مقدمة
بعد ثلاثة أشهر فقط من إصدار مرسوم رئاسي بإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية، عاد الرئيس الفلسطيني محمود عباس ليؤجل الانتخابات، وسط خلافات حول التصويت في القدس التي ضمتها إسرائيل إليها. وكانت مهلة الأشهر الثلاث التي أعقبت صدور المرسوم الرئاسي قد أتاحت فرصة لتشكيل 36 قائمة انتخابية بسرعة. ولأن انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني انتهت قبل أن تبدأ، فلا تزال هذه الفترة تشهد أشكالاً مختلفة من مشاركة الشباب. يقول الشباب الفلسطيني إن ركود العملية الديمقراطية قد أدى إلى تهميش جيلهم في مجتمع أكثر من نصف سكانه الفلسطينيين، البالغ عددهم 5.2 مليون نسمة، هم تحت سن 29 عاماً. وجدير بالذكر أن الفلسطينيين الذين تقل أعمارهم عن 34 عاماً، وأمضوا جميعاً سنوات تكوينهم في إطار اتفاقيات أوسلو الفاشلة، لم تُتَح لهم فرصة التصويت في الانتخابات الوطنية.
على الرغم من أن المجلس التشريعي الفلسطيني يعرض -من الناحية النظرية- فرصة للإصلاح الديمقراطي، إلا أن التشريع الانتخابي يحد من المشاركة السياسية للشباب بعدة طرق؛ حيث يحرم القانون الانتخابي الفلسطيني لعام 2007 إدراج الشباب ومشاركتهم بموجب المادة 45 التي تتطلب ألا يقل سن المرشحين أو الطامحين إلى عضوية المجلس التشريعي عن 28 عاماً في يوم الاقتراع، كما اشترطت المادة 36 ألا يقل سن المرشح الرئاسي عن 40 سنة يوم الاقتراع. وبعد فشل لجنة الانتخابات المركزية في خفض سن الترشح، تشير البيانات الأخيرة الصادرة عنها إلى حرمان 880 ألف ناخب مؤهل من التنافس على مقاعد المجلس التشريعي (حوالي 31٪)، وأكثر من مليون و815 ألفَ فلسطيني (حوالي 63٪) من الترشح للانتخابات الرئاسية. ومن العقبات الإضافية التي تعرقل مشاركة الشباب في العمليات الانتخابية، قانون الانتخابات لعام 2007 الذي ينص على إجراء انتخابات المجلس التشريعي "على أساس نظام التمثيل النسبي (نظام القائمة)، المكون من حزب واحد، أو تحالف مجموعة أحزاب، أو مجموعة من الناخبين". ومع أن التمثيل النسبي يوفر مساحة للجماعات المهمشة للتنافس في العملية الانتخابية والفوز لاحقاً، وَفقَ ما يُقل، يشير الواقع إلى أن تمثيل الشباب ظل منخفضاً نسبياً في السنوات التي أعقبت التمثيل النسبي في الانتخابات البلدية.
انعكست نتائج حرمان الشباب من حق المشاركة في صنع القرار السياسي على المجتمع ككل، وأثرت على الشباب على مختلف المستويات. وفي حين أن نبرة التغطية الإعلامية قد تشير إلى أن الفلسطينيين قد سارعوا للتسجيل في الانتخابات التي أجٍّلت، تسلط هذه الورقة الضوء على الاستقطاب المتزايد في المشاركة السياسية للشباب. ومن المهم تسليط الضوء على هذا الاستقطاب؛ لأنه يُظهِر، في الوقت نفسه، نقصاً في الدعم الأجنبي لتحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية للشباب، ويعمل على إظهار صورة زائفة للوضع الحالي للديمقراطية في فلسطين. ففي سياق تنامي الحساسية السياسية، أدت هذه اللامبالاة إلى تعميق حالة انعدام الوعي بكيفية حرمان القوانين الحالية للفئات المهمشة من حق الانتخاب، وهي نقطة أكدت عليها المقابلات المتعددة التي أجريت لإعداد هذه الورقة. ومن ثم، فإن الكثير من الحملات الانتخابية يكون ذا شقين: يجب على المرشحين أولاً أن يشرحوا سبب عدم تلبية النظام القائم لمصالح تركيبتهم السكانية، ومن ثم يمكنهم طرح سبب كونهم في وضع أفضل لحل هذه القضايا.
