مقدمة
تهدف هذه الورقة إلى تقديم تحليل نقدي لمراحل سياسة مكافحة المخدرات في تونس. ترصد الورقة، في جزئها الأوّل، التحولات التي شهدتها هذه السياسة وكيف أنّ آثارها أنتجت مشكلة اجتماعية دفعت الفاعلين وصنّاع القرار إلى التعامل معها كقضية عامة تستوجب التدخل. ثم تُركِّز، في جزءٍ ثانٍ، على تأثير سياسة التجريم في تفاقم ظاهرة تعاطي المخدرات والإدمان، وتعطيل التعامل معها كمشكلة صحة عامة. ثم تتوقف ثالثًا عند أثر هذا الوضع في معالجة الظاهرة وضمان العدالة في التعامل القضائي والطبي معها. وقد اعتمدت الدراسة على منهجية الملاحظة التشاركية. شملت هذه المنهجية ملاحظات ميدانية في مركز إعادة التأهيل في تونس وفي الجمعيات المختصة في الإدمان، فضلا عن حضور ورشات ولقاءات حول الموضوع. كما استندت الدراسة إلى مقابلات أُجريت مع مختلف الفاعلين لاستكمال البحث الميداني.
سياسة تنتج مشكلة اجتماعية
في العشرين من كانون الثاني/يناير2021، حُكم على ثلاثة شباب بالسجن لمدة 30 سنة بتهمة استهلاك القنب الهندي (الزطلة ) داخل ملعب رياضي، وذلك من قِبَل المحكمة الابتدائية بالكاف. جاء هذا الحكم استنادًا إلى الفصل 11 من القانون عدد 52 المؤرخ في 18 كانون الثاني/يناير 1992 الذي ينص على تطبيق أقصى العقوبات على من يرتكب هذه الجريمة في الأماكن العامة أو الملاعب الرياضية. فيما بعد خففت محكمة الاستئناف بالكاف العقوبة إلى سنة سجن .
رغم أن هذه الحادثة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، ورغم محاكمة آلاف الشباب اليوم بسبب استهلاك المخدرات في تونس، فقد اخترنا أن نبدأ بسرد حادثة الشباب الثلاثة. يعود ذلك إلى اعتبار هذه الحادثة فصلًا زمنيًا بين لحظتين أساسيتين في التحولات التي شهدتها سياسة مكافحة المخدرات في البلاد. يتجسد هذا التحول في صراع بين مقاربتين: مقاربة عقابية فرضها النظام السياسي في مرحلتين زمنيتين منفصلتين (التسعينات ثم ما بعد 2021)، ومقاربة قائمة على الصحة العامة حاول الفاعلون الاجتماعيون بلورتها بين عامي 2014 و2021. يهدف هذا الجزء من الورقة إلى تتبّع المشكلة كما طرحها هؤلاء الفاعلون. ويتطلب ذلك فهم سياقها الزمني والاجتماعي، فضلا عن تحليل العوامل التي قد تجعل خطاباتهم فعّالة أو غير مجدية. لا تعتمد المشكلات الاجتماعية على تناسبٍ موضوعيٍّ بين خطورة الوضع والاهتمام الاجتماعي الموجه لها؛ مما يعني أنها قد تتمحور حول أي قضية ينجح الفاعلون الاجتماعيون في طرحها. لكن ظهور هذه المشكلات لا يحدث في أي مكان أو أي وقت بشكلٍ عشوائي. وفقًا للبنائية السياقية يُعتبر السياق عاملًا حاسمًا في بناء المشكلة الاجتماعية.
عقوبات صارمة ضد ظاهرة شبه معدومة
لم يشهد الإطار التشريعي المتعلق بتعاطي المخدرات في تونس تعديلا جوهريًّا حتى التسعينيات. ولم تشهد تلك الفترة أي تغيّرٍ جوهريٍّ في ظاهرة التعاطي يبرّر التحول في السياسات المعتمدة. ومع ذلك فقد انتهجت تونس سياسةً جديدةً لمكافحة المخدرات في عام 1992. يعود هذا التغيير إلى سياق سياسي خاص تزامن مع إدانة شقيق الرئيس زين العابدين بن علي في قضية تهريب مخدرات عُرفت إعلاميًا باسم "Couscous Connection" . أثارت هذه القضية ردود فعل دولية وضغوطًا على تونس، التي واجهت انتقادات حادة بشأن ضعف جهودها في مكافحة المخدرات؛ مما دفع زين العابدين بن علي إلى تبنّي سياسة أشد صرامة في هذا المجال.
في هذا السياق السياسي الحرج، وفي ظل مناخ قمعي سبق الثورة، صدر القانون رقم 52 المتعلق بالمخدرات في 8 أيار/مايو 1992. فرض هذا القانون تغييرًا جذريًا على التشريعات. وقد شمل جميع الأنشطة المرتبطة بالمخدرات، حيث نصّ القانون على عقوبة إلزامية بالسجن مدتها سنة لكل من يدان بحيازة مواد مخدرة و5 سنوات لمن يعاود ذات الجريمة، وتصل الأحكام إلى حد 10 أعوام سجن لكل من يستغل أي مكان لتعاطي المخدرات أو ترويجها.
