الجالية اللبنانية في ألمانيا: من الحرب الأهلية إلى انفجار المرفأ

© توماس وولف - ويكيميديا

I.     تمهيد

"يا نبيه ارتاح ارتاح، برلين صارت شيّاح"، هذا الهتاف أطلقته مجموعة من الشبّان يوم التصويت في الانتخابات النيابية اللبنانية عام 2022 في مدينة برلين الألمانية، وهي مجتمعة على حافة الطريق وأعلام حركة أمل تُحيط بها. من خارج كادر الكاميرا، يُسمع صوت أنثوي يجيبهم: "فشر على راسك تصير برلين شياح".

هذا الفيديو الذي تمّ تداوله بكثرة على شبكات التواصل الاجتماعي، والتغطية الإعلامية لتصويت اللبنانيين في ألمانيا ونتائج هذا التصويت، لفتت النظر إلى موضوع الهجرة اللبنانية إلى ألمانيا. هذه الهجرة التي لم يُكتب عنها كثيراً، ولم تولَ الاهتمامَ الكافي بالرغم من الأعداد المهمة للّبنانيين المقيمين هناك.1باستثناء رسالة دكتوراه "اللاجئون من لبنان إلى برلين: مسألة اندماج الأقليات الإثنية"، وكتب في اللغة الألمانية للكاتب رالف غضبان ركّزت بشكل خاص على العصابات اللبنانية والعربية في ألمانيا.

فبحسب أرقام صدرت عام 2021 عن مكتب الإحصاءات الفيديرالي الألماني، يتواجد في ألمانيا 155 ألفاً من اللبنانيين والمسجّلين في الدوائر الرسمية الألمانية: 87 ألفاً هم من الجيل الأول، و68 ألفاً من الجيل الثاني، أي الذين ولدوا في ألمانيا لأهل من أصول لبنانية.2السكان (داخل الأسر) حسب تاريخ الهجرة وبلدان الميلاد (بالألمانية)، المكتب الفدرالي للإحصاء في ألمانيا: https://www.destatis.de/ هذه الأرقام لا تتضمّن اللبنانيين الذين حصلوا على الجنسية الألمانية، ولا الفلسطينيين الذين قَدموا إلى ألمانيا من المخيمات الفلسطينية في لبنان.

تقدّم هذه الدراسة لمحةً عامة عن موضوع الجالية اللبنانية إلى ألمانيا من جوانب مختلفة: تاريخها؛ والفئات التي هاجرت؛ ظروف الهجرة الأولى وتأثيرها على علاقة المهاجرين مع البلد والمجتمع المضيفَين وامتداد أثر هذه الظروف إلى الجيل الثاني؛ وعلاقة المهاجرين بلبنان والقضايا التي تحرّكهم، وكيف تأثرت هذه العلاقة منذ العام 2019؛ والأحزاب اللبنانية الناشطة في ألمانيا؛ والهجرة الجديدة وعلاقتها بالقديمة.

تبحث الدراسة أيضاً، وبناءً على مقابلات أُجريت مع وافدين جدد إلى ألمانيا، قَدموا بشكلٍ أساسي بعد الانهيار الاقتصادي عام 2019، وانفجار 4 آب/أغسطس 2020، الذي دمّر مرفأ بيروت وجزءاً من العاصمة، في مدى إمكانية هذه الفئة الجديدة من اللبنانيين الوافدين إلى ألمانيا ورغبتها في المشاركة في أي من الحركات السياسية المعنية بالتغيير السياسي في لبنان.

ركّزت الدراسة على المقيمين في برلين دون غيرها من المدن الألمانية، بالرغم من توزّع اللبنانيين على مدن متعدّدة في جنوب وغرب ألمانيا. وبُنيت على سلسلةٍ من المقابلات المفتوحة، شبه الموجّهة، الرسمية وغير الرسمية، التي أُجري أغلبها في برلين أو عبر تطبيق "زوم"، لتجارب ومشاهدات وملاحظات أشخاص، من أعمار وخلفيات ووظائف ومجالات متنوّعة - من الطب والفنّ والهندسة والأكاديميا والبحث والصحافة والعمل الاجتماعي والحدادة والمطاعم – قَدموا إلى ألمانيا من لبنان في تواريخ مختلفة، وبطرق متعدّدة.

II.   هجرة اللبنانيين الأولى إلى ألمانيا

على خلاف الهجرة من لبنان إلى فرنسا قبل الحرب الأهلية وخلالها، التي كانت تتكون في غالبيتها من الطبقتين الوسطى والبرجوازية، وركّزت على الفئات المتعلّمة والفرانكفونية؛ أتت الهجرة من لبنان إلى ألمانيا في معظمها عمّالية، هرباً من الحرب، وبحثاً عن نجاةٍ اقتصادية، لفئةٍ تحصيلها العلمي متدنٍ، خرجت بشكل أساسي من المخيمات الفلسطينية ابتداءً من العام 1975، ومن الجنوب والبقاع بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وحتى نهاية الحرب الأهلية أوائل التسعينيات.

1.     قصّة العبور من لبنان إلى ألمانيا

علي معروف، أبو حسن، فلسطيني، وُلد في مخيم الرشيدية للاجئين الفلسطينيين في جنوب لبنان، وعاش الفترة الأخيرة في لبنان في مخيم تل الزعتر. لجأ إلى ألمانيا "الشرقية" في 12/8/1976، خلال موجة اللجوء الأولى إلى ألمانيا، بعد أشهرٍ على سقوط مخيم تل الزعتر. كان عمره 17 عاماً.

اختيار ألمانيا للجوء كان لعدّة أسباب؛ أوّلها سهولة الوصول، إذ كان السبيل للدخول إلى ألمانيا الشرقية حينها الأسهل بين بقية الدول الأوروبية. الحصول على الفيزا كان سريعاً وبسعرٍ منخفض، 5 ماركات. نستحصل على الفيزا من مكتب سفريات في لبنان، نأخذ الطائرة من بيروت مباشرةً إلى ألمانيا الشرقية. ومن ألمانيا الشرقية نذهب إلى ألمانيا الغربية. الحدود كانت مفتوحة (كان هناك سياسة غضّ النظر من قبل حرّاس الحدود) ولا حاجة إلى جوازات. الطريقة الوحيدة للحصول على إقامة كانت عبر تقديم طلبات لجوء، باعتبارنا هاربين من حرب وباحثين عن الأمان.3مقابلة مع علي معروف، أبو حسن، ناشط في جمعيات عربية تعنى بشؤون اللاجئين، أُجريت معه في برلين بتاريخ 18 يناير 2023.

الأسباب الأخرى لاختيار ألمانيا بحسب علي معروف، هي أن البلد وصناعته القوية واقتصاده، كانت محطّ إعجاب اللّاجئين إليه، ويتضمن فرص عمل أكثر من بقية الدول الأوروبية، إلى جانب المساعدات الاجتماعية، على الرغم من عائق اللغة، وصعوبة تعلّمها.

