كوزموبوليتية مجهضة؟ طرق الهجرة جنوب الصحراء والدخول في سياسة العنصرية في تونس

مخيم للمهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء خارج مقر المنظمة الدولية للهجرة في تونس، في 2 أذار/مارس 2023. © حسن مراد/ Shutterstock

مقدمة

تُختَصر قضية الهجرة في تونس تاريخياً في التونسيين المقيمين بالخارج (TRE)، لكنها أضحت تشير ابتداءً من تسعينيات القرن الماضي، بطريقة أكثر دراماتيكية، إلى الهجرة غير القانونية للتونسيين المتوجهين نحو أوروبا.1  ونصيبه من التدابير/الشراكات/الاتفاقيات التي يبرمها الاتحاد الأوروبي مع تونس، مثل "الشراكة من أجل التنقل" الموقعة في 2014: https://ec.europa.eu/commission/presscorner/detail/fr/IP_14_208

تظل الهوية الوطنية متجانسة، وفقاً للرواية الرسمية، ولا تشمل في تعريفها تعدد الثقافات أو الهجرات المعاصرة، حتى إن كانت السردية الوطنية تعترف منذ استقلال البلاد بجزء من التنوّع الثقافي، إلا أنها تشير إلى هذا التنوّع بضمير الماضي. بالفعل، على الرغم من إضفاء صفة "التجانس" على البلد، فإن التعريف البورقيبي للهوية الوطنية لم ينف أبدًا "التنوع الثقافي"، لكن، دائماً بصيغة الماضي (التراث الأمازيغي، والهوية اليهودية). أما بالنسبة للشعار الذي تروِّجه السلطة حول ما يعرف بـ "حوار الحضارات" (بواسطة "منبر حوار الحضارات الذي أنشأه بن علي")، فإنه يقدم تنوعًا موروثًا، وبالتالي غير مثير للقلق ولا يشكل تهديدًا من الناحية السياسية. يمكن تلخيص هذا التنوّع الموروث على النحو التالي: نحن متجانسون، في ظل تنوّع موروث قديم، قائم على الخطاب الوطني الشهير حول حوار الحضارات، الذي شكل في تسعينيات القرن الماضي حجابًا استخدمته الديكتاتورية الحاكمة.

من جهة، نجد السردية الوطنية التي تفتخر منذ عهد بورقيبة بـ "فسيفساء" الزمن الغابر، التي تتباين مع حاضر شعب متجانس، خال من أي نتوءات، وبشكل غير مباشر غير مثير لأي أعمال تخريبية؛ ومن جهة أخرى، لدينا الوجود الأجنبي للأوروبيين الذين يتمتعون بتفوق اقتصادي، ويحظون بمكانة أعلى ومتميزة، أو حتى المواطنين المغاربيين (من المغرب العربي)، وهم من صنف الأجانب الأكثر عددًا والأقرب ثقافيًا.

في ظل هذا المشهد السلس، شَكَل السكان الأفارقة، من جنوب الصحراء الكبرى، منذ بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فرصة لبروز تنوّع عالمي معاصر. لكنها فرصة قد ضاعت للأسف، بعد أن قامت الدولة، في شباط/فبراير 2023 بوصم هؤلاء السكان الأفارقة وتجريمهم من خلال تبنيها نزعة قومية شعْبوية كامنة، لم تعد تتحرج حتى في إظهارها علنًا في الآونة الأخيرة. وبذلك عدنا إلى المربع الأول وولوج حقبة جديدة من "الأفضلية الوطنية".

تجري الأمور على هذا النحو، على الرغم من أنه لا توجد فئة متجانسة واحدة من "المهاجرين من دول جنوب الصحراء الكبرى" بل هناك مجموعة متعددة من النماذج الناتجة عن وضعيات ومسارات الهجرة المختلفة: فهناك الطالب المقيم في وضع قانوني أو الذي يسعى إلى تسوية وضعه في صراع مع المعوقات الإدارية، وهناك الطالب سابقًا الذي استقر للعمل في القطاع غير الرسمي، والمهاجر العابر إلى أوروبا الذي استقر بتونس مؤقتًا لعدة سنوات، والعامل، بالإضافة أيضًا لرجال الأعمال أو الدبلوماسيين، لكن جميعهم، قد شملتهم رغمًا عنهم، تجربة العنصرية التي أصبحوا ضحية لها في تونس.

وانعكاسًا للتخوّف الاجتماعي الذي تشعر به الأقلية المسلمة في فرنسا وأوروبا، تنظر تونس إلى هؤلاء الأجانب من جنوب الصحراء الكبرى بنظرة التوّجس، من خلال الخلط بينهم وتحميل الجميع وزر ما تقوم به أقلية منهم، ووصمهم بالوحشية أو عدم قابلية اندماجهم في المجتمع التونسي. ولم يعد عدو المجتمع والنظام العام، يتمثل في "العرب والإسلام" ولكنه أصبح يتجسد في "السود والأفارقة"، مما ينم عن نزعة قومية شعْبوية، ولا يستبعد أن تكون التصريحات والمقالات المثيرة للجدل التي أطلقها الكاتب الجزائري كمال داود في عام 2016 قد شكلت إرهاصاتها الأولى.2  بوسيل ستيفاني، "الحكم الصادر اثناء محاكمة هامبورغ: عندما يَتهِم التفكير الأمني "اللاجئ والمسلم"، ميدل إيست آيز، 16 تشرين الثاني/نوفمبر 2016: https://www.middleeasteye.net/fr/opinion-fr/verdict-du-proces-de-hambourg-quand-la-pensee-securitaire-accuse-le-refugie-et-le

ديناميات الهجرة غير المتجانسة للأفارقة من جنوب الصحراء الكبرى في تونس وتجربة مماثلة لعنصرية أضحت طبيعية ومألوفة

إن الملامح المختلفة لشعوب جنوب الصحراء في تونس ومسارات الهجرة المتعددة تجعل من المستحيل تصنيف هذا الوجود للأجانب في تونس بطريقة موّحدة. دعونا نلقي نظرة عامة على الأنواع المختلفة من المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى الذين يعيشون في تونس أو يعبرون ترابها في اتجاه أوروبا.

حتى نهاية التسعينيات، عكْس ما تشهده البلدان المغاربية الأخرى، لا تكاد تطرح في تونس مسألة عبور الحدود البرية لأفارقة جنوب الصحراء لعبور البحر الأبيض المتوسط. لكن منذ بداية الثورة الليبية عام 2011، ظهرت فئة جديدة مع وصول اللاجئين من جنوب الصحراء الذين فروا من ليبيا، وتم تجميعهم في مخيمات اللاجئين على الحدود التونسية الليبية. كان هناك بالفعل قدرًا من الهجرة العابرة إلى أوروبا، لكنها جد متواضعة، تتعلق بـ"الهجرة غير النظامية للمغامرين"3  حسن بوبكري وسيلفي مازيلا، "تونس بين العبور والهجرة: سياسات الهجرة وظروف استقبال المهاجرين الأفارقة في تونس"، مجلة Autrepart ، عدد 36، 2005.

التي تخص طالبي اللجوء المرفوضين، والأشخاص الذين وصلوا إلى تونس على أمل العثور على وظيفة، والرياضيين الذين يبحثون عن تعاقدات أو الطلاب في المراحل الأخيرة من دراستهم.

في ضوء ظاهرة الهجرة الضيقة جدًا هذه، لم تطرح مسألة الهجرة بصفتها تلك، في النقاش العام، نظرًا لحجمها الذي لا يكاد يذكر.

وتدريجيًا، في مستهل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، نمت الجاذبية نحو المدارس الخاصة التونسية من جانب الطلاب من دول غرب إفريقيا، خاصة المنحدرين من عائلات ميسورة نسبيًا، الذين واجهوا صعوبة في الوصول للتعلم والتكوين في المعاهد والجامعات الأوروبية.4سيلفي مازيلا، "الطلاب الأفارقة في الجامعات التونسية الخاصة: الوجه الجديد للطالب "الدولي"، في سيلفي مازيلا، عولمة الطلاب. المغرب العربي بين الشمال والجنوب، باريس، كارتالا، 2009

في مؤسسات التعليم العمومي، تم إحصاء 437 طالبًا في عام 1989 و758 طالبًا في عام 2006. أما في قطاع التعليم الخاص، ارتفع عدد الطلاب من 714 في عام 2004 إلى 1235 في عام 2007.5  نضرة بن فاطمة، "الطلاب الأفارقة في الجامعات التونسية: دراسات إحصائية اجتماعية 2000-2008"، باللغة العربية، رسالة ماجستير.

