عرضٌ للفرضيات
لا تدّعي هذه الورقة الإحاطة الكاملة بمختلف أبعاد وجوانب نظام الدعم الاجتماعي في الجزائر، بل تهدف فقط للإسهام في النقاش العام حولها من خلال جملة من الفرضيات التي تشكل صياغة تحليلية لعناصر أولية لمقاربة كيفية تستند أساساً وفي المقام الأول إلى مفاهيم ومقولات علم الاجتماع السياسي. ما يدعم - في اعتقادنا - جدوى هذا الاختيار المنهجي والمعرفي هو مغالاة النقاش العام حول سياسات وإجراءات الدعم الاجتماعي في الجزائر في الطرح الاقتصادوي والتقني، مع تغييب للتناول السوسيولوجي للمسألة، وإغفال لافت - إعلاميًّا وحتى أكاديميًّا- للوظيفة السياسية المنوطة بإجراءات ومختلف سياسات الدعم في السياق الجزائري. الفكرة الأبرز التي يستند إليها التحليل في هذه الورقة مفادها أنه لا يمكن تناول منظومة الدعم الاجتماعي - في حالة الجزائر أو غيرها من البلدان - بمعزل عن شكل السلطة السياسية، طبيعة الدولة واقتصادها السياسي، وكذلك النموذج الاقتصادي السائد.
تجادل هذه الورقة بأن منظومة الدعم الاجتماعي في حالة الجزائر، ومع الإقرار بالمكاسب الاجتماعية الكثيرة التي حققتها عبر مختلف مراحل الجزائر المستقلة، لها وظيفة سياسية تؤديها، ليس بدافع ذاتي لدى من يتمتعون بالسلطة، بل بحكم الطبيعة النيوباتريمونيالية للسلطة والزبونية للدولة والطبيعة الريعية للاقتصاد الجزائري. وهذا أمر ينسلّ من خصوصيات التاريخ السياسي للجزائر الحديثة، حيث تشكلت ثقافة سياسية وتصورات شعبوية الطابع للدولة وللمجتمع، والتي لا تزال حتى اليوم تحدّد في جانب كبير ماهية ومخرجات السياسات العمومية بما فيها سياسات وإجراءات الدعم الاجتماعي. إن المآل أو المُخرج السوسيولوجي للوظيفة السياسية المنوطة بإجراءات الدعم الاجتماعي ضمن المنظومة العامة للحكم في الجزائر، هو تعطيل سيرورة التشكّل الطبقي للمجتمع، عبر تكريس مختلف سياسات الدعم (الموجهة إلى السلع الأساسية والسكن والشغل، إلخ) لواقع مساواتي (egalitariste)، ينفي التمايز الاجتماعي ويعطل ديناميته التي هي ذاتها دينامية تشكّل ونشوء المجتمع الحديث (وفق أطروحات مؤسسي علم الاجتماع الأوائل من تونيز إلى دوركايم). بعبارة أخرى، إن نظام الدعم الاجتماعي في الجزائر ولاعتبارات تاريخية وبنيوية، يساهم في تعطيل وتأجيل الانتقال من الجماعة إلى المجتمع بتعبير فيرديناند تونيز .
هناك بُعدٌ آخر تجادل الورقة لصالحه هو أن دينامية تسييس إجراءات الدعم الاجتماعي في سياق السلطة النيوباتريمونيالية والدولة الزبونية والاقتصاد الريعي، يُفضي إلى إفراغ العلاقة بين الدولة والمجتمع من مضامينها السياسية، ويجعل الطلب الاجتماعي الموجه إلى الدولة خالياً من المطالب السياسية (مطلب التمثيل، الرقابة، الحريات ...الخ)، ويُبقي فقط على المضمون والمطلب المعيشي (توفير السلع والمواد الأساسية، مزيد من الدعم والإمكانيات، إلخ)، ما يؤدي إلى تضييق لإطار العقد الاجتماعي القائم وبالتالي لمفهوم المواطنة ككلّ. وفي ذلك تعزيز لنزعة مزدوجة تعمل على طفلنة المجتمع وتقليص مشاركته في الحكم وفي صنع القرار وزيادة تبعيته من جهة، وعلى تكريس أبوية الدولة من جهة أخرى، وهي نزعة توفر السند لإعادة إنتاج ثقافة وممارسة سياسية تقليدية وما قبل حداثية.
صياغة أخرى للفرضية الرئيسية التي تعتمدها هذه الورقة هي في اعتبار الريع عامل ركود سياسي، أو بعبارة أخرى أداة تحييد سياسي للمجتمع ولمختلف القوى الاجتماعية فيه. لم يكن الدافع الوحيد للنموذج التنموي والاقتصادي الذي انتُهج بعد الاستقلال تحقيق العدالة والرفاهية، بل كانت هناك رهانات وحسابات سياسية تقف وراء هذا الخيار، أبرزها السعي لتفادي الكُلفة الاجتماعية/السياسية لأي مشروع تنموي فيه إقلاع اقتصادي، خصوصاً في مراحله الأولى. فاستثمار الدولة الكبير في الحقلين الاقتصادي والاجتماعي، وإخضاعها قوى السوق وقوانينه لها عبر التحكم بأدوات سياسية وبيروقراطية فيه، جعل السيرورة التنموية سيرورة توافقية فوقية، خالية من الجوانب الصراعية العنيفة المميزة لأي إقلاع اقتصادي. وحيّدت الدولة بذلك المجتمع سياسيًّا بإضفائها السلمية على الحقل الاقتصادي الذي هو في الأساس حقل تنازعي بامتياز.