يتفق الشباب على أن النظام بأكمله يحتاج إلى إعادة تشكيل، من المؤسسات إلى القيادات والجماعات السياسية. ورغم الظروف الصعبة التي يعيشها الشباب، إلا أن انتخابات 2021 أتاحت لهم فرصة إعادة تأكيد حضورهم في المشهد السياسي. ومع ذلك، فإن قرار عباس الأحادي بتأجيل الانتخابات يمثل نفس المعضلات التي كانوا يأملون في التغلب عليها: التهميش وغياب التمثيل السياسي المناسب. لكن عام 2021 أظهر محاولات طموحة لكسر الهيمنة الموجودة في جهاز الدولة، سواء من داخل النظام الانتخابي التقليدي أو من خارجه.
التغيير من الداخل
التحليل التالي مستمد من فحص الإحصائيات المتاحة، وكذلك من المقابلات مع الخبراء وممثلي المجتمع المدني وممثلي التجمعات الجديدة، مثل "طفح الكيل" و"التجمع الشبابي المستقل - حلم" و"جيل التجديد الديمقراطي - جَدّ". واعتماداً على هذه المناقشات، تستخدم هذه الورقة تعريفاً مزدوجاً للشباب يشمل كلّاً من الفئة العمرية (18-45) والعقلية الإصلاحية عند التعامل مع القضايا السياسية. وبالنظر إلى أن آخر انتخابات وطنية أجريت قبل 15 عاماً، فهناك قدر كبير من التقاطع بين الفئتين.
ومع مواجهة الشباب الفلسطيني واقعاً سياسياً يفشل في تمثيل مطالبهم بشكل مناسب وفي إتاحة منصة للتعبير عن آرائهم، تزايد الاستقطاب بينهم على كافة مستويات مشاركتهم السياسية. ففي حين كان هناك شبه إجماع بين من أجريت معهم المقابلات على أن اللامبالاة السياسية بشكل عام آخذة في الازدياد، فإن وجود أحزاب شبابية مستقلة مشحونة بالحماس والرغبة في التغيير يشير إلى تنامي الوعي والمشاركة بين بعض شرائح الشباب. ومن بين الذين ترشحوا للانتخابات المؤجلة الآن، كان هناك 38.5٪ منهم تتراوح أعمارهم بين 28 و40 سنة. ومن حيث التمثيل المطلق، فإن هذه النسبة بالفعل أكبر من المرشحات النساء اللاتي يمثلن 29٪ فقط من 1391 مرشحاً. ولم يكن من الممكن العثور على بيانات عن نقاط التقاطع بين المرشحات الشابات، مع أنه تجدر الإشارة إلى أن هذا يتجاوز حصة النساء التي تصل إلى 26٪، على النحو الذي نص عليه تعديل قانون الانتخابات العامة لعام 2007.
تنقسم الأحزاب المتنافسة حسب عدد من الاعتبارات، أبرزها الانتماء السياسي. فمن بين الأحزاب الـ 36 الناشطة، هناك 7 ينتسبون إلى أحزاب سياسية قائمة و29 حزباً مستقلاً. إضافة إلى أن الشباب موجودون في جميع القوائم، على الرغم من أن القليل من الأحزاب تركز بشكل فريد على الشباب وقضاياهم. ولذا، تدرك الأحزاب البارزة أهمية تصويت الشباب، حيث تؤكد كلٌّ من حركتا حماس وفتح على أهمية الشباب في قائمتيهما وفي عمليات صنع القرار السياسي. لكن رغم الوعود العديدة من جميع الأحزاب المتنافسة في الانتخابات بتلبية مطالب الشباب، يمكن تصنيف ثلاثة أحزاب فقط من 36 حزباً على أنها أحزاب "شبابية" بالكامل. هذه الأحزاب الثلاثة جميعها أحزاب مستقلة، ولديهم منصات تركز على مكافحة الفساد وتعمل على زيادة مشاركة الشباب في المجتمع؛ سواء كان ذلك من خلال زيادة التوظيف أو المشاركة السياسية. هذه الأحزاب هي: طفح الكيل، وكرامتي الشبابية، والتجمع الشبابي المستقل "حلم".
جدول 1: تفاصيل عن الأحزاب الشبابية الثلاثة
الحزب |
متوسط العمر |
النسبة المئوية للنساء |
الانتماء السياسي |
ترتيب النساء في القائمة |
طفح الكيل |
40 |
30% |
مستقل |
الثالث |
كرامتي الشبابية |
لا توجد بيانات* |
33.3% |
مستقل |
الثالث |
حلم |
34 |
29% |
مستقل |
الثاني |
المتوسط |
37 |
30.7% |
لا يوجد |
لا يوجد |
* لم نتلق أي رد على استبياننا
البيانات مستمدة من المقابلات ولجنة الانتخابات المركزية.