وقد ساهمت هذه الزيادة في عدد الطلاب المسجلين في الجامعات التونسية، خاصة مؤسسات القطاع الخاص، في جعل تواجد هؤلاء الطلاب من جنوب الصحراء الكبرى، أمرًا عاديًا في تونس والمدن الجامعية (سوسة، المنستير، قابس، إلخ). في عام 2004، سجلت الإحصاءات الرسمية وجود 3017 مقيمًا من جنوب الصحراء الكبرى في تونس، أي نسبة 8.6٪ من الأجانب الذين لا يمثلون في واقع الأمر سوى 0.4٪ من إجمالي سكان البلاد.

في تلك الفترة، كان ظهور الطلاب من جنوب الصحراء الكبرى في مؤسسات التعليم بالقطاع الخاص، يختلف اختلافًا جوهريًا عن الصورة المنتشرة على نطاق واسع في بقية بلدان المغرب العربي، المتمثلة في نظرة المهاجر من جنوب الصحراء، باعتباره تهديدًا وعدوًا لاستقرار المجتمع والأمن العام.6  علي بن سعد (دير.)، المغرب العربي على محك ظاهرة الهجرة جنوب الصحراء، من الهجرة إلى استقبال المهاجرين، باريس، كارتالا، 2009.

لم يكن موضوع هجرة الأفارقة من جنوب الصحراء الكبرى موجودًا في تونس، كونها تنحصر في بقعة محدودة، تقتصر على القطاع الطلابي.

تماشيًا مع تطور غير متوقع لهجرة إفريقية نخبوية نسبيًا، تم نقل المقر الرئيسي لبنك التنمية الأفريقي (BAD) إلى تونس العاصمة في عام 2003، في ظل الأزمة السياسية العاجلة التي شهدتها كوت ديفوار، ونتج عنها إقامة بضعة آلاف من الموظفين الأفارقة وعائلاتهم ومساعديهم في تونس العاصمة بين عامي 2003 و2014. ومن بين جميع الجنسيات الأفريقية، التي تطغى عليها الجنسية الإيفوارية، تبدو هذه "الهجرة الذهبية"، المميزة بعلامات الثروة والرفاه في المجتمع التونسي المصغر، في تناقض صارخ مرة أخرى مع الصورة البائسة المعروفة عن "الأفريقي" ساكن العالم الثالث.7ستيفاني بوسيل، "العنصرية والتنوع العالمي في المغرب العربي. إنشاء بنك التنمية الإفريقي في تونس وتجديد النظرة إلى الآخر"، المغرب العربي والعلوم الاجتماعية، 2014.

من رحِم هذا العصر الذهبي لهجرة النخبة، نشأت وتطوّرت شبكة من المشاريع التجارية الأفريقية في تونس. وعلى الرغم من جمود القوانين السائدة، التي تدفع البعض منهم للعمل في القطاع غير القانوني، ازدهرت في كل مكان في تونس العاصمة، بفضل التعاون المالي التونسي الأفريقي،8  يُشترط على الأجنبي الذي يرغب في إنشاء نشاط تجاري خاص به التشارك مع شريك تونسي، يتعين عليه امتلاك 51٪ من أسهم الشركة.

العديد من الشركات الجديدة في ذلك الوقت: مطاعم وصالونات حلاقة والنوادي الليلية وشركات صيانة الكمبيوتر، تديرها أزواج موظفي البنك الأفريقي للتنمية، أو طلاب سابقون، أو سكان من جنوب الصحراء الكبرى المتزوجين من مواطنين تونسيين.

على الرغم من تحوّل مقر البنك الأفريقي للتنمية من تونس في عام 2014 وانتقال أغلبية موظفيه، بقي بعض الموظفين الإيفواريين، مثل خادمات المنازل في تونس العاصمة. وهؤلاء بدورهن جلبن شبكة من المعارف، تنتمي معظمها للطبقات الاجتماعية الأكثر هشاشة التي استقرت في الأحياء الشعبية. وقد ساهمت الأزمة السياسية الجديدة الناشبة في كوت ديفوار في جذب الشباب الذين يطمحون إلى النجاح والارتقاء الاجتماعي إلى تونس.9  كامي كاساريني، "الديناميات الاجتماعية والسياسية والبعد الإقليمي للهجرة الإيفوارية في تونس"، سنة المغرب العربي، 27، 2022.

رسوخ أقدام الإيفواريين في تونس سمح لشبكة واسعة من المهاجرين بالمرور عبر تونس العاصمة، مما ساعد الأصدقاء وأفراد الأسر والمعارف، في توطيد أقدامهم في هذا البلد. إن وصول هذه الفئة الجديدة من سكان جنوب الصحراء الكبرى، في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، الذين يبحث معظمهم عن وظيفة و/أو يحذوهم الأمل في الوصول إلى أوروبا، ساعد على رسم صورة أكثر شعبية، ووضعًا أكثر هشاشة لهؤلاء المواطنين من جنوب الصحراء الكبرى، الموجودون على التراب التونسي، والمقيمون في أحياء شعبية أو الخاصة بالطبقة الاجتماعية الوسطى مثل بلدة سُكْرة (إحدى ضواحي تونس العاصمة).

تتشابه الظروف المعيشية الاجتماعية والاقتصادية والإقليمية بين هؤلاء السكان من جنوب الصحراء والتونسيين الذين يعيشون في ظروف صعبة. مثال نموذجي عن هذه الأحياء حيث يتعايش هؤلاء السكان: بحر لازرق المتاخم للمرسى، الذي بناه تونسيون في وضع صعب، جاؤوا من مناطق ريفية من الشمال الغربي للبلاد (سليانة، جندوبة، الكاف)، مُشكل من مساكن غير قانونية. مثل هذه الظروف القاسية المشابهة إلى حد كبير، كفيلة بدفع الشباب نحو مصير مشترك: التطلع إلى العبور نحو الضفة الأوروبية، بكل الوسائل الممكنة. وبذلك نشأت في تونس حالة جديدة من هجرة الاستقرار، والتي لم تعد هجرة عبور أو هجرة مؤقتة كما كانت من قبل. أصبح الشباب من بلدان جنوب الصحراء الكبرى، الذين تشهد أعدادهم تزايدًا مطردًا، وكانوا يقيمون في البلد في انتظار المغادرة إلى أوروبا، يميلون مع مرور الوقت إلى "الاستقرار" في تونس. وتحول الوضع المؤقت إلى وضع دائم بحكم الظروف، وذلك بالرغم من توّجس وعدم تحمس المجتمع التونسي في الترحيب بهم ومنحهم الحقوق (الحق في العمل بشكل قانوني، والحصول على الأوراق، والتمتع بالرعاية الصحية)، مما يجعلهم يعيشون يوميًا حالة من الخوف المستمر من حملات الرقابة والسجن.

في هذا المشهد الشحيح من حيث التنوّع الثقافي وقلة اندماج سكان جنوب الصحراء الكبرى في تونس، يظل العالم الطلابي الأكثر ملاءمة للقاءات والتبادلات الثقافية بين التونسيين ومواطني جنوب الصحراء الكبرى. وبفضل التردد على أماكن التعليم والثقافة نفسها (المعهد، المدرسة، الجامعة)، أقام طلاب جنوب الصحراء علاقات مع المجتمع التونسي، ونسجوا علاقات أثناء الدورات الدراسية وخارجها، وروابط توطدها قوة التآلف الأكاديمي والمهني المشترك والتجانس ما بين الأجيال. أما خارج هذا القطاع، لم يستطع الأفارقة من جنوب الصحراء الكبرى الاندماج في المجتمع إلا بقدر ضئيل، مما أجبرهم على تطوير مساحات للترفيه والجمعيات الخاصة بهم والعيش في عزلة. وعلى عكس الزيجات بين التونسيين والأوروبيين، فإن الزواج المختلط بين التونسيين وسكان جنوب الصحراء نادرًا ما يحدث. وتعد درجة هذا المزج الاجتماعي الأساسي، مؤشرًا على مدى اندماج الأجانب في الجسم الاجتماعي.

تدريجيًا، بدأ الشباب والعائلات والنساء والأطفال يستقرون في تونس وسوسة وصفاقس، بشكل من أشكال الاستقرار الذي يتباين مع ذلك الطموح الحتمي السابق للمغادرة باتجاه أوروبا. ونتيجة ذلك، ولِدت الأجيال الجديدة على التراب التونسي، دون الحصول أبدًا على الجنسية التونسية.10  يكتسب الأجنبي الجنسية التونسية إذا ولِد في تونس وكان والده وجده هم أنفسهم قد ولدوا في تونس. توالي ثلاثة أجيال مولودة في تونس يسمح للأجنبي بالاندماج في مجتمع المواطنين (الفصل 7 من قانون الجنسية). أما بالنسبة للتجنس فهو يتعلق فقط بالزوجة الأجنبية للتونسي.

