بعد 25 تموز/يوليو: المجتمع المدني التونسي بين سياسة الصمت والترقب وانتظار النتائج

في يوم 25 تمّوز/يوليو 2021 ، أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد حالة الطوارئ، إلى جانب قرارات جذرية ضد ما اعتبره تدني لسيادة الدولة. من خلال تحليل معمق للوضع الحالي، تستكشف هذه الورقة المجتمع المدني الصامت حتى الآن وتدرس الديناميكيات السياسية والاجتماعية التي قد تؤدي إلى شرخ بين هذه الجهات الفاعلة والجمهور الذي يُتوقّع منها تحريكه.

الرئيس التوني قيس سعيد يرأس الاجتماع الأسبوعي للحكومة في قصر قرطاج في مدينة تونس، تونس، 02 كانون الثاني/ديسمبر 2021. ©الرئاسة التونسية / بيان / AA

في 25 تموز/يوليو 2021، أعلن الرئيس قيس سعيّد حالة الطوارئ، مصحوبة بقرارات جذرية ضد ما اعتبره تدني لسيادة الدولة. واستهدفت هذه الإجراءات الاستثنائية في البداية مجلس النواب الذي جُمدت إجراءاته وحُرم أعضاؤه المنتخبون من الحصانة البرلمانية. كما ركزت إجراءات الطوارئ على جعل السلطة التشريعية وجزء من السلطة القضائية في أيدي الرئيس، الذي يُمكنه الآن سنّ تشريعات بموجب مراسيم بقوانين وترأس النيابة العامة. وأخيرًا، تم حل حكومة هشام المشيشي، بدعم من حزب النهضة وقلب تونس والكرامة في البرلمان، دون سابق إنذار.

وقد كانت الإجراءات المعلنة بمثابة قنبلة قضت على المشهد السياسي التونسي. ووجدت الأحزاب الرئيسية في السلطة، التي انتخبت ديمقراطياً في عام 2019، نفسها على مقاعد البدلاء، وتولى الرئيس زمام الأمور، دون حزب ودون مشاورات رسمية ومن خلال التواصل بشكل متقطع.

في ضوء هذه السنوات العشر من التحول الديمقراطي التي مرت بها تونس، من المحتمل جدًا أن يظل يوم 25 تموز/يوليو هذا أحد أهم التواريخ نظرًا لحجم التغيير الذي أحدثه ودرجة عدم اليقين التي سادت كل شيء في البلاد -لا سيما فيما يتعلق بمستقبل المؤسسات الديمقراطية التي تم بناؤها خلال العقد الماضي. والغريب أنه، حتى عندما شرح الرئيس هذه الإجراءات بالخطر الوشيك الذي يثقل كاهل الدولة، أجرت الرئاسة اتصالات متقطعة وغامضة، بينما أطالت المواعيد النهائية لتشكيل الحكومة دون أجل مسمى. وكان لهذا أثر في تشكيل خطر ملموس على البلد بأكمله.

في 29 أيلول/سبتمبر 2021، كلّف الرئيس سعيّد أخيرًا نجلاء بودن بتشكيل الحكومة. وقد حدث ذلك بالفعل بتاريخ 11 تشرين الأول/أكتوبر، حيث وضعت الرئيسة الجديدة للحكومة التونسية، التي كانت غريبة تمامًا عن المشهد السياسي، مسارًا جديدًا للاستراتيجية الرئاسية.

في هذه اللحظة الحاسمة للديمقراطية التونسية، وأثناء سياق متوتر سياسيًا، بين الجدل المستمر حول مؤهلات الانقلاب أو تصحيح المرحلة الانتقالية، بين مؤيدي الرئيس والأحزاب السياسية والمنتقدين له، حفزت المناقشات تونس بشكل لم يسبق له مثيل منذ عام 2011. ومع ذلك، فإن العديد من المشاركين الفاعلين الذين اعتادوا على حضور هذه المناقشات كانوا غائبين عن المشهد. فنجد أن المجتمع المدني التونسي، الذي كان حتى ذلك الحين قلب الثورة النابض، وكذا النقابات، التي يقف أمامها الاتحاد العام للعمال التونسيين والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والزراعة، في صمت مفاجئ، تتخلله في أحسن الأحوال بعض البيانات الصحفية للتذكير بمبادئ الديمقراطية أو التشريعات على شبكات التواصل الاجتماعي التي تعبر عن مخاوف. وقد فسر البعض موقف الانتظار والترقب هذا على أنه موافقة ضمنية على التدابير الاستثنائية ومن ثم على أنه رفض للوضع السائد حتى 25 تموز/يوليو، بينما رأى البعض الآخر أنه عجز عن الاستجابة لخطر كبير يتمثل في إغراق البلد .. في ديكتاتورية جديدة، بعد عشر سنوات من رحيل بن علي.

