المغرب: هل ما يزال باستطاعة حزب العدالة والتنمية امتصاص الغضب الشعبي؟

استخدمت الملكية المغربية الأحزاب السياسية، بما في ذلك حزب العدالة والتنمية، لإضفاء الشرعية على العملية السياسية السلطوية وهيكليّتِها، وكذلك لامتصاص الغضب الاجتماعي والسياسي. وترى هذه الورقة أن وضع الأحزاب في الخط الأمامي دون قدرة كافية على إجراء إصلاحات عميقة يضعفها كدرع ضد الإحباط الشعبي المتزايد. وفي حين أن هذا النهج قد ينجح على المدى القصير، فإنه يهدد استقرارَ البلاد على المدى الطويل.

مؤيدون يرفعون الأعلام خلال خطاب لرئيس وزراء المغرب والأمين العام للحزب والعدالة والتنمية في الرباط، سبتمبر/أيلول 2016.  © EPA/عبد الحق سنّ

* تنشر مبادرة الإصلاح العربي هذه المقالة بالتعاون مع تشاتام هاوس، وهي جزء من سلسلة تتناول مستقبل الحوكمة والأمن في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتأثيرهما على دور الدولة في المنطقة.

منذ استقلال البلاد، استخدمت الملكية المغربية الأحزاب السياسية لإضفاء الشرعية على العملية السياسية السلطوية وهيكليّتِها، وكذلك لامتصاص الغضب الاجتماعي والسياسي. وعادةً ما يضع القصرُ الحكوماتِ المتعاقبة والمؤسسات المنتخبة الأخرى مثل المجالس المحلية والإقليمية في مواجهة اللوم الشعبي، ويستبدلها بمجرد أن تفشل في هذه أداء هذه الوظيفة. وقد مكّنت هذه الصيغة النظامَ الملكي من أن يظهَر وكأنه فوق شؤون السياسة (اليومية)، مع بقائه في موقع المؤسسة السياسية المهيمنة.

واستخدم القصر هذه الوصفة مع حزب العدالة والتنمية، الحزب الإسلامي المعتدل الذي ظهر بعد انتخابات عام 2011 البرلمانية كشريك موثوق في الحكم، وذلك في مواجهة ضعف الأحزاب السياسية غير الإسلامية في المغرب، مثل الاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية. وبموجب هذه الصيغة، يظل القصر مركزاً للسلطة السياسية، بينما يتحمل حزب العدالة والتنمية – ومن قبلِهِ أحزاب سياسية أخرى – مسؤولية التعامل مع الأزمة الاجتماعية الاقتصادية المتصاعدة.

ويلتزم حزب العدالة والتنمية بهذا الإذعان مقابل تمتُّعه بجائزة الرئاسة الفرعية للحكومة، ما يسمح له بتجنب القمع القاسي الذي قد يواجهه فيما لو كان في صف المعارضة، وكذلك التمتّع بموارد ضخمة ومكانة بارزة، والأهم من ذلك، تطبيع علاقاته مع القصر.

وعلى الرغم من الدعم الظاهري من القصر، يبدو أن حزب العدالة والتنمية والأحزاب السياسية الأخرى يفقدون ثقة المواطن الأساسية في لعب دورهم التاريخي كعازل سياسي، الأمر الذي يُنذِرُ بخطر أن يصبح القصر في مواجهة مباشرة مع الشارع، وهو الوضع الذي حاول النظام تجنّبه لفترة طويلة.

التعديل الوزاري لحزب العدالة والتنمية (النسخة المحدّثة)

تعتمد قدرة حزب العدالة والتنمية على مواصلة الإمساك بدفّة قيادة الحكومة على عاملين هما: أداؤه الانتخابي ودعم القصر له، فقد حقّق حزب العدالة والتنمية أداءً جيداً في انتخابات برلمانية متتالية في عامي 2011 و2016. ومع ذلك فإن الفوز في الانتخابات لا يكفي ليبقى الحزب على رأس الحكومة، كما أنه بحاجة إلى الدعم من القصر نظراً لأن الملك يحتفظ بسلطات واسعة في تعيين الحكومات. وتُعدّ حقيقة أن القصر قرر إبقاء حزب العدالة والتنمية في الحكومة في الوقت الذي عادت فيه الدول المجاورة، مثل مصر، إلى قمع الإسلاميين، في حد ذاتها علامة على اعتماد القصر على حزب العدالة والتنمية في تحقيق الاستقرار في البلاد. لقد كان بإمكان القصر في عدة مناسبات إخراج حزب العدالة والتنمية من الحكومة، على سبيل المثال، في صيف 2013 حين خسر حزب العدالة والتنمية أغلبيته في البرلمان، إلاّ أن القصر فضّل بدلاً من ذلك اتّباع استراتيجية الاحتواء وليس القمع.