ونظرًا لترعرعهم على التراب التونسي، فقد أثار ذلك مسألة تسجيل الأطفال بالمدارس، علمًا أنه لا توجد بتونس مدرسة إيفوارية أو غيرها من المدارس الخاصة بالجاليات من الجنسيات الأفريقية جنوب الصحراء، مما جعل الأطفال في سن الدراسة يواجهون أربعة احتمالات: الالتحاق بالمدرسة التونسية بمساعدة المنظمات غير الحكومية التي تقوم بالإجراءات الإدارية،11من الناحية الرسمية، ترحب المدرسة العمومية التونسية بجميع الأطفال ابتداء من سن السادسة بغض النظر عن جنسيتهم. لكن على أرض الواقع، فلا بد من الحصول على الوثائق اللازمة من وزارة التربية والتعليم، وبالتالي، ضرورة معرفة الإجراءات الواجب اتباعها ومواجهة تعقيدات الإدارة. تهدف المنظمة غير الحكومية الخاصة بالاندماج، التي أنشأتها في عام 2021 مواطنة من كوت ديفوار إلى تشجيع الآباء من جنوب الصحراء الكبرى على تسجيل أطفالهم في المدارس العمومية التونسية، ومن ثم، تعلم اللغة العربية والاندماج في المجتمع. تقرير عن أعمال هذه المنظمة غير الحكومية في حي الحبيب بالمرسى: https://www.facebook.com/RLFLibreFrancophone/videos/260607022793444

مع ما يترتب على ذلك من مواجهة العنصرية وضرورة تعلم اللغة العربية في بلد لا تتصوّر هذه الأسر بناء مستقبلها فيه؛ أو التسجيل في مدرسة تونسية خاصة، شريطة استطاعة دفع الرسوم، ومن ثم التعلم في محيط دراسي أقل عرضة للعنصرية لأن "العائلات التونسية التي تتواجد فيه، كثيرة السفر خارج البلاد، ومن ثم أكثر انفتاحًا"؛ أو عدم التسجيل في أي مدرسة على الإطلاق؛ أو إرسالهم من قِبل أسرهم  إلى "البلد" للالتحاق بمدارس بلدهم الأصلي. هذه الحالة الأخيرة، التي شهدناها بشكل متكرر طيلة بحثنا، دليل على نقص في الاندماج وانسداد الأفق في المجتمع.12تجدر الإشارة إلى أننا وجدنا حالات مماثلة للهجرة العكسية للأطفال من الجاليات التونسية غير المستقرة، من بلدان معينة لأسباب اقتصادية (التعليم أقل تكلفة في تونس) ولأسباب تتعلق بالهوية/الثقافة (تعلم اللغة العربية وثقافة بلد المنشأ).

في الآونة الأخيرة، أصبح التعاون الدولي في تونس يستثمر في الموضوع، على أمل تعزيز اندماج هؤلاء السكان المهاجرين في المجتمع التونسي؛ وقد يعزز هذا التوّجه، نظرة ترى في هذا الإجراء، الحصن الوحيد القادر على وقف موجة هجرتهم إلى أوروبا. وفي هذا الإطار أنشأت برامج تنموية مختلفة تهدف إلى اندماج السكان "المهاجرين" من جنوب الصحراء بشكل أفضل. بالنسبة للجهات المانحة والمنظمات غير الحكومية الدولية، فإن هذه الفئات تمثل الآن بالفعل مجموعة سكانية هشة، يجب إحاطتها بالعناية والتكفل بها. على سبيل المثال، يدعم برنامج "دعم تمكين السكان وإدماجهم (PAAIP)" المُموّل من الاتحاد الأوروبي، والجمعية التونسية  (Terre d'Asile Tunisie)التي نشأت في 2021-2022 بالشراكة مع اللجنة الأوروبية للتدريب والزراعة (CEFA)، بمساعدة 15 جمعية من أجل تحقيق مشاريعها حول مواضيع مختلفة تخص الهجرة مثل: الفن والحماية والمناصرة والتعليم والتماسك الاجتماعي والإدماج الاجتماعي والاقتصادي. ويوجد مقر هذه الجمعيات في تونس الكبرى وسوسة والمهدية وبن قردان وصفاقس ومدنين وقابس. هناك مثال آخر في صفاقس: حيث تعتبر جمعية "كوفانياKufanya) ) بمثابة حاضنة اجتماعية لأصحاب المشاريع المهاجرين في تونس بتمويل من برنامج التنمية الإقليمية والحماية لشمال إفريقيا (RDPP NA)، تحت رعاية الاتحاد الأوروبي، وتنفيذ المنظمة الدولية للهجرة في تونس. وعلى عكس اهتمامات الدولة، تتطور أجندة الجهات المانحة بحسب وتيرة أشغالها الخاصة ووفقًا لمصالحها السياسية.

الانتقال المؤلم من مجتمع الهجرة للخارج إلى مجتمع يستقبل المهاجرين

منذ الاستقلال، اقتصر موضوع "الهجرة" في تونس على "الجالية التونسية"، أي اعتنائه الحصري بالتونسيين المقيمين في الخارج، الذين يمثلون 10٪ من سكان البلد.

كانت النظرة إلى هؤلاء المهاجرين التونسيين، عند استقلال البلاد، على أنهم وسيلة لحل مشاكل سوق العمل (أطلقت عليهم الدولة آنذاك اسم "العمال التونسيون بالخارج"). وقد تم قبول مبدأ الجنسية المزدوجة في عام 1975، باستثناء ما تعلق منها بالبلدان الحدودية، "كان ذلك على الأرجح، وسيلة تعترف الدولة من خلالها بأن التونسيين في أوروبا لن يعودوا إلى الوطن للإقامة فيه"؛13  براند لوري، 2006، المواطنون في الخارج: الهجرة والدولة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، نيويورك، مطبعة جامعة كامبريدج.

مما جعل الدولة التونسية تركز في المقام الأول على حماية حقوقهم في الخارج (إنشاء المكتب التونسي للأجانب عام 1987) ومنحهم حق التصويت في الانتخابات الرئاسية عام 1988. ومنذ اليوم التالي للثورة عام 2011، حصل المجتمع المدني المشكل من التونسيين في الخارج المنتظمين في جمعيات، على حق التصويت في الانتخابات التشريعية ومشاركتهم في انتخاب 18 نائبًا للمجلس الوطني التأسيسي.

وحتى وقت قريب جدًا، كانت الدولة التونسية تعني بالـ"الهجرة"، التونسيين المقيمين في الخارج فقط وليس هجرة سكان جنوب الصحراء الكبرى أو أي مهاجر آخر على أراضيها.14هذا الإخفاء واضح للغاية في مسودة الاستراتيجية الوطنية للهجرة التي وضعتها وزارة الشؤون الاجتماعية (2017): http://ote.nat.tn/wp-content/uploads/2018/05/SNM_FRA_FINALE.pdf

في حين، يكشف المعهد الوطني للإحصاء INS، وجود 58.990 أجنبيًا في تونس (أي 0.5٪ من عدد السكان)، ثلثا هؤلاء المقيمين على أراضيها من دول مغاربية ودول أفريقية أخرى، بينما واحد من كل خمسة مهاجرين يأتي من دولة أوروبية.15هيفاء مزالواط، "الهجرة التونسية بالأرقام" إنكفادا، 18 كانون الأول/ديسمبر، 2022.

يخضع وضع الأجانب لقانون عفا عليه الزمن ومقتضب، يعود تاريخه إلى عام 1968،16القانون رقم 68-7 المؤرخ في 8 آذار/مارس، 1968 المتعلق بأحوال الأجانب في تونس:  https://legislation-securite.tn/fr/law/45206

وهذا القانون ينظر إلى دخول الأجانب إلى تونس وإقامتهم فيها من زاوية الأمن القومي. يمكن ملاحظة قسوة وضعية "رُحَّل الجمهورية"17العصور القديمة اليونانية: الأجنبي المقيم في أثينا دون حقوق المواطن. راجع سهيمة بن عاشور، الحريات الفردية للأجانب في تونس: رُحَّل الجمهورية، 2019، ADLI، هايدلبرغ.

من خلال الحقوق وحريات الأجانب في تونس، وهي حقوق خاضعة لمراقبة صارمة فيما يتعلق بالأسرة (الزواج، وحضانة الأطفال)، وشروط بالغة الصعوبة للحصول على الجنسية التونسية، والحق في الإقامة تحت رقابة شديدة، إلى جانب الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المحدودة للغاية، من حيث الحق في الرعاية الصحية والعمل18مصطفى نصراوي، 2017، "العمال المهاجرون من جنوب الصحراء في تونس في مواجهة القيود التشريعية الخاصة بتوظيف الأجانب"، المجلة الأوروبية للهجرة الدولية، المجلد: 33، العدد: 4.