لا شك أن جميع الفاعلين في المجتمع المدني المذكورين في هذه الدراسة، من الجمعيات إلى النقابات، بمن فيهم الصحفيون والناشطون وأعضاء الحركات الاجتماعية، سيتعين عليهم اتخاذ موقف في الأشهر والسنوات القادمة فيما يخص المسار الذي ستتخذه الدولة من حيث الانتقال الديمقراطي واستقرار المؤسسات وضمان الحقوق والحريات وخلق نموذج اقتصادي جديد. إن الصمت المستمر والأصوات القليلة الخجولة التي تم الإعراب عنها منذ تموز/يوليو تخاطر بخلق هوة بين هؤلاء الفاعلين والساحة العامة التي يُتوقع حشدها. ستؤثر هذه الفجوة ليس فقط على قدرتهم على زيادة الوعي والعمل، ولكن أيضًا على مصداقيتهم كقوة مضادة قادرة على ضمان عدم إلقاء الأسس التي تم تأسيسها في عام 2011 في طي النسيان.

إذا استمر قيس سعيد في المسار الذي بدأ في تموز/يوليو، فإن تجميد أنشطة مجلس النواب يجب أن يؤدي بشكل منطقي إلى الدعوة لانتخابات برلمانية جديدة. في هذا السيناريو، ستجرى هذه الانتخابات في عام 2022 ومن المحتمل جدًا، وفقًا لقواعد مختلفة بما في ذلك تغيير طريقة التصويت. وقد قالها قيس سعيد عدة مرات خلال خطاباته، يجب أن يحل الاقتراع الفردي محل التصويت عن طريق القائمة. هل سيؤهل المجتمع المدني نفسه للتأثير على اختيار عملية الاقتراع ولضمان انتخابات شفافة وتشاركية؟ وبعيدًا عن الانتخابات، أعلن الرئيس أيضًا عن عملية إصلاح أعمق لأن النظام السياسي ككل لا يتطابق مع رؤيته الشعبية لسلطات الدولة. إن النظام كما تصوره وأعطى العلامات الأولى له خلال خطاب ألقاه في سيدي بوزيد (وسط البلاد) في 20 أيلول/سبتمبر سيكون نظامًا من شأنه أن يحل محل الديمقراطية التمثيلية بنظام مباشر على المستوى المحلي تتدفق منه سلسلة من الوفود تصل إلى المستوى الوطني. لا تزال هذه الفرضية غير واضحة ولم تتم مناقشتها كثيرًا، ويبدو أن هذه الأخيرة تزداد ترجيحًا نظرًا لتصنيف الثقة الذي يتمتع به قيس سعيد اليوم.

في جميع السيناريوهات، يجب أن تؤدي المناورات الرئاسية إلى تعديل الدستور، على الأقل في الفصول المنظمة للسلطات الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية) وربما أيضًا الفصل المتعلق بالسلطة المحلية. إذا أصبح مشروع التعديل حقيقة، فسيتعين على الرئيس تقديم هذه التغييرات للاستفتاء وسيتعين، في المراحل الأولى، عقد لجنة من الخبراء، والتي يجب مناقشة شفافيتها وشمولها. يجب على المجتمع المدني في هذا الوقت، ونظريًا في المراحل الأولى من هذه الأحداث، أن يلعب دوره كاملاً كضمانة ومواجهة لأي إغراء للانجراف وتركيز السلطات. يجب التذكير بالالتزامات والمعايير الدولية ويجب على الرئيس توفير الضمانات اللازمة لمتابعة التحول الديمقراطي وترسيخه.

النقابات التونسية، مراقبين عن بُعد للاضطرابات السياسية

يعلم أي شخص كان مقربًا من المشهد العام أو السياسي أو النقابي التونسي أن النقابات تلعب دورًا مركزيًا في البلاد. يمثل الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، الذي يضم عشرات إلى عدة مئات الآلاف من الأعضاء، العمال وأصحاب العمل وهم المحاورون الأساسيون للحكومة، والذين بدونهم لا يمكن تصور أي إصلاح أو قانون مهم أو سياسة عامة.