إن الشباب المنخرطين سياسياً في ظل النظام الحالي يواصلون نشاطهم لسببٍ رئيسٍ واحد؛ وهو أنهم يعتقدون أن التغيير لا يمكن أن يكون مثمراً ومشروعاً إلا إذا جاء من الداخل. وهم يعتقدون أن عليهم العمل ضمن الهياكل القائمة من أجل إحداث التغيير ومواجهة القضايا الملحة، مثل الفساد والبطالة والتهميش، التي أدت إلى حرمان قطاعات كبيرة من السكان من حقوقهم المالية والاجتماعية، وكان لها تأثيرات متفاوتة على الشباب. ويتجلى هذا الحرمان في غياب التمثيل السياسي، حيث علَّق محمد من حزب "حلم" على ذلك بالقول "إنهم يتحدثون باسم الشباب، لكنهم بعيدون كل البعد عن كونهم منا". ومع ذلك، أظهر كل من قابلناهم رفضاً قاطعاً للالتزام بالخطط والسياسات الحزبية التقليدية. وهذا الرفض للطبقة الحاكمة يدل على التمييز الذي يقيمونه في أذهانهم بين الديمقراطية باعتبارها مثلاً أعلى، وقوة الممارسات الديمقراطية، وحالة الديمقراطية داخل الأحزاب التقليدية (ولكن ليس داخل النظام السياسي نفسه، وهو الأمر المهم). وهذا التمييز يعزز فكرة أن الأحزاب الحالية تعمل ضمن نظام ديمقراطي محتمل، ولكنها لا ترسم حدود هذا النظام.
هذا الإطار الذهني هو ما يدفع إلى تشكيل أحزاب خاصة بالشباب. فهم من ناحية يشعرون بضرورة أن يكونوا مستقلين تماماً عن الأحزاب التقليدية؛ ومن ناحية أخرى يعتقدون أن الأحزاب التي لا تركز على الشباب لن تضع أولويات الشباب في جدول أعمالها. وبناءً عليه، تحافظ الأحزاب الشبابية على أجندات انتخابية صلبة تركز بشكل أساسي على توفير الفرص للشباب الفلسطيني، لا سيما في ظل ارتفاع معدلات البطالة التي يواجهونها حالياً. وقد أكد كلٌّ من حزبَا "طفح الكيل" و"حلم" على دور الفساد وغياب أي عملية ديمقراطية على مدار الخمسة عشر عاماً الماضية في إعاقة التنمية الاقتصادية المستدامة وطويلة المدى، وكذلك في إعاقة المشاركة الهادفة للشباب في الحياة السياسية. وعندما سألنا محمد أيمن شلبي من حزب "طفح الكيل" عن مزيد من التفاصيل الملموسة حول كيفية محاربة الفساد، ذكر على وجه الخصوص أن مجلسهم القانوني الداخلي سيقود هذا المسعى.
وتجاوباً مع ما ذُكر أعلاه، من المهم ملاحظة أن جيل الشباب يظهر قناعة صلبة بقدرة آليات الدولة، ولا يرى أنها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالممثلين السياسيين؛ إذ أفصح جميع من أجرينا معهم المقابلات عن إيمانهم بالعمليات الديمقراطية الناتجة عن، والتي تؤدي إلى، التطبيق الشامل لسيادة القانون والدستور، والتمثيل في المجلس التشريعي، والحق في محاسبة المسؤولين المنتخبين، واستقلال القضاء، وغيرها من الأمور.
كما أكدوا في كثير من الأحيان على نقاط التقاطع بين قوائمهم ومطالبهم، حيث إنهم يصلون إلى تركيبتهم السكانية المستهدفة من خلال مزيج من الحملات الواقعية المباشرة والحملات الإلكترونية، وهذا المزيج يسمح لهم بالحفاظ على وجود شعبي، مع توسيع نطاق وصولهم. ومع أسف تلك الأحزاب التي أجرينا معها مقابلات على عدم استطاعتهم إجراء اجتماعات حية ومباشرة، إلا أنهم أوضحوا أن وجود منصات على الإنترنت مكنهم من زيادة وتعزيز حضورهم في جميع أنحاء فلسطين، متجاوزين الحواجز المادية؛ وقد استفادوا من هذه المنصات واعتمدوها طريقة فعالة للحملات في ضوء جائحة كوفيد-19.