وحق الملكية. هذا القانون التمييزي يكشف مدى تقييد القانون التونسي مقارنة مع القانون المقارن والقانون الإقليمي والقانون الدولي.19بن عاشور (المرجع نفسه)

إلى جانب ذلك، تواجه حقوق الأجانب تقلبات الممارسات اليومية غير المأمونة. ففي تونس، ينخر نظام فاسد غير رسمي يعاني منه التونسيون أنفسهم: الفساد والرشاوى و"الكتف" (المصلح المحلي المستعمل للإشارة إلى نفوذ "الشبكة ورأس المال الاجتماعي والمعارف في المناصب العليا")، والرشوة للحصول على الخدمات، وكلها تُعتَبر من الممارسات الشائعة التي تدفع الناس للعيش والانخراط في القطاع غير الرسمي وغير المعلن، ومن ثم، الحرمان من التأمين/الضمان الاجتماعي. في الواقع، مثل هذه القوانين والإجراءات والتلكؤ الإداري وضريبة الاستقطاع الكبيرة، تدفع أصحاب العمل والموظفين على حد سواء للعمل خارج الإطار القانوني المعلن. في تونس، يمثل القطاع غير الرسمي 44.8٪ من الوظائف (INS 2020). إذا علمنا أن واحد من كل اثنين تونسيَين يعمل دون تصريح، فكيف يمكن للأجنبي الذي يعاني أصلًا من التمييز القانوني أن ينجو من هذه الصعوبة ويتحدى هذه الإحصائيات؟ ورغم ذلك كله، يُطلب من الأجانب المتعايشون في وضع صعب الخضوع للقوانين التي يتحايل عليها جزء من المجتمع التونسي نفسه. على سبيل المثال، من الصعب جدًا على الأجانب تسوية أوضاعهم في ضوء صرامة شروط الحصول على بطاقة الإقامة. فهذا الإجراء يتطلب جمع عدد هائل من الوثائق التي ببساطة يستحيل أحيانًا على مقدم الطلب الحصول عليها. للحصول على بطاقة الإقامة على سبيل المثال، يتعين على الطالب تقديم عقد إيجار سكن مصدق عليه من قِبل إدارة القابضة المالية، علمًا أن معظم المُلاك لا يعلنون عن مساكنهم لإدارة الضرائب بسبب التكاليف المترتبة عليها؛ وفي أفضل الحالات، يقدم المالك عقد إيجار لمدة 6 أشهر، وهو غير كافٍ ليتقدم الطالب للحصول على بطاقة الإقامة. وللحصول على بطاقة إقامة كعامل، من الضروري أيضًا تقديم عقد عمل مصدق عليه من وزارة العمل، التي تعمل بدورها وفقًا لإجراءات غامضة، وعلى أساس كل حالة على حدة، وهذا إجراءٌ يخضع أيضًا لمزاج ونزوات بعض المسؤولين. بالإضافة إلى ذلك، فإن مراكز الشرطة القليلة المخوّلة بمعالجة ملفات تقديم بطاقات الإقامة، غير قادرة على تلبية كل الطلبات نظرًا للعدد الهائل من المتقدمين، فضلًا عن كون هذه المصالح لا تزال غير فعالة إلى حد كبير (لا تعمل بنظام الرقْمنة). وأخيراً، فإن الظروف التي يتعامل بها موظفو وزارة الداخلية مع هؤلاء الأجانب القادمين من الجنوب لا تخضع لأي شكل من أشكال المراقبة. واجتماع هذه الظروف كلها تضع الأجنبي في وضعية من عدم الاستقرار واللا شرعية، يصعب عليه الانفكاك منها.

يعمل هؤلاء الأجانب في القطاعات التي يهيمن فيها العمل غير الرسمي (البناء، الزراعة، التجارة، الخدمات الشخصية، إلخ).2085.6 ٪ من العاملين في قطاع الزراعة و69.2٪ في قطاع البناء يعملون في وظائف غير رسمية. انظر "الأمن والسيادة الغذائية والحق في التغذية في تونس"، منتدى تونس للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، دراسة، 2023. https://ftdes.net/rapports/souvrainte.resume.fr.pdf

وبدون حصولهم على عقد عمل ضروري لاستخراج بطاقة الإقامة، يظل هؤلاء العمال يعيشون في حالة غير رسمية. يعزز الحفاظ على سرية الأوضاع من جانب صاحب العمل والموظف أيضًا خلق حالة من الهشاشة متعددة الأبعاد. إن "الطابع غير الرسمي المضاعف"21مصطفى نصراوي، 2017، "العمال المهاجرون من جنوب الصحراء في تونس في مواجهة القيود التشريعية الخاصة بتوظيف الأجانب" ، المجلة الأوروبية للهجرة الدولية، المجلد 3، العدد 4.

الذي يميز علاقة هؤلاء الأجانب من جنوب الصحراء الكبرى بعالم العمل، يجعلهم في وضع هش بشكل مضاعف وتحت رحمة أرباب العمل، ومن ثم يجعلهم عرضة للاستغلال، أو تقاضي رواتب بخسة أو سرقة أجورهم، دون امتلاك أي وسيلة تسمح لهم بالمطالبة بحقوق لا يملكونها أصلًا.

ظلت التغييرات المعلن عنها لتحسين حقوق الأجانب بعد ثورة 2011 حبرًا على ورق. فالمادة 26 من دستور 2014 التي تكرس حق اللجوء السياسي، هي اليوم عمليًا حق غير نافذ. لتوفير إمكانيات حقيقية تسمح باندماج فعلي، يتطلب الأمر على أقل تقدير، إصدار مشروع قانون وإدخال إصلاح شامل للقوانين المتعلقة بوضع المهاجرين، وخاصة فيما يتعلق بقانون العمل. هذا الغياب للإطار القانوني يلقي بإدارة شؤون اللاجئين وطالبي اللجوء إلى المفوض السامي لشؤون اللاجئين، في حين أن هذه الهيئة الأممية مكلفة بالأساس بقضايا وضع اللاجئين في بلد ثالث وليس بدمجهم في المجتمع التونسي. علاوة على ذلك، تتعرض مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين لانتقادات شديدة بسبب سوء إدارتها لأمور اللاجئين وانتشار الخطاب المناهض للمهاجرين.22رحاب بوخياطية، 2022، "أزمة اللاجئين: المحنة التونسية وعجز المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين"، نواة. https://nawaat.org/2022/07/14/crise-des-refugies-le-calvaire-tunisien-et-limpuissance-de-lunhcr /

لذا غالبًا ما يجد هؤلاء اللاجئون "العالقون بين نظام لجوء غامض والتعاقد الأوروبي"23ميشيلا كاستيلو دي أنطونيو، 2021، "طالبو اللجوء واللاجئون في تونس، عالقون بين نظام لجوء غامض والتعاقد الأوروبي"، تقرير روزا لوكسمبورغ شتيفتونغ. https://rosaluxna.org/wp-content/uploads/2020/06/Demandeurs-dasile-et-re%CC%81fugie%CC%81s-en-Tunisie.pdf

أنفسهم دون آفاق مستقبلية، سواء بالنسبة لاندماجهم في تونس أو إعادة التوطين في بلد ثالث أو ربما العودة إلى الوطن. في 11 نيسان/أبريل 2023، بناء على طلب المنظمة الأممية نفسها، تم فض مخيم اللاجئين المقام أمام مفوضية اللاجئين، من قِبل الشرطة بالهراوات والغاز المسيل للدموع، بناء على طلب المنظمة.

ثمة مثال صريح آخر لقانون نادرًا ما يطبق، وهو يتمثل في قانون 2018 الذي يحظر التمييز على أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو العرقي، ويضاعف العقوبة "في حالة وجود الضحية في حالة هشة بسبب وضعيته كمهاجر أو لاجئ"،24"يعاقب بالحبس من شهر إلى سنة وبغرامة من 500 إلى 1000 دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من ارتكب فعلاً أو أدلى بتصريح يتضمن تمييزاً عنصرياً بقصد الازدراء أو إهانة الكرامة. تضاعف العقوبة (الحبس من شهرين إلى سنتين وغرامة من 1000 دينار إلى 2000 دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين) في الحالات الآتية: إذا كانت الضحية في حالة ضعف بسبب التقدّم في السن أو الإعاقة أو الحمل الظاهر أو الهجرة أو اللجوء.»https://www.arab-reform.net/fr/publication/une-loi-contre-les-discriminations-raciales-en-tunisie-bilan-en-demi-teinte-dune-loi-pionniere/ وهو بحد ذاته غير مفيد إلى حد كبير بالنسبة لمواطني جنوب الصحراء الكبرى. فرغم تعرضهم للاعتداء بشكل منتظم، لا يمكن لهؤلاء اللاجئين تقديم شكوى لأنهم لا يملكون الوثائق القانونية التي تسمح لهم بتقديم أنفسهم إلى الشرطة؛ علاوة على ذلك، فهم يتعرضون للابتزاز بشكل منتظم من قِبل عناصر الشرطة أنفسهم.25https://www.middleeasteye.net/fr/reportages/tunisie-la-loi-contre-les-discriminations-raciales-ne- profite-pas-ceux-qui-en-ont-besoin