في عام 2013، شكلت النقابتان الكبيرتان، مع نقابة المحامين الوطنية التونسية والرابطة التونسية لحقوق الإنسان، الرباعية التي قادت الحوار الوطني التونسي الذي مكّن البلاد من الخروج من أزمة سياسية عميقة أدت إلى خروج المعارضة من المجلس التأسيسي وقتها وعرقلة عملية وضع الدستور. وقد حازوا من خلال دورهم كركيزة للمناقشات السياسية على جائزة نوبل للسلام في عام 2015.

في اليوم نفسه الذي تلا إعلان قيس سعيد عن الإجراءات الاستثنائية في تموز/يوليو 2021، أعرب الاتحاد العام التونسي للشغل عن دعمه غير المشروط للرئيس من خلال التذكير بتعلق المنظمة بالدستور. لكن الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي كان محاوراً دائماً وأحياناً حليف للحكومات السابقة والأغلبيات البرلمانية المختلفة، فوجئ بالسرعة التي تمت الموافقة بها على هذا التغيير السياسي.

على الرغم من دعوة الاتحاد العام التونسي للشغل في 26 تموز/يوليو إلى اعتماد خارطة طريق وفقًا للدستور والإعلان عن إصلاحات بعيدة المدى في جميع القطاعات، إلا أن الاتحاد العام لم يحدث سوى القليل من الضجة بشأن استمرار هذه الإجراءات لفترات طويلة وغياب الإصلاحات. وأصبح الاتحاد محاصر في صمت يصم الآذان لم يكسره سوى بيان على مدى شهرين، بعد أن منح رئيس الجمهورية نفسه في 22 أيلول/سبتمبر 2021 بمرسوم رئاسي (رقم 2021-17) مجالًا غير محدود تقريبًا من الإجراءات لإصدار المراسيم بقوانين ووضعه وحده على رأس الهرم التنفيذي ووقف جزء كبير من الدستور دون أي استشارة.

من خلال هذا المرسوم بقانون، اكتفى الاتحاد العام التونسي للشغل، على لسان نائب أمينه العام، أنور بن قدور، بالتعبير عن "خيبة أمله"، وكذا رفضه لأي اعتداء على مكاسب الثورة في الحقوق والحريات الأساسية. ومع ذلك، فقد اعتادت النقابة المركزية على الهجمات العنيفة، لكنها ظلت سلبية بشكل ملحوظ في مواجهة تقدم الإجراءات التي تتخذها رئاسة الجمهورية. ويبدو أن قدرتها على التعبئة في الشوارع وإرغام الحكومات المختلفة على الانصياع لها موضع نقاش، غالبًا من قبل أعضائها الذين يوافقون على الإجراءات المتخذة.

يود المتحدثون باسم الاتحاد العام التونسي للشغل تقديم المركزية النقابية بصفتها "الحصن المنيع في وجه المناورات الهادفة إلى الانقلاب على قيم الدولة التونسية الديمقراطية والمدنية"، لكن إذا نظرنا إلى تطوّر الأوضاع السائدة في البلاد، فمن الجدير التساؤل عما إذا كانت النقابة العمالية قادرة حقاً على القيام بهذا الدور وإقناع الرئاسة بخطابها. فهذه المواقف السلبية، حتى وإن لم تعني بالضرورة ضعف النقابة العمالية الرئيسية بالكامل، إلا أنها تعكس تحوّلاً في ترتيب مصالح الاتحاد العام التونسي للشغل، الذين أبدى قادته، سخطاً إزاء مختلف قرارات حكومة المشيشي وبشكل أعم قرارات الحكومات التي دعمتها حركة النهضة. ومما لا شك فيه، يتعلق الأمر هنا أيضًا، بتكييف خاطف مع التغييرات الجارية التي تتجاوز قدرات المركزية النقابية، مثلما لاحظناه من قبل، في 2011، على سبيل المثال.

