دولة مركزية قوية: شرط أساسي لحكمٍ محلي فعال في اليمن

طُرِحَت الفيدرالية باعتبارها وسيلة صالحة لتقاسم السلطة وتطبيق اللامركزية في اليمن واعتُبِرت نتيجة محتملةً لفترة ما بعد الصراع. لكن من الخطأ اعتبارها وسيلة لتحقيق الاستقرار. فهناك العديد من المتطلّبات لم تنفَّذ بعد لتفويض الصلاحيات بصورة ناجعة في اليمن، أبرزها وجود مؤسسات مركزية قوية موحدة.

عمال يمنيون أمام مباني تاريخية في المدينة القديمة بصنعاء، اليمن، شباط/فبراير 2019. © Yahya Arhab / EPA
* تنشر مبادرة الإصلاح العربي هذه المقالة بالتعاون مع تشاتام هاوس، وهي جزء من سلسلة تتناول مستقبل الحوكمة والأمن في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتأثيرهما على دور الدولة في المنطقة.

ينظرُ الأكاديميون والمحللون وبعض القادة السياسيين في اليمن إلى الحكم المحلي على أنّه البلسم الشافي لمعالجة مسألة السيطرة المفرطة للحكومة المركزية وتقريب الدولة من مواطنيها وتأمين الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لأولئك المواطنين. وفي الواقع، طُبِّقت الفيدرالية باعتبارها شكلاً من أشكال الحكم المحلي في نهاية مؤتمر الحوار الوطني بين عامَي 2013-2014، وذلك على الرغم من وجود خلافات حول عدد الأقاليم والخريطة الفيدرالية، وقد طُرِحَت آنذاك باعتبارها وسيلة صالحة لتقاسم السلطة وتطبيق اللامركزية في اليمن واعتُبِرت نتيجة محتملةً لفترة ما بعد الصراع. ومع ذلك، هناك العديد من المتطلّبات لتفويض الصلاحيات بصورة ناجعة لم تنفَّذ بعد في اليمن وأبرزها وجود مؤسسات مركزية قوية موحدة. وباختصار، من الخطأ اعتبار الفيدرالية وسيلة لتحقيق الاستقرار بدل أن يُنظَرَ إليها كهدف مستقبلي يتحقق بعد إحلال الاستقرار.

كيف ساهم الفشل في تحقيق اللامركزية في حالة التفتُّت

قبل النزاع الحالي، كانت السلطة والموارد في اليمن مجمَّعةً على المستوى المركزي في أيدي مجموعة من النخب السياسية والاجتماعية والقبلية والعسكرية، وكانت الدولة قد استجابت سابقاً للمطالبات بتطبيق اللامركزية في عام 2000 من خلال قانون السلطة المحلية، وهو ما ساهم في نمو المجالس المحلية. ومع ذلك، لم يُطبَّق ذلك القانون بالكامل وفشِل اليمن في تحقيق دولة لامركزية حسَنة الأداء، ويُعزى ذلك بصورةٍ جزئية إلى مخاوف الرئيس الراحل علي عبد الله صالح من التنازل عن السلطة، فضلاً عن النزاعات السياسية الأخرى. لقد توقفت جهود تطبيق اللامركزية تحديداً في وقت كان لليمن فيه مؤسسات دولة مستقرة نسبياً، وحكومة واحدة، وبرلمان فاعل، ولم تكن هناك حرب أهلية، وذلك على عكس الواقع الحالي. وكانت المسافة بين الدولة المركزية ومواطنيها، إلى جانب الفساد المتفشي وهيمنة حزب سياسي واحد، عواملَ ساهمت في النزاع الحالي وكذلك في فشل تطبيق اللامركزية.

وبعد خمس سنوات من الصراع والانقلابات المتعددة، تعاني الدولة المركزية في اليمن من الضعف والتفتُّت، فالبلاد منقسمة اليوم بين حكومتين؛ حكومة معترف بها دولياً بقيادة الرئيس عبده ربه منصور هادي، ومقرها الرياض، وحكومة الأمر الواقع التي تديرها ميليشيات الحوثيين انطلاقاً من عاصمة البلاد صنعاء. وقد فشلت كِلا السلطَتَين المتنافسَتَين في توفير الخدمات الأساسية للمواطنين.