ورغم الطبيعة القمعية لهذا القانون، لم تنجح السياسة المعتمدة في الحد من ظاهرة التعاطي التي أخذت تنتشر في تونس. كشفت الإحصائيات الرسمية الصادرة عن وزارة الداخلية عن ارتفاع ملحوظ في عدد القضايا المتعلقة باستهلاك المخدرات. فعلى سبيل المثال صرَّح وزير الداخلية بارتفاع عدد المحاكمات من 732 قضية سنة 2000 إلى 5744 قضية بحلول سنة 2016 . عكس هذا التزايد المستمر في عدد المتابعين قضائيًا محدودية القانون في معالجة الظاهرة. كما خلّف القانون رقم 52 آثارًا سلبية على فئة الشباب، حيث ساهم في تدمير مستقبل العديد منهم. يقول صالح، وهو معلم قرين بأحد الجمعيات التي تهتم بالتوعية والوقاية من الإدمان: " لقد تعرضتُ للتعذيب تحت القانون 52 بسبب استعمال المخدرات. كنت أحمل ما يكفيني لاستعمالي الشخصي لمدة أسبوع، وعوقبت بسبب الاتّجار" .
بناء المشكلة الاجتماعية، القانون 52 غير ناجع ووجب تغييره
لا تكتسب الظواهر الاجتماعية الاهتمام بشكل تلقائي. إن تشخيص ظاهرة اجتماعية كمشكلة اجتماعية يتطلب وجود "مقاول مظالم" يضطلع بدور محوري في إبرازها وتعريفها. يُعرّف مقاول المظالم بأنه شخص مجموعة أو جهة تُعرّف مشكلة اجتماعية وتحوّلها إلى قضية عامة تستوجب الحل .
إن أحد التفسيرات الممكنة للسياق الزمني لتبلور هذه المشكلة الاجتماعية هو ارتباط سياسة مكافحة المخدرات بالنظام القمعي في تونس ما قبل الثورة . فقد ارتبطت سياسة مكافحة المخدرات في تونس ارتباطًا وثيقًا بنظام بن علي، وهو ما جعل التونسيين يرفضون أي بقايا لهذا النظام الذي استخدم القمع البوليسي كأداة لترسيخ نظامه، أو هذا ما عبر عنه مقاولو المظالم في أكثر من مرة وما استعملوه من حجج في بناء سردية مظلوميته.
تنوّعت خلفيات مقاولي المظالم ضد قانون تجريم تعاطي المخدرات؛ مما جعلها حركة متعددة الأصوات والاتجاهات. وقد شملت هذه الخلفيات أطباءً ومحامين وصحافيين وصحافيين استقصائيين، فضلا عن مراكز بحوث ومؤسسات المجتمع المدني.
على الرغم من توحيدهم لتعريف المشكلة الاجتماعية، حيث اعتبروا القانون 52 قانونًا قمعيًا وجائرًا وغير ناجع في مكافحة استعمال المخدرات، إلا أن كل مجموعة من هؤلاء الفاعلين قامت بتأطير وتفسير المشكلة بطرق مختلفة. لقد تناسبت هذه الطرق مع خلفياتهم الأكاديمية والعمرية ومع المؤسسات التي ينشطون ضمنها. وهذا ساهم في تعزيز التأطير وحشد الدعم حول المشكلة.
لقد ركّز الإطار الطبي والإطار الشبه الطبي على تأطير المشكلة كمسألة صحة عامة ذات تداعيات اجتماعية وصحية. بيّنوا كيف تعيق قوانين تجريم المخدرات وصول المدمنين إلى الخدمات الطبية المتخصصة؛ مما يؤدي إلى تفاقم الاستهلاك وارتفاع مخاطر الأمراض المعدية، مثل الأمراض المنقولة جنسيًا والجرثومية. كما ندّدوا بالإطار القانوني الذي يعيق عملهم ويعرّضهم للمساءلة القضائية. وتجدُر الإشارة إلى أنّ المجتمع المدني لعب دورًا هامًا في تقديم تفسيرات متوازية، حيث اضطلع بدور "مختبرات التفكير" في ظل غياب مؤسسات متجذرة وفعالة تربط المجال السياسي بالمنظومة المؤسساتية في تونس بعد الثورة.
في هذا السياق، برز دور الجمعية التونسية لعلم الإدمان STADD - Société Tunisienne D'Addictologie التي تأسست عام 2015 كجمعية علمية تضم المهنيين المعنيين بموضوع الإدمان. ساهمت هذه الجمعية، بالتعاون مع جمعيات أخرى تهتم بالوقاية من الإدمان والأمراض الجرثومية والمنقولة جنسيًا، في تقديم تفسير علمي للقضية من منظور الصحة العام. برر مختصو الصحة مسعاهم بأن اضطرابات تعاطي المواد المخدرة تُعد اضطرابات مزمنة؛ حيث يُعتبر الانتكاس قاعدة وليس استثناءً . في حين ينص القانون 52 على أن للشخص الذي يتعاطى المخدرات الحق في طلب العلاج مرة واحدة فقط خلال حياته، بشرط أن يتقدم بمحض إرادته.
