ملخص تنفيذي
تسعى هذه الورقة البحثية إلى تقديم تحليل نقدي للمقاربة المتبعة تجاه سياسات وبرامج سبل العيش للشباب في العراق في أعقاب صراع 2014 مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)؛ تلك المقاربة التي تزعّمتها المنظمات الدولية غير الحكومية، والمنظمات الدولية العابرة الحكومات ، وغالباً ما كان ذلك بالتعاون مع دولة العراق.
تتسم المقاربة الحالية بوجود برامج تنشيط لسوق العمل، التي – على عكس المتوقع – زادت من عدم استقرار أوضاع العمل، كما أن هناك برامج المساعدات الاجتماعية التي تعرقل الضمان الاجتماعي، ذلك الضمان الذي لا يمكن إقامته بالاعتماد على تدخلات عابرة للتخفيف من حدة الفقر. تشمل هذه التدخلات برامج النقد مقابل العمل، ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر، وكذلك اقتصاد العمل الحر القائم على الطلب، وبرامج الائتمان الأصغر، والتحويلات النقدية، والمساعدات الغذائية، والتبرعات العينية، على سبيل المثال لا الحصر.
إن هذه البرامج ظرفيّة ومماسية، وقد صُمّمت للمساعدة في البقاء على قيد الحياة، بيد أنها تترك وراءها الكثير من المشكلات. بشكل عام، صُمّمت تلك البرامج بحسن نية، وبهدف اتباع تكوين شامل يجعلها تستجيب لاحتياجات الشباب – بما فيها تلك المتعلقة بالصراع – التي سبق تحديدها في عدة تقييمات مختلفة. ومع ذلك، فإن تلك البرامج لا تستجيب لتوقعات الشباب العراقي وتطلعاتهم، كما أنها لا تحقق الغرض المنشود المتمثل في ضمان الإدماج الاقتصادي المستدام والشامل للشباب العراقي، وهو الأمر الضروري لازدهارهم وازدهار الاقتصاد ككل.
تنبع ظرفية تلك البرامج من حقيقة أنها رد فعل، وذات نطاق ضيق، وعابرة، وقصيرة النظر، وغير كافية، وغير متكاملة؛ وذلك لأنها ليس بقيادة الدولة وغير مدرجة في إطار نموذج تنموي فعال ذي رؤية مركزية واضحة. وفوق كل ذلك، تعاني تلك البرامج من عيوب في أساليب الاستهداف، وآليات التسليم، والأدوات؛ بالإضافة إلى اضطرارها إلى تعديل إجراءات التشغيل القياسية لتلبية المصالح الراسخة للحكومة والقوى الفعلية.
يحتاج العراق إلى خطة هيكلية وطنية للاقتصاد الكلي من أجل الإصلاح والاستقرار تكون مبنية على مبادئ الشمولية والجدوى الاقتصادية. كما أن العراق بحاجة إلى نظام حماية اجتماعية شامل تقوده الدولة، يتسم بالتكامل والفعالية والاستدامة. يمكن أن يوفر هذا النظام الضمانات اللازمة لتحقيق التضامن الاجتماعي المُكمّل للسياسات الاجتماعية والاقتصادية العادلة من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية النظامية. كما يمكن تكميل نموذج الرفاه هذا ببرامج التخفيف من حدة الفقر، والمساعدة الاجتماعية، وبرامج تنشيط سوق العمل في أوقات الأزمات والطوارئ، مثل صراع 2014 مع داعش.
ولكن لكي تؤدي هذه البرامج دورها التكميلي بكفاءة، فإنها بحاجة إلى تحسين منهجيات الاستهداف، وآلياتها التشغيلية والتنفيذية، وتطوير مساعداتها وخدماتها كمياً ونوعياً، وكذلك نطاق واستمرارية تدخلاتها. كما تحتاج أيضاً إلى تحويل وجوب التنسيق مع الدولة إلى فرصة لفرض مجموعة من الشروط التي تسهل التنفيذ السليم لأنشطتها، مثل مطالبة الحكومة بإنشاء سجل اجتماعي وطني موحد وفرض آليات الشفافية والمساءلة.
تسلط هذه الورقة البحثية الضوء على التحديات السياسية والاقتصادية التي تعيق المسار المتصور للمضي قدماً، وتقترح بدائل للتغلب على هذه التحديات التي طال أمدها. مع العلم أن التغلب على مشكلات المؤسسات العامة الضعيفة، وسوء الإدارة، وغياب سيادة القانون يتطلب وقتاً طويلاً حتى يصبح في عِداد الممكن، إذ يجب على الجهات الفاعلة في التنمية أن تبدأ في التفكير في طرق لسد الفجوة بين السياسة والسياسات. ومن أجل القيام بذلك، عليها تنفيذ تدخلاتها – وقتما وأينما تقتضي الحاجة – مع إعادة التفكير – في الوقت نفسه – في أنواع وهياكل وجودة أدوات المساعدة الخاصة بها.
التوصيات الرئيسية
- على الفور: تحسين منهجيات الاستهداف، وآليات التشغيل والتوصيل، ونوعية وكمية المساعدات والخدمات، ونطاق واستمرارية التدخلات، للوصول إلى مزيد من الشباب وحماية رفاهتهم وسبل عيشهم بشكل أكثر فعالية.
- على المدى المتوسط: الاستغلال الأمثل للتنسيق مع الدولة من خلال مطالبة الحكومة بإنشاء سجل اجتماعي وطني موحد؛ وفرض عملية تقودها جهات خارجية ذات مصداقية لأغراض المراقبة والتقييم والمتابعة والمراجعة؛ وكذلك فرض الشفافية الصارمة وآليات المساءلة.
- على المدى الطويل: مساعدة الحكومة العراقية على وضع خطة هيكلية للاقتصاد الكلي من أجل الإصلاح والاستقرار مبنية على مبادئ الشمول والجدوى الاقتصادية ونظام الحماية الاجتماعية الشامل الذي تقوده الدولة. عندها فقط ستكون برامج التخفيف من حدة الفقر والمساعدة الاجتماعية وتنشيط سوق العمل قادرة على التعامل بكفاءة مع أوقات الأزمات والطوارئ.
اقرأ المزيدمقدمة
انقلبت حياة ملايين من الشباب العراقي رأساً على عقب في عام 2014 عندما بدأ الصراع مع داعش؛ ولم يقتصر الأمر على تسبب الصراع في انتشار موجات العنف في جميع أنحاء العراق – من تدمير المنازل، وإلحاق الضرر بالاقتصاد، والتسبب في وقوع إصابات ونزوح بين المواطنين – بل أدى أيضاً إلى تقليص فرص التعليم والعمل بشكل كبير، وتدمير سبل كسب العيش. وبما أن الشباب هم من أكثر الفئات الاجتماعية ضعفاً – خصوصاً عند مواجهة هذه الصدمات الاجتماعية والاقتصادية. وبما أن هذه الفئة العمرية تتقاطع تقريباً مع جميع أشكال الحرمان والتهميش الاجتماعي، فقد كان الشباب العراقي من أكثر الفئات تضرراً من هذا الصراع وتداعياته . وبعد ثماني سنوات من الصراع، يعاني العراق من أدنى نسبة عمالة بين السكان في المنطقة العربية . ارتفع معدل البطالة بين الشباب وحدهم من 18% قبل عام 2014 إلى أعلى مستوى له على الإطلاق وهو 25.3% في عام 2017 . وبالمثل، تلازم مع تداعيات الصراع انخفاضٌ حاد في معدل الالتحاق بالمدارس وزيادة كبيرة في معدل التسرب من المدرسة، بالإضافة إلى انخفاض جودة خدمات التعليم في جميع أنحاء البلاد. لقد قلل كل هذا من إمكانية حدوث أي تحسن في توظيف الشباب، إذ يفتقر هؤلاء الشباب الآن إلى المهارات اللازمة للعثور على وظيفة في اقتصادٍ هش بعد انتهاء الصراع .
أظهر استطلاعٌ مكثف للشباب أجرته مؤخراً مبادرة الإصلاح العربي في ثلاثة مدن عراقية تضررت بشدة من جراء الصراع (بغداد والبصرة ونينوى-الموصل) أن الصراع قد أثر سلباً على تعليم الشباب العراقي ومساراتهم المهنية، وقد كانت الضائقة الاقتصادية الناجمة عن الصراع هي المتسبب الأساسي في تلك الأزمات . علاوة على ذلك، أظهر الاستطلاع أن 93% من الشباب يعتقدون أن الصراع لم يكن أبداً فرصة لكسب الدخل أو الحصول على دعمٍ للدخل، حتى مع الأخذ في الاعتبار الاستجابات المختلفة من الجهات الفاعلة التابعة للدولة وغير التابعة للدولة مثل المساعدات الاجتماعية، وبرامج شبكات الأمان الاجتماعي، وتوسّع قطاع المنظمات غير الحكومية، وصعود الجماعات السياسية والمسلحة وسط الصراع. تشير المحصلة النهائية السلبية لتلك الآثار إلى مدى التحديات التي واجهها الشباب في العراق في سبيل اقتناص الفرص لكسب العيش، وتعزيز استراتيجيات البقاء والرفاه وسط الظروف الحرجة إبان الصراع وسياق ما بعد الصراع.
