النقابات المستقلة حالة مصر 2004-2015: تجارب بين التطورات السياسية والعوامل الذاتية

تنشر مبادرة الإصلاح العربي هذه الورقة ضمن سلسلة أوراق حول النقاقات المهنية المستقلة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ممكن الإطلاع على الأوراق البحثية الأخرى هنا.

مقدمة

لمصر تاريخ طويل في النضال النقابي والعمالي، يسبق بكثير مرحلة ما قبل ثورة يناير. يعود هذا التاريخ الطويل إلى محطات كثيرة خلال القرنين التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، والذي شهد حركة نقابية كبيرة ومتنوعة، على الرغم من محاولات الإخضاع المختلفة، إلا أن السيطرة على هذه الحركة حصلت، وجرى وضعها في إطار مؤسسي يخضع لسيطرة الدولة بشكل كبير. وجرى ذلك بتأسيس الاتحاد العام لعمال مصر سنة 1957، وتلت ذلك محطات طويلة وهامة من النضال.[i]

وربما يمكننا الإشارة هنا إلى تجربة دار الخدمات النقابية التي تأسست عام 1990 على يد قيادات عمالية تؤمن باستقلالية النقابات. وقد انبثقت هذه القيادات من الحركة العمالية المصرية التي ازدهرت في النصف الثاني من الثمانينيات خارج التنظيم النقابي الرسمي، بعد إضراب عمال سكك الحديد عام 1986، ثم إضراب عمال الحديد والصلب عام 1989.[ii]

وما يهمنا في هذه الورقة تحديداً، هو تسليط الضوء على الإشكاليات الذاتية التي واجهت النقابات المستقلة -  ويعني هذا المصطلح في الحالة المصرية النقابات العمالية المستقلة عن الاتحاد العام لعمال مصر المؤمم من النظام - من خلال استعراض تاريخي للمرحلة ما بين 2004، منذ أول تحرك كبير للنقابات المستقلة، وحتى عام 2015، للنضال النقابي والعمالي في مصر، باعتبارها المرحلة المعاصرة والتي ضمت محطات مهمة أثرت على حالة النقابات المستقلة الحالية في مصر. وبالتالي فهذه الورقة تهتم بتناول الإشكاليات الذاتية للنقابات المستقلة، من خلال الاستعراض التاريخي، وتغطية الإشكاليات المختلفة في كل مرحلة.

المحطة الأولى: التأسيس الجديد ما قبل يناير 2011

لم يرتبط مولد النقابات المستقلة في مصر بقيام ثورة يناير2011 كما يظن البعض، بل كانت البداية قبل ذلك. ففي 2009، مع تأسيس أول نقابة مستقلة للعاملين في مصلحة الضرائب العقارية من قبل العاملين في الدولة في هذا القطاع، استناداً إلى معاهدة منظمة العمل الدولية، والتي ضمنت للعمال الحرية النقابية والحق في التنظيم. بعد ذلك، تأسست ثلاث نقابات أخرى قبل ثورة يناير 2011، وهي نقابة المعاشات، والعلوم الصحية، والمعلمين. وبالإضافة إلى النقابة الأولى، كانت تلك هي أكبر النقابات المستقلة وأكثرها تأثيراً. إلا أن غالبية النقابات المستقلة، تأسست بعد ثورة يناير، التي كشفت مرة أخرى فساد النقابات العامة وانحيازها إلى السلطة، كما فعل الاتحاد العام لعمال مصر (الرسمي)، الذي أدان إضرابات العمال المواكبة للأيام الثمانية عشر التي انتهت بتنحي مبارك.  وقد أصبح عدد النقابات المستقلة 1500 نقابة، حتى وصل عدد الاتحادات التي تضم النقابات المستقلة إلى خمسة اتحادات. بينما ضم الاتحاد العام لعمال مصر 23 نقابة عامة، في الدورة النقابية «2006-2011» وحوالي 1809 لجان نقابية. [iii]