حصلت موجات اللجوء الثانية والثالثة من لبنان، خصوصاً من الجنوب والبقاع والمخيمات الفلسطينية بالطريقة عينها وللأسباب نفسها، بعد الاجتياح الإسرائيلي ابتداءً من عام 1982 وبعد حرب المخيمات، في العامين 1986 و1987، ولغاية 1990.

لجأ علي معروف إلى ألمانيا صغيراً، وبالرغم من الصعوبات التي واجهها في البداية، نجح في التأقلم بسرعةٍ أكبر مع البلد الجديد، وفي تعلّم لغته. وهذا ما لم يحصل، أو كان أصعب بكثير مع النسبة الأكبر من اللاجئين، خصوصاً مَن كانت أعمارهم بين الأربعين والخمسين سنة.

توفيق الديراني، حدّاد قدِم إلى ألمانيا من بعلبك عام 1990. "كان عمري 21 عاماً، واللغة التي كنت أعرفها هي البعلبكية وليس أكثر من ذلك".4مقابلة مع توفيق الديراني، حدّاد، أُجريت في برلين بتاريخ 20 يناير 2023. إذ أنه اضطر إلى ترك المدرسة وهو في المرحلة الابتدائية ليعمل، وعندما كبُر، قاتل في الجنوب اللبناني مع منظمة العمل الشيوعي، قبل أن يقرّر ترك البلد.

كان يريد الذهاب إلى كندا. غادر لبنان عن طريق سوريا إلى بلغاريا، وبعدها إلى بودابيست وصولاً إلى ألمانيا الشرقية. كانت الفيزا إلى ألمانيا الشرقية قد أصبحت كلفتها 15 ماركاً. "عندما وصلت إلى ألمانيا الشرقية، لم يعد لديّ مال لأتابع مسيرتي إلى كندا، فبقيت في الشرقية، ومنها دخلت إلى الغربية، وهناك بدأت الرحلة".

استطاع توفيق الديراني هو أيضاً تعلّم اللغة الألمانية، قراءةً وكتابةً، وتعلّم في ألمانيا أيضاً قراءة وكتابة اللغة العربية. تزوّج من سيّدة بلجيكية، ما أتاح له الحصول على الجنسية البلجيكية وسهّل عليه بالتالي إقامته في ألمانيا. تطوّر في مجال عمله كحدّاد، وزبائنه اليوم عرب وألمان، كما تأقلم وتطور وتعلّم، واستفاد مما قدّمه له البلد من فرصٍ واحتمالاتٍ، كما قال.

إلّا أن أغلب من سبقه في القدوم إلى ألمانيا من الجيل الأول، واجه صعوبةً شديدة في الحصول على إقامة، وبالتالي بقي سنين على الهامش. ويبدو أن ذلك ساهم في عدم انخراطه في المجتمع الجديد لا ثقافياً ولا مادياً، بحسب ما ذُكر في المقابلات التي أُجريت.

2.     سياسة السلطات الألمانية مع اللاجئين من لبنان

"كان الاعتراف باللجوء نادراً جداً عندما لجأنا إلى ألمانيا، نسبة قليلة جداً حصلت حينها على الإقامة، وأكثر الطلبات قُوبلت بالرفض، ناس جرى تسفيرهم إلى لبنان، وآخرون كانوا يستأنفون القرار وينتظرون".5من مقابلة مع علي معروف سابق الذكر.

إذ أن اللجوء الذي كانت الدولة الألمانية تعترف به في مراحل اللجوء الأولى من لبنان (بين أعوام 1970 و1990) كان محصوراً باللجوء السياسي. وأغلب طلبات اللجوء التي كانت تُقدّم حينها كانت المحاكم ترفضها، باعتبار القادمين من لبنان ليسوا لاجئين سياسيين، بل هاربين من حربٍ أهلية.

كان يُمهل مستأنفو القرارات وانتظار الأحكام، سنين، وغالباً ما كانت المحاكم تمنحهم خلال سني الانتظار ما يُسمى بالـDuldung، تطبيقاً لاتفاقية جنيف، التي كانت تُلزم الدولة الألمانية بمنح حق الحماية للاجئين.

تعني كلمةـ Duldung "التسامح"، وهو سند يمكن أن يكون صالحاً لأيام أو لأشهر، يحمي حائزيه من الترحيل، لكنه يعطيهم حقوقاً محدودة. فعدا عن كوبونات الأكل التي كانت تقدّم لهم، كان يصعب على حائزه إيجاد عمل. إذ غالباً لا يناسب صاحب العمل توظيف شخص يُفترض أن إقامته مؤقتة، أو لا يجيد اللغة، أو لا يملك هويّة.6مقابلة مع مريان سماحة، باحثة في شؤون الهجرة، مقيمة في برلين، أُجريت بتاريخ 27 فبراير 2023.

لم تكن الدولة الألمانية حينها تعتبر نفسها بلد هجرة، وتعاملت حكومتها مع اللجوء من لبنان على أنه مؤقت، معتبرة أن القادمين ضيوف لديها. وبالتالي، لم تعترف بهم كقوة مساهمة في الاقتصاد، معتقدة أن الأزمة التي دفعتهم إلى المغادرة ستنتهي، وسيعودون بعدها إلى ديارهم.7المرجع نفسه.

كان تَعامُل الدولة هذا تماشياً مع سياسات الهجرة، التي كانت تتبّعها ألمانيا حينها مع العمال الذين قدموا من تركيا، وغيرها من البلدان، ضمن اتفاقيات استقدام اليد العاملة في الخمسينيات والستينيات. كانوا يُسمّون "العمّال الضيوف" أو Gastarbeiter، واعتقدت الدولة آنذاك أيضاً أنّ هجرتهم "مؤقتة".8المرجع نفسه..

سكن معظم القادمين من لبنان في أحياء يسكنها أتراك، أتوا قبلهم. وهي أحياء عمّالية، قريبة من الجدار الفاصل بين غرب برلين وشرقها، وذات بنى تحتية ضعيفة.9المرجع نفسه.. عَمل من استطاع منهم بشكلٍ خاص في تجارة السيارات والحدادة والنجارة وفي المطاعم.

إلا أن ما كان مؤقتاً دام. عاش عشرات الآلاف من الوافدين من لبنان، وأولادهم الذين وُلدوا في ألمانيا، على هذا السند (الـ Duldung) لسنواتٍ مديدة،10يتراوح عدد الذين ما زالوا حائزين على هذا السند بين الـ 5000 والـ 6000، وهم أشخاص وُلدوا في ألمانيا من أهل لبنانيين وفلسطينيين وأكراد قدموا من لبنان وتركيا بحسب مريان سماحة. غير قادرين بنسبةٍ كبيرة، ولفترةٍ طويلة على الانخراط في سوق العمل. وإن استطاع البعض منهم إيجاد فرص، وحصلوا بالتالي على إقامات، إلاّ أن العديد منهم لجؤوا إلى طرق غير شرعية وغير رسمية للعمل.