من خلال نقاشاتنا الجماعية مع الخبراء والممارسين وصانعي السياسات، وجدنا أن السياسات والبرامج المُنفّذة أو المتاحة للشباب العراقي لتعزيز سبل العيش والرفاه كانت غير فعالة إلى حد كبير . ترجع عدم فعالية تلك البرامج إلى اعتماد الجهات الفاعلة المختلفة مقاربات ظرفية لسبل العيش منذ بداية الصراع وحتى اليوم. بشكل عام، صُمّمت هذه السياسات والبرامج بحسن نية، وبهدف اتباع مقاربة شاملة تجعلها تستجيب لاحتياجات الشباب – بما فيها تلك المتعلقة بالصراع – التي سبق تحديدها في عدة تقييمات مختلفة. ومع ذلك، فإن تلك البرامج لا تستجيب لتوقعات الشباب العراقي وتطلعاتهم. تنبع ظرفية تلك البرامج من حقيقة أنها رد فعل وليست استباقية، وذات نطاق ضيق، وقصيرة النظر؛ وذلك لأنها ليس بقيادة الدولة وغير منظمة في إطار نموذج تنموي فعال ذي رؤية مركزية واضحة. ومن ثم فشلت تلك التدخلات المتعلقة بسبل العيش في ضمان الإدماج الاقتصادي المستدام والشامل للشباب العراقي، وهو الأمر الضروري لازدهارهم وازدهار الاقتصاد العراقي.
تسعى هذه الورقة البحثية إلى تقديم تحليل نقدي للمقاربة المتبعة تجاه سياسات وبرامج سبل العيش للشباب في العراق التي اتبعتها المنظمات الدولية غير الحكومية والمنظمات العابرة للحكومات، وغالباً ما كان ذلك بالتعاون مع دولة العراق. وفي هذا الصدد، فإن القضية الرئيسية التي تدور حولها هذه الورقة هي أن تلك المقاربة قد عززت عدم استقرار أوضاع العمل، وتعرقل الضمان الاجتماعي، ولا يمكن تعزيز أي منهما من خلال برامج التخفيف من حدة الفقر وحدها. بالإضافة إلى ذلك، توضح الورقة كيف يؤدي عدم وجود خطة هيكلية وطنية للتنمية الاقتصادية والبشرية في البلاد إلى تفاقم المشكلة المطروحة وزيادة تدهور المسارات المهنية للشباب ورفاههم. وانطلاقاً من منظور حقوق الإنسان الذي يعتبر أن فرص كسب العيش والضمان الاجتماعي هي المسؤولية الأساسية للدولة وجزء من العقد الاجتماعي الذي يربط المواطنين بالدولة، تسلط الورقة الضوء على ضرورة تلبية احتياجات هذه الفئة الاجتماعية – التي تواجه مخاطر تهدد نمط عيشهم – بطريقة مدمجة مع رؤية اقتصادية وطنية جديدة من الحكومة العراقية. تسلط الورقة الضوء كذلك على التحديات السياسية والاقتصادية التي تعيق هذا المسار المتصور للمضي قدماً، جنباً إلى جنب مع البدائل المقترحة وطرق التغلب على هذه التحديات التي طال أمدها.
زيادة في هشاشة العمل ونقص في الحماية الاجتماعية
وسط ندرة فرص العمل والضعف في خلق الوظائف الذي شهده الاقتصاد العراقي في أعقاب الصراع مع داعش، وُجّهت الجهود المبذولة لتنمية سبل معيشة الشباب نحو تنشيط سوق العمل من خلال تحفيز التوظيف وخلق الوظائف المُدرّة للدخل والاحتفاظ بالوظائف. على هذا النحو، فإن المنظمات الدولية والمنظمات الدولية غير الحكومية وكذلك - بدرجة أقل - المنظمات المحلية المقتدرة التي تمكنت من الاستمرار في ممارسة أنشطتها في العراق كلها تقوم بتنفيذ برامج النقد مقابل العمل من أجل التوظيف الفوري وتوليد الدخل. كما أن تلك المنظمات شجعت العمالة التي القائمة على الطلب من خلال تنفيذ برامج التدريب المهني لتطوير مهارات توظيف الشباب الخاصة بهذا النوع من العمل، ومن خلال التركيز على تقديم الدعم للمؤسسات متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة التي تركز إلى حد كبير على تنمية المهارات المهنية للوظائف حسب الطلب. توصف هذه التدخلات التي تندرج في إطار "برامج تنشيط سوق العمل" بأنها حلول سريعة؛ ففي حين أنها توفر للشباب النقود لتلبية احتياجاتهم الأساسية الفورية ، بيد أنها لا توفر أي استقرار وظيفي ولا ضمان اجتماعي، كما أنها تعيق التنمية الشخصية والاندماج الاقتصادي على المدى المتوسط والطويل.
برامج النقد مقابل العمل
تهدف برامج النقد مقابل العمل - المعروفة أيضاً باسم العمل قصير المدى - إلى توظيف العمال غير المهرة وأشباه المهرة في المشاريع كثيفة العمالة، والتي غالباً ما تكون في مجال الأشغال العامة والبناء والزراعة. وتشمل مشاريع مثل: إعادة تأهيل نظام الري والحفاظ على التربة وبناء الطرق وصيانتها . في حالة الشباب في العراق، كانت الزراعة والبنية التحتية العامة وقطاعات الإسكان هي الهدف الرئيسي لبرامج النقد مقابل العمل؛ ومن أبرز الأمثلة على هذه البرامج ما يلي:
- برنامج أطلقته منظمة الأغذية والزراعة في العراق في إطار مشروع تموّله المملكة العربية السعودية، يهدف إلى التخفيف من تأثير الصراع الذي يواجهه النازحون الداخليون في العراق والمجتمعات التي تستضيفهم من خلال ضمان أن أسرهم ستكون قادرة على تلبية متطلبات الغذاء. غطى هذا البرنامج المحافظات الأكثر تضرراً في ذلك الوقت وهي: ديالى ودهوك ونينوى وصلاح الدين، بهدف تحويل الأموال إلى هذه الاقتصادات المحلية. أشرك البرنامج المستفيدين منه في أنشطة إعادة التأهيل وإعادة البناء للأصول والبنية التحتية المتعلقة بالزراعة المحلية والعامة مثل قنوات الري وقنوات الصرف والأراضي الزراعية والبساتين المتضررة والمشاتل والمتنزهات والمساحات الخضراء .
- برنامج منظمة أوكسفام-العراق في قرية قرة تبة بمحافظة ديالى، الذي شمل أعمال مثل تنظيف قنوات الري لتوفير المياه للمزارع في المنطقة كجزء من مشروع الزراعة المحلية، وكذلك أعمال إعادة تأهيل المدارس .
- برنامج للرجال والنساء والنازحين داخلياً واللاجئين والمجتمعات المضيفة ينفذه المجلس الدنماركي للاجئين لإعادة تأهيل المدارس في فايدا وسميل ودهوك. ومن بين الأعمال المأجورة التي يقدمها هذا البرنامج طلاء الفصول الدراسية من الداخل في مدرسة هيما .
- برامج سبل العيش والنقد وتنشيط الأسواق وسبل العيش الزراعية التابعة لمجلس اللاجئين النرويجي، والتي وفرت – من بين أشكال أخرى من المساعدة – الوصول إلى الدعم في حالات الطوارئ عن طريق برامج مثل: النقد مقابل العمل، واستعادة الأصول، ومنح تنشيط سبل العيش . ركز دعم سبل العيش على أعمال المياه والصرف الصحي والنظافة العامة في المواقع غير الرسمية، وتعميم أهمية المياه والصرف الصحي والنظافة العامة في التعليم وسبل العيش والعمل الزراعي .