في هذا السياق، صرح الدكتور نبيل بن صالح، طبيب مختص في الإدمان ورئيس الجمعية التونسية لعلاج الإدمان قائلا: "يجد الطبيب نفسه مجبرًا على العمل خارج الإطار القانوني عند معالجة مريض يعاني من اضطراب الإدمان" . يشترط القانون عدد 54 لسنة 1969 المؤرخ في 26 تمّوز/يوليو 1969، وفق الفصل 119، الحصول على موافقة لجنة الإدمان على المخدرات قبل استقبال أي حالة لا تستوفي الشروط القانونية ، ما يتعارض مع مبدأ السر المهني. أدت هذه المواد القانونية إلى تعقيد الوضع على مستويين. فمن جهة واجه الأطباء معضلة بين تطبيق القانون واحترام السر المهني. ومن جهة أخرى أثَّرت هذه الشروط على علاقة المرضى بالأطباء. وقد علق الدكتور نبيل بن صالح قائلًا: "إلزام الطبيب بإبلاغ لجنة الإدمان يجعل المريض يفقد الثقة بالطبيب قبل أن يبدأ العلاج". وأضاف: "الحق في العلاج لمرة واحدة فقط يدفع المدمنين إلى تأخير طلب العلاج خوفًا من فقدان فرصتهم الوحيدة. لكن هذا التأخير لا يؤدي إلا إلى انغماسهم أكثر في الإدمان".
أما المحامون فقد ركّزوا على عدم نجاعة السياسة القائمة على الحد من تعاطي المخدرات، مستندين إلى إحصائيات تُظهر ارتفاع معدلات العودة إلى السجن بسبب جنحة الاستهلاك. وقد لعبت منظمة محامون بلا حدود Avocats Sans Frontièreمن بين جمعيات حقوقية أخرى دورًا محوريًا في تسليط الضوء على مخاطر تجريم استعمال المخدرات في تونس. نشرت المنظمة إحصائيات تكشف عن حجم المشكلة داخل السجون التونسية، مركزةً على عدم جدوى هذا القانون. أظهرت الإحصائيات أن 56% من السجناء العائدين متورطون في قضايا تتعلق باستهلاك المخدرات، ما يعكس فشل السياسات العقابية في الحد من تكرار هذه الجرائم . كشفت هذه الأرقام عن ثغرات واضحة في النظام العقابي، وأثارت تساؤلات حول مدى فعالية هذه السياسات في تحقيق أهدافها المعلنة.
لعب الصحافيون الاستقصائيون دورًا مهمًا في تتبّع قضايا الشباب الموقوفين بموجب القانون 52، حيث أبرزوا الآثار السلبية التي خلفتها هذه الاعتقالات على حياتهم ومستقبلهم. سلطت الصحافة الاستقصائية الضوء على حكايات العديد من الشباب الذين انتهى بهم المطاف في السجون بسبب تجربة واحدة في تعاطي المخدرات. وقد ركزت هذه التقارير على القصص الشخصية والتبعات الاجتماعية التي خلفتها هذه السياسات. كما نجحت الصحافة الاستقصائية في تقديم صورة مؤثرة عن حجم الضرر الذي يلحقه هذا القانون بالشباب التونسي. فعلى سبيل المثال وثّقت منظمات مثل منظمة مراقبة حقوق الانسان Human Rights Watch انتهاكات حقوق الإنسان التي يتعرض لها السجناء داخل السجون التونسية . أضاف هذا التوثيق بعدًا حقوقيًا إلى القضية؛ مما زاد من ثقل المطالبات بالتغيير ودعمها بشكل أكبر.
ساهمت حملات عديدة في بناء زخم فعّال حول هذه القضية. في عام 2014، أطلقتْ حملةُ #سجين 52 رسالةً مفتوحةً إلى رئيس الحكومة مهدي جمعة تحت شعار "كفانا نفاقًا". أكدت الرسالة أن "الزطلة" جزء من الموروث الثقافي، ولم يُطرح كإشكال إلا بعد دخول القانون 52 حيز التنفيذ. اعتبرت الحملة أن هذا القانون أداة لقمع الحريات وتعميق استغلال الشرطة للفئات المهمّشة، مطالبةً الحكومة بالتحرك. دعت أيضًا إلى تخفيف العقوبات وإطلاق حوار وطني لإصلاح القانون 52، معتبرة أن تزايد استهلاك المخدرات يعكس فشل القانون في مكافحة هذه الظاهرة . كانت هذه المبادرة من أولى محاولات تحويل القضية إلى شأن عام بهدف جذب دعم سياسي.