لم يختلف موقف الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية هو أيضاً، بوقوفه في وضع الترقب والجمود بعد 25 تموز/يوليو. وكان قيس سعيد قد وّجه أصابع الاتهام إلى عالم الأعمال التونسي، محملاً أقطابه الفساد العارم المتفشي، وانتشار روح الزبائنية بين السياسيين والجشع الاقتصادي والمالي على حساب مصالح المواطنين. وفي 4 أيلول/سبتمبر 2021، استقبل رئيس الجمهورية للمرة الثانية1نُظِم الاجتماع الأول في 28 تموز/يوليو بين رئيس الجمهورية ورئيس الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية (UTICA). تم بث المقابلة المصورة بالفيديو بالكامل على صفحة الرئاسة ويمكن مشاهدتها على الرابط التالي: https://www.leconomistemaghrebin.com/2021/07/28/video-kais-saied-recoit-le-president-de-lutica-samir-majoul/ وفداً عن الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، يقوده رئيسه سمير مجول، الذي أعرب له الرئيس عن جميع تحفظاته بخصوص أرباب العمل، مهنئاً في الوقت نفسه "رجال الأعمال النزهاء".

بصرف النظر عن الإعلانات المبدئية بشأن أهمية احترام الدستور وضرورة الحفاظ على السلم الاجتماعي، ظلت أكبر مركزيتين نقابيتين في مؤخرة القاطرة على نحو ملفت للنظر، تراقبان وتخضعان للإجراءات المعلنة مثلهم مثل أي شخص آخر في البلاد. ورغم احتجاجاتهم، منح الرئيس مكانة ثانوية للفاعلين الاجتماعيين في عملية تسوية الأزمة السياسية وفي حل الخطر الوشيك، الذي يهدد أركان الدولة حسب قوله.

إن عجز هذه النقابات العمالية عن استشارة قواعدها بشكل منتظم وسريع، العائد إلى عدم قدرتها الهيكلية على التصرف بشكل استباقي، يُذَكر بضعف النقابات التونسية، التي يتأرجح دورها، في المخيلة الجماعية، بين كونها هياكل تضمن حقوق الأضعف من بين المواطنين، بالنسبة لمؤيديها، واعتبارها عدوة الديمقراطية، من منظور منتقديها. لقد شكلت الأسابيع القليلة الماضية تحديًا كبيرًا للدور الذي تزعم هذه النقابات القيام به.

والمُلفت للنظر، أن متابعتها لتطوّر الوضع العام في البلاد، وفي ضوء التكاثر المطرد للحركات الاجتماعية في البلاد، وجد الاتحاد العام التونسي للشغل نفسه مجبراً في نهاية المطاف على نشر بيان صحفي بتاريخ 4 كانون الأول/ديسمبر 2021 نأت فيه المركزية بنفسها عن الرئيس سعيد ودعت فيه إلى تنظيم حوار وطني يجمع كافة الفاعلين السياسيين والاجتماعيين في البلاد. أوضح الاتحاد العام التونسي للشغل أنه على الرغم من عدم استبعاد الرئاسة، إلا أنها ليست مدعوة بشكل خاص، للاضطلاع بدور مركزي في هذا الحوار، وهو الدور الذي ينوي الاتحاد القيام به. وتعددت نشاطات ممثلي الاتحاد العام التونسي للشغل عبر وسائل الإعلام التونسية (السمعية والبصرية والإذاعية والصحفية) لإعلان رفضهم احتكار الرئيس للسلطة والمطالبة بحماية الحريات الفردية والجماعية.

وهناك مثال أخير من الجدير أخذه في الاعتبار، يتعلق بالهيئة الوطنية للمحامين بتونس. في 27 تموز/يوليو، نشرت هذه الهيئة الخاصة بالمحامين بياناً صحفياً دعماً لإجراءات الرئيس، ودعته إلى إعادة فتح ملفات قضايا الفساد، وتعديل قانون الانتخابات، والمتابعة القضائية للتجاوزات الانتخابية المسجلة منذ عام 2011. وقد التزمت الهيئة بهذا الموقف وحافظت عليه إلى يومنا هذا رغم التحفظات التي أبدتها في أيلول/سبتمبر ضد انتهاكات الحقوق والحريات المسجلة.