وهكذا، فإن المجتمع التونسي، المعروف تاريخياً بمجتمع "الهجرة"، لا يملك في الواقع أدوات وآليات حماية وتطبيق القانون للأجانب. فضلاً عن ذلك، لم تقدم الدولة أبدًا الوسائل القانونية الكفيلة بانخراط/دمج الأجانب، خاصةً إذا كانوا مواطنين ينتمون إلى الطبقات الأكثر ضعفًا وينحدرون من بلدان الجنوب. تقتصر الدولة على إدارة هجرتها الخاصة بمواطنيها "التونسيين المقيمين بالخارج"، وترفض أن يُشَكك في قدرتها على الترحيب بالأجانب الموجودين على أراضيها ومنحهم حقوقهم. يُسَجل أيضًا ضعف الهياكل والبنية التحتية وتكوين الموظفين وضعية لا ترقى إلى المستوى المطلوب لتحقيق هذا الغرض، ومثال صارخ على ذلك، ضيق قاعات أقسام الشرطة المخصصة باستقبال طلبات الإقامة للأجانب، واكتظاظها الخانق على الدوام بمقدمي الطلبات الذين يعاملون بقسوة ويخضعون لإجراءات غير معقولة، ومستندات مكتوبة بخط اليد، ومواعيد بآجال طويلة تصل إلى عدة أشهر وأحيانًا سنوات، للحصول على تسوية الوضعية التي يبحث عنها ويسعى إليها الأفارقة من جنوب الصحراء.

كوزموبوليتية مُجهضَة؟

في مثل هذا المناخ الذي تغيب فيه الحماية القانونية للأجانب وسكان جنوب الصحراء الكبرى الرازحين في حالة هشاشة قصوى ويعانون من ضعف الاندماج داخل المجتمع التونسي، دخلت تونس حقبة سياسية شعبوية وقومية جديدة، مناهضة للديمقراطية، تسببت في تفجير قنبلة اجتماعية غير مسبوقة بشظاياها المدمرة. وزاد انقلاب الرئيس في تموز/يوليو 2021، باستحواذه على صلاحيات كاملة وتقويض الهيئات السياسية الديمقراطية في تونس ما بعد 2011 (البرلمان، الدستور، العدالة، المجالس المحلية، إلخ) من حدة هذه الحقبة الحرجة.

تأمل السلطة من خلال هذه الممارسات إلى تعزيز شعبيتها عن طريق تقديم كبش فداء، تُحمِله المسؤولية عن كل ما ينخر البلاد من آفات، وألقت على عاتقه مسؤولية "تآكل الهوية الوطنية"، وفي الوقت نفسه تبرئ نفسها من المسؤولية عن مشاكل البلد التي يتضح مع مرور الأيام أن الرئيس عاجز تمامًا عن حلها ولا يملك أي حل لها. فيقوم بانتظام بتحفيز هذه الغرائز القومية، بخُطُب مروعة، موّجهة ضد من ينعتهم بالـ "الفاسدين، الخونة، أعداء الأمة الذين ينهبون الشعب"، دون أن يحدد المسؤوليات الحقيقية. في خضم هذه "الشعبوية التي تجعل من الشعب الغائب الأكبر فيها"26ملاك الأكحل، "شعبٌ شبح وشعْبوية من القمة: حالة قيس سعيد"، مبادرة الإصلاح العربي، 23 آذار/مارس 2022. https://www.arab-reform.net/fr/publication/peuple-fantome-et-populisme-par-le-haut-le-cas-kais-saied/ يحصر قيس سعيد نفسه في "مواجهة مباشرة، وجهًا لوجه مع "أعدائه": وفي هذا الصراع، لا يعدو الشعب أن يكون مجرد متفرج على حرب تدور رحاها بين الذي أعلن نفسه "نصير الشعب" من جهة، ومن جهة أخرى "أعداء الشعب".27المرجع نفسه.

اتخذت هذه الجرافة القومية الشعبوية من الأقلية المهمشة والضعيفة من سكان جنوب الصحراء الكبرى هدفًا لها، وساعد في تغذيتها أرضية خصبة من القومية المنتشرة28يقوم حزب سياسي وطني تونسي، تأسس في 2018، بالتنظير لهذه الأفكار التي ينشرها ويروج لها في وسائل الإعلام؛ وهي أفكار مفادها أن المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى، منحرفين وعنيفين، وأنهم يشكلون العدو الجديد للأمة.

وقدرًا من العنصرية القديمة الكامنة. يلاحظ أيضًا أن النظام التونسي يستثمر في هذا العدو، ويجعل منه وسيلة لتبرئة نفسه من مسؤولياته في الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الحالية، ويهدف في الوقت نفسه إلى توحيد "الشعب" مرة أخرى.

في خطاب رئاسي بتاريخ 21 شباط/فبراير 2023، وّجه رئيس الجمهورية شخصيًا اتهامه وتهديده إلى من وصفهم بـ"حشود المهاجرين غير الشرعيين" المرتكبين لأعمال "العنف والجرائم والأعمال غير المقبولة"، والأشخاص "الذين يتاجرون بالبشر". واتهم "مؤسسة إجرامية بالعمل على تغيير التركيبة السكانية لتونس من أجل تحويلها إلى دولة أفريقية بحتة وطمس طابعها "العربي الإسلامي" وطالب "بالتطبيق الصارم للقانون الخاص بوضع الأجانب في تونس ومراقبة عبورهم الحدود بشكل غير قانوني". وبذلك أصبح مصطلح "مهاجر" مرادفًا لمجموعة من التهم، منها "غير قانوني" و"تهديد" و"عنف" و"الإتجار بالبشر"29على عكس هذا النوع من التصريحات الإعلامية التحريضية، فإن الاتجار بالبشر هو أولًا وقبل كل شيء جزء لا يتجزأ من المجتمع التونسي، وثانيًا، هناك هيئة تحارب هذه الظاهرة المعقدة: الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر التي نشأت بموجب قانون برلماني صدر عام 2016. بالفعل، تخص ظاهرة الاتجار في تونس بشكل أساسي الفتيات التونسيات والأطفال الذين تم التعاقد بشأنهم للعمل في الأسر التونسية الثرية؛ إنها ظاهرة مسكوت عنها، وتعاني من "التقليل من شأنها من قبل أصحاب العمل التونسيين" (كاساريتي، المرجع نفسه). في عام 2020، سجلت تونس 907 حالة ضحايا للاتجار على أراضيها، 52٪ منهم أطفال و63.7٪ نساء. ويشمل هذا العدد 40.4٪ من الضحايا الأجانب (تقرير الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر).

و"غير شرعي" ومعادي لما هو "عربي إسلامي".

في المساء نفسه الذي ألقى فيه الرئيس خطابه المكرس لعنصرية الدولة، انطلقت حملات مداهمة من قِبل قوات الشرطة تطارد سكان جنوب الصحراء الكبرى الذين لا يحملون "أي وثائق"، وتحاصرهم وتسجنهم. تسببت موجة العنصرية والاعتداءات وكراهية الأجانب في الأماكن العامة في عزلة سكان جنوب الصحراء وفرارهم من الفضاء العام ... واختفائهم الكلي في بعض الأحياء (مدينتي أريانة وسُكرة). نجم عن ذلك نوع من العزلة العنصرية من جانب هؤلاء المهاجرين الذين أصبحوا يخشون المشي في الشوارع. وقد لجأ بعضهم ممن لم يعد لديهم بيوت إلى سفارة بلادهم، على غرار الإيفواريين الذين يعتبرون أن سفارتهم أضحت الملاذ الوحيد في هذا البلد الذي أصبح يشكل تهديدًا لهم.

من بين السكان الذين يدعمون تصريحات الرئيس، برز نوعان من ردود الفعل إزاء المهاجرين: الأول أصحاب الجرائم الصغيرة من التونسيين الذين استغلوا الوضع لمهاجمة سكان جنوب الصحراء ونهب أموالهم، خاصة في الأحياء الشعبية؛ والثاني، التونسيون الذين يعتقدون أنه يتعين على "الأفارقة" العودة إلى بلدانهم لأن الأزمة الاقتصادية تفرض منح الأولوية للتونسيين.