امتد هذا التحليل عبر الحدود ليشمل فلسطيني الشتات، الذين أشار جميع من أُجريت معهم المقابلات لدورهم المهم في الانتخابات المؤجلة رغم عجزهم عن التصويت. وقد طالب الخبراء أيضاً الاتحاد الأوروبي بتقديم الدعم اللوجستي حتى يتمكن فلسطينيو الشتات من التصويت رسمياً في العمليات الانتخابية الفلسطينية، غير أن الأطراف الفاعلة الدولية تبدو عالقة بين براثن الديموقراطية المعرفة تعريفاً مبهماً، مع انشغال إسرائيل وعباس في لعبة القط والفأر وهو ما تسبب في تأخير الانتخابات التشريعية.
في الوقت الذي تمارس فيه هذه المجموعات الشبابية نشاطها السياسي، فإنها تنضم كذلك إلى طليعة التعبئة الشعبية حول القضايا الاجتماعية؛حيث أشار تجمع "حلم" على سبيل المثال إلى أن أهدافهم السياسية تتجاوز الانتخابات الحالية، وأن انخراطهم [المجتمعي] على أرض الواقع يوازيها في الأهمية. وكان هذا التجمع قد تأسس في الواقع من المشاركين في مظاهرات 2011 التي قُمعت بالعنف، بعدما دعا الشباب لوضع حد للانقسام السياسي بين حماس وفتح. كما أعرب تجمع "طفح الكيل" عن نيتهم للتركيز أكثر على التعبئة على مستوى القواعد الشعبية عقب تأجيل الانتخابات، مصرحين إنهم سيستمرون في "مكافحة الفساد والدفاع عن الفلسطينيين". ويمكن رؤية هذا في مطالباتهم بإجراء تحقيق شفاف عقب وفاة ناشط حقوق الإنسان نزار بنات. تمثل أعمال التعبئة هذه نموذجاً للمواطنين الذين يتزايد انغماسهم في السياسة نتيجةً لعجز الدولة عن تلبية احتياجاتهم. وتوضح ماجدة السقا -الناشطة الحقوقية المقيمة بغزة، وأحد نشطاء المجتمع المدني- أن دور منظمات المجتمع المدني الفلسطينية في تلك الحالات هو تزويد الجمهور بمعلومات سليمة لضمان وعيهم التام بحقوقهم. بينما تشير إيناس عبد الرازق -مديرة جهود الدفاع والمناصرة في الهيئة الفلسطينية للدبلوماسية العامة- إلى أن السؤال الحالي هو كيفية تحويل ارتفاع الوعي الشعبي بالحقوق السياسية إلى شكل مستدام من التعبئة السياسية في جميع أنحاء البلاد.
على الرغم من نشاطاتهم، فإن الانقسام الجغرافي مع قطاع غزة المفصول قسراً عن القدس والضفة الغربية يعيق التعبئة الكاملة. ويرى الشباب انفصالهم الجغرافي عائقاً أمام قدرتهم على المشاركة بحرية في العملية السياسية الفلسطينية وعمليات صنع القرار؛ إذ وصف رئيس حزب "حلم" السياسي الشبابي، فادي صلاح، الجغرافيا بأنها "أكبر المشكلات اللوجستية" التي يواجهها حزبهم فيما يتعلق بالحملات الانتخابية والتوعية، مؤكداً على أن الحملات عبر الإنترنت ساعدت في رأب الفجوة الجغرافية بين المحافظات، مشيراً إلى أن طريقة اللوحات الإعلانية قديمة الطراز لم تعد فعالة. وبالمثل أعرب شلبي -أحد ممثلي قائمة "طفح الكيل" الانتخابية- عن الإحباط الذي أصاب حزبه نتيجة غياب أي تواصل فعلي بسبب جائحة كوفيد-19 وتدابير التباعد الاجتماعي، مشيراً إلى أن افتقار الشباب للشجاعة للانخراط في مشاركة سياسية جادة -في ظنه- هو نتيجة إحكام الأحزاب التقليدية سيطرتها على الفضاءات العامة. ورغم ذلك، ناقش شلبي تزايد اعتماد حزبه على منصات التواصل الاجتماعي مثل "زووم" و"واتساب" للوصول للجمهور، موضحاً إنشاء الحزب مجموعات "واتساب" مختلفة للـ16 محافظة.