في الوقت الحالي تفتقر حكومة الرئيس هادي إلى القدرة والبنية التحتية، فضلاً عن القدرة السياسية على العمل داخل اليمن، وخصوصاً بعد طَردِها من عاصمتها المؤقتة عدن في أعقاب انقلاب المجلس الانتقالي الجنوبي في آب/أغسطس 2019، وقد استنزف معارضو هادي الحوثيون عائدات الدولة لتمويل جهودهم العسكرية على حساب الخدمات الأساسية.  وفي الوقت نفسه، قوَّضت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، اللّتان يُفتَرض أنهما تقفان إلى جانب حكومة هادي، شرعية هذه الأخيرة على أرض الواقع من خلال توفير الدعم العسكري والمالي للجهات الفاعلة غير الحكومية. ونتيجة لذلك، تفتقر الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً إلى احتكار القوة حتى في المناطق التي تسيطر عليها. ونظراً للغياب الحالي للمؤسسات المركزية القوية الموحدة فإننا قد نشهدُ المزيد من التفتُّت.

الإخفاقات والنجاحات في العلاقات المحلية للحكومة اليمنية أثناء النزاع

بعد انتقال حكومة هادي إلى عدن، استأنفت في نهاية المطاف وظائفها في العاصمة المؤقتة بشكل جزئي فقط وتمكنت من تحقيق الاستقرار في عملة البلاد، الريال اليمني، ومن توفير خدمات محدودة مثل التعليم والصحة والكهرباء ودفع رواتب الموظفين المدنيين العاملين في الأراضي التي تسيطر عليها حكومة هادي. ومع ذلك تم تقويض هذه القدرة المحدودة من خلال الاستيلاء الجزئي للمجلس الانتقالي الجنوبي على عدن في كانون الثاني/يناير 2018؛ وهو مجموعة انفصالية ترغب في إحياء جنوب اليمن المستقل وتحظى بدعم مادي وعسكري من الإمارات العربية المتحدة ويقودها اثنان من المسؤولين الحكوميين السابقين الذين قام هادي بعزلهم في عام 2017.

بعد سيطرته الجزئية على المدينة، لم ينجح المجلس الانتقالي سواءً في تقديم الخدمات العامة بنفسه أو في إدارة عمل السلطات المحلية في عدن للقيام بذلك. وبدلاً من ذلك، ركزت المجموعة الانفصالية على عرقلة جهود الحكومة اليمنية لتقديم هذه الخدمات. وفي حين تمكنت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة من التوسُّط في إحداث انفراج هش بين من يسمّون حلفاءً في الحرب ضد الحوثيين في آب/أغسطس 2019، دبَّر المجلس الانتقالي الجنوبي انقلاباً كاملاً وتولى السيطرة الكاملة على عدن. ومنذ سيطرته على عدن لم يتمكن المجلس الانتقالي من تحسين تقديم الخدمات في المدينة.

أمّا ضِمن الأراضي التي لا تزال خاضعة لسيطرة الحكومة المعترف بها دولياً فقد نجحت بعض المحافظات في الاضطلاع بمسؤوليات إضافية تزامناً مع ضعف قدرات الحكومة. وقامت السلطات المحلية في مأرب وحضرموت، وكلاهما غنية بالموارد الطبيعية، بالتنسيق مع الحكومة المركزية لتفويض الصلاحيات. واتفقت الحكومة اليمنية مع المحافظتين على تخصيص 20% من عائدات النفط والغاز لبرامج التنمية المحلية. وقد كان هذا الفهم المتبادل، على الرغم من محدوديته، مفتاح الاستقرار النسبي في مأرب وحضرموت اللتين تمكنتا من توفير مستوى أعلى من الخدمات مقارنة بباقي أنحاء البلاد وتحقيق درجة من الحياة الطبيعية خلال الصراع.

المتطلّبات الأساسية للفيدرالية

يتطلب تحقيق الفيدرالية ما هو أكثر من الإرادة السياسية، فهي تتطلب تفاهمات متبادلة بين الحكومة المركزية والسلطات المحلية من خلال عملية تتيح لجميع الأطراف تهدئة المخاوف بشأن الهيمنة أو التلاعب بالموارد والسلطة السياسية. ويجب أن تُنشِئ عملية اللامركزية قنوات للتعاون بين المناطق للتفاوض حول التفويض بالصلاحيات سلمياً. ولتنسيق ذلك، من الأهمية بمكان أن يكون لليمن جهاز دولة مركزية قوي للتحكيم في المنازعات والحرص على أن يكون ضامناً لمبادئ أساسية معيّنة، مثل الحفاظ على سيادة الدولة، وإدارة المؤسسات المركزية بما في ذلك الشؤون الخارجية والدفاع، وضمان التوزيع العادل للموارد والحرص على عدم الانفصال الكامل لبعض المحافظات، إلى جانب أمورٍ أخرى.