كان هذا الدعم الضمني واضحاً في التعديل الوزاري الأخير في تشرين الأول/أكتوبر 2019. تعكس النسخة الجديدة من حكومة حزب العدالة والتنمية تغييرات كبيرة، بما في ذلك تخفيض عدد الوزراء، من 39 إلى 23، إلاّ أن عدد وأهمية الوزراء "التكنوقراط" الموالين للقصر، الذين لا ينتمون إلى أي حزب سياسي، قد ازداد في المقابل.

وعلى الرغم من حقيقة أن التعديل الحكومي جرى بطريقة غامضة، إذْ لم يكن للأحزاب في الائتلاف الحاكم أي رأي تقريباً في العملية، فقد صورها رئيس الوزراء سعد الدين العثماني على أنها نجاح لحزب العدالة والتنمية، وذلك على الرغم من أن الحزب اضطرّ إلى تقديم تنازلات، إذ يرى قادة الحزب أن الوجود في الحكومة، مهما كان ضعيفاً، أقل سوءاً من الوجود في المعارضة، حيث سيكون الحزب عُرضةً لقمع النظام والتخلي عن الريوع والمزايا التي تجلبها المشاركة في الحكومة.

ويمكن تفسير قرار القصر بإبقاء حزب العدالة والتنمية على رأس الحكومة أولاً وقبل كل شيء بحقيقة أن حزب العدالة والتنمية، وفضلاً عن إخلاصه للنظام الملكي، جيّدُ التنظيم ويحظى بدعم شعبي قوي، بينما فقدت معظم الأحزاب السياسية الأخرى مصداقيتها في عيون المواطنين المغاربة لأنها إما قريبة جداً من النظام أو أنها كانت جزءاً من الحكومات السابقة، فتُلامُ بسبب فشلها، أو نظراً لصراعاتها الداخلية. ويبدو أن إبقاء حزب العدالة والتنمية على رأس الحكومة هو أفضل خيار للقصر الذي يرى فيه دعامةً واقيةً من الصدمات إزاء تزايد الغضب الشعبي.

مستوى عال من انعدام الثقة في العملية السياسية

إلا أنّ لاعتماد القصر على حزب العدالة والتنمية حدوده أيضاً، فمنذ عام 2016، شهد المغرب حالةً متناميةً من الإحباط الشعبي، وهو ما أظهرته الاحتجاجات في الريف وجرادة وخارجها. ومثّلَت حركة مقاطعة استهلاكية في عام 2018، ضد ثلاث شركات كبرى مرتبطة بالنخبة السياسية مظهراً جديداً لعدم التعاون والاحتجاج السلبي، إلى جانب انخفاض الثقة في المؤسسات المنتخبة.1 استهدفت حركة المقاطعة ثلاث شركات: أفريقيا (تكتلٌ للنفط والغاز)، وسنطرال دانون (وهي شركة مغربية تابعة لشركة دانون الفرنسية متعددة الجنسيات) وسيدي علي (علامة تجارية شهيرة للمياه المعدنية). وفي دراسة نشرها المعهد المغربي لتحليل السياسات (ميبا) في كانون الأول/ديسمبر 2019، أعرب 69٪ من المغاربة الذين شملهم الاستطلاع عن قلقهم بشأن الاتجاه العام للبلاد. وأعرب نصف المشاركين عن عدم رضاهم عن الوضع الاقتصادي، فيما اعتقد نحو 74٪ أن جهود الحكومة لمكافحة الفساد غير فعالة. ويشعر المغاربة بقدر كبير من انعدام الثقة في المؤسسات المنتخبة. وفي حالة الأحزاب السياسية، قال حوالي 69٪ من المغاربة إنهم لا يثقون في جميع الأحزاب السياسية. وأعرب 25٪ فقط عن ثقتهم في الاتحادات أو النقابات، فيما أعرب 23٪ فقط عن ثقتهم في الحكومة.2على الرغم من قمع الاحتجاجات، تتمتع الشرطة بثقة 78٪ في صفوف المستجيبين، وهو معدل أعلى بكثير من نسبة المؤسسات المنتخَبة. يمكن تفسير هذه النتيجة المفاجئة جزئياً بحقيقة أن المغاربة يلومون الحكومة على الإخفاقات في السياسات الاجتماعية والاقتصادية، في حين أنها قد تعكس أيضاً خوفاً بين المستجيبين للتعبير عن آرائهم الحقيقية فيما يتعلق بالشرطة - لذا فإن نسبة الثقة المرتفعة في الشرطة قد تعكس شعور الخوف بدلاً من الثقة الفعلية.