إضافة لمشكلة الجغرافيا، تمثل العقبات المالية التي تتطلبها المشاركة السياسية -وخاصة في المجلس التشريعي الفلسطيني- عقبة ضخمة؛ لذا توضح ماجدة السقا قائلة "لولا القوانين والتمويل، لتمتع الشباب بالكثير من الإمكانيات [لحظي الكثير من الشباب بفرصة المشاركة]"، وتضيف "هبّ المانحون لمساعدة النساء، ولكن لم يفلح ذلك، لأنهم نسوا الشباب". كما انتقدت الطبيعة الأدائية (الشكلية) لحصة النساء في المجلس التشريعي الفلسطيني التي تبلغ 26%، مدعية أن ذلك لم يكن فعالاً في تعزيز الأصوات التقدمية المستقلة من أجل الإصلاح. يؤكد هذا استبعاد الشباب من مرأى المراقبين الدوليين، إذ إن المانحين يقدمون تحقيق مفردات قوائمهم المرجعية على تعزيز الديمقراطية؛ هذه القوائم التي تجهل السياق المحلي والواقع، ما أسفر عن مزيد من التهميش لبعض الفئات الاجتماعية المهمة.
يمثل التمويل واحداً من أكبر التحديات الانتخابية للمجموعات التي تمنح الأولوية للتمويل الذاتي، حيث تعيق وديعة العضوية المفروضة قانوناً مشاركة الشباب السياسية واستقلالهم الكامل. ومن هذا المنطلق تدعي الأحزاب السياسية الشبابية الذين أجريت معهم المقابلات أنهم يعتمدون على التمويل الداخلي من داعمي المجموعة وشبكاتها فحسب، ويرفضون تماماً أي تمويل خارجي، إذ صرح شلبي قائلاً: "اتصلت بنا مجموعات سياسية عارضين المال مقابل ولاء مجموعتنا أو انسحابها، لكننا رفضنا"؛ وأضاف "إن كنتُ أرغب في محاربة الفساد يجب أن أبدأ بنفسي". بينما أفادت بعض الأحزاب الشبابية أن بعض الأحزاب التقليدية أغرتهم بعروض للتمويل، في حين أصر المرشحون أن استقلالهم مرهون تماماً بالتمويل الذاتي.
أما فيما يتعلق بالأفراد؛ فإن الأحزاب الأكبر تستغل وضعها الاقتصادي والدعم المالي المقدم لها لتوفير وظائف لهم مقابل دعمهم السياسي. تعمل أنظمة المحسوبية التي أنشئت إثر ذلك على ترسيخ أنظمة الفساد الحالية، وهي مرتبطة بشكل صريح بالشباب الذين يفتقرون إلى الفرص لتحسين وضعهم. وقد زاد تأجيل الانتخابات البرلمانية العبء المالي الواقع على الأحزاب الشبابية ذاتية التمويل، حيث ستواجه صعوبة بالغة في منافسة الأحزاب المدعومة من مانحين خارجيين.
التغيير من الخارج: جيل التجديد الديمقراطي
على عكس الشباب المنغمس في السياسة الذي يؤمن أن التغيير يجب أن يحدث من داخل النظام، يؤمن البعص الآخر أن التغيير يجب أن يبدأ من الخارج. وقد شهد هذا العام تأسيس مجموعة "جيل التجديد الديمقراطي - جد"؛ وهي مجموعة شبابية تستهدف خلق هيئة تنظيمية شبابية تضغط لتحقيق إصلاح ديمقراطي خارج العملية الانتخابية الفلسطينية الرسمية. واستباقاً لانتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني، أطلقت "جد" قائمة برلمانية افتراضية تتألف من شباب فلسطينيين مترشحين على منصة بديلة، وتهدف "جد" -بتواجدها رقمياً وعلى أرض الواقع- إلى توفير بديل ديمقراطي "في ظل غياب نظام فلسطيني سياسي ديمقراطي شامل وتمثيلي"، وتعتبر "جد" القائمة شكلاً من أشكال الاعتراض على قوانين الانتخاب المقيدة، وممارسة للكيفية التي ينبغي أن تكون عليها الديمقراطية والمشاركة السياسية.
أصدرت "جد" بياناً رداً على تأجيل انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني، مؤكدة على مضيها في تقديم قائمتها البرلمانية الافتراضية وفي الانتخابات الافتراضية. وأدان البيان افتقاد القيادة الفلسطينية للشفافية والمشاورة العامة، مؤكداً على أن الانتخابات وفّرت فرصة للحشد الشعبي بعد 15 عاماً من تهميش الشعب سياسياً. وأضاف البيان أن قرار عباس الأحادي لتأجيل الانتخابات، قد حرم الشعب من حقه الأساسي في التمثيل الديمقراطي، وعمّق الفجوة المالية بين الأحزاب التقليدية والجديدة. وقد توقع سالم براهمة -أحد أعضاء مجموعة "جد"- خلال المقابلة التي أُجريت معه في 3 أيار/مايو 2021، أن القائمة الافتراضية ستصبح العملية السياسية الوحيدة في الدولة إذا أُجّلت الانتخابات. وأوضح أنه رغم عدم مشاركة "جد" في الانتخابات الرسمية، إلا أنهم لا يشجعون الشعب على مقاطعتها، مؤكداً على عدم وقوف "جد" في طريق المشاركة السياسية، ولكنها تقدم فكرة بديلة تعيد تعريف النظام المعيب من الأساس وتغيره.