العالم الجمعوي يفاجأ بتطورات الوضع بعد أن باغتتها الأحداث المتعددة

بتبنيها موقف الانتظار والترقب نفسه على غرار موقف النقابات، تميزت منظمات المجتمع المدني التونسية بصمتها الملفت للنظر، وقد أصيبت معظمها بالذهول نتيجة سرعة وحجم الإجراءات المعلنة. لم تتمكن المنظمات الوطنية الكبرى التي باغتتها تلك الإجراءات، من إيصال أصواتها إلا عندما دعاها الرئيس للقيام بذلك. في 28 تموز/يوليو، دعتْ الرئاسة كل من الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، وهي عضو آخر في الرباعية التي حازت على جائزة نوبل في 2015، والاتحاد الوطني للصحفيين التونسيين والجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، للاستماع إلى الرئيس والتعبير عن آرائها. وقد ركزت هذه الجمعيات على ضرورة الحفاظ على الحقوق والحريات الأساسية واحترام الإطار الدستوري القائم. وأقرت هذه الجمعيات خلال الاجتماع بالوضع الفوضوي الذي شهدته البلاد حتى تاريخ 25 تموز/يوليو الماضي وصواب الإجراءات التي اتخذها رئيس الجمهورية، مع تذكيرها بضرورة الحفاظ على الطابع المؤقت لهذه الإجراءات (على ألا تتجاوز 30 يوماً) وطابعها المدني (عدم تدخل الجيش، وضع خارطة طريق، التعهد بالحفاظ على الحقوق، إلخ).

لكن مع ذلك، شهدت البلاد منذ الصيف الماضي، العديد من الانزلاقات الأمنية. في اليوم التالي مباشرة لإعلان الإجراءات، في 26 تموز/يوليو، قامت قوات الشرطة بعمليات مداهمة كبيرة لمقر قناة الجزيرة، وهي قناة يُنظر إليها على أنها حليفة للإسلاميين. وطُرِد الصحفيون والمسؤولون التنفيذيون من المباني التي ظلت مغلقة منذ ذلك الحين. وتعرض العديد من الصحفيين لاعتداءات جسدية أو لفظية، وقد نفذت معظم العمليات من قِبل قوات الأمن، ولكن بعضها أيضًا من طرف مؤيدي الرئيس. وشهِدت مظاهرات 25 أيلول/سبتمبر، التي نظمها عدد من المواطنين المعارضين للإجراءات المتخذة من قِبل الرئيس، على حجم التوترات المهولة التي يواجهها الصحفيون. وبهذا الشأن أصدرت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين بيانين صحفيين في فترة أقل من 48 ساعة تندد فيهما بالاعتداءات المتكررة على الصحفيين أثناء ممارسة وظائفهم والقيود التعسفية المُمَارسة ضد حرية الصحافة والإعلام.

هذه التجاوزات الأخيرة لم تقتصر على انتهاك هذه الحريات فقط: فثمة أيضاً الفضائح المتعددة الخاصة بفرض الإقامة الجبرية على قادة سياسيين، وحظر سفر2في الأخير، يرد رئيس الجمهورية على الجدل القائم حول قرار حظر السفر التعسفي، موضحاً أن هذه الإجراءات تخص فقط الأشخاص المطلوبين أو الذين يخضعون لأمر المثول أو الاعتقال. أقارب السياسيين، أو اعتقال نبيل القروي، رئيس قلب تونس في الجزائر، وكل ذلك يشهد على رغبة الرئاسة في تكميم أفواه الفاعلين الميدانيين الذين وُجِهت إليهم أصابع الاتهام في 25 تموز/يوليو. لم يتوّقف الوضع عند هذا الحد، بل دفع ثمن تلك الحملة جهات فاعلة أخرى، على غرار النائب ياسين العياري الذي اعتقل لعدة أسابيع بتهمة المساس بكرامة الجيش الوطني، إلى أن دخل في إضراب عن الطعام. وقد أفرِج مؤقتًا عن ياسين العياري في 22 أيلول سبتمبر 2021، دون أن تسقط عنه تهمة تشويه صورة الجيش وشخص رئيس الجمهورية.

حتى وإن أعربت المنظمات الوطنية الكبرى بشيء من الفتور عن مخاوفها الخجولة من عودة الديكتاتورية أو استدامة تعسف حالة الطوارئ، إلا أنها تحفظت كلها عن اتخاذ مواقف واضحة، بما يوحي أنها ترفض بلا  شك، الوضع الذي كان قائماً قبل 25 تموز/يوليو، حيث تشكل تحالف إسلامي محافظ مع التيارات السياسية التي اعتُبرت فاسدة (قلب تونس) أو متطرفة (الكرامة). ويمكن قراءة صمت المجتمع المدني كنوع من الدعم لقيس سعيد، والملاحَظ أن هذا المجتمع المدني نفسه الذي حشد في مناسبات عديدة، على مدى السنوات العشر الماضية الجماهير في الشوارع، وملأ وسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية وأصدر مجموعة متواصلة من البيانات والمؤتمرات الصحفية، ربما قد قرر بشكل غير منسق، تبني نهجاً محايداً في خطابه وتحركاته. واستمر الأمر على حاله، إلى غاية 26 أيلول/سبتمبر قبل أن نشاهد تنظيم أول احتجاج على الإطلاق دعت إليه منظمات المجتمع المدني وأحزاب المعارضة، حيث جاب بضعة آلاف من المتظاهرين شارع الحبيب بورقيبة، بالغ الرمزية، للاحتجاج على انتهاكات الحقوق والحريات.