كانت الحكومة الألمانية تُعلن بين فترةٍ وأخرى أن كل من أمضى 15 سنة في البلد، وتعلَّم اللغة الألمانية ويملك عملاً، وسجلّه الجنائي خالٍ من أي جرم، بإمكانه الحصول على الإقامة.11من المقابلة مع علي معروف سابق الذكر. تقلّصت مدّة الـ15 عاماً إلى ثمانية أعوام، مع إقرار قانون جديد أصبح سارياً عام 2000.12ليس هناك أرقام رسمية منشورة عن عدد اللبنانيين الذين حصلوا على الجنسية الألمانية، لكن وبحسب دراسة نُشرت بالألمانية، حصل 8113 لبناني ولبنانية على الجنسية الألمانية بين الـ 2015 والـ2020. https://www.destatis.de/ هذا القانون اعترف أيضاً وللمرّة الأولى بحق الجنسية تبعاً لمبدأ الأرض، بعد أن كان هذا الحق معتمداً على مبدأ الدم.13من المقابلة مع مريان سماحة سابقة الذكر.

3.     مجتمعات معزولة ومنعزلة

ساهمت سياسة اللجوء هذه التي اعتمدتها السلطات الألمانية في المرحلة الأولى، والتهميش الذي أحدثته، وعدم تقديم الفرص للاجئين أو إمكانيات الانخراط، إضافةً إلى عوامل أخرى منها بشكل أساسي اختلاف اللغة والثقافة والدين، في دفع اللاجئين من لبنان إلى التقوقع، وبناء مجتمعات منفصلة عن المجتمع الألماني.

عزلتهم هذه جعلت حاجتهم إلى شبكات اجتماعية تقدّم الدعم والمساندة والمساعدات أكبر. هكذا، تأسست جمعيات اجتماعية، وأخرى تربوية لتعليم اللغة العربية للأجيال الجديدة، وجمعيات دينية،14المرجع نفسه. شكّلت غطاء لعمل بعض الأحزاب السياسية.15من المقابلة مع علي معروف سابق الذكر.

من هذه الجمعيات وأكثرها نشاطاً، "جمعية البلاغ"، التابعة لحركة أمل، وتأسست عام 1986.16https://www.facebook.com/asso.albalagh/ تملك الجمعية مركزاً لـ"تأهيل واستقبال اللاجئين"، ونادياً تربويًّا تنظّم فيه أنشطة للأولاد، و"مسابقات سنوية للقرآن الكريم"، وغيرها من الأنشطة الدينية.

هناك أيضاً "جمعية الإرشاد" التابعة لـ"حزب الله"، وهي "جمعية ثقافية تربوية دينية"، تتضمن فريق كشّافة، وفريق كرة قدم.17https://www.facebook.com/alirschad/ تنظّم برامج في شهر رمضان، كتلاوة القرآن والأدعية، والصلاة والمواعظ الدينية، وقراءة القصص القرآنية. كما تحيي المناسبات الدينية، وتيسّر رحلات لزيارة أماكن مقدّسة. وهناك "مركز الحسين" في برلين، التابع لمؤسسة محمد حسين فضل الله و"مركز الإمام السيد موسى الصدر الثقافي".

ازدهرت هذه المجتمعات المعزولة لاحقاً، وثبّتت أطر تمايزها بحصولها على الإقامة والجنسية18اللجوء اللبناني إلى ألمانيا: في التردّد بين التقوقع والاندماج، عبد الرؤوف سنو، نوافذ، 27 يناير 2002. (بعد أن عدّلت الحكومة الألمانية شروط الحصول على الإقامة والتجنيس)، "فزادت مواردها المالية التي مكّنتها من ترسيخ علاقات عشائرية ودينية، تتخطّى في حدّتها ما هو موجود على الساحة اللبنانية"، بحسب مقال لعبد الرؤوف سنو عام 2002.19"تظهر العلاقات العشائرية بوضوح لدى الأكراد الذين قدموا من لبنان خلال الحرب". اللجوء اللبناني إلى ألمانيا: في التردّد بين التقوقع والاندماج، عبد الرؤوف سنو، نوافذ، 27 يناير 2002.

"شعبنا الذي هاجر من 30/40 سنة من لبنان ما زال في عقلية الوقت الذي ترك فيه البلد. وكأن الزمن لم يمرّ عليه. يعيش في زاويته، نقل معه انتماءه الطائفي، وتأصّلت عاداته الاجتماعية القديمة، من دون أن يتأثّر بالضرورة باختباراتٍ جديدة، أو بالتعلّم من تجارب أخرى"،20من المقابلة مع توفيق الديراني السابق الذكر. بحسب توفيق الديراني، الذي تابع أن لديه إحساساً بأن جزءاً كبيراً من هذه الفئة من اللبنانيين في ألمانيا ما زالت تشعر أن عناصرها ضيوف، أو أن وجودهم فيها مؤقت، وارتباطهم الأساسي هو مع لبنان: "في ألمانيا يعيشون على مساعدات من الحكومة، وفي لبنان يبنون بيوتاً لا يسكنونها، ويشترون سيارات يركنونها 11 شهراً، ليستعملوها شهراً واحداً خلال زيارتهم لبنان".

"أزمة الدياسبورا أن نموّها السياسي يتوقف عند خروجها من البلد. التفاصيل الضاغطة المرهقة اليومية التي يعيشها المجتمع اللبناني بكل طوائفه، كانقطاع الكهرباء والمياه والدواء وغلاء الطبابة، متحرّر منها من يعيش خارج البلد. وهذا يُبقي لديه الفكرة الطوباوية والحالمة عن ممثله الطائفي أو السياسي، إضافةً إلى القلق الوجودي على طائفته"، هذه الطائفة التي يحملها معه أينما ذهب وتشكّل انتماءه،21مقابلة مع سعيد بعلبكي، فنان لبناني مقيم في برلين، أُجريت معه بتاريخ 19 كانون الثاني/يناير 2023 بحسب الفنان اللبناني سعيد بعلبكي، المقيم في برلين منذ عام 2002.

4.     عن الجيل الثاني

بحسب أرقام صدرت عام 2021 عن مكتب الإحصاءات الفيديرالي الألماني، وكما ذُكر سابقاً، 155 ألفاً هو عدد اللبنانيين المتواجدين في ألمانيا: 87 ألفاً من الجيل الأول، و68 ألفاً من الجيل الثاني.22السكان (داخل الأسر) حسب تاريخ الهجرة وبلدان الميلاد (بالألمانية)، المكتب الفدرالي للإحصاء في ألمانيا: https://www.destatis.de/

بالرغم من أن "وضع الجيل الثاني، ويمكن أن نتكلّم عن الثالث أيضاً، أفضل من الأول"،23من المقابلة مع علي معروف سابق الذكر. فإن أبناء الجيل الثاني ولدوا في ألمانيا، ودخلوا إلى المدارس، وتعلّموا اللغة، والتحقوا بسوق العمل، إلاّ أن منهم من ولد وبحيازته الـDuldung، ومنهم من بقي مرتبطاً ببيئة أهله وبجو المكان الذي وُلد فيه ارتباطاً، ليس بالضرورة سياسياً بزعماء الأحزاب اللبنانية، بل عاطفيّ، تأثراً بجوّ البيت.