تعمل القائمة الافتراضية على إنشاء بنية تحتية بديلة وشاملة تعمل على انتزاع الشرعية من النظام السياسي المعيب، وتتحدى الوضع الراهن من خلال دمج المرونة العمرية والمالية والجغرافية الأوسع نطاقاً. ويعتبر "جدّ" أن الوديعة باهظة الثمن التي يتطلبها الترشح لعضوية المجلس التشريعي الفلسطيني هي أحد الأسباب الرئيسة وراء إنشاء قائمته البرلمانية الافتراضية. وعلى هذا النحو، يعتمد "جد" على التمويل الذاتي داخلياً، دون دعم من مجموعات خارجية؛ ويوفر أيضاً مساحة للأعمار الأصغر من جميع أنحاء فلسطين للمشاركة والمنافسة؛ إذ تمكن الفلسطينيون الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و45 عاماً من الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية من تقديم ترشيحاتهم عبر الإنترنت بحلول نهاية نيسان/أبريل. ومن بين 58 ترشيحاً، كانت الأغلبية من غزة، واستقر أعضاء "جد" على انتخاب 18 مرشحاً في النهاية؛ محافظين على نسبة متساوية بين الذكور والإناث، مع تمثيل خلفيات متنوعة من حيث المواقع الجغرافية والمهن والخلفيات الاجتماعية والطبقات الدنيا والمهمشة. فالطبيعة الجماعية والتشاركية لهذه الحركات تقدم بدائل ديمقراطية تقدمية للأحزاب التقليدية.
لقطة مأخوذة من موقع: https://tajdeed.ps
لكن رغم الجهود المبذولة لزيادة الوعي والمشاركة، صرح سالم براهمة لـ"مبادرة الإصلاح العربي" أن اللامبالاة السياسية لدى الشباب لا تزال أحد أكبر التحديات التي يواجهونها، ووصف الإحصائية التي تقول إن هناك إجمالي 2.6 مليون ناخب مسجل في نهاية عملية التسجيل بأنها إحصائية مضللة، موضحاً أن تسجيل الناخبين إلزامي لجميع طلاب المدارس الثانوية. وبحسب براهمة، فإن أرقام التسجيل لا تدل على مستويات المشاركة السياسية للشباب، لا سيما في ظل غياب الوعي بكيفية سلب القوانين الانتخابية حق الانتخاب من الشباب وكيف تخدم مصالح الحزبين الكبيرين: فتح وحماس. ويوضح الرسم البياني رقم 1 أن هذه الأرقام تتزايد باطراد منذ عام 2007، وهي زيادة تعزى إلى التسجيل الإلزامي في المدارس الثانوية، ويوضح الرسم البياني رقم 2، بالمثل، أن ديموغرافية الشباب لم تشهد زيادة في الاهتمام بعد الإعلان عن الانتخابات هذا العام.
يمكن أن تُعزى هذه اللامبالاة السياسية جزئياً إلى ما يسميه كثيرون بالشبكات الراسخة من المحسوبية والفساد، التي تشجع الشباب على الانضمام إلى حزب تقليدي معين مقابل مزايا مالية. ويوضح براهمة أنه مع الارتفاع الضخم في معدلات البطالة وتدمير فيروس كوفيد-19 للاقتصاد الفلسطيني المحطم، صار الشغل الشاغل للشباب هو البحث عن الضروريات الأساسية والتركيز على البقاء على قيد الحياة.
الرسم البياني 1 – إجمالي أرقام تسجيل الناخبين في فلسطين
* البيانات مستمدة من لجنة الانتخابات المركزية.
––
الرسم البياني 2 – نسبة الناخبين المؤهلين من الشباب (18-40)
* البيانات مستمدة من لجنة الانتخابات المركزية.