إن الكثير من إجراءات الدعم (إجراءات دعم تشغيل الشباب عبر المشاريع كمثال) تندرج ضمن ما أسماه رشيد سيدي بومدين بـمتطلبات "الحوكمة المحلية للمنظومة الزبونية الريعية" . والمقصود هو شراء السلم الاجتماعي بحصة من الريع، ضمن عقد اجتماعي ضمني يهيكل علاقة دولة - مجتمع في سياق نظام زبوني واقتصادي ريعي، يستفيد به الشباب مثلاً من حصة من الريع على شكل قرض لدعم مشروع اقتصادي مقابل تحييدهم سياسيًّا. وفي هذا الإطار، يمكننا بسهولة الوقوف على تساهل وتغافل السلطات العمومية عن مختلف التجاوزات المرتكبة من طرف الشباب المستفيد من هذه القروض لناحية أوجه وطرق صرفها ومدى التزامهم بتسديد مستحقاتها للبنوك . ويختلط في هذه الحالة الهدف الاقتصادي مع الهدف السياسي لإجراء الدعم. وكلما ضعفت وتراجعت شرعية نظام الحكم زاد انتهاجه واعتماده على مثل هذه الممارسات .
بسطٌ للمقاربة
من ناحية أخرى، وفي سبيل بسط وفهم أكبر لفرضيات هذه الورقة ومقاربتها، نرى حاجة ملحّة لعرض أطروحتين اثنتين تؤطران هذه الورقة التحليلية وتوجّهاتها:
أولاً: التحوّل الذي أخذ فعلياً وعلى أرض الواقع دلالة الانحراف، يتعلق بـ "تغيير المسار" الذي ميز نهج وممارسات الدولة سياسياً واقتصادياً منذ بداية الثمانينيات، مع اعتلاء الشاذلي بن جديد سدّة الحكم، والتغيّر الذي طرأ لناحية مقاربة المعطى الريعي واستعمالاته، من أداة لتحقيق التنمية ودعم مشروع تحديث المجتمع والاقتصاد وتعزيز بناء الدولة، إلى وسيلة في خدمة أجندة الحكم للنخبة المسيطرة الجديدة. وتساعد هذه الفرضية بجرأتها في النقاش حول موضوع سياسات ونظام الدعم في الجزائر، لأنها تلقي الضوء على نحو واضح على البُعد السياسي للمسألة وتحرّرنا من قيد التناول الاقتصادوي والتقني الضيق والحصري لمسألة الدعم. فكما لسياسات الدعم وظيفة اقتصادية واجتماعية، فإن لها كذلك وظيفة سياسية وجب الكشف عن عناصرها ورهاناتها، خصوصاً في ما يتعلق بشكل العلاقة بين الدولة والمجتمع التي تعمل على تكريسها وإعادة إنتاجها. فلا يتم تقرير إجراءات الدعم وإدارة عملية توزيعها على مختلف المستويات ضمن فراغ سياسي، بل هي تعبير وامتداد لميزان قوى يخترق المجتمع والدولة ويتجسد في فاعلين سياسيين، اجتماعيين واقتصاديين، لكُلّ منهم مصالحه وحساباته الخاصة . وهي إذن عملية سياسية إضافة إلى كونها عملية محاسبية/تقنية ذات دلالة وأثر اقتصادي.
