذا الفشل له تفسيران مترابطان: الأول هو غياب التوثيق في الساحة العمومية والذي دام ثلاث وعشرون سنة في عهد بن علي. والثاني هو عدم تقبل المشهد السياسي التونسي أن لحظة الثورة كانت لحظةً جذريةً.

وضد الدوكسا التي أرادت أن يُفْرط بن علي في الاستثمار في الفضاء العام لفرض وجوده، يفترض قرمازي أن رموز حقبة بن علي (رقم "7"، اللون البنفسجي، الساعات الكبيرة المتواجدة في الساحات العامة) كلها كانت قشوراً فارغةً خاليةً لا تحمل أي قصة في طياتها: أراد بن علي إخفاء حقيقة أنه ليس لديه ما يقوله أو يضيفه، عبر فرض وجودٍ مُفتقر للمعنى في الفضاء العام. "رقم 7 ما هو إلا رقم 7، […] الساعة الكبيرة ما هي إلا ساعة كبيرة. […] كانت رسالة هاته الرموز الوحيدة تقول "أنا هنا ولا أتزحزح أبداً". وبعد عشرين عاماً من انعدام المعنى، كان من الحتمي أن تنطلق حركة "موبيدا" جديدة.15حوار مع إيهاب قرمازي. تونس العاصمة. مارس/ آذار. 2021

من ناحيته، يرى قرمازي أن السبب الثاني الذي أدّى إلى فشل الثورة في أخذ مساحة في الفضاء العام هو رفض كل ما هو جذري، والسعي وراء التسويات والتوافقات الموروثة عن نظام بن علي16 Hibou Béatrice. La force de l’obéissance : économie politique de la répression en Tunisie. Paris : Éditions La Découverte. 2006. ، وأبعد من ذلك، عدم القدرة على إعادة صياغة سردية وطنية لضم أولئك الذين شُطبوا منها بسبب احتكار المناطق الساحلية للسلطة لعقود.

"في السنوات الثلاث الأولى للثورة، كانت هناك لحظة جذرية. رحل الديكتاتور، وانهارت دولة 1956. ، بحاجة لأن تتغير حياتهم، ليس في الذاكرة الجمعية فقط، بل في حياتهم اليومية أيضاً، أرادوا أن يُعيدوا تصور أنفسهم كأفراد، وللأسف، الوحيدون الذين استطاعوا منحهم ذلك، في تونس، هم الجهاديون".

أعاد التحالف بين حزب النهضة ومنافسه نداء تونس إلى المشهد السردية الوطنية البورقيبية، والتي سارعت النهضة في تبنيها. وجاء هذا التحالف لغلق تلك النافذة الصغيرة التي كانت مفتوحة في وجه الجذرية.

على الرغم من كل شيء، لا تزال الرغبة في التغيير، والتطلع لفجر جديد يُخالج صدور نسبة من الشعب. فجاء قيس سعيد وقطع وعداً جذرياً بتغيير جزئي. وليس مصادفةً أنه مباشرة بعد انتخابه في نوفمبر/تشرين الثاني في عام 2019، نفذ المواطنون حملة تنظيف وتحسين كبيرة للفضاء العمومي، حملة أُطلق عليها اسم «حالة وعي»، فكانت بمثابة إعلان لعودة المواطنين للفضاء العمومي.

يُشير غياب نُصب تذكارية تحتفي بالثورة إلى عدم رغبة النظام الحالي في اعتبار هاته الأخيرة جزءاً لا يتجزأ من السردية الوطنية. وحتى اليوم، لا تزال سردية عام 1956 الوطنية مُعتمَدة رغم كل الاعتراضات، وهي سردية تضم رجالاً مهمين مستنيرين وحداثيين. في هاته السردية، الثورة ليست إلا قوساً يجب غلقه. ومبادرات تكريم المجهولين الذين لقوا حتفهم بينما كانوا يُعبرون عن رغبتهم في التغيير، ليست كافية أبداً لِقِلّتها، حتى وإن نظّمتها سلطات محلية. من ثمّ، يبقى الفضاء العام ورقة سياسية مهمة، تارة تستحوذ عليها الدولة وتارة يستعيدها المواطنون، فتمثل ذلك التناوب بين عودة النظام القديم الذي يحافظ فيه كلٌّ على ، وبين الدمقرطة، حيث يُمنح المكان للمهمشين على مرّ التاريخ الذين لم يُسلط عليهم الضوء.17Voir Rancière Jacques, Aux Bords du Politique. Paris : Folio Essais. 2004

Endnotes

Endnotes
1 يعود هذا التعبير لإيهاب غرمازي
2 أكدتها مستشارة البلدية هندة بالحاج علي
3 مراسلة خيام الشملي، تونس، مارس/آذار 2021
4 مراسلة خيام شملي، تونس، مارس 2021
5 تُعِد كاتبة هذا المقال فيلماً وثائقياً حول الدوارات المرورية في الكرم.
6 حوار مع فتحي العيوني، الكرم، سبتمبر/أيلول 2020
7  حوار مع هندة بالحاج، تونس العاصمة، فبراير/شباط 2021
8  في الواقع يُطلق على الساحة اسم "ساحة الشهداء"، تخليداً لذكرى شهيدين سقطا إثر مواجهة مع الشرطة في يناير/كانون الثاني 2011: إلياس كرير (قُتل في 16 يناير/كانون الثاني 2011 حينما كان يحرس الحي ليلاً بمعية مجموعة من سكان الحي، وقُتل إلياس على يد مُسلح مجهول خرج من سيارة سوداء حسب الشهود) وعلاء الدين الطهيري. لكن لم يظهر إلا اسم علاء الدين الطهيري وحده في اللائحة الرسمية لشهداء الثورة.
9  حوار مع هندة بالحاج، تونس، فبراير/شباط 2021.
10  ملاك الأكحل "نقص" المواطنة في تونس: قراءة نقدية. رسالة ماجستير. باريس. 2017
11  حوار هاتفي مع أحمد بوعزي، تونس، فبراير/شباط 2021
12 هذه هي العبارة التي استخدمها بوعزي
13 حوار هاتفي مع أحمد بوعزي. تونس العاصمة. فبراير/ شباط.2021
14 حوار مع إيهاب قرمازي. تونس العاصمة. مارس/ آذار 2021
15 حوار مع إيهاب قرمازي. تونس العاصمة. مارس/ آذار. 2021
16  Hibou Béatrice. La force de l’obéissance : économie politique de la répression en Tunisie. Paris : Éditions La Découverte. 2006.
17 Voir Rancière Jacques, Aux Bords du Politique. Paris : Folio Essais. 2004

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.