من جهة أخرى، قطع أرباب العمل التونسيون ومؤجرو البيوت للمهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى، على الفور كل اتصالاتهم بهم خوفًا من العقوبات ومن ضغوط الشرطة. أصبحت الدولة تُجَرم أرباب العمل ومؤجري البيوت للمهاجرين من جنوب الصحراء، مما تسبب في الإلقاء بهم في الشوارع ووضعهم في حالة بطالة، دون سابق إنذار، فأصبح من المستحيل على هذه الأقلية من دول جنوب الصحراء الكبرى العيش، أو مجرد العيش بالكفاف في تونس، بدون عمل وبدون سكن. من خلال هذا التحوّل الأمني​​، قضت السلطة على أي إمكانية للاندماج في المجتمع التونسي. لكن في الأيام والأسابيع التي تلت هذا المنعطف الخطير، واجه أرباب العمل في قطاعات الخدمات والبناء والمطاعم صعوبات جمة، نتيجة النقص في هذه القوة العاملة، مما دفع البعض منهم إلى اتخاذ الإجراءات الضرورية لتسوية وضعية عمالهم من مواطني جنوب الصحراء الكبرى، وإضفاء الشرعية على عقود عملهم. لكن قيود الإدارة وقوانين الأجانب أعاقت هذه الإجراءات مرة أخرى: "السيدة التي أعمل لها تنوي تحرير عقد عمل لصالحي، لكن الشرطة رفضت ذلك. توجهنا إلى وزارة العمل لأنه من المستحيل العمل بدون ترخيص للإقامة، لكن دون جدوى".30موظف إيفواري يعمل في مطبعة بالمنار بتونس العاصمة، أب لأسرة تعيش في تونس منذ 5 سنوات (مقابلة 25.03.2023).

تظل تونس متضامنة مع سكان دول جنوب الصحراء الكبرى. إذا كان بعضهم قد أعربوا عن إدانتهم وشجبهم التصريحات الرئاسية أثناء تنظيمهم مظاهرة "مناهضة للعنصرية" في 25 شباط/فبراير، فإن شكل التضامن الأساسي جاء من خلال توجيه نداء لجمع التبرعات وانتظمت لهذا الغرض شبكات المساعدة لتوفير أنواع المساعدة المباشرة للمهاجرين الأكثر ضعفًا وتضررًا (النقل، العلاج، الاحتياجات الأساسية). وخشية تعرضهم لانتقام الشرطة، عملت شبكات التضامن هذه في الخفاء ونظمت أعمالها عبر تطبيقات توفر سرية الرسائل.31عيّنة من الرسائل التي أُرسلت إلى أشخاص جدد في مجموعات المساعدة والتضامن: "بروتوكول لنقل الأشخاص في حالة التوقيف عند حاجز للشرطة: -حافظْ على هدوئك وابقَ منضبطًا. - أخبر أفراد الشرطة أنك تقود هذا الشخص أو هؤلاء الأشخاص إلى المستشفى وأنه تم السماح لهم بالركوب في الطريق بعد رفض سيارة أجرة نقلهم. – أرسل رسالة سرية إلى مجموعة signal #transport# مع تحديد موقع تواجدك - لا تقمْ أبدًا بتسليم المهاجرين إلى الشرطة. لدينا محامون، سنأتي لمساعدتك وسيكون كل شيء على ما يرام. - لا تتحدث أبدًا عن مجموعة التنسيق حتى لا تعرض شبكة التضامن للخطر."

ما يمكن ملاحظته في هذه الأزمة، أن العواقب قصيرة المدى الناجمة عن موجة العنصرية جاءت مناقضة للنتيجة المتوقعة من الخطاب الأمني ​​للرئيس: المواطنون من جنوب الصحراء الكبرى، الذين يقيمون وفق أوضاع قانونية، أو الذين حاولوا تسوية أوضاعهم (بما في ذلك الطلاب من الطبقات الاجتماعية الميسورة) غادروا تونس عن طريق رحلات الإجلاء، للعودة إلى بلدانهم، نتيجة شعورهم بالذعر والاشمئزاز من تلك الحملات العنصرية، بينما الرعايا المتواجدين "بشكل غير قانوني"، المستهدفين بالأساس من التهديدات الرئاسية، ظل معظمهم على التراب التونسي. لقد جاؤوا إلى تونس كأرض عبور في طريقهم إلى أوروبا ولن يتراجعوا عن هذا الهدف، وهم يدركون أنه ليس لديهم أي فرصة لتسوية أوضاعهم القانونية في تونس، أو العمل والعيش بها، والتمتع بالحقوق والكرامة في هذا البلد. منذ تصريحات الرئيس، تضاعفت وتيرة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، انطلاقًا من السواحل التونسية عشرة أضعاف: في 30 آذار/مارس 2023، تم إنقاذ 635 مهاجرًا من جنوب الصحراء الكبرى في البحر.32https://sosmediterranee.fr/regards-sur-la-mediterranee-centrale/57-chaos-dans-les-eaux-internationales

هذا السيناريو غير المسبوق تاريخيًا، لا ينم عن كراهية متأصلة من التونسيين إزاء الأجانب من إفريقيا جنوب الصحراء، بقدر ما يؤشر إلى مدى عنصرية وقومية التصريحات التي أطلقها رأس الدولة، والتي يجرم بها أبناء جنوب الصحراء الكبرى، وساهمت بالتالي في تقويض إمكانية الاندماج الضعيفة في المجتمع التونسي، التي كانت متوفرة لديهم حتى ذلك الوقت. لم تخفق الدولة في حماية الأقلية المهمشة فحسب، بل ألقت بها فريسة بين الناس. هذا الوضع الحرج دفع مواطني دول جنوب الصحراء الكبرى في تونس إلى التواري عن الأنظار خوفًا من الهجمات العنصرية، قبل فرارهم بين عشية وضحاها من البلد الذي كانوا يقيمون فيه. إنه شكل من أشكال الإرهاب، بالمعنى الحقيقي لمصطلح "استخدام الرعب لأغراض أيديولوجية أو سياسية أو دينية".

ترتكز الأشكال المختلفة لحالات الهجرة المذكورة (الدراسة، العمل، العبور) على أسس اجتماعية واقتصادية مختلفة تمامًا: ينحدر الطلاب الكونغوليون من طبقة اجتماعية أعلى، في حين أن الدافع الذي يحرك المهاجرين العابرين إلى أوروبا، هو الفرار من الفقر. من الملفت للنظر هي ظاهرة التمييز أو التمايز أو حتى رفض البعض من هؤلاء المهاجرين، الخلط بينهم وبين الآخرين من قبيل قولهم ("أنا في وضع قانوني") مثلما نشاهد في أوساط أي أقلية تعاني من تبعات دمج الجميع في القالب نفسه. نجد هذا التمايز وسط المهاجرين في فرنسا، بين أبناء برجوازية دول المغرب العربي (شمال إفريقيا) الذين أتوا للدراسة في فرنسا وأبناء هذه الدول نفسها في وضعية غير قانونية.

من الصعب تقييم تداعيات هذا الوضع غير المسبوق على المدى الطويل، والذي يتجاوز إلى حد بعيد حدود تونس ويؤثر بشكل خاص على التونسيين المقيمين في إفريقيا جنوب الصحراء، وعلى التجارة الدولية، والمهاجرين التونسيين والأفارقة في أوروبا.

السود من جنوب الصحراء والسود التونسيون: توافق ضمني وتنافر حول قضية السود

قضية العنصرية ضد السكان السود تسبق إلى حد كبير وجود المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى، وتشمل مجموعة سكنية محلية مندمجة في الأمة لكنها ضحية تحيزات عنصرية: إنهم التونسيون السود. ظلت هذه القضية لفترة طويلة من الزمن من المحرمات الحقيقية المسكوت عنها في تونس، كونها تعيد إلى الذاكرة تاريخ الرقيق داخل إفريقيا والطبقات العرقية التي ينفي المجتمع وجودها في البلاد.

هناك مجموعة من التسميات المحددة والتي تحمل في طياتها بعدًا تحقيريًا يُميز هذه "المجموعة". من المصطلحات المستعملة لوصم هؤلاء المواطنين، الشواشين (حرفيًا عرق السوس)، أوصيف (التي تشير مباشرة إلى حالة العبودية وتباعًا إلى السود)، وتسميات جديدة مثل الأسمر (اللون البني)، كذلك تسميات حضرية مثل الكحلوش (مشتقة من لون البشرة السوداء).

تمييز المواطنين من ذوي البشرة السوداء في تونس يحيل إلى نوع من الازدراء الطبقي، ويشير إلى الوضع الاجتماعي والاقتصادي المتدني. بالموازاة مع ذلك، ينبع هذا التمايز في لون البشرة من تمايز جغرافي (أقاليم معينة من البلد)، قائم على تقدير مبالغ فيه للمناطق الساحلية (الأكثر تصنيعًا وتطورًا) مقارنة بالمناطق الأكثر تهميشًا في الوسط وجنوب البلاد: وبذلك يبدو "الانحدار من الجنوب" وكأنه انتقاص من قدر صاحبه واحتقاره. هذا المزيج بين النزعة الإقليمية القوية والازدراء الطبقي والصورة التحقيرية للسكان السود، يؤدي إلى عنصرية كامنة ومترسخة ضد السكان السود التونسيين الذين يجدون أنفسهم عالقين داخل فجوة متناقضة، كونهم من جهة جزءًا لا يتجزأ من الجسد الوطني وفي الوقت نفسه، ينظر إليهم، كدخلاء معرضين للتهميش. وبروز تاريخ هذا المجتمع المهمش، ينسف أركان السردية الوطنية لأمة متجانسة، ويكشف عن الطابع الطبقي العميق للمجتمع.