فمنذ تأسيسه في العام 1957، كان الاتحاد العام لنقابات عمال مصر، التنظيم النقابي القانوني الوحيد في مصر. وحظي بوضع رسمي، بموجب القانون 35 لسنة 1976. كان الاتحاد أيضاً أداة في يد الدولة، على الرغم من التغييرات الجذريّة التي شهدتها السياسة الاقتصادية والاجتماعية منذ خمسينيات القرن الماضي. يعمل جميع أعضاء الاتحاد تقريباً في القطاعين الحكومي أو العام، حيث يستند هيكل الاتحاد على القطاع العام. تمثّلت مهمّة اتحاد عمال مصر في السيطرة على العمال، بقدر تمثيلهم. لكنه لم يتمكّن من منع تعبئة العمال المستقلين في أواخر عهد مبارك. فمنذ عام 2000 وحتى العام 2010، شارك ما يزيد على مليونين وربّما 4 ملايين عامل مصري في نحو 3400 إلى 4 آلاف إضراب.

وقاوم الاتحاد الرسمي عام 2003 سنّ قانون العمل الموحّد، ولكنه قبل في النهاية. [iv] وساهم القانون في تغيير الممارسة السائدة، بمنح العمال وظائف دائمة بعد فترة تجريبية، من خلال السماح لأصحاب العمل بتشغيل العمال لأجل غير مسمّى بعقود "مؤقتة" محدّدة الأجل، وفصلهم من وظائفهم عند إنهاء تلك العقود وفقاً لتقديرهم. غير أن تنفيذ هذه الجوانب من القانون جرى بشكل ضعيف. وفي عام 2004، لم يعترض اتحاد عمال مصر على تنصيب ما أصبحت تُعرَف باسم "حكومة رجال الأعمال" بقيادة رئيس الوزراء أحمد نظيف. إلا أن الكثير من قواعد الاتحاد لم تفعل ذلك، وقد تصاعدت وتيرة التحرّكات بعد تولّي حكومة نظيف السلطة مباشرة. ففي العام 2004 كان هناك 265 تحرّكاً جماعياً، وقع ما يزيد على 70 % منها بعد تولّي حكومة نظيف السلطة في يوليو 2004.[v] تركّزت الحركة في البداية في صناعة النسيج، التي كانت هدفاً للخصخصة، لكن بحلول العام 2007 شملت الحركة تقريباً كل مجالات الصناعة والخدمات العامة والنقل وموظفي الخدمة المدنية والمهنيين. على الرغم من تصاعد الاحتجاجات التي لم يكن في وسع اتحاد عمال مصر السيطرة عليها، ظلّ هذا الأخير الممثل الاسمي المهيمن على العمل المنظّم. وعشيّة سقوط الرئيس حسني مبارك في 11 فبراير 2011، كانت هناك ثلاث من النقابات المستقلة فقط، لم تخضع لسيطرة النظام المباشرة. وربما يعود ذلك إلى تماسكها منذ نشأتها، والسياق السياسي الذي سمح بتواجدها في الوقت نفسه الذي سيطر فيه النظام على الاتحاد العام. وبالنسبة إلى الحركة التي أدّت إلى تشكيل نقابة مستقلّة في عام 2007، بدأت عندما شكّل موظفو سلطة الضرائب العقارية لجنة وطنية للإضراب لقيادة حملة منسّقة لدعم مطالبهم من أجل المساواة في الأجور مع موظفي الضرائب الذين توظفهم وزارة المالية بشكل مباشر، وكانت رواتبهم أعلى بكثير. ونشأ التفاوت بسبب عملية إعادة تنظيم بيروقراطية جرت قبل سنوات عدة، ما أدى إلى وجود مجموعة من الكَتَبة الذين يتقاضون أجوراً زهيدة ممّن تستخدمهم السلطات المحلية بموارد أقلّ من الحكومة المركزية.[vi] وقد بلغت الحملة ذروتها في احتلال الشارع مدة 11 يوماً أمام مقر مجلس الوزراء في وسط القاهرة. وصمّم نحو 8 آلاف من العمال وأسرهم على البقاء حتى الموافقة على طلب المساواة في الأجور. والمفاجئ أن وزير المالية يوسف بطرس غالي استسلم، وحصل عمال مصلحة الضرائب العقارية على زيادة في الأجور بنسبة 325%.[vii]

