في 25 تمّوز/يوليو 2021، أقال الرئيس التونسي قيس سعيّد رئيس الوزراء هشام المشيشي من منصبه وجمد عمل مجلس نواب الشعب التونسي، ليخلق أزمة دستورية في البلاد التي تواجه بالفعل أوضاعاً عصيبة بسبب فيروس كورونا. تسعى هذه الورقة إلى المساهمة في النقاش الدائر حول مدى دستورية التدابير التي اتخذها قيس سعيّد، آخذين بعين الاعتبار النص الدستوري والسياق العام وذلك لتوضيح أهمية التفسير السياقي للنص الدستوري من أجل تحقيق التواؤم بينه وبين الطبيعة الدينامية للمجتمعات.
قبل عقد من الآن، توحد التونسيون للإطاحة بنظام دكتاتوري حكم البلاد لـ23 عاماً وأشعلوا أمل التغيير في جميع أنحاء المنطقة. لكن على الرغم من التحول الناجح إلى السياسات الانتخابية واعتماد إصلاحات سياسية مختلفة -بما في ذلك صدور دستور جديد للبلاد- لم تتحقق آمال التونسيين وتطلعاتهم إلى مزيدٍ من الفرص والعدالة. وباتوا اليوم يواجهون تحديات عديدة تبدو مستعصية.
بداية من الأزمة الصحية التي تزداد سوءاً بسبب سوء إدارة القطاع الصحي، إلى استمرار الأزمة الاقتصادية (مع وصول نسبة البطالة إلى 17.8% في الربع الأول من العام 2021، مقارنة بـ15.3% خلال الربع الثاني من العام 2019)، ووحشية الشرطة وتواصل الإفلات من العقاب، وارتفاع معدلات العنف والجريمة (فقد وصلت معدلات العنف الإجرامي[3] إلى 88% من النسبة الإجمالية لِلعنف المسجل في كانون الأول/ديسمبر من العام 2020)، والمأزق السياسي والدستوري، والتفاوتات الجهوية، والفساد، وسوء الإدارة، كل هذه الأزمات خيبت آمال التونسيين في مستقبل أفضل وصدمتهم بواقع مرير.
في شباط/فبراير 2021، خفضت وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني، تصنيف تونس إلى B3 مع توقعات سلبية، وهو ما يعكس "ضعف الإدارة في مواجهة القيود الاجتماعية المتزايدة التي تعيق على نحوٍ متزايد مرونة الحكومة في تطبيق الإصلاح المالي وإصلاحات القطاع العام التي من شأنها أن تحقق الاستقرار وأن تعكس في نهاية المطاف الزيادة الملحوظة في عبء ديونها". خفضت الوكالة أيضاً تصنيف البنك المركزي التونسي من Baa3 إلى Ba1. يؤثر هذا تأثيراً مباشراً على جدارة تونس الائتمانية لدى المستثمرين والصناديق التمويلية.
في ظل هذا الضعف في آلية وضع القرارات العامة في البلاد، انتشرت دعوات على منصات التواصل الاجتماعي للخروج في احتجاجات شعبية في يوم 25 تمّوز/يوليو، الذي يوافق ذكرى إعلان الجمهورية التونسية، وذلك لمحاسبة السياسيين على الأزمة متعددة الجوانب التي تعصف بتونس. وبالفعل اندلعت احتجاجات في مختلف أنحاء تونس (منها باردو وصفاقس والقيروان وتوزر والمهدية، وغيرها من المدن)، تطالب بحل البرلمان وإقالة الحكومة.
لاحقاً في ذلك اليوم، أعلن رئيس الجمهورية قيس سعيّد عن تفعيله الفصل 80 من الدستور الذي يتضمن أحكام الحالة الاستثنائية التي تمر بها البلاد، لِيتخذ جملة من القرارات وهي: تجميد أعمال البرلمان، ورفع الحصانة عن كافة أعضائه، وتوليه رئاسة النيابة العمومية، وإقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي. بعد ذلك بفترة قصيرة، أعلن عن فرض حظر تجول لمدة شهر في جميع أنحاء البلاد وذلك بدءاً من السابعة مساءً إلى السادسة صباحاً، (تغيرت ساعات الحظر مجدداً لتصبح من العاشرة مساءً إلى الخامسة صباحاً، على أن يبدأ العمل بها اعتباراً من 1 آب/أغسطس)، وأيضاً منع كل تجمُّع خاص أو عام يفوق ثلاثة أشخاص، وإقالة إبراهيم البرتاجي وزير الدفاع الوطني وحسناء بن سليمان وزيرة العدل بالنيابة، وتعطيل العمل بالإدارات المركزية والجمعيات المحلية والمؤسسات الحكومية ذات الصبغة الإدارية لمدة يومين.