وللتلفزيونات اللبنانية وأخبارها وبرامجها التي تُدار على مدار النهار في العديد من البيوت، كما يُخبر توفيق الديراني الذي بحكم عمله يدخل إلى بيوت ومحلات لبنانية كثيرة في برلين، تأثير خاص في تكوين الآراء السياسية، وفي ترسيخ الانتماء الطائفي، خصوصاً برامج تلفزيونَيّ المنار والـNBN، الأكثر حضوراً بحسب مشاهدات الديراني، التابعَين لحزبي "الثنائي الشيعي" "حزب الله" و"حركة أمل". وهما القوتان الأساسيتان الموجودتان في ألمانيا، كما أظهرت نتائج الانتخابات النيابية اللبنانية في العامين 2018 و2022.24من المقابلة مع توفيق الديراني سابق الذكر.

كما أن الجمعيات الفاعلة السابق ذكرها، التي تنشط تحت عناوين الثقافة، وتعليم اللغة العربية والدين، "وتضم بين الـ600 إلى 700 تلميذ وتلميذة في مناطق متعدّدة من برلين وحدها"، تؤسس المنتسبين إليها من عمرٍ صغيرٍ فكرياً وسياسياً، على الأفكار والمعتقدات والانتماءات نفسها.25من المقابلة مع علي معروف سابق الذكر. بهذا المعنى، وبحسب ملاحظات من تمّت مقابلتهم، يمكن القول إن الجيل الثاني، بالرغم من وجود اختلافات، قد يشكّل امتداداً للأول؛ فما عاشه السابقون، وما نتج عنه، قد ينتقل إلى الأولاد.

أضف إلى ذلك الصورة النمطية للبنانيين في ألمانيا التي لها انعكاساتها السلبية أيضاً على الجيل الثاني، وعلى القادمين الجدد من لبنان. في دراسة26Ozgur Ozvatan, Bastian Neuhauser, Gokce Yurdakul, “The ‘Arab Clans’ Discourse: Narrating Racialization, Kinship, and Crime in the German Media”, Berlin Institute for Integration and Migration Research, 2023. نُشرت حديثاً عن تناول الخطاب الإعلامي الألماني في السنوات العشر الأخيرة للمجموعات المهاجرة العربية، ووصفها جميعها "بالـعصابات العربية"، شرح مفصّل للتنميط والتمييز اللذين أصبحت المجموعات المهاجرة العربية عرضةً لهما، خصوصاً بعد صعود الحزب اليميني German Alternative für Deutschland الذي تأسس عام 2013. هذه العصابات مكوّنة من أفراد ينتمون إلى عائلات لبنانية وفلسطينية وكردية، قدمت من لبنان خلال مرحلة اللجوء الأولى، واستقرّت في مدن ألمانية، في برلين تحديداً، وهي معروفة بقيامها بأعمال جرمية، وضالعة في شبكات دعارة وتجارة مخدرات وأسلحة وفي الاحتيال وسرقة الذهب والتزوير.

"بعد اكتشاف تركيّين مهاجرين لقاحاً ضد كوفيد 19، أخذت قصص نجاح الأتراك في ألمانيا (الجالية التركية من أكبر الجاليات المهاجرة المقيمة في ألمانيا) تتصدّر وسائل الإعلام الألمانية، بعد أن كانوا عرضةً للتمييز والتنميط لعقود. في المقابل، أخذت مجموعات مهاجرة أخرى، عربية، معروفة بالعصابات العربية، مكان الأتراك، وأصبحت هي هدف التنميط".27المرجع نفسه.

العصابات العربية هذه وما ترتكبه، يتصدّر المشهد الإعلامي الألماني، ما ساهم في التعميم وتنميط صورة اللبناني، وحصرها في إطارها السلبي وامتدادها إلى الأجيال اللاحقة، فهذه النظرة التمييزية تنتقل أيضاً من جيلٍ إلى آخر.

5.     فئة الطلاب والفنانين: نواة الهجرة الجديدة

الهجرة الأولى للبنانيين مستمرّة حتى يومنا هذا، إذ يكفي أن يكون لشخص أقارب في ألمانيا من الجيل الأول ليتمكّن من القدوم إليها. أخبر توفيق الديراني أن ستة من أولاد أخواته جاؤوا إلى ألمانيا مؤخراً من لبنان. "أنهوا المدرسة، قدموا طلبات على جامعات هنا، أمّنت لهم الكفالة، وسحبتهم". وهناك من الجيل الثاني من يتزوّج في لبنان، ويجلب الزوجة أو تجلب الزوج معها إلى ألمانيا. هذه الفئة تمثّل غالبية اللبنانيين المتواجدين في ألمانيا.

إلا أنه قدمت كذلك قبل الحرب الأهلية وخلالها وبعدها، فئة من الطلاب الذين حصلوا على منح لدراسة الطب، أو التاريخ، أو الهندسة، أو الفنون وغيرها. ولعب الحزب الشيوعي اللبناني، ومنظمة التحرير الفلسطينية، دوراً في إعطاء المنح لبعضهم بسبب علاقاتهما السياسية بألمانيا الشرقية حينها، ولعبت مؤسسات ثقافية ألمانية، منها مؤسسة DAAD، واتفاقيات تعاون بين جامعات في ألمانيا وجامعات لبنانية، دوراً أساسياً في جلب الطلاب.

عاد جزء منهم إلى لبنان بعدما أنهوا دراستهم، وبقي جزء آخر في ألمانيا، ودخلوا إلى سوق العمل.

كما أن تَحوّل برلين في السنوات العشرين الأخيرة، لتصبح مكاناً لاستقطاب الفنانين من العالم، دفع العديد من الفنانين اللبنانيين إلى زيارتها والإقامة فيها.28من المقابلة مع سعيد بعلبكي السابق الذكر.

حين قدم الرسام والنحّات اللبناني سعيد بعلبكي إلى برلين عام 2002 لدراسة الفنون، كان عدد الفنانين اللبنانيين الموجودين في المدينة قليلاً جداً، لأن من يعرف منهم الإنكليزية كان يختار الولايات المتحدة أو بريطانيا لإكمال دراسته، ومن يعرف الفرنسية، كان يذهب إلى فرنسا.29 المرجع نفسه. بدأ العدد بالتزايد تدريجياً، "فبعد كل موجة حرب، يجري استقطاب للفنانين الذين عايشوا الحرب، لأن الاهتمام بتجربتهم يكبر"30 المرجع نفسه. ، صار يأتي فنانون لبنانيون، ومسرحيون، وموسيقيون، وسينمائيون، ومصوّرون إلى ألمانيا للمشاركة في ندوات، أو لحضور مهرجانات، أو عبر منحٍ من مؤسسات ثقافية، ومن استقرّ منهم في برلين، أو حتى استملك نظراً لرخص أسعار العقارات حينها، لفت أنظار آخرين أو مقربّين إلى هذا المكان، وإلى إمكانية العيش فيه، وطُرق القدوم إليه.