وسعيًا لمكافحة هذا التمييز العنصري ابتداءً من عام 2011، ومن أجل تمكين التعبير عن المطالب السياسية والاجتماعية، ظهرت حركة تعبئة تونسية مناهضة للعنصرية حول عنصر "اللون" الأسود من خلال الدعوة إلى الكرامة والاعتراف. يمكن اعتبار هذه التعبئة ظاهرة غير مسبوقة في السياق المغاربي الذي يعمل حتى الآن على كتم البعد العرقي من خلال إبراز عناصر الهوية، سواء أكانت دينية أو لغوية أو سلالية. وبفضل جهود الجمعيات والإعلانات والمظاهرات، نجحت هذه المبادرات إلى إسماع أصوات التونسيين السود. هذه القضية التي ظهرت بعد 2011 ساهمت في اعتماد قانون مناهض للتمييز العنصري في 2018. ومن هذا المنطلق، مكن التحوّل السياسي في كانون الثاني/يناير 2011 من إعادة صياغة ميزان القوى بالكامل داخل المجتمع التونسي نفسه، بما عاد بالفائدة على الأقلية السوداء.33ستيفاني بوسيل، "التونسيون السود. بين القوالب النمطية والعنصرية والتاريخ: وجهات نظر حول تحديث مسألة الهوية "متكاملة هامشيًا"، في بوسيل (محرر)، السود في المغرب العربي. رهانات الهوية، باريس، Karthala-IRMC  2012.

هذه الأقلية غير المتجانسة وجدت نفسها رغمًا عنها عالقة في أزمة جنوب الصحراء الكبرى في شباط/فبراير 2023. بعض التونسيين السود تم بالفعل توقيفهم وإهانتهم والخلط بينهم وبين المهاجرين الأجانب، ووجد التونسيون السود أنفسهم ضحايا للتحوّل الأمني الذي اعتمدته دولتهم. وقد أعلن البعض منهم صراحة تضامنهم مع المهاجرين، لا سيما من خلال الشبكات الجمعوية المناهضة للعنصرية، لكن، تونسيون سود آخرون ابتعدوا عن أي نوع من التضامن مع الأشخاص المنحدرين من جنوب الصحراء خوفًا من تبعات ذلك أو رفضًا من أن يُنظر إليهم على أنهم منفصلون عن الجسم الوطني. هؤلاء المواطنون، الساعون على الدوام، إلى اكتساب الشرعية كـ "تونسيين" اضطر الكثير منهم إلى النضال ليتم اعتبارهم جزءًا لا يتجزأ من المجتمع الوطني، لكن من شأن ربطهم بالمهاجرين من جنوب الصحراء، لأنهم يشتركون معهم في لون بشرتهم فقط، أن يقوّض سعيهم الحثيث على الاعتراف بهم كمواطنين كاملي المواطنة، وهذا في بلدهم. وما بين التضامن مع قضية السود والولاء للأمة، فإن ما تتعرض له هذه الأقلية نتيجة هذه الأزمة، يكشف أسبقية مشكلة العنصرية في تونس.

خاتمة

تنتشر موجة الهجرة غير القانونية من سكان منطقة جنوب الصحراء الكبرى، سواء للعبور أو الاستقرار، فعليًا في كافة الدول المغاربية. يواجه المغرب والجزائر منذ عقود القضية الشائكة المتمثلة في اندماج هؤلاء السكان وإدارة شؤونهم في مجتمعهم، لكن على عكس المتوقع في تونس، التي تشكل فاعل ثانوي وحديث في ديناميكية الهجرة هذه، وقع الشرخ الحاد واحتدمت الأزمة، مما أدى إلى إجهاض كوزموبوليتية ناشئة.

وبالفعل، فإن مستقبل المغرب العربي، وبالتحديد مستقبل تونس، باعتبارها أرض للهجرة القادمة من جنوب الصحراء، مرتبطٌ بالوجود الملموس للهجرة من جنوب الصحراء التي انحصرت لفترة طويلة، في شكل الإطار الدولي وطلاب المدارس الخاصة. هذا الوجود الأفريقي، لمواطنين من ذوي المكانة الاجتماعية العالية نسبيًا، الذي غير بشكل جذري الصورة التي رسمها التونسي عن "الأفريقي" المرتبط حتى ذلك الحين بالفقر والتخلف، قد تحوّل إلى هجرات العبور والاستقرار العائلي.

في المسار الأخير الذي نجم عنه تغيير في طبيعة النظام السياسي التونسي، من دولة القانون إلى تآكل مؤسساته الديمقراطية، التي يجسدها قيس سعيد، فإن الدولة الشعبوية مستعدة لشن هجومها ضد أقلياتها لكسب الرأي العام واستمالته. تشهد الحلقة من هذا المسار المرعب والتي دفع ثمنها سكان جنوب الصحراء الكبرى في شباط/فبراير 2023 على هذا التغيير في النظام: "أخبرني كيف تتعامل مع أقلياتك ومهاجرك ولاجئك، سأخبرك ما هي حالة ديمقراطيتك".34فنسان جيسر، 2019، "تونس، مهاجرو جنوب الصحراء ما زالوا مستبعدين من الحلم الديمقراطي"، مجلة Migrations Société، رقم 177، رقم 3، ص. 3-18

على الصعيد الدولي، وحتى داخل الهيئات الدبلوماسية الأفريقية، دوت أصداء هذه الأزمة، وكانت بمثابة نافذة كشفت للعالم أجمع انتهاكات سيادة القانون التي تمارسها السلطة التونسية. وكان لا بد أن تحدث هذه الأزمة غير المسبوقة التي أطلق عليها أزمة "العنصرية"، لكي يتحرك الرأي العام الدولي و(يعيد) فتح الملف التونسي ويعترف بأن الديمقراطية تتعرض لانتكاسة هناك. تعد هذه القضية ذات أهمية بالنسبة للغرب لأنها تمس "الأساسيات": العنصرية، و"السود"، على الرغم من معاملتها هي نفسها للمهاجرين. كان يفترض أن تدق بوادر الأزمة الملموسة من انتهاكات لدعائم سيادة القانون في تونس ناقوس الخطر بالنسبة للمجتمع الدولي مثل مسألة السجناء السياسيين، لكن نظرًا لأن غالبيتهم كانوا إسلاميين، يبدو أنهم لم يثيروا ما يكفي من الاهتمام ولم يعترف بشرعية معاناتهم كضحايا من قِبل الرأي العام الدولي. لكن من خلال مأساة أقلية من الرعايا الأجانب، وصلت أصداء أزمة سيادة القانون التونسية، بعد 12 عامًا من الثورة، إلى مسامع واهتمام المجتمع الدولي. في الحقيقة تصاعد العنصرية والطعنة الرئاسية في جسد الكوزموبوليتية، ما هو إلا جزء ضئيل من تجليات هذه الأزمة.

Endnotes

Endnotes
1   ونصيبه من التدابير/الشراكات/الاتفاقيات التي يبرمها الاتحاد الأوروبي مع تونس، مثل "الشراكة من أجل التنقل" الموقعة في 2014: https://ec.europa.eu/commission/presscorner/detail/fr/IP_14_208

2   بوسيل ستيفاني، "الحكم الصادر اثناء محاكمة هامبورغ: عندما يَتهِم التفكير الأمني "اللاجئ والمسلم"، ميدل إيست آيز، 16 تشرين الثاني/نوفمبر 2016: https://www.middleeasteye.net/fr/opinion-fr/verdict-du-proces-de-hambourg-quand-la-pensee-securitaire-accuse-le-refugie-et-le

3   حسن بوبكري وسيلفي مازيلا، "تونس بين العبور والهجرة: سياسات الهجرة وظروف استقبال المهاجرين الأفارقة في تونس"، مجلة Autrepart ، عدد 36، 2005.

4 سيلفي مازيلا، "الطلاب الأفارقة في الجامعات التونسية الخاصة: الوجه الجديد للطالب "الدولي"، في سيلفي مازيلا، عولمة الطلاب. المغرب العربي بين الشمال والجنوب، باريس، كارتالا، 2009

5   نضرة بن فاطمة، "الطلاب الأفارقة في الجامعات التونسية: دراسات إحصائية اجتماعية 2000-2008"، باللغة العربية، رسالة ماجستير.

6   علي بن سعد (دير.)، المغرب العربي على محك ظاهرة الهجرة جنوب الصحراء، من الهجرة إلى استقبال المهاجرين، باريس، كارتالا، 2009.

7 ستيفاني بوسيل، "العنصرية والتنوع العالمي في المغرب العربي. إنشاء بنك التنمية الإفريقي في تونس وتجديد النظرة إلى الآخر"، المغرب العربي والعلوم الاجتماعية، 2014.

8   يُشترط على الأجنبي الذي يرغب في إنشاء نشاط تجاري خاص به التشارك مع شريك تونسي، يتعين عليه امتلاك 51٪ من أسهم الشركة.