يمكن لهذه البرامج بالفعل توفير الدعم المالي للشباب الفقراء والمعرضين للخطر، خاصةً عند تنفيذها عبر طريقة الدفع المباشر للتحويلات النقدية، مما يتيح للمستفيدين إنفاقها على احتياجاتهم ذات الأولوية وتلبية ضرورياتهم الملحة للنجاة في ظل الظروف القاسية. بيد أن تلك البرامج تتألف من فرص قصيرة الأجل تنطوي على درجة عالية من عدم اليقين فيما يتعلق بثباتها ومدة استمرارها وتوفر بدائل مماثلة بمجرد انتهاء المشروع المعني. فبرنامج منظمة الأغذية والزراعة، على سبيل المثال، استمر فقط من كانون الأول/ديسمبر 2014 حتى شباط/فبراير 2015. في حين استمرت البرامج الأخرى، في أفضل السيناريوهات، لمدة لا تتجاوز ثلاث سنوات حتى بداية العام 2017، بينما لا يزال النزاع الممتد وتداعياته قائمة حتى الآن، وفقاً لنتائج الاستطلاع المذكور سابقاً الذي قامت به مبادرة الإصلاح العربي.
علاوة على ذلك، لا يحصل العمال على تعويض كافٍ في برامج النقد مقابل العمل، مما يجعل من الصعب عليهم الحفاظ على مستويات معيشة لائقة. وقد وضع "ملتقى سبل كسب العيش في حالات الطوارئ" (ELC) في العراق، الذي يخضع لرعاية برنامج الاستجابة للأزمات وتعزيز الصمود التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العراق، وثيقة إجراءات التشغيل القياسية لتدخّل النقد مقابل العمل، بدعم من فريق مكون من "المجلس الدنماركي للاجئين" ومنظمة "أوكسفام" ومنظمة "الإغاثة الدولية". ووفقاً لما جاء في إجراءات التشغيل القياسية، أُجري تقييم سريع للحد الأدنى للأجور المعمول بها في مناطق التدخل وذلك وفقاً لقانون العمل العراقي الذي ينص على ما يلي: "للطرفين (صاحب العمل والعامل) حرية التفاوض على أجر عادل مقابل العمل، وطريقة الدفع، بشرط دفع الأجور مرة واحدة، على الأقل شهرياً، وألا تكون، بأي حال من الأحوال، أقل من الحد الأدنى للأجور بالنسبة للعمالة غير الماهرة، على النحو الذي حددته وزارة العمل والشؤون الاجتماعية". استناداً إلى هذا التقييم، وبعد التشاور مع برنامج الأغذية العالمي وﻣﺒﺎدرة اﻷﻣﻢ اﻟﻤﺘﺤﺪة المسماة "اﻟﺠﻬﻮد اﻟﻤﺘﺠﺪدة ﻟﻤﻜﺎﻓﺤﺔ اﻟﺠﻮع وﻧﻘﺺ اﻟﺘﻐﺬﻳﺔ ﻟﺪى اﻷﻃﻔﺎل"، قدرت "كتلة سبل كسب العيش في حالات الطوارئ" متوسط الأجر العادل الموصى به للعمالة غير الماهرة في العراق بواقع 25,000 دينار عراقي (20-21 دولار أميركي) يومياً، بشرط مراجعة هذا المعدل على أساس ربع سنوي وأن ينشره "ملتقى سبل كسب العيش في حالات الطوارئ". ومع ذلك، كان هناك شرطاً في إجراءات التشغيل القياسية لتحديد معدل الأجور: إذا قررت الجهات الفاعلة الإنسانية تقديم معدل النقد مقابل العمل يختلف عن متوسط الأجر على المستوى الوطني، فيجب أن يكون الأول أقل من الحد الأدنى السائد للأجور لمنع المنافسة مع أصحاب العمل وتجنب جذب العمال الموظفين بشكل جاد إلى برامج النقد مقابل العمل. وبالتالي، نظراً إلى أن الوزارة حددت الحد الأدنى للأجور لشخص يبلغ من العمر 19 عاماً أو متدرب عند 92 دولار أميركي شهرياً (أي ما يزيد قليلاً عن 3 دولارات أميركية يومياً)، فقد فُرض هذا المعدل على الجهات الفاعلة في برامج النقد مقابل العمل.
يفتقر العمل المؤقت أيضاً إلى المزايا الأساسية مثل التأمين الاجتماعي والأطر القانونية الضرورية لحماية العمال وحقوقهم؛ ونظراً إلى القطاعات الاقتصادية التي ينتشر فيها هذا النوع من العمل، فإنه غالباً ما يتسم بطابع موسمي مؤقت، وظروف عمل قاسية، وساعات عمل طويلة، وعدم الحصول على إجازات مدفوعة الأجر أو إجازات مرضية، فضلاً عن المخاطر الكبيرة للتعرض للإصابات الجسدية أو الأمراض. والأهم من ذلك، كما يتضح من الأمثلة المذكورة أعلاه حول برامج النقد مقابل العمل، فإن هذه البرامج غالباً ما تتطلب مهارات متدنية أو لا تتطلب مهارات على الإطلاق، مما يدفع الشباب بعيداً عن السعي لاكتساب المهارات اللازمة لاندماجهم على المدى الطويل في السوق الاقتصادية ونجاحهم المستقبلي (بما في ذلك تطوير مهاراتهم أو تعلم مهارات جديدة). وبالتالي، يشعر الشباب المهرة بالتجاهل أو عدم الاهتمام أو ببساطة بعدم الرضا تجاه مثل هذه البرامج. بالإضافة إلى ذلك، يصعب توسيع برامج النقد مقابل العمل على نطاق وطني، لأنها استجابة مستهدفة وليست شاملة. وفي حين كان هدف شركاء "ملتقى سبل كسب العيش في حالات الطوارئ" تغطية 159,106 شخص بحاجة إلى المساعدة، كما أُعلِن في إجراءات التشغيل القياسية، فإن الصراع وعواقبه طويلة الأمد دفعت ما يقارب من ثلث سكان العراق البالغ عددهم 42 مليون نسمة إلى الوقوع في الفقر في أعقاب عام 2014، وفقاً للأمم المتحدة. أما فيما يتعلق بخطط الاستهداف المعتمدة، كما هو مفصل في إجراءات التشغيل القياسية، فإنها غالبا ما تراعي الهشاشة الاجتماعية على مستوى الأسر وليس الأفراد، وتحددها معايير مثل أن تكون الأسرة كبيرة، وأن يكون فيها أفراد مسنون، وأن تكون ترأسها أم عزباء أو أنثى بشكل عام، أو وجود نساء حوامل أو مرضعات، وأطفال دون سن 5 سنوات). كما أنها تراعي أنواع أخرى مختلفة من الهشاشة مثل الإعاقة الجسدية وخطر فقدان المأوى والدخل المنخفض. ونظراً إلى عدم استيعاب هذه المعايير للشباب، بما في ذلك ضعفهم واحتياجاتهم الخاصة، فإن أي مساعدات متبقية بعد توزيع برامج النقد مقابل العمل تُقدم بشكل عشوائي للشباب الذين يحضرون ويدَّعون أنهم بحاجة إليها على أساس أسبقية الحضور. أخيراً، يعتمد برنامج النقد مقابل العمل على آليات توزيع ضعيفة وغير منهجية، ويخضع لاختيار الشباب المعني لأنفسهم كجزء من هذه المشاريع أو - في بعض الحالات - للاستبعاد الذاتي، بالإضافة إلى قدرة الشباب على التنقل داخل المناطق المستهدفة وفيما بينها.
العمل الحرّ القائم على الطلب
يُعد العمل الحرّ، المعروف أيضاً باقتصاد الغيغ، شكل من أشكال العمل المؤقت. ونظراً إلى أن العاملين في الوظائف المؤقتة يغلب عليهم العمل بنظام العقود بدون ساعات محددة أو عقود حرة مؤقتة، فهم لا يكسبون الدخل إلا عندما يعملون، كما أنهم يعملون حصرياً عندما يكون هناك طلب على سلع وخدمات صاحب العمل. وهذا يجعلهم عرضة بشدة للصدمات المماثلة للصراع مع تنظيم الدولة الإسلامية وجائحة كوفيد-19، مما يجعل الطلب غير مستقر للغاية وغير مؤكد. يمكن أن يأخذ العمل الحرّ شكلين: وجها لوجه وعبر الانترنت (المعروف أيضاً بالعمل عبر المنصات). تشمل الأمثلة على العمل الحرّ وجها لوجه في العراق سائقي التوصيل الذين يعملون في متاجر البقالة والمطاعم، وسائقي سيارات الأجرة المرتبطين بشركات إرسال سيارات الأجرة مثل "تاكسي كولر" (Taxi Caller)، والخياطين في مصانع الملابس مثل "منسوجات سوتليج" (Sutlej Textiles) وشركة "نهار سبيننيج مايلز المحدودة" (Nahar Spinning Mills Ltd). ومن الأمثلة على هذ العمل عبر منصات الإنترنت تطبيقات خدمات النقل مثل "كريم" و"بولت"، وتطبيقات توصيل المواد الغذائية مثل "طماطة" و"توترز". وتشمل برامج سوق العمل النشطة في العراق، بما في ذلك تلك التي يدعمها المكتب الوطني لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، إلى حد كبير، تنمية المهارات التجارية للمشاريع المتناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة الحجم التي يعمل موظفوها على أساس الطلب.