هذه الفئة من الفنانين تضاعفت بعد عام 2019 على إثر الانهيار الاقتصادي الذي يشهده لبنان، خصوصاً بعد انفجار مرفأ بيروت وجزء من المدينة في 4 آب 2020، بالإضافة إلى قدوم أطباء ومهندسين للعمل في ألمانيا، وطلاب وباحثين أكاديميين، وغيرهم من الطبقة الوسطى، الذين يشكّلون الهجرة اللبنانية الجديدة إلى ألمانيا.

6.     التنظيم السياسي للبنانيين في ألمانيا

الدياسبورا اللبنانية في ألمانيا كما في بقية دول الاغتراب، هي مرآة للداخل اللبناني. الأحزاب السياسية اللبنانية التقليدية متواجدة في غالبيتها في ألمانيا، وإن كان ليس لدى جميعها مراكز، وتنشط عبر جمعيات مرخّصة من قبل الدولة الألمانية، من تيار المستقبل، إلى التيار الوطني الحرّ والقوات اللبنانية. إلاّ أن حضور هذه القوى ضعيف. حصل تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي في انتخابات عام 2022 النيابية على 1% من أصوات المقترعين اللبنانيين في ألمانيا، بينما حصل التيار الوطني الحرّ على 2%، والقوات اللبنانية على 4%.31Georgia Dagher, The Lebanese Diaspora and the Upcoming Elections: Lessons from the 2018 Voting, May 2022, Arab Reform Initiative, https://www.arab-reform.net/

القوّتان الأساسيتان والفاعلتان هما حزب الله وحركة أمل. أخذ الأول 31% من أصوات المقترعين، والثاني 26%.32المرجع نفسه. وتواجدهما السياسي، كما ذُكر سابقاً، من خلال جمعيات اجتماعية تربوية؛ "الإرشاد" التابعة لـ"حزب الله" و"البلاغ" التابعة لـ"حركة أمل"، ومن خلال مساجد تابعة لهما تؤدّى فيها الصلاة، وخُطب الجمعة، ومن خلال مراكز دينية، ومكاتب ومدارس لتعليم اللغة العربية.

القوة الثالثة التي تأتي بعدهما هي "جمعية المشاريع الإسلامية" (الأحباش)، التي تملك جامعاً وفرناً ومطعماً في برلين. وأظهرت نتائج الانتخابات النيابية اللبنانية عام 2022 أن هذه الجمعية، التي نالت 2511 صوتاً من خارج لبنان، حصل على النصف تقريباً من هذه الأصوات من ناخبين في ألمانيا، 15% من أصوات المقترعين.33المرجع نفسه.

تقوم الأحزاب السياسية جميعها، عبر جمعياتها، "بالحفاظ على العادات الاجتماعية والدينية، فتؤدي واجبات العزاء وتحيي المناسبات الدينية، من ذكرى عاشوراء إلى عيد الميلاد".34من المقابلة مع علي معروف سابق الذكر.

كانت المناسبتان الأساسيتان اللتان يتمّ الاحتفال السنوي بهما هما يوم الأرض، دعماً للقضية الفلسطينية، وذكرى تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي عام 2000.

لكن الاحتفال بذكرى التحرير أُلغي، مع الإعلان الرسمي الذي كان متوقّعاً من الحكومة الألمانية بوضع "حزب الله" على لائحة الإرهاب في نيسان (أبريل) 2020، ومنع أي نشاط سياسي له في ألمانيا. "تمّ إغلاق مركز الإرشاد التابع للحزب بعد هذا الإعلان، وبعد فترةٍ قصيرة، عادت الدولة وسمحت بفتحه من جديد".35من المقابلة مع توفيق الديراني سابق الذكر.

بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق في لبنان رفيق الحريري في 14 شباط 2005، وما تبعه من انقسام سياسي لبناني، ومن موجة اغتيالات طالت شخصيات سياسية وصحافية معارضة للنظام السوري ولـ"حزب الله"، نُظّمت وقفات احتجاجية "متواضعة" أمام السفارة اللبنانية استنكاراً للجرائم التي تُرتكب.36من مقابلة مع علي معروف سابق الذكر.

إلّا أن أكبر تظاهرة لبنانية عربية نُظّمت في برلين، كانت خلال حرب تموز 2006، التي شنّتها إسرائيل على لبنان. "ساعد حينها ناشطون فلسطينيون في تنظيم التظاهرة، نظراً لخبرتهم في هذا المجال، وشارك فيها بين ـ15 و20 ألفاً".37المرجع نفسه.

بعد إعلان وضع "حزب الله" على لائحة الإرهاب، تغيّر المشهد السياسي في ألمانيا، على الأقل في الظاهر. إذ أصبح ممنوعاً رفع أعلامه، أو صور أمينه العام، في الأماكن العامة وخلال التجمّعات. لذلك أصبحت حركة أمل بأعلامها وهتافاتها، هي التي تتصدّر المشهد. ظهر ذلك بوضوح خلال الانتخابات النيابية الأخيرة عام 2022، في التجمّعات التي حصلت ونُقلت على وسائل الإعلام خارج السفارة اللبنانية في برلين وداخلها، إذ كان الوضع داخل السفارة "يشبه لبنان وليس ألمانيا": أعلام حركة أمل في كل مكان، أعضاء الحركة يفترشون الأرض ...،38شهادات لأشخاص ذهبوا للتصويت في السفارة اللبنانية في برلين يوم الانتخابات النيابية. وكأن تحويل "برلين إلى الشيّاح" قد تَحقّق فعلاً يومها، بحسب وصف من ذهب إلى المشاركة في التصويت.

بالرغم من كثافة الأعلام هذه، ومن الظهور الطاغي حينها لحركة أمل، في ظّل غياب أي حضور علني لـ"حزب الله"، حافظ الأخير في الانتخابات النيابية التي جرت على نسبة الأصوات نفسها التي حصل عليها في انتخابات عام 2018، بينما تراجعت نسبة التصويت لـ"حركة أمل" من 42% عام 2018 إلى 26% عام 2022 كما ذُكر سابقاً.39Georgia Dagher, The Lebanese Diaspora and the Upcoming Elections

أما نسبة التصويت للمرشّحين المعارضين للسلطة في انتخابات عام 2022، فارتفعت من 2% عام 2018 إلى 14% عام 2022 (1135 صوتاً).40 المرجع نفسه. وإن بقيت هذه النسبة ضعيفة مقارنةً ببقية دول الاغتراب، إلاّ أنها تدلّ على أن الفئة الجديدة التي أتت بعد عام 2019، وبعد انفجار 4 آب 2020، لعبت دوراً في رفع هذه النسبة.41مقابلة مع ميّ شاوي، مدرّسة في الليسيه الفرنسية في برلين، أُجريت معها في 18 يناير 2022

في هذا السياق، تبدو وكأن "الجمهرة" التي حصلت يوم الانتخابات لأفراد من "حركة أمل"، والهتافات التي أُطلقت، كانت تهدف، وإن بشكلٍ جزئي، إلى توجيه رسالة إلى هذه الفئة من "اللبنانيين الجدد"، الذين شارك بعضهم في الأنشطة والتجمّعات التي نُظّمت في برلين تزامناً مع انتفاضة 17 تشرين الأول في لبنان، وأتوا من بعدها للتصويت في الانتخابات الأخيرة، بأن برلين "لهم".42مقابلة مع أمل ديب، صحافية وناشطة سياسية مقيمة في برلين، أُجريت معها بتاريخ 7 فبراير 2023.