ظهرت أيضًا حملات عديدة على فيسبوك، مثل حملة “On va légaliser pour vous#”، التي عرّفت نفسها كمجتمع من المواطنين وحركة وطنية موحدة ضد سياسات الحظر القمعية، مطالبةً بإضفاء الشرعية على القنب وإلغاء القانون 52. رفع المتظاهرون شعارات متنوعة خلال هذه المظاهرات، مثل "كسكسي 52"، في إشارة إلى السياق السياسي الذي أُقرّ فيه هذا القانون وارتباطه بنظام بن علي. كما استخدموا شعار "تحرير الكيف" للدعوة الصريحة إلى إسقاط القانون وتحرير استهلاك القنب الهندي. في نفس هذا الإطار أُطْلِق وسم #القانون_52_يصنع_المجرمين بهدف خلق حالة من التعاطف المجتمعي مع الشباب المتضررين من هذا القانون. نجحت هذه الحملات في تحويل النقاش من إطار أخلاقي يتعلق بقبول أو رفض المجتمع للمخدرات، إلى قضيةٍ اجتماعيةٍ تتمحور حول حماية الشباب وتأمين مستقبلهم. جاء هذا التحول في سياق اعتبار هذه الفئة العنصر الأهم في إعادة بناء النظام الجديد في تونس بعد الثورة.
أسهم التنوع في الخلفيات الأكاديمية والفئات العمرية لمعارضي قانون تجريم المخدرات بشكل كبير في جعل هذه القضية تتصدر قائمة الظواهر الاجتماعية التي كانت تشغل الرأي العام في تونس في ذلك الوقت، مما أكسبها اهتمامًا شعبيًا واسعًا. كما أدى هذا التنوع إلى تعدد التفسيرات التي اعتمدتها كل فئة للتعبير عن المشكلة من منظورها الخاص. رغم اختلاف الأطر والتفسيرات التي قدمتها الفئات المختلفة، بقي التعريف الأساسي للمشكلة موحدًا، وكذا البدائل المطروحة. فقد أجمعتْ جميع هذه الأطراف على ضرورة تغيير القانون 52 الصادر عام 1992، معتبرةً أن تعديل هذا القانون هو خطوة ضرورية لحل هذه المشكلة الاجتماعيّة بفعالية.
لا يعتمد نجاح الدفاع عن أي قضية على الجهود الفردية فقط، بل يتطلب تعاونًا بين شبكات مختلفة من الفاعلين. فكلما زاد عدد المتعاونين في حمل قضية ما، ازدادت فرص نجاحها وانتشارها في المجالين العام والسياسي . يعكس هذا المفهوم أهمية وجود إطار سردي قوي لجذب انتباه الجمهور وصنّاع القرار، بما يضمن إدراج القضية في النقاشات العامة وصياغة سياسات حكومية فعالة.
القضية العامة: استعمال المخدرات بين الفلسفة العقابية ومقاربة الصحة العامة
اخترنا في هذا الجزء أن نعتمد على منهجية أو إطار التدفقات المتعددة ) لأنه يأخذ بعين الاعتبار تأثير الفاعلين غير الحكوميين (مثل المجتمع المدني والإعلام ورواد السياسات) في عمليات صنع القرار. يُعد هذا الإطار مفيدًا لفهم كيفية ظهور السياسات من خلال جهود المناصرة وحملات الضغط.
إن هدف مقاولي المظالم واضح، وهو التأثير على صناع القرار لإدراج المشكلة المطروحة ضمن الأجندة السياسية. تسمى هذه العملية تحويل المشكلة الاجتماعية إلى قضية عامة، وهو تحدٍ آخر مطروحٌ على مقاولي المظالم لإحداث التغيير الذي يرجونه. يتطلب النجاح في هذا التحدي تقاطع بين ثلاث تيارات في الوقت ذاته: الاعتراف بالمشكلة ثم توفر حلول ممكنة، وأخيرًا وجود مناخ سياسي ملائم. يعرف هذا التقاطع بمصطلح "نافذة السياسة" وهي عادة ما تكون محدودة زمنيًا وتكون فيها الظروف ملائمة لاعتماد سياسة عامة جديدة. وبمجرد أن تتلاقى هذه التيارات الثلاث (تيار المشكلات وتيار الحلول وتيار التفاوض السياسي)، يمكن لصانعي القرار استغلالها للدفع نحو تبني سياسة جديدة. وإذا لم تُستغلّ الفرصة فقد تُغلَق النافذة، مما يتطلب انتظار تقاطع جديد بين التيارات لفتح نافذة جديدة في المستقبل.
التعديل الجزئي كنافذة سياسية ثانية
ما إن يتحول الفاعل من مقاول مظالم إلى مقاول سياسات، فإن المشكلة الاجتماعية تتحوّل إلى قضية عامة، لتبدأ هنا معركة أخرى تضطلع بتعريف القضية العامة وطرح بدائل سياسية لها. في إطار العمل متعدد التدفقات، يُصبح الناشطون في تيار السياسات الفاعلين الأكثر أهمية لفهم وضع الأجندة. يقوم دورهم على تطوير بدائل سياسية وربطها بالمشاكل حتى تقديمها لصناع القرار في اللحظة المناسبة. وإذا نجح مقاول السياسة، فستُدرج القضية ضمن الأجندة السياسية.