وبوصفهم عمال مستقلين، يحرم العمال في اقتصاد العمل الحرّ من الحقوق والمزايا المنصوص عليها بموجب الشروط المشتركة للوظائف الرسمية الدائمة. وعادةً لا يستفيدون من تغطية الضمان الاجتماعي، وفي الحالات النادرة التي يتاح لهم الاختيار بالتسجيل في صندوق الضمان الاجتماعي من قبل أرباب عملهم، فإنهم على الأرجح يختارون عدم الاشتراك لأن مساهمتهم في الصندوق تشكل حصة لا يمكن تحملها من مجموع أجرهم المتواضع. فضلاً عن أن العمال في الاقتصاد الحرّ ليس لديهم الحق في الانضمام إلى النقابات. وعلى الرغم من الديناميات غير العادلة في القوة بينهم وبين شركاتهم، وكونهم عرضة لخطر الفصل من وظائفهم وتخفيض الأجور أو ساعات العمل، خاصةً في ظل الأزمات، فإنهم لا يستطيعون ممارسة العمل الجماعي والمفاوضة من أجل موازنة هذه الديناميات والتعبير عن مطالبهم وشكاواهم. قد يكون العمل في الاقتصاد الحرّ عملاً لائقاً إذا كان مصحوباً بإطار قانوني متين يحمي حقوقهم. بيد أن العراق يعاني من قوانين عمل فضفاضة مليئة بالثغرات ولا تأخذ سوق العمل الناشئة هذه بعين الاعتبار. وحتى الحقوق العمالية المنصوص عليها في القوانين الحالية ليست كافية ولا يتم تنفيذها بسبب ضعف سيادة القانون. وأشار أحد مصادر المعلومات في هذه الدراسة خلال مقابلتهم إلى أن جزءاً كبيراً من عمال الوظائف الحرة المؤقتة في قطاعي النقل والتوصيل في العراق يستخدمون سيارات ودراجات نارية ليست غير آمنة فحسب، بل غير مسجلة أيضاً.
شهدت السنوات الثلاث الماضية توسعاً في الاقتصاد الحرّ، الذي أصبح أكثر اعتماداً على التكنولوجيا الرقمية، واقترنت الجائحة بصعود في الاقتصاد الرقمي والعمل عن بُعد. ويتطلب هذا التطور الأخير اهتماماً خاصاً، ويشير إلى ضرورة مراعاة معايير الاقتصاد الرقمي والتجارة الإلكترونية الرئيسية بدقة عند التقدم بأي إصلاحات قانونية تتعلق بالعاملين في الاقتصاد الحرّ. وعلى الرغم من جميع النقائص والمخاطر، لا تزال مجموعة البنك الدولي، من خلال المؤسسة المالية الدولية، تستثمر ملايين الدولارات لدعم الشركات الخاصة المدفوعة بالطلب كجزء من مهمتها "للمساعدة في دعم الاستقرار الاقتصادي في العراق".
لا توجد ضمانات للأمان الاجتماعي
للتعويض عن الافتقار إلى الضمان الاجتماعي في هذه الحلول المختلفة المعتمدة لخلق فرص سبل كسب العيش، لجأت الجهات الفاعلة غير الحكومية والعابرة للدول إلى برامج شبكات الأمان الاجتماعي مثل التحويلات النقدية والمساعدات الغذائية والتبرعات العينية. وبين عامي 2014 و2016، قُدر إجمالي المساعدات الإنسانية النقدية وتلك القائمة على استخدام قسائم المعونة في العراق بأكثر من 72 مليون دولار أميركي (مع التنويه بأن هذا المبلغ من المحتمل أن يكون أقل من المُعلن)، وقد كانت 65% منها في شكل تحويلات نقدية غير مشروطة. وتشمل الأمثلة الأساسية لهذه البرامج ما يلي:
- برنامج ضخم للتحويلات النقدية من قِبل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، يساعد ما يقارب 15,000 عائلة لاجئة من خلال منح نقدية متعددة الأغراض.
- في عام 2014، بدأ برنامج الغذاء العالمي في تقديم مساعدات غذائية مباشرة كجزء من الاستجابة لأزمة اللاجئين في إقليم كردستان العراق. وفي عام 2015، تحول برنامج الغذاء العالمي إلى تقديم تحويلات نقدية غير مشروطة وقسائم المعونة لتلبية الاحتياجات الغذائية كجزء من الاستجابة لأزمة النازحين داخلياً.
- في عام 2015، تشكل "التحالف النقدي" في العراق، وهو مجموعة عمل نقدية أصغر من تلك التي أنشأتها المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في العام 2014. شارك في هذا التحالف منظمة "ميرسي كور"، والمجلس النرويجي للاجئين، والمجلس الدنماركي للاجئين، ولجنة الإغاثة الدولية، وكان جزءاً من "تحالف إيكو" الذي أطلقته المديرية العامة للحماية المدنية وعمليات المساعدة الإنسانية في الاتحاد الأوروبي في محاولة لمواءمة وتوحيد التدخلات الإنسانية التي اتخذت شكل "مساعدات نقدية متعددة الأغراض" (أي تحويلات نقدية غير مشروطة وغير مقيدة تهدف إلى تلبية مجموعة من الاحتياجات).
شبكات الأمان الاجتماعي ليست ضماناً اجتماعياً وليست شاملة. وسواء جاءت في شكل تحويلات نقدية مباشرة أو غير مباشرة، أو مشروطة أو غير مشروطة، أو موجهة أو غير موجهة، فإن برامج المساعدات الاجتماعية والضخ النقدي هذه تعمل على نطاق محدود وهي غير قادرة على مساعدة جميع فئات الشباب المحتاجين، على عكس نظم الحماية الاجتماعية الشاملة التي تقودها الدولة. وحتى التحويلات النقدية المستهدفة لم تنجح في العراق، الذي أجرى آخر تعداد رسمي له عام 1997 ويفتقر إلى سجل اجتماعي وطني موحد. فهذا النقص في البيانات، بما في ذلك البيانات المصنفة على حسب النوع على وجه الخصوص، يجعل من المستحيل تحديد الفئة السكانية التي ينبغي استهدافها، والوصول إلى هذه الفئة، وتغطيتها بالكامل مع الأخذ في الاعتبار أن الشباب ليسوا فئة اجتماعية متماسكة. ومع ذلك، بافتراض أن هذه البيانات متاحة، تتبع برامج المساعدة الاجتماعية اختبار الوسائل البديلة بوصفها منهجية الاستهداف الوحيدة المتاحة، على الرغم من أنها قاصرة بحكم التعريف وقد ثبت أنها تثير التوترات الاجتماعية.
يؤدي نقص البيانات بشكل خاص إلى استبعاد أكثر الجماعات هشاشةً والأفراد الذين ينتمون إلى أشكال جديدة أو غير مرئية من الهشاشة الاجتماعية، لأنهم لا يسجلوا أو بالكاد يُمكن تسجيلهم في مجموعات البيانات غير الرسمية. وعلاوة على ذلك، تفتقر هذه الفئات الاجتماعية المحرومة في كثير من الأحيان إلى المعرفة المالية والرقمية اللازمة للوصول إلى برامج النقد، وفي بعض الأحيان لا تتوفر لديها إمكانية الوصول إلى البنية التحتية للاتصالات والكهرباء؛ وهذا يمثل مشكلة لأن الجهات الفاعلة الإنسانية تستخدم آليات توزيع مثل التحويلات المصرفية ونظام البطاقة الذكية العراقية (المعروفة باسم بطاقة "كي كارد")، والمعاملات المالية عبر الهاتف المحمول، وبطاقة "سكوب" (بطاقة ذكية توزع على شركات تحويل الأموال). وأضاف أحد الذين أجرينا معهم مقابلة تحدياً آخر، وهو تحدٍّ نادراً ما يذكر في حالة العراق، وهو أن هذه الجهات الفاعلة لا تنسق مع الدولة فحسب، بل أيضاً مع الجماعات شبه العسكرية والميليشيات التي تسيطر إلى حد كبير على من يتلقى ماذا وكم. ومع ذلك، فإن تأمين المساعدات ليس سوى أحد التحديات العديدة التي تحول دون وصول الجهات الفاعلة في مجال سبل كسب العيش إلى أكثر الفئات تضرراً، مثل حاجز اللغة والبعد الجغرافي المقترن بعوائق التنقل والظلم (على سبيل المثال، ارتفاع تكاليف النقل، ووسائل النقل غير الملائمة).