III.     الهجرة الجديدة وصدى انتفاضة 17 تشرين الأول

”من ترك بعد الأزمة الاقتصادية وانفجار المرفأ، هم الناس الذين ما زالوا يملكون الإمكانيات المادية والثقافية للانتقال إلى بلدٍ آخر، وبناء حياة جديدة أو موازية لحياتهم في لبنان، وهذا ما يخيف، إذ يتم تفريغ البلد من طاقاته".43من المقابلة مع سعيد بعلبكي سابق الذكر.

قسم من الفنّانين الذين كانوا يتردّدون على برلين، انتقل للعيش فيها بعد الأزمة الاقتصادية. تؤمّن لهم الدولة الألمانية منحاً فنيّة تُسهّل عليهم الإقامة في المدينة، فهي تريد استقطاب هذه الفئة كما ذُكر سابقاً.

وهي تستقبل أيضاً، من خلال المؤسسات الثقافية، باحثين أكاديميين ضمن برامج التبادل الثقافي، كما قالت ديانا عباني، وهي باحثة لبنانية مقيمة في برلين منذ عام 2017، قَدمت عبر منحة من مؤسسة EUME للأبحاث، واستقرّت في ألمانيا، وفتحت مع زوجها الموسيقي باراً في برلين. "عادة، يأتي باحثون ضمن برامج التبادل الثقافي في المؤسسات الثقافية لعشرة أشهر، ويعودون من بعدها إلى ديارهم. الآن، يأتون بالمنحة نفسها، وعندما تنتهي يبحثون عن منحٍ أخرى أو وظائف أخرى للبقاء في ألمانيا".44مقابلة مع ديانا عباني، باحثة مقيمة في برلين، أُجريت معها بتاريخ 20 يناير 2023.

قدِم أيضاً إلى ألمانيا في السنوات الأخيرة طلاب تسجّلوا في جامعات للبدء بدراستهم الجامعية أو لإكمال دراساتهم العليا.

عام 2021، أصدرت الدولة الألمانية 895 إقامة للبنانيين قادمين من لبنان، بعد حصولهم على تأشيرات عمل45قاعدة بيانات المكتب الفدرالي للإحصاء https://www-genesis.destatis.de/ في ألمانيا، أغلبهم أطبّاء وعاملون في الرعاية الصحية ومهندسون.

"معارف كثيرون لي، أغلبهم مهندسون، درسوا المستوى الأول من اللغة الألمانية في لبنان، قدّموا على وظائف في شركات للهندسة الميكانيكية والاتصالات والمعلوماتية، وأتوا إلى ألمانيا"،46مقابلة مع ميّ جوني، موظّفة في Digital hospital في برلين، أُجريت معها في 3 فبراير 2023. أخبرت ميّ جوني، المقيمة في برلين مع عائلتها منذ عام 2021، والتي كانت موظّفة في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت. وتعمل الآن في Digital hospital في برلين.

1.     علاقة الهجرة الجديدة بالقديمة: بين القطيعة والتواصل

"من يأتي الآن لا علاقة له بالجيل الأول الذي قدم خلال الحرب الأهلية، ولا بالجيل الذي وُلد هنا، فهناك اختلاف بيئي وثقافي بين الاثنين، واختلاف في نمط الحياة. برلين سمحت بهذا الاختلاف، وهذا جميل"، بحسب ديانا عباني.

في الوقت عينه، تابعت عباني، "يوجد إحساس ما عندما أذهب إلى شارع العرب Sonnenallee بأن هناك من أتى قبلي إلى هذه المدينة، وسهّل بمكانٍ ما، دخولي إليها. من هذا الشارع أشتري كل أغراضي. عندما أشتاق إلى نكهات معيّنة، إلى جوّ معيّن، أذهب إليه. من ترك لبنان في الثمانينيات حافظ على مهاراتٍ ما، وعلى طرق معيّنة في تحضير الأكل بقيت معه كل هذه السنين. فالكبّة التي تباع في دكّانة لبنانية في الشارع، ما زالت تُصنع بالطريقة عينها التي كان أهل الجنوب يتّبعونها قبل ثلاثين سنة. هناك حواس قديمة تنتعش في دكاكينه".47من المقابلة مع ديانا عباني سابقة الذكر.

Sonnenallee كان في الأساس شارعاً لبنانياً فلسطينياً، تشعر فيه كأنك في مناطق معيّنة من بيروت، وفي ضاحيتها الجنوبية. تختلط فيه صالونات الحلاقة بمحالّ الساندويشات. بعد اللجوء السوري عام 2015، تمّ فتح العديد من المطاعم ومحالّ الحلويات السورية فيه، ما أحدث توتراً وصداماتٍ بين اللاجئين القدامى والوافدين الجدد إلى المدينة وشارعها.

وإن كانت علاقة المهاجرين اللبنانيين الجدد معدومةً بشكلٍ عام مع الجيل الأول، لكن يبدو أن الصورة النمطية والتمييزية المعمَّمة في الإعلام، تلاحق اللبناني القادم إلى ألمانيا من أي خلفيةٍ كان:

"نحن عصابات، هذا سقفنا"، "يستغربون أنني مسيحية ومن لبنان"، "من لبنان وطالبة دكتوراه؟"، "عندما علم صاحب الملك أننا من لبنان، لم يؤجّرنا البيت، ولم يكن هناك أي سبب يمنعه من ذلك".

بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020، تشكّل تضامن ألماني واسع مع لبنان، وبدأ البعض، على الأقلّ المعنيون في فهم خصوصية الوضع اللبناني وتركيبة البلد، بتكوين نظرة عنه غير محصورة فقط باللبنانيين الموجودين في ألمانيا: "نظّمنا حينها وقفة أمام السفارة اللبنانية، وأمام وزارة الخارجية الألمانية، وكتبنا بياناً صحافياً نشرح فيه ماذا يحدث في لبنان، مركّزين على لفت انتباه الإعلام الألماني، وعلى الضغط باتجاه ألا تقدّم الحكومة الألمانية المساعدات عبر مؤسسات الدولة اللبنانية".48من المقابلة مع أمل ديب سابقة الذكر.

بهذا التجمّع، اختُتمت مرحلة من الأنشطة التي نُظّمت في برلين بموازاة ومواكبة للانتفاضة اللبنانية التي اندلعت في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 في لبنان.