تتفق إيناس عبد الرازق، من الهيئة الفلسطينية للدبلوماسية العامة، مع براهمة على غياب التثقيف السياسي، والحاجة إلى إعادة صياغة منهجية. وتقول إيناس إن شريحة كبيرة من المجتمع تعتقد أن السياسة كلها شر، وتفضل الخروج إلى الشوارع ومقاومة الاحتلال في عصيان مدني بدلاً من تشكيل ردود مختلفة. لكن إيناس تقر بأن العدوان الإسرائيلي الأخير الذي استمر 11 يوماً كسر حاجز الخوف، وأدى إلى تصاعد في التعبئة والمواجهة مع إسرائيل. وتقول إيناس إنه في كل من غزة و42% من الضفة الغربية [الواقعة تحت سيطرة إسرائيل]، هناك شهية للتغيير، في حين أن مستويات هذه الرغبة والاهتمام بالتغيير أدنى في القدس، بسبب السلطات الفلسطينية والهيمنة الإسرائيلية. وتضيف أن الاحتلال نجح في تمزيق الشعب جغرافياً وسياسياً واجتماعياً، ومن ثم تمكن من زرع الشكوك واللامبالاة السياسية. وتوضح إيناس أنه على الرغم من الاختلافات بين الجمهور، إلا أن القاسم المشترك بينهم هو ضجرهم من الفصائل القديمة، حماس وفتح، وحتى اليسار أيضاً. وتستمد الأحزاب التقليدية قوتها من المجلس التشريعي الفلسطيني، وبذلك تستمر في استغلال القوانين لصالحها، مما يجعل النموذج الديمقراطي القائم عديم الجدوى. وتشير إيناس إلى أن المنظمات الشعبية ترفض الآن هذا النموذج وتطالب بالتجديد الديمقراطي، لا سيما في ظل غياب المساحات الثقافية والإعلامية لتنمية المعرفة السياسية. وتكرر أن "جد" يؤمن بالتمثيل، لكن ليس من خلال المجلس التشريعي الفلسطيني.
ومع أن يوم التصويت يمكن وصفه -على نحوٍ غامض- بأنه ديمقراطي، وذلك في ظل وجود المراقبين الدوليين والدعم اللوجستي، يتفق أعضاء "جد" على أن يوم الانتخابات ليس مقياساً للديمقراطية، وأن النظام بأكمله يتطلب تجديداً ديمقراطياً. ويتبنى "جد" وسائل تقدمية مختلفة للمشاركة في انتخابات ديمقراطية، لا سيما من خلال الاعتماد بشكل كبير على وسائل التواصل الاجتماعي والحملات الرقمية. ويهدفون إلى إشراك جميع المجتمعات الفلسطينية المحرومة من التصويت والترشح، إذ يشير براهمة إلى أن "جد" يعتبر الشتات جزءاً من ناخبيه الأساسيين، ويأمل في إشراكهم في الانتخابات المستقبلية. كما أكد أعضاء "جد" الذين قابلناهم على أهمية إعادة بناء الفضاء السياسي العام دون منح الشرعية للوجوه نفسها.
القاسم المشترك بين الحملات الافتراضية
صحيحٌ أن المساحات الافتراضية قدمت بديلاً مناسباً للمساحات المدنية المادية المحدودة، إلا أن الشباب الفلسطيني الذي يحاول تنظيم صفوفه داخل النظام وخارجه لا يزال مقيداً بسبب القمع المستمر الذي تمارسه السلطات. فقد انتقدت تقارير منظمة العفو الدولية السلطات في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة لانتهاكها الحق في حرية التعبير عن طريق الاحتجاز التعسفي للأفراد لمجرد مشاركة آرائهم سلمياً على وسائل التواصل الاجتماعي. وتؤكد ماجدة السقا: "يجب أن يكونوا أحراراً في الحملات، لكنهم تحت نظر حماس في غزة وفتح في رام الله؛ وفي اللحظة التي يدخلون فيها غزة، سيتعرضون للاعتقال". وتعليقاً على الفصل الجغرافي، أوضحت ماجدة أن الشباب غير قادرين على القيام بحملات من مدينة إلى أخرى دون مواجهة الحواجز الجغرافية وحملات القمع ضد وسائل التواصل الاجتماعي التي تمارسها السلطات، في حين أن "الأطراف الأخرى" لديها نطاق اجتماعي ومالي كبير بما يكفي لتجاوز هذه الحواجز.