على أي حال، فإن المساعدات النقدية متعددة الأغراض، سواء كانت لبرامج المياه والصرف الصحي والنظافة العامة أو المأوى أو الطعام أو أي ضروريات أخرى للحياة، ليست شاملة ولا كافية لضمان مستوى معيشي لائق للمستفيدين، خاصةً في سوق تتوفر فيه فرص عمل قليلة وغير مستقرة. لذا، فمن الضروري أن نشكك في حقيقة أن من يطلقون على أنفسهم وصف "الجهات الفاعلة النقدية" يحتاجون أحياناً إلى عمالة من الشباب في مقابل المساعدات النقدية "كوسيلة لحملهم على المساهمة في بناء البنية التحتية وإعادة الإعمار في مرحلة ما بعد النزاع". إن هذه الخدمات هي خدمات عامة يحق للشباب، شأنهم في ذلك شأن جميع المواطنين الآخرين، الاستفادة منها ودفع الضرائب المباشرة وغير المباشرة عنها.
غياب خطة هيكلية وطنية للتنمية الاقتصادية والبشرية
مثلما أوضحنا في القسم السابق، فإن الجهود التي تهدف إلى تعويض الشباب العراقي عن الخسائر الناجمة عن فقدان فرص كسب العيش يسودها عموماً سياسات غير مستدامة ومُتعجلة لا تلبي احتياجات أولئك الشباب وتطلعاتهم. ويعزى هذا الوضع القائم بصفة أساسية إلى عدم وجود خطة هيكلية للاقتصاد الكلي وأيضاً عدم تبني استراتيجية تهدف إلى تحقيق الاستقرار في العراق، وهما أمران ضروريان لوضع رؤية واضحة يُفترض أن تتمحور حولها كافة هذه الجهود. ولا غنى عن هذه الخطة وتلك الاستراتيجية من أجل تحقيق إدماج اقتصادي عمليّ وطويل المدى للشباب في عمليات إعادة الإعمار والتصالح والتعافي خلال مرحلة ما بعد النزاع. وهما أساسيان أيضاً لخلق فرص عمل حقيقية على مستوى البلاد يحركها نمو اقتصادي ضخم وعالي الجودة، قادر على توليد القيمة المضافة باستمرار. وإذا ارتكزتا على مبادئ العدالة الاجتماعية وعلى أُسس متينة لنموذج تنمية إصلاحي، فيمكن لهما في نهاية المطاف القضاء على الفقر والتأكد من تحقيق مساواة متعددة الأبعاد لا تقصي أحداً في صفوف الشباب.
واقع بائس
يعاني العراق من واقع سياسي واقتصادي واجتماعي غير مستقر ومتداعٍ منذ أكثر من ثلاثين عاماً. ففي الفترة بين عامي 1991 و2003 فُرضت عليه عدة عقوبات دولية وتعرض لِعزلة اقتصادية. وشهد الاقتصاد العراقي خلال الفترة الممتدة من عام 2003 إلى عام 2014 خروجاً تدريجياً من الاقتصادات العربية والعالمية، بما في ذلك اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي، وهو ما أدى إلى عدم قدرة القطاع النفطي على التعافي تماماً والعودة إلى ما كان عليه قبل عام 1991. ثم تسبب النزاع مع داعش الذي اندلع في 2014 في اضطرابات جسيمة في البلاد وقضى على كافة المحاولات المستميتة لتحقيق انفتاح اقتصادي على المنطقة العربية، وذلك لأسباب جيوسياسية يعرفها الجميع. وقد تزامن النزاع مع داعش مع عدة أزمات أخرى، من بينها أزمة المياه التي حدثت بسبب نقص إمدادات المياه من المصادر المائية الرئيسة -وهي أنهار دجلة والفرات وشط العرب- بسبب عمليات بناء السدود وغيرها من التدخلات الأخرى التي تجريها تركيا وإيران إلى جانب التدهور البيئي. أدى هذا المأزق، الذي جاء مصحوباً بتغيّر المناخ والنزاع الداخلي على المياه والنزوح والنمو السكاني وسوء الإدارة من جانب الحكومة وغير ذلك من الأزمات ذات الصلة، مثل أزمة تلوث المياه في عام 2014، إلى انتشار العطش والجفاف في جميع أرجاء العراق وإلحاق أضراراً بالنظام البيئي للبلد واقتصاده، الذي يعتمد بشدة على الزراعة المحلية في المناطق الريفية. وقد أتت هذه التبعات البيئية والسياسية مع تداعيات اجتماعية واقتصادية وخيمة. ولهذا فإن النزاع مع داعش في 2014 واحتجاجات عام 2019 والصدمات السياسية المتتالية التي أعقبت ذلك إضافة إلى جائحة كورونا وتأثير الحرب الروسية الأوكرانية الأخيرة على الأمن الغذائي، كلها تعد أسباباً رئيسية وراء الظروف الاجتماعية والاقتصادية القاسية التي تشكل عبئاً ثقيلاً على كاهل الشباب العراقي.
أيضاً، دفعت هذه الأزمات التي لا حصر لها الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية والعابرة للدول إلى التركيز على تعزيز السياسات والاستجابات الظرفية قصيرة الأجل بدلاً من بناء الهياكل الأساسية السياسية والاقتصادية اللازمة لإجراء إصلاحات هيكلية مستدامة. ويتناسى هذا النهج أن ثمة حاجة إلى:
- التحول من نموذج الاقتصاد الريعي إلى النموذج الإنتاجي.
- تحقيق الاستقرار النقدي واستعادة القوى الشرائية للسكان، خاصة مع معدلات الفقر التي تتجاوز 30% (وصلت في آخر إحصاءات أجريت في 2020 إلى 31.7%).
- إعادة هيكلة وتوسيع الحيز المالي للحيول دون زيادة الموارد المالية العامة وضمان إعادة توزيع عادلة للأموال العامة واستبدال تدابير التقشف بإصلاحات ضريبية تدريجية مصحوبة بترشيد في النفقات العامة لزيادة الإنفاق الاجتماعي.
- إعادة إرساء مناخ تجاري قادر على اجتذاب الاستثمارات المحلية والأجنبية المباشرة والذي يتسم بسهولة ممارسة الأعمال التجارية وتكافؤ الفرص.
- إعادة النظر في السياسات التجارية غير الرشيدة التي تعتمد على التصدير.
وفقاً لِعمر الجفال، أحد الخبراء الذي تمت مقابلتهم في هذا البحث، "تُجسد ريعية الاقتصاد العراقي الطابع الريعي للدولة عموماً". فمن وجهة نظره، إن هذا النهج الذي تتبعه الدولة يتجلى بشكل أساسي في انتشار نظام الحكومات الكبيرة والتي تكون غير فعالة في الوقت ذاته. وقد اُبتُكِر نظام "الحكومة الضخمة" هذا لتوظيف أكبر عدد ممكن من السكان العراقيين، والتأكد من أن كل أسرة لديها على الأقل فرد واحد يعمل في القطاع العام ويعتمد بقية أفراد الأسرة على راتبه. ويعتبر الموظفين الذين لا يعملون في القطاع العام أيضاً مواطنين من الدرجة الثانية. مثلاً، لا يحق للأفراد وأصحاب المشاريع متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة الحصول على قرض بنكي دون وجود ضامن يعمل في القطاع الحكومي. وبالمثل غالباً ما تُستأجر المنازل والمحلات دون عقود لأن هذا يتطلب أيضاً وجود ضامن يعمل في القطاع العام. تُعد هذه الظاهرة إحدى مظاهر نظام المحسوبية والزبائنية المنتشر في الدولة، إذ يوظف الأشخاص للتحكم فيهم وأخذ أصواتهم لصالح "صاحب العمل" خلال الانتخابات.