2.     صدى انتفاضة تشرين في برلين

عندما قدمت أمل ديب، الصحافية والناشطة اللبنانية إلى برلين عام 2012 لإكمال أطروحتها عن ذاكرة الحرب الأهلية في لبنان، لم تختلط مع الجالية اللبنانية التي كانت هناك. كان محيطها جوّاً مصرياً وتونسياً وفلسطينياً، الجامع بينهم قضايا وهموم وأمل أشعله الربيع العربي حينها.

"للمرّة الأولى مع ثورة تشرين، صرت معنية بالتفتيش عن لبنانيين يعيشون في برلين، وصرت أشعر كأن الناس الذين أعرفهم يتزايدون. أصبح عندي خلال هذه المرحلة أصحاب لبنانيون: طلاب دكتوراه، فنّانون، باحثون، عائلات. لحظة ثورة 17 تشرين هي التي جمعت الناس ببعضها".49المرجع نفسه.

بدأت الدعوات للتجمّع في برلين بشكلٍ عفوي وفردي ومن دون تنسيق مسبق، إذ ليس هناك وجود لأي مجموعات مستقلّة منظّمة بعيداً عن الأحزاب التقليدية.

"يستحصل شخص على إذن للتظاهر، آخر يُنشئ مجموعة على واتساب، وآخر ينشر دعوة للتجمّع على فيسبوك، وآخر يكتب الهتافات. صرنا نلتقي في التجمّعات، هكذا تعرّفنا إلى بعض أكثر، وصرنا نشبّك مع مجموعات من لبنان".50المرجع نفسه.

كان الهدف الأساسي من هذه التجمّعات التضامن مع المتظاهرين في لبنان، والقول لهم "إنهم ليسوا وحدهم".

شارك في التجمّعات الأولى أفراد من الجيل القديم، "الشيوعيون القدامى"، وأفراد من "حركة أمل" و"حزب الله" وتيار المستقبل أيضاً، إلى جانب القادمين الجدد إلى ألمانيا، مستقلّين، من خلفيات يسارية ونسوية، إضافة إلى سوريين مقيمين في برلين: "كان هناك خليط يشبه ذاك الذي كان في لبنان في بداية الانتفاضة"،51مقابلة مع خليل فاضل، ناشط ومصوّر مقيم في برلين منذ العام 2014، أُجريت معه في 27 أبريل 2023. أخبر خليل فاضل، ناشط ومصوّر مقيم في برلين منذ عام 2014.

تزامناً مع اتّهام الأمين العام لـ"حزب الله" منذ خطابه الأول بعد اندلاع الانتفاضة في لبنان المتظاهرين بإحداث الفوضى، وتخوينه لهم، وانسحاب المشاركين من الحزبين الشيعيين من التظاهرات وانقلابهم على المتظاهرين، انقلب المشاركون من "حركة أمل" و"حزب الله" على المشاركين القلائل في التجمّعات في برلين.

"بما أن الهتافات كانت تتضمّن شتماً لكل الطبقة السياسية، ومن ضمنهم نبيه برّي، لم يعجب المشاركين من حركة أمل هذا الموضوع؛ كيف تتجرؤون وتشتمون الرئيس؟ كيف لكم، أنتم القادمون البارحة إلى برلين، أن تنظّموا تجمّعات وتهتفوا وتشتموا؟ وبدأت شيطنة المتظاهرين من قبل "حركة أمل" كما في بيروت."52المرجع نفسه.

ساهمت أيضاً مشاركة سوريين في التجمّعات التي كانت تُنظّم، ونَفس الثورة السورية الذي كان حاضراً في الهتافات، في استفزاز أفراد "حركة أمل"، بحسب أمل ديب، فحصل اشتباك بينهم وبين بقية المشاركين، وبدأوا بتهديدهم وتخويفهم. "في إحدى المرات، بعد انتهاء أحد الاعتصامات، لحق بي شاب وظل يلاحقني حتى وصلت إلى البيت".53المرجع نفسه.

تسببّت المشاكل التي حصلت بانكفاء مشاركة البعض في هذه التجمّعات، فمن ترك لبنان مبتعداً عن هذا الجوّ ونمط التعاطي مع المختلف عنه سياسياً، صعُب عليه تكرار التجربة نفسها في البلد الثاني.

كما أن الأشخاص الذين كانوا، في الأسابيع الأولى على الانتفاضة، يجتمعون في برلين ويناقشون إمكانية تأسيس مجموعة عمل تنشط سياسياً، مبنية على أسس مشتركة يتفقّ عليها الكل بالرغم من وجود اختلافات وتباينات معيّنة، لتكون قوّة فاعلة وليس فقط منفعلة تجاه الأحداث في لبنان أو مجرّد صدى لها، هؤلاء الأشخاص انكفأوا هم أيضاً عن الاجتماع، ليركّزوا على ترتيب شؤون حياتهم في البلد الجديد.

بعد انفجار 4 آب 2020، والاعتصام والنشاط الذي تلاه بهدف جمع تبرّعات للمتضرّرين وإرسالها إلى لبنان، طغى إحساس عام بالإحباط والكآبة واللاجدوى من أي نشاط سياسي.54ibid

"إلّا أنه نتج عن غروبات الواتساب والفيسبوك التي كانت مُعتمدة لتنظيم الأنشطة في تلك المرحلة، شبكة علاقات ومعارف يمكن إحياؤها فيما بعد".55من المقابلة مع خليل فاضل سابق الذكر.

وجاءت الانتخابات النيابية عام 2022، لتعيد قليلاً من الحماسة لدى هذه الفئة من القادمين إلى ألمانيا، الذين شارك من استطاع منهم في التصويت.

أظهرت النتائج "أن الجيل الأول ما زال أساسياً وهو القوة الطاغية"، إلاّ أن هناك فئة جديدة من اللبنانيين بدأت أصواتها تتزايد، وهناك "جَمعَة" تكبُر من لبنانيين ومصريين وسوريين، مشغولين بقضايا مشتركة. 56من المقابلة مع ديانا عباني سابقة الذكر.

IV.     الخاتمة

مبكر لأوانه في ألمانيا معرفة ما إذا كان في الإمكان تشكيل إطار عمل سياسي جديد للدياسبورا اللبنانية. "الأرضية ما زالت غير جاهزة لبناء مجموعة سياسية"57من المقابلة مع أمل ديب سابقة الذكر. ، ويحتاج القادمون الجدد في جميع الأحوال إلى وقت للاستقرار، وإنهاء معاملاتهم، والتعامل مع التغيير الذي طرأ على حياتهم، قبل البدء بالتفكير في العمل السياسي، خصوصاً في مثل السياق السابق ذكره للجوّ السياسي اللبناني الطاغي في ألمانيا.

ما يُبنى عليه للمستقبل هي العلاقات التي نُسجت وقت انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، والتعارف الذي تمّ بين لبنانيين تجمعهم قضايا مشتركة، والتنسيق الذي حصل ليس فقط مع أشخاص مقيمين في مدن متعدّدة من ألمانيا خارج برلين، بل أيضاً مع الدياسبورا اللبنانية في أوروبا.58 المرجع نفسه.