بناءً على قوة دفع هذا الإنجاز، أمضت لجنة الإضراب العام التالي في تنظيم نقابة مستقلّة. وبحلول ديسمبر 2008، انضم أكثر من 30 ألف من حوالي 50 ألفاً من الموظفين الذين تستخدمهم السلطات المحلية في جميع أنحاء مصر إلى النقابة الجديدة. واعترفت وزارة القوى العاملة والهجرة (أي العمل) بشكل غير متوقّع (وفي الواقع، غير قانوني) بالنقابة الجديدة في نيسان/أبريل 2009، وهي أول نقابة مستقلّة عن النظام خلال أكثر من نصف قرن. كما تأسّست نقابتان مستقلّتان للفنيين في مجال الرعاية الصحية والمعلمين قبل نهاية العام 2010 .[viii]

أصبح العمال إلى حدّ بعيد أكبر عناصر ثقافة الاحتجاج المزدهرة في العقد الأول من الألفية الثانية، والتي قوّضت شرعية نظام مبارك، مع أنهم حظوا باهتمام أقلّ بكثير على المستوى الإعلامي من الحركات المؤيّدة للديمقراطية من الطبقة الوسطى، مثل حركة كفاية وهو ما يمكن إرجاعه إلى طبيعة التحركات العمالية التي تكون محددة المطالب أكثر من التحركات العامة، وهو ما يجعلها غير جاذبة بشكل كبير للتغطية الإعلامية إلا في الحالات التي تتطور فيها، أو تبدأ في التواصل مع قوى حزبية أو سياسية. لكن حتى العام 2010، لم تشجّع سوى أقليّة صغيرة من العمال التحوّل الديمقراطي كهدف استراتيجي. إذ سعى العمال المضربون أو المحتجّون عادة إلى استمالة قوة النظام بدلاً من تحدّيها علناً، من خلال دعوة مبارك أو وزير في مجلس الوزراء لزيارتهم. ومثّل إضراب 22 ألف عامل في شركة مصر للغزل والنسيج (المعروفة باسم غزل المحلّة)، في سبتمبر2007 نقطة تحول أخرى. فبناءً على نجاحهم، دعت لجنة إضراب عمال غزل المحلة إلى إضراب في 6 أبريل 2008، للمطالبة بوضع حدّ أدنى وطني شهري للأجر الأساسي بواقع 1200 جنيه مصري. لكن قوات الأمن أحبطت الإضراب من خلال مزيج من الاستقطاب والقمع العنيف. ورسم النظام خطاً أحمر في الربط بين المظالم المحلية وبين السياسات الوطنية. ونجح مؤقتاً في ذلك. ومع هذا، استمرّ النضال من أجل أجر يفي بمتطلّبات العيش. وقُدّمت دعوى قضائية أدّت إلى صدور حكم قضائي في مارس 2010، يطالب الحكومة بوضع حد أدنى "عادل" للأجور. في الأول من مايو، 2010، تجمّع مئات العمال ومناصروهم أمام البرلمان، مطالبين الحكومة بتنفيذ الحكم القضائي، ووضع حدّ أدنى للأجر الشهري الأساسي بواقع 1200 جنيه، وهو رقم راج منذ أن أُحبِط إضراب شركة غزل المحلّة العام 2008. وهتف العمّال: "إما وضع حد أدنى عادل للأجور، أو يعود أعضاء الحكومة إلى منازلهم"، و"يسقط مبارك وكل من يرفعون الأسعار"! [ix]