تقترن الريعية والزبائنية بالطائفية، مع حدوث تداخل بين الطبقة السياسية والنخب التجارية وتقاسم السلطة والمحاباة. ولهذا يقوم ملاك الأراضي الزراعية بتحويلها إلى مناطق سكنية للاستفادة من رسوم تأجيرها والتغلب على مشكلة ارتفاع أسعار الوحدات السكنية. أما عن قطاع الإسكان، فقد وقعت مبادرة البنك المركزي العراقي لدعم سيولة قطاع الإسكان بقروضٍ متناهية الصغر ضحيةً لِلفساد والبيروقراطية والوسائط، عندما أساء أصحاب الغطاء السياسي ومن يعملون في القطاع العام استغلال هذه المبادرة، من خلال شراء عدة منازل وليس منزلاً واحداً. وبذلك لم يحرم أولئك الأشخاص الآخرين من فرصة الحصول على منزل فحسب، بل ساهموا أيضاً في زيادة الطلب على المساكن وهو ما أدى إلى ارتفاع أسعار العقارات دون الحاجة إلى دفع أيّ ضرائب عقارية على المنازل التي اشتروها. وفيما يتعلق بقطاع النفط، فيجري سرقة ونهب احتياطيات النفط في صورة إتاوات، ويعتمد القطاع عموماً على التصدير بدلاً من إيلاء اهتمام لتحقيق الاكتفاء الذاتي وتأمين الطاقة في البلاد. وغالباً ما السياسات التجارية الأوسع نطاقاً إما ضعيفة أو معدومة، مع انفتاح العراق على البلدان المجاورة التي تستفيد منتجاتها من الميزة النسبية الاقتصادية في السوق العراقية (مثل المنسوجات والأثاث).
تقبع الدولة بوصفها نظاماً حاكماً في حالة من الغياب الفعلي، وتتخذ من سياسة "التقاعس السياسي" أو "سياسة اللا سياسة" استراتيجيةً لإدارة الاقتصاد. فإلى جانب عدم تدخلها لتخفيف الأعباء الاقتصادية عن كاهل مواطنيها، لم تُقدِم على أيّ خطوات لاستعادة النظام المالي العراقي الذي ظل بدائياً طيلة السنوات العشرين الماضية، مع قيام المصارف بدور مكاتب المعاملات، معتمدةً على أرباح مزادات العملة، وعدم تقديم أيّ خدمات إقراضية كبيرة أو أدوات لإدارة الأموال (مثل البطاقات المصرفية الائتمانية). وبدلاً من محاولة تغيير ذلك الوضع، ظلت الحكومة العراقية تستفيد منه مع الحفاظ على نظامها الاقتصادي الذي يتسم بأسواق اقتصادية موازية وبديلة. حدث التدخل الوحيد على هذا الصعيد من جانب البنك المركزي العراقي، الذي منح تراخيص لسبع عشرة شركة -من بينها شركات في قطاع الاتصالات- لخدمات المحافظ الرقمية، بما في ذلك شركات بارزة مثل "آسيا حوالة" و"زين كاش" و"ناس واليت" و"فاست باي". تتيح هذه الأدوات الرقمية المالية إمكانية إجراء التحويلات المحلية الأساسية برسوم مرتفعة نسبياً، إضافة لكونها غير آمنة مع افتقار العراق لقوانين الأمن السيبراني، وتعد ملاذاً للمتهربين من الضرائب. أيضاً، ولأنها ليست مصارف، فهي لا تخضع لقوانين الشفافية المصرفية وآليات المساءلة المعمول بها في البلاد، وبالتالي فإنها تسهل عمليات غسيل الأموال والتهرب الضريبي وشراء الأسلحة وغير ذلك من الجرائم. وبعض هذه المحافظ، مثل محفظة "زين كاش"، تعد تجسيداً آخر لنظام تقاسم السلطة الذي تتقارب فيه النخب التجارية والسياسية.
نتيجة لذلك، لا تزال أسس التنمية الاقتصادية والبشرية منعدمة في العراق وسط المؤشرات الاقتصادية المُضللِة وغياب أيّ آفاق للرعاية والعدالة الاجتماعيتين، وهو ما يجعل الشباب والفئات الأكثر ضعفاً يتحملون العبء الأكبر. وبالتالي فإن رؤوس الأموال الأساسية من أجل خلق فرص شاملة للعمل وكسب الرزق باتت ضئيلة ومُهدرة، وهي على وجه التحديد: رأس المال البشري الضروري لتعزيز مهارات التوظيف والقدرة على العمل (يستفيد العراق بنسبة تبلغ 41% فقط من إمكانات رأس ماله البشري )، ورأس المال النقدي الذي يمكن للجميع الوصول إليه والاستفادة منه، ورأس المال المادي الذي يتألف من الأصول اللازمة لبدء أو إعادة تشغيل المشاريع والبنى التحتية (بما في ذلك وسائل النقل والمرافق التقنية، وغيرها) وإنعاش الخدمات وتوفر السلع والخدمات الأساسية للجميع، ورأس المال الاجتماعي الذي يشتمل على المشاركة المجتمعية والمصالحة والتماسك الاجتماعي، ورأس المال الطبيعي الذي يتضمن الموارد الطبيعية وإصلاح القنوات الحيوية والزراعة والثروة الحيوانية.
الشباب في خضم هذا المأزق
إذا لم يقضِ العراق على الفقر وانعدام المساواة في الدخل، فإن الخدمات العامة كالتعليم والصحة لن تنال القدر الكافي من الإصلاحات اللازمة. لا يحول ذلك فحسب دون استفادة جميع الفئات من هذه الخدمات الاجتماعية الضرورية ويشكل عائقاً إضافياً أمام تحقيق العدالة الاجتماعية، بل يسهم أيضاً -على صعيد التعليم تحديداً- في إعاقة تزويد الأشخاص المؤهلين للحصول على وظائف في المجالات التي يزداد الطلب عليها بالمعرفة والخبرة التي تستجيب للتحديات والفرص الناشئة، مثل تلك المنبثقة عن الاقتصاد الأخضر واقتصاد الرعاية واقتصاد الوظائف المؤقتة والاقتصاد الرقمي متعدد القطاعات. خلافاً لِمشكلة التفاوت بين الطلب والمهارات المتوفرة -التي ينبغي مراعاتها في المناهج التعليمية وفقاً لرؤية وطنية- تتطلب أيضاً هذه الأنواع الأخيرة من الأنشطة الاقتصادية وضع أطر قانونية على الصعيد المحلي وخارج الحدود الإقليمية للتأكد من أن المخطط الإصلاحي لا يحبس العراق داخل فقاعته الخاصة، بينما يظل عالقاً في الأشكال التقليدية من الأنشطة الاقتصادية ووجهات النظر المتعلقة ببناء القدرات لكسب الرزق (مثل تعليم الخياطة للنساء وتصفيف الشعر للرجال)، أو تبني الأفكار التي لا تستجيب لأولويات المجتمع (مثل حلقات تعليم الموسيقى أو ورش صناعة التحف).
استغلت الحكومة العراقية "اقتصاد العنف" لأقصى درجة، وكان الشباب هم ضحاياه الرئيسيين. وخير مثال على ذلك "قوات الحشد الشعبي"، التي يعتبر الانضمام إليها أحد الوظائف الرئيسية في القطاع العام التي تحتضن الشباب. أيضاً تعكس النقاشات المتكررة لإعادة العمل بقانون الخدمة العسكرية الإلزامية، ومكافأة المجندين براتب شهري يصل إلى 500 دولار أميركي تقريباً، النهج الذي تتبناه الدولة وتوجهاتها. تفسر عملية تجنيد الشباب وحصرهم في صفقات تهريب النفط والأسلحة والمخدرات إلى حد كبير الإرادة السياسية للدولة التي ترمي إلى عدم منح هذه الفئة العمرية الفرص الاقتصادية والحماية الاجتماعية الضرورية ليتمتعوا بمستوى حياة لائق يعينهم على النجاح. لكن الدولة تستغل الشباب العراقي الذي لا يتلقى أيّ دعمٍ لإرساء "جرائمها المنظمة". يلجأ الشباب الذين استطاعوا الإفلات من هذا الفخ إلى مبادرات التضامن المجتمعية -التي يقودها ويوجهها الشباب أو غيرها من المبادرات- مثل مجموعات الطهي والحرف اليدوية التي تروج لمنتجاتهم على منصات التواصل الاجتماعي أو الجمعيات التعاونية غير الرسمية التي يشارك فيها الناس بمبالغ صغيرة حسب إمكانياتهم ثم يمكنهم بعد ذلك سحب مبلغ أكبر عند الحاجة.