لقد نجح مقاولو السياسات عام 2015 في إدراج مشروع هذا القانون ضمن الأجندة السياسية، إذ إن الحكومة قد وافقت على مشروع قانون عدد 79 لسنة tin2015 المتعلق بالمخدرات المقدم من وزارة العدل . يشمل هذا القانون مقاربة شاملة تتضمن الجوانب الوقائية والعلاجية والزجرية مع تشديد العقوبة على المروجين. لكن مناقشة مشروع القانون عدد 79 صلب لجنة التشريع العام قد أفرزت صعوبات عدة؛ ما عطل تمريره إلى الجلسة العامة. انقسم أعضاء اللجنة بين معارضين ومؤيدين للمشكل. وإن اتفق البعض على أن القانون 52 هو قانون جزري وجب تغييره، إلا أنهم رفضوا الحل المقترح عبر هذا القانون والذي ينص على إزالة التجريم تماما عن مستعملي المواد المخدرة معتبرين أنّها تشجيع ضمني لاستهلاك المخدرات . وهنا أغلقت النافذة الأولى ووجب إذا انتظار تقاطع جديد لفتح نافذة السياسة الثانية.
هنا يأتي دور مقاول السياسات، فمرة أخرى قد يحاول مقاول السياسة تسويق نفس الحزمة في وقت لاحق أو في مكان آخر، أو قد يحاول ربط السياسة بمشكلة مختلف، وانتظار تقاطع جديد لفتح نافذة سياسية جديدة .
وبالفعل في عام 2017 تلاقت التيارات الثلاثة لتخلق نافذة سياسية جديدة:
- تيار المشكلات: سعى مقاولو المشكلات إلى إعادة تأطير القضية من منظور صحي واجتماعي. إذ وقَّعَت دعوة مهنيي الصحة بالتعاون مع الجمعية التونسية لعلم الإدمان STADD - Société Tunisienne D'Addictologie لتنظيم ثلاثة حصص تفسيرية مع أعضاء من مجلس النواب، مثلت هذه الجلسات فرصة لعرض المشكل من منظور صحي وعلمي؛ لتبيين أن السياسة العقابية غير ناجعة لمكافحة استعمال المخدرات وإدمانها. كما لعبت المعرفة البيروقراطية دورا كبيرا في تأطير القضية العامة، إذ عرض الأطباء تجارب ومؤشرات تخص تجربتهم اليومية مع المرضى وكيف يخل هذا القانون بممارستهم الطبية على أكمل وجه. في هذا السياق، لعبت الاجتماعات والحوارات مع الأطباء والخبراء في مجال الصحة العامة دورًا حيويًا في إعادة صياغة المشكلة وتقديمها كقضية صحة عامة تحتاج إلى تدخلات علاجية ووقائية بدلًا من العقوبات السالبة للحرية.
- تيار التفاوض السياسي: في العشرين من آذار/ مارس 2017 تطرق اجتماع مجلس الأمن القومي، بإشراف رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي، إلى موضوع إجراءات التتبّع في جرائم استهلاك المخدرات وتمت المصادقة على مقترحين اثنين، يتعلق الأول بمراجعة مقاييس العفو الخاص، والثاني بمشروع تنقيح القانون عدد 52 لسنة 1992 تنقيحا جزئيا دقيقا وعرضه بصفة عاجلةٍ على مجلس نواب الشعب .
- تيار الحلول: أعاد مقاولو السياسات صياغة حزم حلول جديدة تتمثل في نسخة جديدة من مشروع القانون تقدمت بها الحكومة مرة أخرى لعرضها على الجلسة العامة، فضلا عن مقترح قانون من قِبَل كتلة الحرة لحركة مشروع تونس ، والذي يقترح حلا وسطا بين العقاب والعلاج.
وفي 25 نيسان / أبريل2017، صادق مجلس نواب الشعب، بموافقة 133 نائبا ومعارضة اثنين واحتفاظ 5 نواب بأصواتهم، على مشروع القانون عدد 42 لسنة 2017 المتعلق بتنقيح القانون عدد 52 لسنة 1992، بتعديل بسيط .
خلال هذه الجلسة، تنوعت آراء النواب بشأن مشروع القانون، حيث عبر البعض عن ترحيبهم به، في حين اعتبره آخرون "حلًا ترقيعيًا" يعكس ارتباك الحكومة وغياب رؤية واضحة. انتقد نواب المعارضة المشروع واعتبروه فاشلًا في تقديم سياسة جزائية واضحة وحقيقية للوقاية من المخدرات. رأى البعض الآخر أن مقترح التعديل يعطي انطباعًا بالتشجيع على استهلاك المخدرات. كما انقسم نواب الأغلبية الحاكمة بدورهم، بين من اعتبره خطوة أساسية وكافية ومن نَوّه بمشروع القانون بوصفِه «خطوة أولى وحلا وسطا إلى حين استكمال النظر في القانون الأصلي».