عند استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، يمكن أن تتعرض جميع الأطراف بالتساوي لتقييد الوصول بسبب الرقابة السياسية ومشاكل الاتصال. لكن شركات وسائل التواصل الاجتماعي، التي تفرض الرقابة على المؤتمرات وتقمع المقاومة والتعبئة، تعرقل قدرة الشباب على مشاركة مقالاتهم وآرائهم وتمنعهم من التنظيم المناسب. وعلى هذا النحو، لا تمثل هذه المنصات دائماً أكثر المساحات الثورية أماناً، بل يمكن أن تكون متواطئة في هذا الإسكات. ليس هذا فحسب، بل إن الوصول لهذه الوسائل من البداية غير متاح من الأساس بشكل دائم، إذ إن مسألة الوصول إلى الإنترنت والكهرباء بشكل مستمر في غزة تطرح قضية المساواة أمام أي انتخابات مستقبلية. إن الوصول المقيد أو المحدود إلى وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت يمنح الأحزاب التقليدية ميزة إضافية في الحملات الانتخابية. وفي مواجهة هذه القيود، يعد التواجد المستمر على الإنترنت وصفحات وسائل التواصل الاجتماعي النشطة دليلاً ليس فقط على قوة الأحزاب الشبابية الناشئة والبدائل، مثل "جد"، بل يدل أيضاً على الرغبة المتزايدة بين الشباب للمشاركة في القضايا السياسية.
الخلاصة
بالنسبة للشباب في فلسطين، فإن الطريق إلى الأمام مليئة بالعراقيل، والطريق إلى المشاركة السياسية الكاملة طويلة. بالاعتماد على التحليل السالف، نقترح عدة طرق يمكن من خلالها للشباب الفلسطيني أن يجعلوا أصواتهم مسموعة بشكل أكثر وضوحاً في العمليات السياسية الوطنية.
ولذا يجب على المجتمع الدولي:
- الضغط على إسرائيل للالتزام بالقوانين الدولية، ومحاسبتها على عدم قيامها بذلك. في سياق هذه الورقة، يمكن أن يكون ذلك مما يتعلق بمراكز الاقتراع في القدس، وعدم قمع النشاط والحركات المدنية، وضمان حصول سكان غزة على الضروريات الكافية من خلال رفع الحصار.
- ربط التمويل والتبرعات بممارسات المشاركة الهادفة. إذ كثيراً ما تثار مسألة الحصص وتتلقى مراجعات متباينة للغاية. ففي حين أن بعض من قابلناهم يقترحون الضغط من أجل حصة للشباب، أشار آخرون إلى أن الحصص المماثلة للطلاب في المجلس الوطني الفلسطيني أو للنساء في المجلس التشريعي لم تكن سوى عروضاً رمزية للديمقراطية ولم تمكّن هذه المجموعات من الضغط من أجل الإصلاح. في الواقع، قد تستخدم الأحزاب في كثير من الأحيان نظام المحسوبية سالف الذكر لتقديم مظهر زائف متقاطع، مع الحفاظ على الشبكات الفاسدة. وبقبولهم هذا، يضفي الفاعلون الدوليون -عن غير قصد- الشرعية على النظام الحالي.
- الانخراط مع المبادرات الشعبية الخارجة عن النظام السياسي الحالي من أجل تجديد الاتجاهات السياسية الحالية.
- دعم المبادرات التي تخلق وتعزز مساحات سياسية شاملة وديمقراطية متاحة لجميع الفلسطينيين الراغبين في المشاركة في العمليات السياسية على نطاق أوسع.
يمكن للناخبين الفلسطينيين المؤهلين:
- الحصول على معلومات حول الأحزاب المستقلة والأحزاب التي تتوافق بشكل كبير مع وجهات نظرهم.
- التعرف على الآليات التي تستعملها القوانين الحالية لمواصلة تهميش من ليسوا في السلطة بالفعل.
يمكن للشباب في فلسطين:
- تأكيد حضورهم على وسائل التواصل الاجتماعي بما يتلاءم مع السياق الفلسطيني والجمهور الإقليمي/الدولي، وذلك من أجل:
أ. زيادة وتعزيز مشاركة الفلسطينيين في الشتات وتزويدهم بمنصات لجعل أصواتهم مسموعة.
ب. إشراك وتوعية المجتمع الدولي حول الصعوبات التي يواجهها الشباب الفلسطيني الذي يترشح للمناصب السياسية.
ج. فضح الرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي وعمليات القمع والإسكات، والإبلاغ عنها، وذلك من خلال تعزيز الحقوق الرقمية الفلسطينية وتقديم التقارير إلى منظمات مثل "حملة" التي توثق هذه الانتهاكات وتتواصل مباشرة مع منصات مثل فيسبوك وإنستغرام؛ وهذا من شأنه أن يعزز للأحزاب الشبابية التي تأمل في الانخراط في الحياة السياسية الفلسطينية مساحةً افتراضية أكثرَ أماناً وانفتاحاً على الحوار.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.