نظام حماية اجتماعية مفكك وغير ملائم
وفي ظل عدم وجود خطة أو رؤية اقتصادية على المستوى الوطني ترعاها الدولة، اعتمدت الأطراف الفاعلة غير الحكومية نموذجاً يتماشى مع الأسس الأساسية للاقتصاد العراقي، وهو ما يؤدي إلى اتساع الفجوات الاجتماعية ويضع الشباب -الذين هم من أشد الفئات الاجتماعية ضعفاً- في موقف صعب للغاية. وعليه، عوّلت الأطراف الفاعلة على ما يلي: (1) الشراكات بين القطاعين العام والخاص أو برامج كسب سبل العيش التي يرعاها القطاع الخاص، وإن كان القطاع الخاص يفتقر إلى الضوابط والأطر القانونية الخاصة بالمسؤولية الاجتماعية للشركات. (2) برامج دعم سبل كسب العيش القائمة على المشاريع متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة بوصفها -مثلاً- استراتيجية لتطوير القطاع غير الرسمي بدلاً من توفير فرص عمل من خلال اعتماد إصلاحات في الاقتصاد الكلي على الصعيد الوطني وتضمين العمالة غير الرسمية في نظم الحماية الاجتماعية التي لا تتطلب دفع اشتراكات. (3) برامج الإقراض أو التمويل الصغير، التي ثبت أن أضرارها على الأسر ذات الدخل المنخفض والأفراد محدودي الدخل أكثر من منافعها وذلك بسبب تراكم المديونية التي تولدها، بما في ذلك الديون المتنقلة بين أبناء الجيل الواحد أو التي تتوارثها الأجيال والتي تعيق الحراك الاجتماعي وتفاقم عدم المساواة والإقصاء الاجتماعيين. تؤدي هذه الاستراتيجيات إلى مساهمة الشباب في بناء أو إصلاح الأصول والهياكل الأساسية العامة والمجتمعية على المدى القصير على حسابهم الخاص على المدى المتوسط أو الطويل.
علاوة على ذلك، لا يسمح الوضع الحالي ببناء نظام الحماية الاجتماعية المستدام والفعال والشامل الذي يطمح الشعب العراقي إليه والذي يجعل المجتمع قادراً على تحمل الصدمات السياسية أو الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، والذي يسعى أيضاً لِضمان حد أدنى من الحماية الاجتماعية التي توفر تغطية مدى حياة للخدمات الأساسية وتغطية تشمل الجميع لحالات الطوارئ غير المتوقعة، من خلال تقديم حد أدنى من ضمانات التأمين على الدخل والتأكد من حصول الجميع على رعاية صحية جيدة. لكن بات من المستحيل الوصول لنظام حماية اجتماعية كهذا مع عدم وجود نموذج اقتصادي يرتكز بالتساوي على النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، لأن مثل هذا النظام يجب أن يُصمم لاستكمال النموذج الاقتصادي المنشود ويجب أن يكون هذا هو الهدف منه. في المقابل، تكون البرامج التي تهدف إلى توفير فرص عمل وكذلك برامج شبكات الأمان الاجتماعي مجرد أدوات تكميلية لنظام الحماية الاجتماعية الشامل هذا، خاصةً في وقت الأزمات، لمساعدة الفئات الأكثر تضرراً (بمن فيهم الشباب) على التأقلم لحين تتم التعديلات على الأسعار والرواتب. لكن مثل هذه البرامج تحتاج إلى إعادة النظر في منهجياتها المتبعة لتحديد الفئات المستهدفة وآليات تنفيذها والخدمات التي تقدمها وفقاً لما طرحناه سابقاً في هذه الدراسة.
ومع عدم إجراء الإصلاحات الإنمائية المنشودة، وفي ظل غياب أيّ عملية شاملة ترعاها الدولة لتحقيق ذلك، أصبحت السوق العراقية تفتقد لِرؤية وطنية شاملة تستغل كافة أبعاد أجندة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة 2030. ولهذا تُسارع الأطراف الفاعلة غير الحكومية والعابرة للدول لِتعويض هذا الغياب من خلال تقديم الخدمات الاجتماعية المشار إليها للشباب والمجتمع ككل. يفسح ذلك المجال أمام المحسوبية والممارسات المرتبطة بها، لأن كثير من هذه الأطراف الفاعلة غير الحكومية تنتمي في الأصل لمجموعات سياسية أو أحزاب ومؤسسات متداخلة أيضاً مع النظام السياسي. أما عن المنظمات الإنسانية الدولية الفاعلة، فهي تقدم خدماتها دون مراعاة إجراءات الاقتصاد الكلي والإصلاحات المطلوبة، ولا تبالي بالمسائل التي تمس عدة قطاعات والتي حددها الشباب العراقي نفسه بوصفها أولويات يجب على جميع الأطراف مراعاتها (مثل إمكانية الوصول إلى خدمات الرعاية النفسية وليس فقط برامج الدعم النفسي والاجتماعي العشوائية والمؤقتة والمحدودة). بالإضافة لذلك، تظل جهود الأطراف الفاعلة غير الحكومية والعابرة للدول غير موجهة ومتفرقة، وبالتالي محدودة النطاق على الرغم من محاولاتها الكثيرة للتنسيق فيما بينها (مثل العمل من خلال كتلة سبل كسب العيش في حالات الطوارئ).
تساهم الأطراف الفاعلة متعددة الجنسيات في تفاقم التوترات الاجتماعية داخل المجتمعات المستهدفة وفيما بينها، بل وفي كافة أرجاء البلاد. إذ تظهر التدخلات التي يضطلعون بها والتي ناقشناها في هذه الورقة البحثية أن معظم المناطق المستفيدة تقع في إقليم كردستان العراق، وهو ما يعني استبعاد مناطق أخرى متضررة من النزاع في وسط وجنوب العراق، مثل البصرة وبغداد. يعمل هذا على زيادة أوجه عدم المساواة الجغرافية في العراق، التي تولدت نتيجة التنمية المركزية غير المتكافئة. أيضاً، مثّل عام 2016 ذروة المساعدات الاجتماعية، التي جاءت استجابةً لنزاع 2014، وهو ما يعني أن كثير من هذه المساعدات وصلت إلى تلك المناطق بشكل متأخر بعد انتهاء النزاع. إضافةً إلى ذلك، وعلى الرغم من النوايا الحسنة، فإن هيمنة وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية غير الحكومية على المجالات الإنسانية والإنمائية لا تخلق ثقافة العمل المدني في المجتمع، وإنما تساعد الحكومة على التهرب من مسؤولياتها. إلى جانب ذلك، يؤدي تدخل الجهات الفاعلة الإنسانية الخارجية من أجل تعويض غياب الدولة إلى إعاقة فرصة الإطاحة بالنظام السياسي، إذ تكون بمثابة بديل مؤقت يزيد من قدرة الناس على تحمل المصاعب الاقتصادية دون مكافحة الفقر والجوع بشكل كاف. في النهاية، ومن أجل مباشرة العمل أصلاً، يجري إقحام تدخلات هذه الأطراف الفاعلة في نوعٍ من التسييس الذي يتسم بعدة أشكال من التطبيع مع الدولة والمجموعات العسكرية أو شبه العسكرية أو الميليشيات، وبالتالي فإنها تروج دون قصد لأجندات لا تعكس أولويات المجتمعات العراقية.
الطريق للمضي قُدماً
لتحقيق الإصلاح والاستقرار يحتاج العراق إلى خطة هيكلية للاقتصاد مبنية على مبادئ الشمولية والجدوى الاقتصادية، وكذلك إلى نظام حماية اجتماعية شامل ترعاه الدولة يتسم بالتكامل والفعالية والاستدامة. يمكن أن يوفر هذا النظام ضمانات الأمان الاجتماعي المُكملة للسياسات الاجتماعية والاقتصادية المنصفة التي تهدف إلى تحقيق عدالة اجتماعية شاملة. وينبغي لذلك النظام أن يتبنى نموذج رعاية اجتماعية يقوم على مبادئ حقوق الإنسان التي تأخذ في اعتبارها أن توفير فرص كسب العيش وتحقيق الأمان الاجتماعي هي مسؤولية أساسية تقع على عاتق الدولة وتُعد جزء من العقد الاجتماعي الذي يربط بين المواطنين والدولة. عندها فحسب يمكن استكمال هذا النظام ببرامج تخفيف حدة الفقر والمساعدات الاجتماعية وكذلك برامج تنشيط سوق العمل في أوقات الأزمات والطوارئ، مثل نزاع 2014.