ونتيجة لمزيج من القمع والقدرات المحدودة للشبكات المحلية التي مكّنت من تنظيم العمل الجماعي على مستوى أماكن العمل، لم تبرز المطالب السياسية الواضحة إلا بصورة عَرَضيّة في الفترة الممتدة بين العامين 2008 و2010. وأسفر هذا عن منع الحركة العمالية من تطوير قيادة وطنية أو برنامج سياسي. ولأن العمال لم يكونوا يثقون عادة بمثقفي المعارضة بوصفهم غرباء يسعون إلى فرض أجندتهم الخاصة، كان ثمّة روابط هشّة ومتقطّعة فقط بين هاتين القوتين.[x]

المحطة الثانية: الانفجار الكبير مع ثورة يناير 2011

عند اندلاع ثورة يناير 2011 في الخامس والعشرين من الشهر، سارع العمال، على الرغم من عدم قدرتهم على أخذ زمام المبادرة، إلى تعبئة صفوفهم للمشاركة في الإطاحة بحسني مبارك. ويتمثّل أحد أهم الأحداث في تشكيل الاتحاد المصري للنقابات المستقلّة، أول مؤسّسة جديدة تخرج من رحم الثورة.

أعلن عن وجود الاتحاد في 30 يناير 2011، في مؤتمر صحافي عُقد في ميدان التحرير بالقاهرة، بؤرة الحركة الشعبية لإسقاط مبارك. وبما أن تأسيس الاتحاد المصري للنقابات المستقلة كسر احتكار الاتحاد العام لنقابات عمال مصر القانوني للتنظيم النقابي، فقد كان عملاً ثورياً يُصبح فيه الخرق القانوني أساساً لشرعية جديدة.

أنشأت النقابة العامة المستقلة لعمال الضرائب العقارية والنقابات المستقلة لفنيي الرعاية الصحية والمعلمين، الاتحاد الجديد بدعم من مركز الخدمات النقابية والعمالية، وهي منظمة غير حكومية ذات قاعدة شعبية، تركّز على قضايا العمل أنشئت في العام 1990. وانضمت إليهم نقابة المتقاعدين التي تأسست مؤخراً وتضم 8.5 ملايين عضو، وممثلو عمال النسيج والأدوية والصناعات الكيماوية والحديد والصلب والسيارات من المناطق الصناعية في القاهرة وحلوان والمحلة الكبرى ومدينة العاشر من رمضان ومدينة السادات.

ومع أن الحركة العمالية حققت تقدّماً في هذه المحطة، بقيت النقابات الجديدة تواجه إشكاليات وتحديات هيكلية، ونذكر منها التمويل،[xi] حيث يعتبر تمويل النقابات المستقلة إشكالية حقيقية، إذ يتعيّن على النقابات المستقلة جمع المستحقات من كل عضو على حدة كل شهر، في حين لايزال الاتحاد العام لنقابات عمال مصر يتلقى مستحقات من خلال خصم تلقائي من الأجور، حتى من أولئك الذين استقالوا صراحة. وتسيطر البيروقراطية المركزية في الاتحاد العام لنقابات عمال مصر على الصناديق الاجتماعية للنقابات المكوّنة له، والتي توفر المعاشات والمزايا القيّمة الأخرى. ولا تستطيع النقابات المستقلة الجديدة الحصول على هذه الأموال، حتى وإن كان كل أو معظم أعضائها هم أعضاء سابقون في نقابات تابعة للاتحاد العام، كما هو الحال مع عمال الضرائب العقارية، وعمال هيئة النقل العام في القاهرة، والمعلمين وعمال البريد، وغيرهم.