يُسجل أيضاً تأخر المنظمات الدولية المتواجدة في تونس، المعروفة بسرعة تنديداتها بتجاوزات الحكام التونسيين، في التعبير عن موقفها المنتقِد لهذه الإجراءات، وكان تنديدها في الحدود الدنيا بالمقارنة مع حجم الحريات المنتهكة. ولم تمتد الإدانات المتعلقة بالقيود التعسفية على حرية التنقل وحرية التجمع وتكوين الجمعيات وحرية الصحافة، بشكل كافٍ لتشمل المطالبة بضرورة وضع حد، أو على الأقل تحديد تاريخ نهائي، لحالة الطوارئ، ولا المطالبة باعتماد خارطة طريق واضحة في ظل غياب البرلمان والحكومة حتى تاريخ تشكيل حكومة بودن. وكان لا بد هنا أيضاً الانتظار حتى 27 أيلول/سبتمبر، أي أكثر من أشهر مرة أخرى، ليصدر أول بيان مشترك من قِبل هذه المنظمات الدولية والوطنية، يدعو إلى إعادة النظر في الإجراءات المعلنة.

قد يشكل هذا الصمت والترقب سابقة ما في تجربة المجتمع المدني التونسي والدولي، وذلك من خلال تقويض مصداقية العمل المدني الذي يختار حلفائه وخصومه دون الإشارة للمبادئ والقضايا. وأشار العديد من المراقبين إلى أوجه التشابه بين هذا الصمت في تونس والصمت الذي لوحظ في مصر في 2012 /2013 عندما تولى اللواء السيسي السلطة، والذي قدم، مثله في ذلك مثل العديد من القادة العرب، دعمه غير المشروط لقيس سعيد.

هل يمكننا شرح موقف الانتظار والترقب الذي تمارسه الجهات الفاعلة المدنية؟

إن التريث والترقب الذي لوحظ لدى كافة هذه الجهات الفاعلة، يشير على الأرجح إلى وضعين على الأقل: الأول هو أن الوضع السياسي في تونس حتى 25 تموز/يوليو قد وصل بالفعل إلى ذروة ما يرفضه العديد من التونسيين والتونسيات. أما الثاني، فهو أن الهيكل المؤسسي والدستوري والقانوني الموضوع خلال هذه السنوات العشر من التحول الديمقراطي لا يزال ضعيفًا للغاية.

تتعلق النقطة الأولى التي أثيرت بتداعي المؤسسات السياسية في البلاد، وهو الأمر الذي يمكن ملاحظته في المقام الأول داخل مجلس نواب الشعب، الذي أصابه الصراع الداخلي بالشلل. فغالبًا ما وجدت الأغلبية الإسلامية، المتحالفة مع انتهازية قلب تونس، نفسها محاصرة، تلك الأغلبية التي كثيرًا ما شهدت اشتباكات لفظية وجسدية داخل قاعة الجلسات العامة، وذلك على الرغم من عدد مقاعدها في القرارات المتعلقة بالإدارة اليومية للشؤون العامة.

وسرعان ما وضعت حكومة هشام المشيشي مجلس نواب الشعب في المرتبة الثانية، عندما حولت مسار نقل المحادثات السياسية والمناقشات حول القضايا الاستراتيجية من باردو (مقر مجلس نواب الشعب) إلى القصبة (مقر الحكومة)، وذلك قبل أن يستعيد قيس سعيد في قرطاج (مقر رئاسة الجمهورية) هذه السلطة في 25 تموز/يوليو. أما النهضة فقد أيدت هذا الضعف الذي أصاب المجلس، على الرغم من رئاسة راشد الغنوشي الزعيم التاريخي للحركة ورئيس مجلس نواب الشعب منذ انتخابات 2019، وانجذاب مؤسسي الحركة للحكم البرلماني.