مع العلم بأن هذه البرامج، دون أساسٍ من الهياكل الأساسية القوية للحماية الاجتماعية، ودون وجود نموذج تنموي بديل قادر على استحداث فرص اقتصادية باستمرار، لن تكون سوى مجرد بدائل مؤقتة تُهدر الموارد على المساعدات الإنسانية الطارئة ضيقة الأفق، عوضاً عن استثمارها بشكل أفضل في تنفيذ خطط تنموية طويلة الأجل. لا تشمل مثل هذه البرامج -منفردة- كافة الفئات وتترك كثيرين خلفها، مثلما يحدث في العراق، وقد وضعت في الأساس بهدف الإنقاذ العاجل وليس تمكين المستفيدين منها وزيادة قدراتهم. لكن حتى في حال تنفيذ تلك البرامج وفقاً للنهج المرغوب، فلن تكون قادرة على الاضطلاع بدورها التكميلي على أكمل وجه ما لم تتحسن منهجيتها الاستهدافية، وآلياتها التشغيلية والتنفيذية، ونوعية وكمية المساعدات والخدمات التي تقدمها، ونطاق تدخلاتها وأنشطتها ومدى استمراريتها. تحتاج هذه البرامج أيضاً إلى استثمار التنسيق مع الدولة وتحويله إلى فرصة لفرض مجموعة من الشروط التي يمكن أن تسهل تطبيق أنشطتها بطريقة سليمة، مثل مطالبة الحكومة بإنشاء سجل اجتماعي وطني موحد، والضغط من أجل تطوير عملية تقودها جهات خارجية ذات مصداقية تضطلع بمهام المراقبة والتقييم والمتابعة والمراجعة، وفرض الشفافية الصارمة وآليات المساءلة. وهي تحسينات ضرورية للتأكد من أن تلك البرامج أكثر شموليةً وملاءمةً وقابلية للتطبيق، وبالتالي فعالة وتفي بالغرض. حينها فقط يمكن منح الشباب بدائل وظيفية مجدية لتحل محل فرص عمل الشباب التقليدية التي عفا عليها الزمن، ليصبحوا عناصر نشطة في الاقتصاد العراقي.
يتطلب المخطط الذي أشرنا إليه آنفاً تفعيل الإرادة السياسية للدولة، ويرتبط وجود هذه الإرادة (أو عدم وجودها) بمجموعة من العوامل السياسية والاقتصادية التي ينبغي التصدي لها. يُعد الاقتصاد السياسي للدولة السبب الرئيسي وراء الثغرات وأوجه القصور التي تشوب السياسات الاجتماعية والاقتصادية، ومن بينها سياسات وبرامج سبل كسب العيش في أوقات الأزمات الموجهة للشباب العراقي، مثلما أوضحنا سابقاً في هذه الدراسة. وقد كانت المحسوبية والطائفية ورأسمالية المحاسيب -وكلها مُضمنة في اتفاق تقاسم السلطة- تمثل دعائم الإرادة السياسية للدولة للإبقاء على الوضع الراهن. ويعد تقاعس الدولة المتعمد -أو سياسة "اللا سياسة" إزاء الأزمات الاجتماعية والاقتصادية- إحدى الاستراتيجيات المتبعة لإيقاع الناس -وخاصة الشباب- في براثن الفقر. إذ تهدف استراتيجية تأجيل اتخاذ الإجراءات اللازمة لتحقيق التمكين الاقتصادي والاجتماعي إلى استجلاب الجمود الاجتماعي، حيث يركز الناس دوماً على الاحتياجات اليومية بدلاً من القضايا الأوسع نطاقاً التي تتعلق بمستقبلهم ونجاحهم الشخصي أو بمجتمعهم عموماً. وهكذا استغلت الحكومة حالة الفقر والإرهاق الملمة بالناس، عندما سمحت عمداً بمواصلة عمل الأنشطة الاقتصادية غير المشروعة والفوضوية كالمعتاد.
ولأسباب سياسية واقتصادية أيضاً، يتعرض الشباب على وجه التحديد للتجاهل في المناقشات المتعلقة بالتنمية وصنع السياسات الاجتماعية والاقتصادية في العراق، وذلك لأن بناء قدراتهم في الوقت الحالي يعني تكوين كتلة كبيرة ثائرة في المستقبل القريب. ونظراً لِافتقاد الشباب لوكالة دولية تعنى بشكل خاص بشؤونهم، فيمكن إقصائهم بسهولة من الطيف الوطني، ولذلك نادراً ما يساهمون في عمليات صنع السياسات القائمة على المشاركة. حتى لو تمتع العراق برؤية اقتصادية وطنية موحدة، لاستبُعد الشباب من هذه الرؤية، وذلك على الرغم من دورهم المهم في النهوض بشكل منهجي بالسياسات العامة التي تراعي احتياجاتهم وتطلعاتهم. وحتى نظام الحماية الاجتماعية الشامل الذي حددناه في هذه الورقة البحثية سوف يستبعد على الأرجح كثيراً من هؤلاء الشباب، خاصةً مع الأخذ في الاعتبار أن معظمهم قد وصلوا بالفعل إلى سن التوظيف. وفي ظل عدم وجود منح اجتماعية للشباب حتى في مخططات الحياة الأساسية والقياسية التي وضعتها منظمة العمل الدولية واليونيسيف والتي نطالب بتنفيذها، فإنه يجري إغفال ضمانات الحماية الاجتماعية الخاصة بالشباب (خلافاً لِضمانات الحماية الخاصة بالأطفال وكبار السن). ومع افتقاد نظام الحماية الاجتماعية السائد في العراق إلى التأمين ضد البطالة واستحقاقات التعليم وغيرها من أشكال الحماية الاجتماعية الأساسية أو العامة، يبدو مستقبل البلد قاتماً. لكن وضع الشباب هذا والإشارة إليهم في بعض الأحيان بطريقة صورية فحسب، باعتبار أن ذلك "عمل روتيني لا بد منه"، على الرغم من اعتبارهم صناعاً للتغيير وأن الاستثمار فيهم هو استثمار في المستقبل، لا يقتصر على العراق وحده. فهذه مشكلة ينبغي معالجتها أولاً من قِبل منظمات حقوق الإنسان الدولية التي يجب أن تكون مثالاً يحتذى به، قبل أن نأمل في أن تولي الدول التي لا تتمتع بالرفاهية، مثل العراق، اهتماماً لها.
علماً أن إمكانية التغلب على مشكلات ضعف المؤسسات العامة والإدارة السيئة وانعدام سيادة القانون تتطلب وقتاً طويلاً، يجب على الأطراف الفاعلة في مجالات التنمية أن تبدأ بالتفكير في وسائل لرأب الصدع بين الاستراتيجيات والسياسات. ومن ثم فإن نقطة الانطلاق هي دفع الوكالات الإنسانية إلى تنفيذ التوصيات التي قمنا بسردها بالتفصيل في هذه الدراسة، والتي لخصناها في الفقرة الثانية من هذا القسم. يعد تنفيذ هذه التوصيات أمراً ضرورياً لتحسين برامج المساعدات الاجتماعية وسبل كسب الرزق التي تصممها تلك الأطراف الفاعلة، خاصة إذا صاحب ذلك إدراكٌ لكامل المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي في العراق، وفي الوقت نفسه حث الحكومة العراقية على دمج احتياجات الشباب -بوصفهم فئة اجتماعية تواجه حالة طارئة تهدد نمط عيشها- في خطة وطنية جديدة للتنمية الاقتصادية والبشرية. وإلا فإن الإبقاء على النسخ الهامشية من تلك السياسات والبرامج سيستمر في دفع الشباب بشكل غير مباشر نحو اللجوء إلى آليات التكيف السلبية، مثل الانضمام إلى الجماعات المسلحة والزواج المبكر وتعاطي المخدرات خاصةً في أوقات الأزمات والنزاعات.
إن بدء الأمم المتحدة في تنفيذ تغيير كبير يتعلق بكيفية تقديم المساعدات للعراق خلال العام الماضي، استلزم إحداث تحولاً كبيراً عن المساعدات الطارئة، يُعد خطوة جيدة وواعدة نحو إعادة تحميل الحكومة مسؤولية أمن الشعب في البلاد. لكن ونظراً للدور التكميلي المشار إليه في الأعلى للمساعدات الإنسانية وأهميتها في حالات الكوارث وكذلك في إعادة التوزيع الشامل للثروة، يجب على الأمم المتحدة وكافة الأطراف الإنسانية الفاعلة الشروع في تنفيذ تدخلاتها -عندما تقتضي الضرورة- مع إعادة النظر في أنواع أدوات المساعدة التي تستخدمها وهياكلها وجودتها، ومراعاة المحاذير المشار إليها، والالتزام بالتوصيات المذكورة بالأعلى.
- شكر وتقدير: تُعرِب كاتبة البحث عن امتنانها للسيد عمر الجفال - الصحفي العراقي - ومخبري الصُحُف على مدخلاتهم ومعلوماتهم التوضيحية القيمة، التي زودت هذه الدراسة بأمثلة ملموسة يصعب العثور عليها في مخرجات البحث عبر الإنترنت. كما تتقدم الكاتبة بالشكر أيضاً إلى السيدة سارة آن رينيك - نائبة مدير مبادرة الإصلاح العربي - على ملاحظاتها ورؤاها التي أثْرت الورقة البحثية بشكل كبير. ملاحظة: تُرجم هذا النص من اللغة الانجليزية
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.