بمقتضى هذا التعديل أصبح التماس ظروف التخفيف لجريمة استعمال المخدرات أمرًا ممكنا، إذ مكن هذا التنقيح القاضي من «إعمال ظروف التخفيف والأخذ بعين الاعتبار الحالات الخاصة للمبتدئين، من تلاميذ وطلبة وشباب، ممن زُلَّت بهم القدم لأول مرة واستهلكوا مواد مخدرة»، وذلك وفقًا لما ذكره وزير العدل، غازي الجريبي.
قبل المصادقة على مشروع القانون رُفِضَ مقترح تعديل وحيد تقدمت به مجموعة من النواب من أجل إضافة عبارة «ولو في صورة العود» في آخر الفصل، بعد أن رفضه 102 نائبا وتبناه 31، فيما احتفظ 5 نواب بأصواتهم عند التصويت على مقترح التعديل.
هل نجح هذا التعديل في إحداث تغيير حقيقي وتحويل الفلسفة العقابية إلى مقاربة قائمة على الصحة العامة كما دعا إليها مقاولو المشكلات ثم السياسات لاحقًا؟
إعادة إنتاج الفلسفة العقابية: عائق أمام التحول نحو سياسات قائمة على الصحة العامة
تتعارض الفلسفة العقابية ضرورة مع مقاربة استعمال المخدرات كمشكلة صحة عامة، بل وتعيق أي تغيير جذري يمكن أن يحسن السياسات الصحية ). أثبتت التجارب المقارنة فشل سياسات تجريم الاستعمال في معالجة مشكلة المخدرات . كما تُفاقِم هذه السياسات ظاهرة استعمال المخدرات وتمنع تبني سياسات صحية متماسكة. حيث يؤدي تجريم المستهلكين إلى تعميق الفجوة في الوصول إلى الرعاية الصحية؛ إذ يخشى المتعاطون من اللجوء إلى النظام الصحي خوفًا من الاعتقال، مما يضعف جهود الوقاية ويزيد من تهميشهم . وفي تونس يُعد القانون 52 مثالًا واضحًا على ذلك، إذ أدى إلى تعطيل تطوير البنية التحتية للمؤسسات الصحية المتخصصة في علاج الإدمان ).
تُعرَّف السياسة الصحية العامة بأنها مجموعةُ القوانين واللوائح والخطط والإجراءات المعتمدة لتحقيق أهداف محددة في مجال الصحة داخل المجتمع ). ويتطلب أي تغيير فعّال في السياسات الصحية العامة الالتزامَ بأربعة مبادئ أساسية ، سنحاول الآن أن ندرسها لنرى إذا ما كان التعديل الجزئي للقانون 52 يطابق هذه المبادئ أم أنّه يواصل تكريس الفلسفة العقابية ذاتها.
ينص المبدأ الأول على ضرورة أن تستند السياسات الصحية إلى الأدلة العلمية المتاحة. ففي تونس، ورغم اعتماد مقاولي المشكلات على حجج علمية وطبية في طرح قضية الإدمان، لم يعكس التعديل الجديد للقانون 52 هذه الحجج. تُعرّف الأبحاث الإدمان كمرض مزمن، حيث يُعد الانتكاس جزءًا طبيعيًا من مسار العلاج . ومع ذلك منح القانون المعدل متعاطي المخدرات فرصة علاج واحدة فقط، مما يعكس خللًا في فهم طبيعة الإدمان. إن رفض إضافة عبارة "ولو في صورة العود" من قبل النواب يؤكد أن التصويت لم يعتمد على الأدلة العلمية، بل خضع لتصور أخلاقي يُجرّم المستهلكين بدلًا من معالجتهم. إذ رغم التقدم الطبي في إعادة تعريف الإدمان كمرض مزمن، لم يتغير التصور النمطي للمستهلكين. يعكس هذا التوجه تناقضا داخليًا في النص التشريعي الذي يجمع بين نهجين متعارضين: العقاب من جهة والعلاج من جهة أخرى.
ينص المبدأ الثاني على أن السياسات الصحية يجب أن تعزز العدالة الصحية. تتحقق هذه العدالة من خلال ضمان فرص متساوية للوصول إلى أعلى مستويات الرعاية الممكنة. يتطلب ذلك معالجة العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تؤثر سلبًا على الفئات الهشة، مع تقييم العواقب غير المقصودة لكل سياسة جديدة. وفي تونس، تواجه الفئات الهشة صعوبات جغرافية ومالية تحول دون وصولها إلى مراكز العلاج المتخصصة. لا يوجد سوى مركز واحد لإعادة التأهيل يقع بالقرب من العاصمة، مما يُقصي عددًا كبيرًا من المستهلكين في الولايات الداخلية. وعلاوة على ذلك، تتركز مراكز التوصية والوقاية في المدن الكبرى، مما يزيد من حدة التفاوت في الوصول إلى الرعاية. وفي الوقت ذاته لا يتمتع المدمن بنظام تغطية صحية شامل رغم طبيعة مرضه المزمن. هذا النقص في التغطية الصحية يحد من قدرته على الاستفادة من خدمات العلاج الضرورية، مما يُسهم في تفاقم المشكلة ويُضعِف فاعلية السياسات الصحية المعتمدة. لم يأتِ تنقيح القانون 52 على ذكر أيٍّ من هذه التحديات الجوهرية. وبهذا حافظ التعديل على نفس الواقع الذي ساهم القانون القديم في ترسيخه، مما يعوق أي تحول نحو سياسات أكثر عدالة وفعالية.