شارك العديد من العمال في الثورة كأفراد، بعد أن سهّلت الحكومة عليهم ذلك، من خلال قيامها بإغلاق جميع أماكن العمل في مطلع فبراير 2011. وفي 6 فبراير، عاد العمال إلى وظائفهم. وبعد يومين فقط، دعا الاتحاد المصري للنقابات المستقلة إلى إضراب عام يطالب حسني مبارك بالتنحي عن السلطة. استجاب عشرات الآلاف من العمال - بما في ذلك المستخدمون في أماكن العمل الكبيرة والاستراتيجية مثل هيئة النقل العام بالقاهرة، وهيئة السكك الحديد، والشركات التابعة لهيئة قناة السويس، والشركة العامة للكهرباء، وغزل المحلة ــ إلى الدعوة، وشاركوا في حوالي 60 إضراباً واحتجاجاً في الأيام الأخيرة قبل سقوط مبارك في 11 فبراير. وقد اتّخذت واحدة من الخطوات المهمة عندما بدأوا في الاحتجاج، ما أعطى الثورة بُعداً اقتصادياً واجتماعياً إلى جانب المطالب السياسية. وكان الشلل الاقتصادي الناجم عن هذه الموجة من الإضرابات، "واحداً من أهم العوامل التي أدّت إلى تسريع قرار مبارك بالرحيل". [xii]

إلا أن ذلك لم يمنع من الانقسام الداخلي للحركة النقابية نتيجة عدم وجود هياكل واضحة داخل النقابات، إضافة إلى غياب اللوائح الداخلية وآليات اتخاذ القرار. إلى جانب إشكالية سيطرة بعض الشخصيات على التحركات التي تأثرت بغيابهم أو بتأرجح مواقفهم فيما بعد.

المحطة الثالثة: التراجع والانحسار 2012-2015

بعد رحيل مبارك، واصل العمال الاحتجاج. فقد شارك ما لا يقل عن 150 ألفاً منهم في 489 إضراباً، وغير ذلك من النشاطات خلال فبراير 2011. واستغل قادة الاتحاد المصري للنقابات المستقلة ونشطاء العمال هذا الزّخم للدفاع عن ديمقراطية حقيقية، وليس مجرّد تغيير وجه النظام. وهكذا، اجتمع أربعون منهم في فبراير 2011، وتبنّوا إعلان "مطالب العمال في الثورة"، بما في ذلك الحق في تشكيل نقابات مستقلّة والحق في الإضراب، وحلّ الاتحاد العام لنقابات عمال مصر.[xiii]

وواصل النقابيون المستقلون تحرّكهم. وعقد قادة الاتحاد المصري للنقابات المستقلة في مارس 2011، مؤتمراً بعنوان "ماذا يريد العمال من الثورة؟". وتمت الموافقة في خلال أسبوعين على أحد مطالبهم الرئيسية، وهو إلغاء تعيين المجلس العسكري أمين صندوق الاتحاد العام لنقابات عمال مصر وزيراً مؤقتاً للقوى العاملة والهجرة، واقترحوا بدلاً منه الدكتور أحمد البرعي، وهو أستاذ قانون العمل في جامعة القاهرة الذي كان يدعو صراحة إلى التعدّدية النقابية. ولذلك، اعترف البرعي بالاتحاد المصري للنقابات المستقلة وعشرات النقابات العمالية المؤسسية المستقلة التي نشأت بعده. وعلى الجانب الآخر جاء ردّ المجلس الأعلى للقوات المسلحة، حاكم البلاد حينها، على موجة الاحتجاجات العمالية والنقابية، بإصدار مرسوم عسكري في 24 مارس 2011، يتضمّن غرامة تصل إلى 50 ألف جنيه مصري على أي شخص يشارك في أو يشجّع الآخرين على الانضمام إلى اعتصام أو أي نشاط آخر "يمنع أو يؤخّر أو يعطّل عمل المؤسسات العامة أو السلطات العامة".[xiv]

وهكذا فقد وجهت السلطة أنظارها نحو الاتحاد المصري للنقابات المستقلة الذي يشكّل مظلة واسعة للنقابات العمالية غير الحكومية. وعملت على وضع هذه النقابات المستقلة من جديد تحت مظلة الاتحاد العام لنقابات عمال مصر الذي تديره الحكومة، وإلى تحجيم توقّعات النقابيين والعمال بالحصول على حقوقهم.