علاوة على ذلك، كان مهندسو الحركة أنفسهم ينظرون للتحالف مع قلب تونس في أعقاب الانتخابات التشريعية نظرة سلبية للغاية، وسويت جميع التنازلات الممنوحة للجهات الفاعلة التي اعتبرت فاسدة أو تتسم بالمحاباة أو تمارس الاحتكار على حساب الحزب. وجاءت المئات من استقالات أعضاء الحزب في 25 أيلول/سبتمبر الماضي كنتيجة مباشرة للانقسامات التي نشأت خلال العامين الماضيين، والتي استكملتها الخلافات في الرأي حول رد فعل الحركة على تصريحات الخامس والعشرين من تموز/يوليو.

ومن ناحية أخرى، اتضح ضعف المؤسسات الديمقراطية في تونس وضوحًا صارخًا في 25 تموز/يوليو. إن عدم وجود محكمة دستورية للحد من سلطات رئيس الجمهورية بموجب المادة 80 من الدستور، جعل الأخير قادرًا على تكميم كل من الهيئة التشريعية والسلطة القضائية، وحل الفرع الآخر للسلطة التنفيذية ألا وهي الحكومة، وذلك حتى تعيين نجلاء بودن.

لم تتمكن أي هيئة مستقلة أو لجنة دستورية من الفصل في قانونية أو شرعية هذه الإجراءات. واليوم، لا يسع التونسيون والتونسيات إلا التسليم بحسن نية الرئيس أو افتراض حسن نواياه لأنه لا توجد أي مؤسسة أخرى يمكنها أن تصادق عليه أو على العكس من ذلك تحرمه من حقه في اتخاذ هذه الإجراءات.

بل إن المرسوم الرئاسي الذي أعتمد بنهاية أيلول/سبتمبر، وصل إلى حد تعليق تطبيق الدستور مع الحفاظ على الفصلين الأول والثاني (الأحكام العامة والحقوق والحريات). وانتشرت شائعات عدة خلال الشهرين الماضيين، ثم أكدها قيس سعيد خلال خطاب حاد ألقاه في سيدي بوزيد في 21 أيلول/سبتمبر، مفاده أن الرئيس ينتوي تعديل قانون الانتخابات من أجل تغيير طريقة التصويت بالقوائم وتحويلها إلى اقتراع فردي. كما أنه يخطط لتعديل الدستور لإعادة منح رئيس الجمهورية صفة الرئيس التنفيذي وإخضاع رئيس الحكومة لأوامره، كما نص عليه النظام السياسي التونسي قبل 2011.

وأمام هذه الإعلانات التي لم تصبح رسمية بعد، وأمام توقع إجراء استفتاء شعبي أو أكثر لتأييد هذه القرارات، لا يزال المجتمع المدني يكافح من أجل التعبئة، بينما لم يجر بعد أي تشكيل ذي وزن أو لم يضف عليه الطابع الرسمي، مما يخلق فجوة واسعة أمام الرئيس ليحيك نظامه السياسي المثالي.

وفي هذا السياق من عدم اليقين والتوترات، أصبحت أولى الضحايا هي الحريات الفردية والجماعية التي تستمر في تحمل اعتداءات كل القوى الرافضة للعبة الديمقراطية: فقد انضم اليوم أنصار قيس سعيد الذين يرون أن الديمقراطية لم تعد على تونس بالخير، إلى قوات الأمن والنظام السابق.

التذكير الأساسي بقيم الثورة والمرحلة الانتقالية

واليوم، بالنسبة للعديد من المراقبين والنشطاء المحليين، لا يعني هذا الصمت والترقب الذي يتبعه مرادفًا للخطر، لأن هناك اعتقادًا سائدًا أنه إذا زاد القمع، فسيكون هناك في النهاية رد فعل أقوى. وتزخر شبكات التواصل الاجتماعي التونسية بمنشورات النشطاء والمحللين الذين يثنون على قوة الشارع التونسي وقدرته على الإطاحة بأعتى القادة، وتعزيز الجهات المعنية الوطنية في البلاد التي رافقت هذه السنوات العشر من التحولات، وأبرزت قدرة الجهات الفاعلة الاجتماعية على الحفاظ على مسار الديمقراطية. ومع ذلك، فإن الوضع يمر بمنعطف حرج بالنسبة للبلاد: فلم يحتكر أحد من قبل منذ انتهاء حكم بن علي كل هذا القدر من السلطة، ولم يمتلك أحد من قبل مفاتيح البلاد مثلما هو الحال مع قيس سعيد اليوم.