يُمكن لهذه الدراسة أن تشكّل أرضية، لم يكن سهلاً تكوينها نظراً لغياب المراجع البحثية كما ذكر سابقاً، لأبحاث مستقبلية تشمل أيضاً المقيمين اللبنانيين خارج برلين، وتتعمّق أكثر في جوانب مختلفة وشيّقة من هذه الهجرة، كالتركيز مثلاً على النساء اللاجئات من الجيل الأول، وانعكاس ظروف الهجرة الأولى عليهن، والتعمّق أكثر بوضع الجيل الثاني ذكوراً وإناثاً، وبظروف نشأتهم وطريقة عيشهم، وعلاقتهم بألمانيا وبلغتها وثقافتها، ومدى اختلاطهم مع المجتمع الألماني وعلاقتهم بلبنان.

ومع وفود عدد كبير من اللاجئين السوريين في السنوات العشر الأخيرة إلى برلين، واستقرارهم في حي اللبنانيين المهاجرين، أصبحت قضية العلاقة بين المجموعتين العربيتين المهاجرتين في المدينة مسألة أساسية لها تبعات سياسية واجتماعية واقتصادية، مفيد التعمّق فيها أيضاً.

Endnotes

Endnotes
1 باستثناء رسالة دكتوراه "اللاجئون من لبنان إلى برلين: مسألة اندماج الأقليات الإثنية"، وكتب في اللغة الألمانية للكاتب رالف غضبان ركّزت بشكل خاص على العصابات اللبنانية والعربية في ألمانيا.
2 السكان (داخل الأسر) حسب تاريخ الهجرة وبلدان الميلاد (بالألمانية)، المكتب الفدرالي للإحصاء في ألمانيا: https://www.destatis.de/
3 مقابلة مع علي معروف، أبو حسن، ناشط في جمعيات عربية تعنى بشؤون اللاجئين، أُجريت معه في برلين بتاريخ 18 يناير 2023.
4 مقابلة مع توفيق الديراني، حدّاد، أُجريت في برلين بتاريخ 20 يناير 2023.
5 من مقابلة مع علي معروف سابق الذكر.
6 مقابلة مع مريان سماحة، باحثة في شؤون الهجرة، مقيمة في برلين، أُجريت بتاريخ 27 فبراير 2023.
7 المرجع نفسه.
8 المرجع نفسه..
9 المرجع نفسه..
10 يتراوح عدد الذين ما زالوا حائزين على هذا السند بين الـ 5000 والـ 6000، وهم أشخاص وُلدوا في ألمانيا من أهل لبنانيين وفلسطينيين وأكراد قدموا من لبنان وتركيا بحسب مريان سماحة.
11 من المقابلة مع علي معروف سابق الذكر.
12 ليس هناك أرقام رسمية منشورة عن عدد اللبنانيين الذين حصلوا على الجنسية الألمانية، لكن وبحسب دراسة نُشرت بالألمانية، حصل 8113 لبناني ولبنانية على الجنسية الألمانية بين الـ 2015 والـ2020. https://www.destatis.de/
13 من المقابلة مع مريان سماحة سابقة الذكر.
14 المرجع نفسه.
15 من المقابلة مع علي معروف سابق الذكر.
16 https://www.facebook.com/asso.albalagh/
17 https://www.facebook.com/alirschad/
18 اللجوء اللبناني إلى ألمانيا: في التردّد بين التقوقع والاندماج، عبد الرؤوف سنو، نوافذ، 27 يناير 2002.
19 "تظهر العلاقات العشائرية بوضوح لدى الأكراد الذين قدموا من لبنان خلال الحرب". اللجوء اللبناني إلى ألمانيا: في التردّد بين التقوقع والاندماج، عبد الرؤوف سنو، نوافذ، 27 يناير 2002.
20 من المقابلة مع توفيق الديراني السابق الذكر.
21 مقابلة مع سعيد بعلبكي، فنان لبناني مقيم في برلين، أُجريت معه بتاريخ 19 كانون الثاني/يناير 2023
22 السكان (داخل الأسر) حسب تاريخ الهجرة وبلدان الميلاد (بالألمانية)، المكتب الفدرالي للإحصاء في ألمانيا: https://www.destatis.de/
23 من المقابلة مع علي معروف سابق الذكر.
24 من المقابلة مع توفيق الديراني سابق الذكر.
25 من المقابلة مع علي معروف سابق الذكر.
26 Ozgur Ozvatan, Bastian Neuhauser, Gokce Yurdakul, “The ‘Arab Clans’ Discourse: Narrating Racialization, Kinship, and Crime in the German Media”, Berlin Institute for Integration and Migration Research, 2023.
27 المرجع نفسه.
28 من المقابلة مع سعيد بعلبكي السابق الذكر.
29  المرجع نفسه.
30  المرجع نفسه.
31 Georgia Dagher, The Lebanese Diaspora and the Upcoming Elections: Lessons from the 2018 Voting, May 2022, Arab Reform Initiative, https://www.arab-reform.net/
32 المرجع نفسه.
33 المرجع نفسه.
34 من المقابلة مع علي معروف سابق الذكر.
35 من المقابلة مع توفيق الديراني سابق الذكر.
36 من مقابلة مع علي معروف سابق الذكر.
37 المرجع نفسه.
38 شهادات لأشخاص ذهبوا للتصويت في السفارة اللبنانية في برلين يوم الانتخابات النيابية.
39 Georgia Dagher, The Lebanese Diaspora and the Upcoming Elections
40  المرجع نفسه.
41 مقابلة مع ميّ شاوي، مدرّسة في الليسيه الفرنسية في برلين، أُجريت معها في 18 يناير 2022
42 مقابلة مع أمل ديب، صحافية وناشطة سياسية مقيمة في برلين، أُجريت معها بتاريخ 7 فبراير 2023.
43 من المقابلة مع سعيد بعلبكي سابق الذكر.
44 مقابلة مع ديانا عباني، باحثة مقيمة في برلين، أُجريت معها بتاريخ 20 يناير 2023.
45 قاعدة بيانات المكتب الفدرالي للإحصاء https://www-genesis.destatis.de/
46 مقابلة مع ميّ جوني، موظّفة في Digital hospital في برلين، أُجريت معها في 3 فبراير 2023.
47 من المقابلة مع ديانا عباني سابقة الذكر.
48 من المقابلة مع أمل ديب سابقة الذكر.
49 المرجع نفسه.
50 المرجع نفسه.
51 مقابلة مع خليل فاضل، ناشط ومصوّر مقيم في برلين منذ العام 2014، أُجريت معه في 27 أبريل 2023.
52 المرجع نفسه.
53 المرجع نفسه.
54 ibid
55 من المقابلة مع خليل فاضل سابق الذكر.
56 من المقابلة مع ديانا عباني سابقة الذكر.
57 من المقابلة مع أمل ديب سابقة الذكر.
58  المرجع نفسه.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.