وبالتالي، فقد تلاشت آمال العمّال في المحلة الكبرى بمأسسة تحرّكهم العمالي ومأسسة لجانهم المستقلة داخل المصانع، نتيجة لضعف هياكلهم، وأيضاً للعوامل الموضوعية المتمثلة في السياق السياسي والقانوني.  لكن ذلك لم يعِق استمرار الاحتجاجات مع وصول الإخوان المسلمين للسلطة. ففي المرحلة الواقعة بين فبراير ومارس 2013، نُظِّمت تحركات عمالية بصورة يومية في مصر، وقد وصل عددها من نحو 350 إلى 461 إضراباً واحتجاجاً. وهذه الموجة الجديدة من الإضرابات في أواخر عهد مرسي، استُغلت من النخب السياسية للإطاحة بالإخوان من خلال حضور اجتماعات الاتحاد المصري للنقابات المستقلة، ودار الخدمات النقابية والعمالية، وسواهما من المجموعات المعارِضة، سعياً لوضع أنشطتها تحت سيطرة الدولة.[xv]

وبعد رحيل مرسي، استمرت سياسة رأسمالية الدولة، متجاهلة المطالبين بالعدالة الاجتماعية. وتابعت الحكومة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وقد لقيت جميع هذه الخطوات معارضة من فئات واسعة من الحركة العمّالية. وفي 28 أبريل 2015، حظرت المحكمة الإدارية العليا حق العمّال في الإضراب، وأرغمت عدداً كبيراً من المسؤولين العماليين على التقاعد عبر اتّهامهم بالمشاركة في الاحتجاجات. يُشار في هذا السياق إلى أنه كان هناك موجة واسعة من الاحتجاجات العمالية التي شهدتها البلاد بعد رحيل مرسي وتسلُّم الجيش السلطة، نُظِّمت بين أغسطس وسبتمبر 2015، بالموازاة مع إقرار المسوّدة الأولى لقانون الخدمة المدنية.

وحالَ استهداف الحكومة للاتحاد المصري للنقابات المستقلة وأعضائه دون تمكُّن الاتحاد من أن "يتطوّر ويتحوّل إلى هيكلية أكثر تنظيماً، على الرغم من أن الاتحاد كان لايزال يحتفظ بالدعم على المستوى المحلي، واستمر في تنظيم إضرابات جديدة، على غرار سلسلة الإضرابات التي انطلقت في يناير 2014، في مصانع شركة السويس للصلب، ومصانع النسيج في المنوفية والمحلة الكبرى. وفيما بعد، تسبّبت السيطرة الحكومية المتزايدة بتقويض استقلالية تلك النقابات العمالية، فحوّلتها من حركة عمّالية اجتماعية مناهضة إلى منظمات غير حكومية تدافع عن حقوق العمال، ولا فارق يُذكَر بينها وبين المنظمات ذات الطابع الحكومي.[xvi]

وربما أدى التنسيق والتضامن العمالي خلال الإضرابات كوسيلة، إلى تحقيق نجاح ما لهذه الحركة النقابية، ولكن نشير هنا إلى عامل موضوعي أثر على ذلك، وهو توجه السلطة إلى عقد مفاوضات مع العمال، والتي كانت كمحاولة لامتصاص الحركة، وليس للبحث عن حلول. وفي كل مرة، جلس العمال للتفاوض مع وزير القوى العاملة وإبرام اتفاقات، يفاجؤوا بانسحاب وزير الاستثمار من الاتفاق، ما أضعف الثقة في آلية التفاوض نفسها مع الحكومة، التي اتجهت إلى استخدام خطاب شعبوي يطالب العمال والفقراء بالصبر والتضحية من أجل الوطن.[xvii] وقد ألقى ذلك بظلاله على بنية النقابات المستقلة، التي بدأت في الاختلاف حول آليات العمل المختلفة، والتي أصبحت تعاني الانقسامات في ما بينها، نتيجة لعدم وجود هياكل حاكمة لها.