إن قبول حالة طوارئ غير محدودة، والسلطة التعسفية دون ضمانات، والمناورة دون تخطيط واضح، قد يدفع بالبلاد إلى مسار يصعب تغييره. وإذا تمكن قيس سعيد في النهاية من إحراز تقدم ديمقراطي حقيقي، فسيكون قد وضع رغمًا عنه سابقة يمكن لخلفائه تقليدها متى شاءوا.

واليوم، أكثر من أي وقت مضى، يجب على منظمات المجتمع المدني والنقابات والصحفيين وأوسع قطاعات المجتمع التعبئة في الشوارع والمساحات الاستراتيجية للمطالبة بالإعلان عن خارطة طريق. يجب أن تتم خارطة الطريق هذه بطريقة شفافة ومنسقة وشاملة مع جميع الجهات الفاعلة الاجتماعية. يجب أن تتغير رسالة الرئاسة بالضرورة لتشمل مزيدًا من التأكيد على مخاوف السكان وعدم اليقين الذي يتسم به الوضع الحالي.

يجب أن تضمن خريطة الطريق هذه بشكل لا لبس فيه وبلا تحفظ أن الحقوق والحريات ستبقى خطاً أحمر لا جدال فيه. فعلى سبيل المثال، تستحق تعليقات الرئيس حول حرية تكوين الجمعيات التسبب في إثارة قلق المجتمع المدني. وعلى حكومة نجلاء بودن أن تستأنف بشكل مطلق العمل الذي سبق وبدأته الإدارة وأن تشرع في إصلاحات اقتصادية واجتماعية جديدة من أجل السيطرة على التضخم المتسارع (أكثر من 6٪ خلال الربع الأول من عام 2021)، وإحياء الإيمان والتنمية الاقتصادية ودعم الاقتصاد، وكذلك تقديم الدعم للأسر الأكثر ضعفًا والشركات المتضررة من الأزمات الاقتصادية والصحية. وفي النهاية، فإن النظام ليس ذي شأن في مواجهة غياب المؤسسات. إن أولويات هذه الحكومة، الخاضعة بالضرورة لقيس سعيد، يجب أن تُحدد بوضوح، والأفضل من ذلك أنه لا يزال يتعين مناقشتها والمصادقة عليها على نطاق واسع.

في حال رغب الرئيس في تنفيذ مشروعه السياسي والمؤسسي، فعليه أن يفعل ذلك مع احترام قواعد دستور 2014، حتى لو انتهى الأمر بتعديل هذا الدستور، مع خطر إمكانية رؤية هذا السيناريو يتكرر ربما من طرف خصومه. إن المؤسسات الرئيسية التي تم التفكير فيها خلال عام 2014، يجب وضعها موضع التنفيذ المطلق، والتي ظلت على رأسها المحكمة الدستورية، التي تم اعتماد مشروعها في عام 2015، وظلت منذ ذلك الحين حبيسة الأدراج. يجب أن ترى الهيئات المستقلة سلطاتها مؤكدة واستقلاليتها راسخة رسوخ الجبال. كما يجب أن تستعيد السلطة القضائية استقلاليتها مع خضوعها في ذات الوقت لإصلاحات عميقة. ويجب أن تعاود القضايا الاقتصادية والاجتماعية والتنموية الظهور في دائرة الضوء، في ظل أولويات البلاد المطلقة.

دون تحقيق هذه المطالب، فإن المسار الذي اتخذته أولاً شعوبية قيس سعيد ومرشحون آخرون، قد يدفع بالبلاد لهاوية مماثلة لتلك الموجودة في البلدان الأخرى في المنطقة. يمكن لهذا الخطر بالإضافة لصمت الجهات المدنية أن يجهض الانتقال الديمقراطي للأبد، وهو ما استمرت تونس وحدها في متابعته في المنطقة.

 

Endnotes

Endnotes
1 نُظِم الاجتماع الأول في 28 تموز/يوليو بين رئيس الجمهورية ورئيس الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية (UTICA). تم بث المقابلة المصورة بالفيديو بالكامل على صفحة الرئاسة ويمكن مشاهدتها على الرابط التالي: https://www.leconomistemaghrebin.com/2021/07/28/video-kais-saied-recoit-le-president-de-lutica-samir-majoul/
2 في الأخير، يرد رئيس الجمهورية على الجدل القائم حول قرار حظر السفر التعسفي، موضحاً أن هذه الإجراءات تخص فقط الأشخاص المطلوبين أو الذين يخضعون لأمر المثول أو الاعتقال.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.