ثانياً: في الغالب، وعند تناول موضوع سياسات ونظام الدعم في الجزائر، إعلامياً أو أكاديمياً، يتم توظيف مفهوم "الدولة الاجتماعية". إن مفهوم الدولة الاجتماعية (أو دولة الرفاه) مرتبط من ناحية النشأة التاريخية بالسياق الغربي، فهذا الشكل من التنظيم السياسي والمؤسساتي للدولة هو نتاج مباشر وتعبير عن التسوية التي تمت بين القوّتين الاجتماعيتين الأساسيتين للمجتمع الرأسمالي الصناعي: رأس المال والعمل. أما في الحالة الجزائرية، فإن ما يسمى بالدولة الاجتماعية هو نتاج لسياق تاريخي مُخالف تماماً، يُكرّس علاقة السيطرة والتناقض السياسي في الأساس أكثر من علاقة السيطرة والتناقض الاقتصادي (كما في حالة الغرب الصناعي الرأسمالي الذي شهد ولادة المفهوم)، وهو السياق الذي شهد ولادة الدولة الوطنية والذي يعبر على علاقة مباشرة بالحالة الاستعمارية المميزة التي مارستها فرنسا على المجتمع الجزائري وبُناه الاجتماعية والسياسية والثقافية. فقد عمل الاستعمار - عبر مختلف مراحله - على إنتاج وإعادة إنتاج علاقة سيطرة شاملة ومستمرة على المجتمع الجزائري، قوامها التكريس المادي والرمزي، الموضوعي والذاتي، للامساواة سياسية واقتصادية وكذلك ثقافية، فشلت أمامها كل مطالب المساواة التي عبرت عنها الحركة الوطنية، وفشلت معها مبادرات الإصلاح التي حاول اليسار تمريرها وقاومها لوبي المعمرين. جعل هذا الواقع الموغل في اللامساواة بمختلف أبعادها من مشروع الدولة الوطنية المنشود مرتبطاً أشد الارتباط بهدف بناء دولة ذات طابع اجتماعي واضح وصريح. وقد عبّر بيان أول تشرين الثاني/ نوفمبر عن هذا المطلب على نحو جلي، حيث جعل ضمنيًّا دليل الاستقلال وشرعية الدولة هو مدى قيامها وتصديها لمهمتها الاجتماعية. وعليه، فالدولة الاجتماعية في حالة الجزائر هي أمر يحيل إلى لحظة التأسيس لا إلى لحظة تالية لتطور البنية الاقتصادية - الطبقية للمجتمع (طبقة برجوازية وطبقة عمالية). وفي اعتقادنا، تكمن أهمية إبراز هذا الفارق في مضامين "الدولة الاجتماعية" ودلالاتها في الحالتين، بأنه كفيل بمساعدتنا على فهم ماهية وغايات سياسات وإجراءات الدعم الاجتماعي من منظور الدولة الجزائرية، ومن منظور توقعات وطموحات مختلف الفئات الاجتماعية. لقد أقرن وعد تشرين الثاني/ نوفمبر هدف الاستقلال السياسي، بمدلول انتزاع السيادة الوطنية، بوضع حدّ نهائي لحالة اللامساواة التي عاناها الجزائريون طيلة فترة الاستعمار، إلى درجة تماهت فيها - على مستوى التمثيل والممارسة - لدى الجزائريين لحظة الاستقلال وزوال الاستعمار مع لحظة نهاية الفقر و"الحُقرة" بشكل لا رجعة فيه. دليل الاستقلال والسيادة وفق هذا المنظور هو دولة وطنية تعمل بلا هوادة على تحقيق المساواة (l’égalité) وفق تصور لهذه الأخيرة يحيل في الحقيقة إلى مفهوم المساواتية (l’égalitarisme)، وهو تصور له جذور ثقافية وأنثربولوجية عميقة في التجربة السياسية الجزائرية الحديثة المتأثرة بالاستعمار الفرنسي، حيث يقترن بالنموذج الشعبوي للدولة (الذي تحمله النخب السياسية) ويتوافق ومدلولات "دولة الزواولة" لدى الفئات الشعبية. وفي هذا تأكيد مرة أخرى على أهمية السياق التاريخي المميز في حالة الجزائر الذي شهد ولادة مطلب الاستقلال ونشوء الدولة الوطنية، وهو سياق الاستعمار. الدولة في حالة الجزائر أكثر من أي بلد آخر، إن من ناحية النشأة والتأسيس أو من ناحية ديناميات البناء والتطور، هي دولة مرهونة بأداء وظيفة القضاء على اللامساواة ويتم تقييمها شعبيًّا على هذا الأساس. تعدى في حالة الجزائر أداء هذه الوظيفة الحد من تناقضات السوق ومعالجة التفاوتات التي تنتجها إلى نزعة صريحة في السيطرة على الاقتصاد ووأد السوق بمفهومه الليبرالي. على هذا الأساس، يمكننا فهم الإصرار الدائم لدى النخب الحاكمة لتأكيد عزم الدولة على مواصلة أداء دورها الاجتماعي وعدم نيتها - مهما كانت الظروف - التراجع عنه. وعليه، فإن أحد أهم مرتكزات شرعية منظومة الحكم في السياق الجزائري مرتبط فعليًّا باستمرار نظام الدعم.
كما يمكن الرجوع إلى سياق الحراك الشعبي حيث عرفت الحملة الانتخابية لرئاسيات 12 ديسمبر 2019 منافسة كبيرة بين المرشحين الخمسة لها (عبد المجيد تبون، علي بن فليس، عزالدين ميهوبي، عبد القادر بن قرينة، عبد العزيز بلعيد) لاستقطاب أصوات الشباب ورفع نسبة مشاركتهم في الانتخابات، حيث دخلوا في مزايدة بينهم لمن يعد بتقديم امتيازات أكثر للشباب. وفي هذا الصدد وعدوا جميعهم بمسح أو بإعادة جدولة ديون الشباب المستفيد من التمويل العمومي لمشاريع الأنساج (الوكالة الوطنية لدعم تشغيل الشباب Ansej).
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.