 التجربة المصرية: استخلاص الإشكاليات الذاتية

هناك أيضاً إشكالية مهمة، وهي الإنابة عن الجمهور، ونقصد بالإنابة توجه قيادات النقابات المستقلة للحديث بالنيابة عن مجموعات العمال التي تمثلهم، بدلاً من العمل على تنظيم العمال وبناء كوادرهم، لأنهم أعضاء ضمن هذه الكيانات، ولا يعطونهم تفويضاً كاملاً للحديث بالإنابة عنهم. [xxii] وهذه الإشكالية ظهرت بقوة في حالة النقابات المستقلة، وخصوصاً بعد قيام ثورة يناير، حينما أصبح للعمال قوة على اتخاذ قراراتهم وتنظيم أنفسهم من دون العودة إلى القيادات النقابية. ولكن بعد رحيل مبارك، وبدء مرحلة جديدة في النضال النقابي، كل ما كان يريده هؤلاء العمال من القيادات النقابية، مساعدتهم في بناء كوادرهم، وتنظيم أنفسهم للتعبير عن مطالبهم، والسعي من أجل تحقيقها بشكل جماعي، وليس بالطريقة التي اتبعتها بعض أو معظم القيادات النقابية التي أصبحت تتحدث وتفاوض باسم العمال من دون أن تعود إليهم.

خاتمة: ماذا يمكن أن نتعلم من تجربة النقابات المصرية؟

يمكننا الاستنتاج أن النقابات المستقلة تواجه العديد من الإشكاليات الذاتية التي حالت دون لعبها الدور المطلوب منها: وهي نقص الخبرات، ومشكلة توفير التمويل، وغياب اللوائح الداخلية وآليات اتخاذ القرار، إلى جانب العوامل الشخصية المرتبطة بقيادات هذه التحركات النقابية.

يمكن البدء بالقول إن التهميش وغياب التنظيم قد ساهموا في ضعف الخبرة التنظيمية حتى لدى القيادات العمالية المتقدمة في مواقعها. ولكن العوامل الهيكلية أيضا لعبت دورا مهما في ذلك، فقد واجهت النقابات المستقلة العديد من التحديات أثناء عملية تأسيسها، كان من أهمها مشكلة خصم الاشتراكات، ونقل اشتراكات العمال من الاتحاد الرسمي إلى الاتحاد المستقل، وهو ما ترتب عليه ضعف في إمكاناتها المادية الى حد فشل العديد منها في تأسيس مقرات لها، وعدم قدرتها على دعم أعضائها في الظروف الصعبة. ثم أن غالبية أعضاء الجمعية العمومية ينتظرون من النقابة أن تقدم لهم الدليل على نضالاتها ودفاعها عن حقوق العمال وذلك قبل دفع اشتراكات. ويعتبر هذا التصرف انعكاساً لفقدان الثقة في التنظيمات النقابية الرسمية، التي اعتادوا منها تجميع الاشتراكات من دون أن تلعب دوراً في تمثيل العمال المشتركين.

لا يلغي ضعف النقابات المستقلة أن الكثير منها نقابات مناضلة، خاضت معارك كثيرة على مدار السنوات الماضية منذ إعلان الحريات النقابية في 2011. ولكن الغالبية العظمى من النقابات، وبسبب غياب الخبرة التنظيمية، أصبحت ضعيفة وغير ملهمة ولا تمثل العمال في الكثير من الأحيان. وقد حاولت النقابات اعتماد عدد من الطرق الديموقراطية في اتخاذ القرار أثناء التشكيل، لكن ظهرت في الشهور الأخيرة بعض المشاكل داخل النقابات نفسها، لها علاقة بفساد مجالس الإدارة، والانقسامات الداخلية، وشخصنة الاختلافات حول آليات التحرك والتفاوض. أظهرت هذه التجربة وسواها عيوباً في اللوائح والهياكل التنظيمية للنقابات المستقلة عند البحث عن كيفية محاسبة مجالس الإدارة.