إن انتشار الفساد على وجه الخصوص يقلل من الثقة في المؤسسات، وكان بمثابة المحرك الرئيسي لحركات الاحتجاج المتصاعدة. وفي مواجهة هذا التشكك الشعبي المتنامي حول مستقبل البلاد، وعد الملك في عام 2018 بـ "زلزال سياسي" أدى إلى إقالته العديدَ من الوزراء، بما في ذلك وزراء الداخلية والتعليم والصحة في صيف 2018 (لم يكن أي منهم من حزب العدالة والتنمية). كما أعربت العديد من المنظمات غير الحكومية المغربية لحقوق الإنسان عن عدم رضاها عن لجوء القصر إلى النهج الأمني واستخدام القوة المفرطة لقمع الاحتجاجات في الريف وأماكن أخرى.

وأدى استياء الملك من أداء الحكومة في مجال التنمية الاجتماعية والاقتصادية وفي الاستجابة للغضب الشعبي إلى تعديل ثانٍ في تشرين الأول/أكتوبر 2019، ما أدى إلى إضعاف موقف كل من الحكومة وحزب العدالة والتنمية. وفي الآونة الأخيرة، في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر، رشّح الملك شكيب بن موسى (وزير الداخلية السابق) لرئاسة اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي في المغرب، التي من المفترض أن تقدم اقتراحات حول كيفية تحسين الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية التي وضعتها الحكومة بالفعل وزيادة فعاليتها.

النظرة المستقبلية: التحرر السياسي؟

يبدو أن جوهر الدعم الذي يقدمه النظام لحزب العدالة والتنمية يكمن بشكل أساسي في خوفه من الاحتجاجات الاجتماعية. ومن خلال إبقاء حزب العدالة والتنمية على رأس الحكومة، فإن النظام يزوّد القصر بالدرع الأخير (الموثوق) أمام حالة عدم الرضا الشعبي المتزايدة. وتسمح آلة حزب العدالة والتنمية، ذات القاعدة الشعبية النابضة والتنظيم القوي، للحزب بلعب دور الواقي الذي يمتص الغضب الشعبي، والذي يتم توجيهه في الغالب إلى الحكومة بدلاً من القصر.

ومع ذلك فإن وضع الأحزاب في الخط الأمامي دون قدرة كافية على إجراء إصلاحات عميقة لاحتواء الغضب الشعبي لن يعالج مطالب الناس، ولا سيما في ظلّ النظرة القائمة التي ترى أنهم غير جديرين بالثقة. ففي المغرب اليوم، تفقد جميع الأحزاب السياسية، بما في ذلك حزب العدالة والتنمية، ثقة المواطنين.

ربما ينفع هذا على المدى القصير، ولكن من شأن ضعفِ الأحزاب السياسية، بما في ذلك حزب العدالة والتنمية، أن يهدد على المدى الطويل استقرارَ البلاد، إذْ سيفقد القصر عنصر استقرار أساسي.

ويمثّل التحرير السياسي والاقتصادي (اللبرَلة) مساراً بديلاً للنظام، وفي هذا الصدد، ثمة حاجة إلى إصلاحات هائلة.

يجب تفعيل انفتاح سياسي واسع مقترناً بتعزيز الحريات العامة وتدعيم المؤسسات المنتخبة كمتطلبات أساسية لاستعادة الثقة في العملية السياسية. إلاَّ أن هذا لا يكفي، فثمة أيضاً حاجة للإصلاحات الاقتصادية التي تتضمن تحريراً اقتصادياً واسعاً لإنهاء تركُّز الثروة والسلطة في أيدي عدد قليل من الرأسماليين المقربين من النظام. ويجب أن تقترن هذه الإصلاحات بآليات قوية وفعالة للمساءلة وتعزيز الشفافية. لكن من غير المحتمل أن يحدث هذا نظراً لغياب الإرادة السياسية من قبل الأطراف الفاعلة الرئيسية. إلا أن المماطلة لن تؤدي سوى إلى رفع التكلفة المستقبلية التي ستترتّب على القصر والأحزاب السياسية.

Endnotes

Endnotes
1  استهدفت حركة المقاطعة ثلاث شركات: أفريقيا (تكتلٌ للنفط والغاز)، وسنطرال دانون (وهي شركة مغربية تابعة لشركة دانون الفرنسية متعددة الجنسيات) وسيدي علي (علامة تجارية شهيرة للمياه المعدنية).
2 على الرغم من قمع الاحتجاجات، تتمتع الشرطة بثقة 78٪ في صفوف المستجيبين، وهو معدل أعلى بكثير من نسبة المؤسسات المنتخَبة. يمكن تفسير هذه النتيجة المفاجئة جزئياً بحقيقة أن المغاربة يلومون الحكومة على الإخفاقات في السياسات الاجتماعية والاقتصادية، في حين أنها قد تعكس أيضاً خوفاً بين المستجيبين للتعبير عن آرائهم الحقيقية فيما يتعلق بالشرطة - لذا فإن نسبة الثقة المرتفعة في الشرطة قد تعكس شعور الخوف بدلاً من الثقة الفعلية.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.