ينص المبدأ الثالث على ضرورة أن تكون السياسات واضحة ومحددة لضمان التنفيذ الفعّال. يشمل ذلك تعريف الفئات المستهدفة، وتحديد الجهات المسؤولة عن التنفيذ، ومعالجة الاحتياجات اللوجستية. أدى غياب تحقيقات اجتماعية منهجية في تونس إلى تفاوت كبير في تطبيق القانون بين النيابات العامة
رابعًا، يتطلب سد الفجوة بين البحث العلمي والسياسات اعتماد إستراتيجيات استباقية. يعمل الباحثون وصانعو السياسات في بيئات مختلفة. لذلك يجب بناء شراكات فعالة لتعزيز الفهم المتبادل وضمان صياغة سياسات قائمة على الأدلة. في تونس، يمثل غياب أدوات فعالة لرصد تعاطي المخدرات عائقًا أمام تقييم فعالية السياسات الصحية. يظهر هذا الغياب في عدم وجود مرصد وطني لجمع البيانات المتعلقة بالمخدرات والإدمان وتحليلها. بدأ المعهد الوطني للصحة عام 2024 في مشروع تأسيس هذا المرصد، مُنظّمًا لورشة عمل يوم 26 نيسان/أبريل 2024 لعرض المشروع ومناقشة التحديات. وخلال الورشة نوقِش الإطار القانوني الذي يمثل عائقا أمام فعالية عمل المرصد. إذ تعتمد هذه المراصد عادةً على إدخال البيانات بشكل مجهول من قبل مستهلكي المخدرات، وهو ما يصطدم بإطار قانوني يجرّم استخدام المخدرات. كما تهدف هذه المراصد إلى ربط وزارة الصحة بوزارة العدل لضمان التنسيق. ورغم أهمية هذا التنسيق فقد غاب ممثلو وزارة العدل ووزارة الداخلية والمجلس المدعوون عن الورشة.
وبالتالي فقد كرّس تنقيح القانون 52 نفس الفلسفة العقابية التي قام عليها في صيغته الأصلية، دون إدراج مقاربة شاملة قائمة على مبادئ الصحة العامة. وأدى هذا إلى استمرار التدخلات الجزئية التي تعيق تبني سياسات صحية متكاملة ومترابطة، تكفل العدالة في المعالجة القضائية وتعتمد على أسس علمية وطبية دقيقة. تعكس هذه التجربة في تونس نمطًا مماثلًا لما شهدته بلجيكا خلال تسعينيات القرن الماضي . فعلى الرغم من تنامي الاهتمام بتقليل المخاطر الصحية وتصاعد بعض الخطابات الداعية للتسامح، ظلت تلك السياسات مقيّدة بإطار جنائي صارم. ويظهر هذا التوجه بوضوح في السياق التونسي، حيث يحول الإصرار على الفلسفة العقابية دون التحول نحو سياسات قائمة على الأدلة، ودون حدوث توازنٍ بين مقتضيات العدالة وضرورات الصحة العامة.
مشروع مجهض: إستراتيجيات نشر مظلومية ناجحة أجهضها النظام السياسي
عودة على حادثة الشباب الثلاثة، في 20 كانون الثاني/ يناير 2021، أصدرت المحكمة الابتدائية بالكاف حكمًا بسجن ثلاثة شباب لمدة 30 سنة بتهمة استهلاك مادة القنب الهندي (الزطلة) في ملعب رياضي. أثار هذا الحكم استياءً واسعًا لدى الرأي العام، حيث اعتُبر قاسيًا وغير عادلٍ؛ ما أدى إلى تجدد النقاش حول استهلاك القنب في تونس. تشكّلت مجموعات مساندة للشباب المحكوم عليهم وتطوع محامون للدفاع عنهم، كما استغلت مبادرات شبابية هذا الحدث لإعادة طرح قضية المخدرات في المجال العام. أدى هذا الضغط إلى تخفيف العقوبة إلى سنة سجن واحدة من قبل محكمة الاستئناف بالكاف.