9   كامي كاساريني، "الديناميات الاجتماعية والسياسية والبعد الإقليمي للهجرة الإيفوارية في تونس"، سنة المغرب العربي، 27، 2022.

10   يكتسب الأجنبي الجنسية التونسية إذا ولِد في تونس وكان والده وجده هم أنفسهم قد ولدوا في تونس. توالي ثلاثة أجيال مولودة في تونس يسمح للأجنبي بالاندماج في مجتمع المواطنين (الفصل 7 من قانون الجنسية). أما بالنسبة للتجنس فهو يتعلق فقط بالزوجة الأجنبية للتونسي.

11 من الناحية الرسمية، ترحب المدرسة العمومية التونسية بجميع الأطفال ابتداء من سن السادسة بغض النظر عن جنسيتهم. لكن على أرض الواقع، فلا بد من الحصول على الوثائق اللازمة من وزارة التربية والتعليم، وبالتالي، ضرورة معرفة الإجراءات الواجب اتباعها ومواجهة تعقيدات الإدارة. تهدف المنظمة غير الحكومية الخاصة بالاندماج، التي أنشأتها في عام 2021 مواطنة من كوت ديفوار إلى تشجيع الآباء من جنوب الصحراء الكبرى على تسجيل أطفالهم في المدارس العمومية التونسية، ومن ثم، تعلم اللغة العربية والاندماج في المجتمع. تقرير عن أعمال هذه المنظمة غير الحكومية في حي الحبيب بالمرسى: https://www.facebook.com/RLFLibreFrancophone/videos/260607022793444

12 تجدر الإشارة إلى أننا وجدنا حالات مماثلة للهجرة العكسية للأطفال من الجاليات التونسية غير المستقرة، من بلدان معينة لأسباب اقتصادية (التعليم أقل تكلفة في تونس) ولأسباب تتعلق بالهوية/الثقافة (تعلم اللغة العربية وثقافة بلد المنشأ).

13   براند لوري، 2006، المواطنون في الخارج: الهجرة والدولة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، نيويورك، مطبعة جامعة كامبريدج.

14 هذا الإخفاء واضح للغاية في مسودة الاستراتيجية الوطنية للهجرة التي وضعتها وزارة الشؤون الاجتماعية (2017): http://ote.nat.tn/wp-content/uploads/2018/05/SNM_FRA_FINALE.pdf

15 هيفاء مزالواط، "الهجرة التونسية بالأرقام" إنكفادا، 18 كانون الأول/ديسمبر، 2022.

16 القانون رقم 68-7 المؤرخ في 8 آذار/مارس، 1968 المتعلق بأحوال الأجانب في تونس:  https://legislation-securite.tn/fr/law/45206

17 العصور القديمة اليونانية: الأجنبي المقيم في أثينا دون حقوق المواطن. راجع سهيمة بن عاشور، الحريات الفردية للأجانب في تونس: رُحَّل الجمهورية، 2019، ADLI، هايدلبرغ.

18 مصطفى نصراوي، 2017، "العمال المهاجرون من جنوب الصحراء في تونس في مواجهة القيود التشريعية الخاصة بتوظيف الأجانب"، المجلة الأوروبية للهجرة الدولية، المجلد: 33، العدد: 4.

19 بن عاشور (المرجع نفسه)

20 85.6 ٪ من العاملين في قطاع الزراعة و69.2٪ في قطاع البناء يعملون في وظائف غير رسمية. انظر "الأمن والسيادة الغذائية والحق في التغذية في تونس"، منتدى تونس للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، دراسة، 2023. https://ftdes.net/rapports/souvrainte.resume.fr.pdf

21 مصطفى نصراوي، 2017، "العمال المهاجرون من جنوب الصحراء في تونس في مواجهة القيود التشريعية الخاصة بتوظيف الأجانب" ، المجلة الأوروبية للهجرة الدولية، المجلد 3، العدد 4.

22 رحاب بوخياطية، 2022، "أزمة اللاجئين: المحنة التونسية وعجز المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين"، نواة. https://nawaat.org/2022/07/14/crise-des-refugies-le-calvaire-tunisien-et-limpuissance-de-lunhcr /

23 ميشيلا كاستيلو دي أنطونيو، 2021، "طالبو اللجوء واللاجئون في تونس، عالقون بين نظام لجوء غامض والتعاقد الأوروبي"، تقرير روزا لوكسمبورغ شتيفتونغ. https://rosaluxna.org/wp-content/uploads/2020/06/Demandeurs-dasile-et-re%CC%81fugie%CC%81s-en-Tunisie.pdf

24 "يعاقب بالحبس من شهر إلى سنة وبغرامة من 500 إلى 1000 دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من ارتكب فعلاً أو أدلى بتصريح يتضمن تمييزاً عنصرياً بقصد الازدراء أو إهانة الكرامة. تضاعف العقوبة (الحبس من شهرين إلى سنتين وغرامة من 1000 دينار إلى 2000 دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين) في الحالات الآتية: إذا كانت الضحية في حالة ضعف بسبب التقدّم في السن أو الإعاقة أو الحمل الظاهر أو الهجرة أو اللجوء.»https://www.arab-reform.net/fr/publication/une-loi-contre-les-discriminations-raciales-en-tunisie-bilan-en-demi-teinte-dune-loi-pionniere/
25 https://www.middleeasteye.net/fr/reportages/tunisie-la-loi-contre-les-discriminations-raciales-ne- profite-pas-ceux-qui-en-ont-besoin

26 ملاك الأكحل، "شعبٌ شبح وشعْبوية من القمة: حالة قيس سعيد"، مبادرة الإصلاح العربي، 23 آذار/مارس 2022. https://www.arab-reform.net/fr/publication/peuple-fantome-et-populisme-par-le-haut-le-cas-kais-saied/
27 المرجع نفسه.
28 يقوم حزب سياسي وطني تونسي، تأسس في 2018، بالتنظير لهذه الأفكار التي ينشرها ويروج لها في وسائل الإعلام؛ وهي أفكار مفادها أن المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى، منحرفين وعنيفين، وأنهم يشكلون العدو الجديد للأمة.

29 على عكس هذا النوع من التصريحات الإعلامية التحريضية، فإن الاتجار بالبشر هو أولًا وقبل كل شيء جزء لا يتجزأ من المجتمع التونسي، وثانيًا، هناك هيئة تحارب هذه الظاهرة المعقدة: الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر التي نشأت بموجب قانون برلماني صدر عام 2016. بالفعل، تخص ظاهرة الاتجار في تونس بشكل أساسي الفتيات التونسيات والأطفال الذين تم التعاقد بشأنهم للعمل في الأسر التونسية الثرية؛ إنها ظاهرة مسكوت عنها، وتعاني من "التقليل من شأنها من قبل أصحاب العمل التونسيين" (كاساريتي، المرجع نفسه). في عام 2020، سجلت تونس 907 حالة ضحايا للاتجار على أراضيها، 52٪ منهم أطفال و63.7٪ نساء. ويشمل هذا العدد 40.4٪ من الضحايا الأجانب (تقرير الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر).

30 موظف إيفواري يعمل في مطبعة بالمنار بتونس العاصمة، أب لأسرة تعيش في تونس منذ 5 سنوات (مقابلة 25.03.2023).

31 عيّنة من الرسائل التي أُرسلت إلى أشخاص جدد في مجموعات المساعدة والتضامن: "بروتوكول لنقل الأشخاص في حالة التوقيف عند حاجز للشرطة: -حافظْ على هدوئك وابقَ منضبطًا. - أخبر أفراد الشرطة أنك تقود هذا الشخص أو هؤلاء الأشخاص إلى المستشفى وأنه تم السماح لهم بالركوب في الطريق بعد رفض سيارة أجرة نقلهم. – أرسل رسالة سرية إلى مجموعة signal #transport# مع تحديد موقع تواجدك - لا تقمْ أبدًا بتسليم المهاجرين إلى الشرطة. لدينا محامون، سنأتي لمساعدتك وسيكون كل شيء على ما يرام. - لا تتحدث أبدًا عن مجموعة التنسيق حتى لا تعرض شبكة التضامن للخطر."

32 https://sosmediterranee.fr/regards-sur-la-mediterranee-centrale/57-chaos-dans-les-eaux-internationales

33 ستيفاني بوسيل، "التونسيون السود. بين القوالب النمطية والعنصرية والتاريخ: وجهات نظر حول تحديث مسألة الهوية "متكاملة هامشيًا"، في بوسيل (محرر)، السود في المغرب العربي. رهانات الهوية، باريس، Karthala-IRMC  2012.

34 فنسان جيسر، 2019، "تونس، مهاجرو جنوب الصحراء ما زالوا مستبعدين من الحلم الديمقراطي"، مجلة Migrations Société، رقم 177، رقم 3، ص. 3-18

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.