ويرجع العديد من تلك العقبات بالتأكيد إلى حداثة عهد النقابات، وطريقة إنشائها المتعجلة في بعض الأحيان. وهكذا، ما يمكن أن يؤثر حقاً في مستقبل النقابات المستقلة، كدرس عام يمكن أن يستفيد من التجربة المصرية، هو أولاً وقبل كل شيء، قدرة النقابات المستقلة على تنظيم كياناتها داخلياً، وضبط لوائحها، وآليات اتخاذ القرارات المختلفة، والعمل بقواعد الحوكمة والشفافية، والبعد عن شخصنة الخلافات داخل النقابات، حيث يبقى الامتحان الحقيقي لفاعلية النقابات هو مدى دفاعها عن أعضائها ومدى تمثيلها لحقوقهم ومصالحهم. [xxiii]

[i]الفصل الثاني: الحركة العمالية وتطور النقابات المصرية، النقابات العمالية المصرية – رؤية ثورية، بوابة الاشتراكي، https://bit.ly/39eKQSI

[ii] الموقع الرسمي لدار الخدمات النقابية والعمالية، https://bit.ly/3nTxQ97

[iii] هبة خليل وداليا موسى، النقابات المستقلة في مصر: بداية جديدة؟، السفير العربي، 18 ديسمبر 2013، https://bit.ly/2HYu9iJ

[iv] جويل بينين، صعود عُمَّال مصر، كارنيجي الشرق الأوسط، 28 يونيو 2012، https://carnegie-mec.org/2012/06/28/ar-pub-48864

[v] المرجع السابق.

[vi] المرجع السابق.

[vii] المرجع السابق.

[viii] المرجع السابق.

[ix] المرجع السابق.

[x] المرجع السابق.

[xi] المرجع السابق.

[xii] المرجع السابق.

[xiii] جوسيبي أكونشيا، إخضاع النقابات العمالية المصرية، كارنيجي الشرق الأوسط. 20 سبتمبر 2016، https://carnegieendowment.org/sada/64636

[xiv] المرجع السابق.

[xv] المرجع السابق.

[xvi] جوسيبي أكونشيا، إخضاع النقابات العمالية المصرية، كارنيجي الشرق الأوسط. 20 سبتمبر 2016، https://carnegieendowment.org/sada/64636

[xvii] مصطفى بسيوني، مصر: الإضرابات العمالية تُناقض المشهد الاستقطابي، السفير العربي، 12 مارس 2014، https://bit.ly/3oLPPzD

[xviii] جويل بينين، صعود عُمَّال مصر، كارنيجي الشرق الأوسط، 28 يونيو 2012، https://carnegie-mec.org/2012/06/28/ar-pub-48864

[xix]المرجع السابق.

[xx] المرجع السابق.

[xxi] للمزيد حول تجربة كمال أبو عيطة يمكن زيارة: هشام فؤاد، أبو عيطة: رحلة الصعود إلى الهاوية، بوابة الاشتراكي، 30 سبتمبر 2013، https://bit.ly/2W3l38u  وأيضا:  سارة مطر، أبو عيطة: ثائر خرج ولم يعد، العربي الجديد، 1 مايو 2014، https://bit.ly/372cDEz

[xxii] يارا شاهين، معضلات مستعصية: قضايا الحوكمة الداخلية في المنظمات الحقوقية المصرية، مرجع سبق ذكره.

[xxiii] هبة خليل وداليا موسى، النقابات المستقلة في مصر: بداية جديدة؟، السفير العربي، 18 ديسمبر 2013، https://bit.ly/2HYu9iJ

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.