استغل مقاولو المظالم هذا الحدث للتعبير عن استيائهم من التعديل الجزئي الذي حصل. وطوّروا أساليب جديدة في نشر مظلوميتهم بهدف خلق زخم شعبي ودعم إعلامي أكبر. ازدادت حدة الاحتجاجات على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة الفيسبوك، ضد الأحكام الجائرة التي تواصلت مع تنقيح القانون 52. تداول العديد من الشباب وسم #الحبس_لا، بدل (غيّر) 52، على مواقع التواصل الاجتماعي ودعوا للتظاهر والاحتجاج ضد الحكم القضائي، ما دفع رئيس الحكومة هشام المشيشي للتعليق والتنديد . من جانبه، التقى رئيس الحكومة هشام المشيشي بممثلين عن المجتمع المدني والجمعية التونسية للإدمان في 13 شباط/ فبراير 2021 لمناقشة القانون 52. وشدّد المشيشي على أهمية التعامل مع هذا الموضوع من منظور صحي تماشيًا مع التزامات تونس الدولية ).
ومن ناحية أخرى أكد رئيس حزب الورقة - حزب تأسس سنة 2019 ويهدف إلى تشريع زراعة واستهلاك الحشيش - أن هناك تجاوبًا من الحكومة تجاه تعديل القانون 52، مشيرًا إلى تبنّي نهج تشريعي على مرحلتين: أولًا إصدار مبادرة تشريعية لإيقاف الاعتقالات المتعلقة بتعاطي المخدرات، تليها مرحلة تشكيل لجنة بإشراف رئاسة الحكومة لإجراء تعديل جذري على القانون وفق مقاربة جديدة تتخلى عن العقوبات الردعية .
علاوةً على ذلك، أطلقت مبادرة مناظرة في 2021 برنامج #زعمه_TownHall بحلقة خاصة بعنوان #نبدلو_القانون52_باش، جمعت مختلف الأطراف المعنية، بما في ذلك السلطات والشباب، لفتح حوار عام حول تعديل القانون 52. تضمن البرنامج مسابقة شبابية، شارك فيها متسابقون من مختلف الولايات، حيث قدموا رؤاهم في فيديوهات قصيرة. بُثت الحلقة بتاريخ 14 آذار / مارس 2021، وشهدت تفاعلًا إعلاميًا واسعًا .
تجدد الجدل داخل المجلس إذ قدمت كتل برلمانية عدة مبادرات لتعديل القانون 52، من بينها مشروع كتلة قلب تونس ) الذي يقضي بإلغاء العقوبات السجنية على استهلاك القنب الهندي واستثنائه من قائمة المواد المخدرة، ومبادرة كتلة الإصلاح الوطني التي تضمنت التدرج في العقوبات عبر إلغاء العقوبة السجنية عند الاستهلاك للمرة الأولى واستبدالها بأعمال ذات منفعة عامة، مع تشديد العقوبات على المروجين خاصة في المؤسسات التربوية أو الفضاءات العامة.
في 25 تموز/يوليو 2021، أعلن رئيس الجمهورية قيس سعيد تفعيل الفصل 80 من الدستور، مما أدى إلى تجميد أعمال مجلس نواب الشعب وإقالة رئيس الحكومة. تعطلت أعمال المجلس وتعطل معه المسار الذي أوشك أن ينتهي بتمرير مشروع القانون المتعلق بالمخدرات، ضمن مشاريع قوانين أخرى، من المرور إلى الجلسة العامة. استأنف برلمان قيس سعيد أعماله في آذار/مارس 2023، لكنه لم يأخذ بعين الاعتبار المبادرات التشريعية للمجلس السابق، في مؤشرٍ على القطيعة مع الفترة السياسية السابقة. ورغم ذلك استمرت أصوات منفردة في المطالبة بمراجعة القانون 52، مذكّرةً بحملات مشابهة سبقت الثورة في 2009. في المقابل، تبنى قيس سعيد في خطاباته الرسمية خطابا تجريميا تجاه المخدرات، ما يشير إلى تراجع في إمكانية تحقيق إصلاحات جوهرية في هذا المجال. تعكس هذه الوقائع تحديات عميقة تعيق تحويل القضايا المجتمعية إلى إصلاحات عملية قابلة للتنفيذ في ظل غياب الديمقراطية. فالمناخات السياسية الديكتاتورية تُعطّل الآليات الضرورية لتحويل المشكلات الاجتماعية إلى قضايا عامة؛ نظرًا لافتقارها إلى التعددية والتشاركية الضروريتين .
خاتمة
إن الفلسفة العقابيّة تُعرقِل التحول نحو مقاربة قائمة على الصحة العامة. فرغم محاولات الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين تبني هذه المقاربة، تظل الفلسفة العقابية مهيمنة حتى بعد التعديل الجزئي للقانون. علاوة على ذلك، يعوق التدخل السلطوي جهود هؤلاء الفاعلين في تحقيق تغييرات مستدامة، مما يكرس سياسات عقابية غير فعالة ويزيد من معاناة الفئات الهشة، ويحول دون الوصول إلى إصلاحات جوهرية. وهو ما أظهرته دراسة المراحل التشريعية لسياسة مكافحة المخدرات في تونس منذ 1992.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.