بالنسبة إلى العديد من السياسيين والمثقفين اليمنيين لا تزال الفيدرالية تُعَدّ الشكل الأمثل للحكم في سياقِ ما بعد الصراع وذلك لتعزيز الحكم المحلي والاستجابة لمطالب المجموعات السياسية المختلفة وعلاج التفتت السائد حالياً في البلاد. ومع ذلك، يتطلب إنشاء نظام فيدرالي استقراراً سياسياً واجتماعياً، بالإضافة إلى المؤسسات القوية والنُظم المالية والسلطة التشريعية والهيئات القضائية واستعداد جميع الأطراف المحلية لتبنِّي عقلية التعاطي بحسن نية مع نموذج الحكم الجديد. والأهم من ذلك، يجب معالجة مختلف المظالم التي من شأنها إعاقة العملية ولا سيما المطالب الجنوبية بمزيد من الحكم الذاتي وبالنسبة للبعض الاستقلال بشكل صريح.

الدولة الضعيفة: التحدي الأكبر لتطبيق اللامركزية

كان خيار الفيدرالية كشكل جديد من أشكال الحكم من بين النتائج الرئيسية للفترة الانتقالية 2011-2014 التي تلت الانتفاضة اليمنية. وقد حاول هادي، الرئيس المعين حديثاً في ذلك الوقت، الدفع باتجاه اعتماد النظام الفيدرالي المكون من ست مناطق، وهو ما عارضه العديد من أصحاب النفوذ الرئيسيين - بمن فيهم الحوثيون والجماعات الجنوبية - وأصبح أحد دوافع الصراع الحالي.

واليوم، تشكل الدولة والحكومة الضعيفتان في اليمن العوائق الرئيسية أمام تحول البلاد إلى نظام اتحادي أو أي شكل آخر من أشكال الحكم المحلي المخوَّل. وبالتالي فإن الانتقال إلى الفيدرالية ليس احتمالاً واقعياً في اليمن في الوقت الراهن، ومن غير المرجح أن تكون متطلّبات هذا النوع من اللامركزية موجودة بصورة سريعة في سيناريو ما بعد الصراع. في هذه المرحلة، ينبغي أن تكون الأولوية لإعادة بناء وتعزيز مؤسسات الدولة المركزية؛ فالسعي لفرض الفيدرالية أو جعلها أولويّةً كنتيجة سيفضي إلى نتائج عكسية ويؤدّي فقط إلى مزيد من التفتُّت.

بدلاً من ذلك، يجب إجراء مناقشات مفتوحة حول أشكال محتملة متعددة من اللامركزية ومشاركة السلطة لإتاحة حلول إبداعية وعملية، فاليمن في وضعه الحالي لا يمكنه تحمُّل أو تنفيذ مشروع حكم جديد قائم على الفيدرالية. يجب أن تكون الأولوية للاتفاق على نموذج1 ينبغي أن يعتمد نموذج الحكم الانتقالي على موافقة مختلف الأطراف. تستطلع هذه الورقة مختلف الخيارات الممكنة لنموذج الحكم الانتقالي هذا وهي متاحة على الرابط التالي: devchampions.org PDF حكم مؤقت وانتقالي يكون من شأنه إعطاء الأولوية لتعزيز مؤسسات الدولة، كما يجب إجراء حوار لحل النزاعات السياسية. في غياب مؤسسات الدولة الوطنية الواضحة التي يمكن أن توفر الحماية والخدمات الأساسية، يمكن أن يكون تفويض الصلاحيات مسعىً ينعكس بالضرر والخطر ويمكن أن يؤدي إلى مزيد من التفتُّت والعنف.

Endnotes

Endnotes
1  ينبغي أن يعتمد نموذج الحكم الانتقالي على موافقة مختلف الأطراف. تستطلع هذه الورقة مختلف الخيارات الممكنة لنموذج الحكم الانتقالي هذا وهي متاحة على الرابط التالي: devchampions.org PDF

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.