ومنذ ذلك الحين، حدث كثير من الارتباك والجدل حول تفسير الفصل 80 من الدستور، إذ يقول منتقدو قرار الرئيس إنه تصرف على نحوٍ غير دستوري، في حين يقول سعيّد -أستاذ القانون الدستوري- إن الإجراءات التي اتخذها تتوافق مع المعايير الدستورية. من ناحية أخرى، لم تتشكل في تونس بعد الهيئة التي من المفترض أن تبت في مثل هذه التساؤلات: ألا وهي المحكمة الدستورية.
وبينما يصدر الرئيس أوامر رئاسية متتالية لضبط الأوضاع في هذه "الحالة الاستثنائية"، يتواصل الجدل وتزداد حدته.
تهدف هذه المقالة إلى المساهمة في النقاش الدائر حول مدى دستورية التدابير التي اتخذها قيس سعيّد، من خلال تناول النص الدستوري والسياق العام في تونس على حدٍ سواء. تقدم هذه الورقة الدليل على أهمية تبني نهج يقوم على التفسير السياقي للنص الدستوري من أجل تحقيق التواؤم بينه وبين الطبيعة الدينامية للمجتمعات.
شروط تطبيق الفصل 80 من الدستور
الشروط الجوهرية
يشترط الفصل 80 وجود "خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة".
جدير بالذكر أنه خلال تصويت
المجلس التأسيسي
على الفصل سالف الذكر، أُثيرت شواغل بشأن الصياغة الفضفاضة لهذا الفصل، بسبب عدم وجود تعريف لماهية "الخطر الداهم" و"الحالة الاستثنائية"، لكن المقرر العام للمجلس التأسيسي صرف النظر عن هذه الشواغل، وأكد أن صياغة الفصل كانت "واضحة".
بسبب التوتر والاستقطاب السياسيين، مرت تقريباً ست سنوات على الأجل الدستوري الأقصى لِتشكيل المحكمة الدستورية؛ وهي الهيئة المنوط بها تقديم التفسير الصحيح أو الرسمي للدستور. ويبدو بالفعل أنه من البداية لم تكن هناك نية أو رغبة حقيقية في إرساء محكمة دستورية في البلاد، تكون مُشكَلة من كفاءات وتضمن سيادة الدستور.
تعطل تشكيل المحكمة الدستورية بسبب فشل البرلمان في انتخاب أربعة من أعضائها، نتيجة الخلافات بين الكتل البرلمانية. لذا في نيسان/أبريل 2021، وفي محاولة للخروج من هذا المأزق، تم اقتراح تعديل على الفصل 10 من قانون المحكمة الدستورية يقضي بإلغاء الترتيب الوارد في الفصل للأطراف المنوط بها تعيين أعضاء المحكمة (وذلك بحذف لفظة تباعاً من نص الفصل). لكن الرئيس قيس سعيّد رفض التصديق على مشروع القانون ورده إلى البرلمان لإعادة التصويت عليه في قراءة ثانية. استند قرار سعيّد على حقيقة أن موعد التصديق على القانون يتجاوز الآجال الدستورية التي نصت عليها الفقرة الخامسة من الفصل 148 من دستور سنة 2014.
وفي حالة عدم تشكيل محكمة دستورية، تترك مهمة تفسير النص الدستوري لرئيس الجمهورية. فوفقاً للدستور، "رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة، ورمز وحدتها، يضمن استقلالها واستمراريتها، ويسهر على احترام الدستور".
الشروط الرسمية
يُحدد الدستور عدداً من الشروط لتفعيل العمل بالفصل 80 من الدستور.
- استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب.
ينص الفصل 80 على أنه يجوز لرئيس الجمهورية أن يتخذ أيّة تدابير "وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية".
لكن النص الدستوري لا يحدد شكل هذه الاستشارات وما إذا كانت آرائهم ملزمة. وبما أن الدستور لم ينص (كما هو الحال في أجزاء أخرى من الدستور) على أن هذا الرأي يجب أن يكون "رأياً مطابقاً"، فإن رئيس الجمهورية غير ملزم بالأخذ بآراء رئيس الحكومة أو رئيس مجلس نواب الشعب.
ومع أن خطاب الرئيس ذكر أنه قد "تم التشاور -عملاً بأحكام الفصل الـ 80 من الدستور- مع رئيس الحكومة ومع رئيس المجلس النيابي…"، كان موقف راشد الغنوشي، رئيس مجلس نواب الشعب، غامضاً، فقد أعلن في البداية أن "الرئيس استشاره"، قبل أن يتراجع عن كلامه وينفي استشارة رئيس الجمهورية له بشأن تفعيل الفصل 80 من الدستور.
أما عن رئيس الحكومة، فلم يحدد في بيان تخليه عن مهام منصبه إذا ما تمت استشارته أم لا.
- إعلام رئيس المحكمة الدستورية
ينص الفصل 80 على أن لرئيس الجمهورية أن يتخذ التدابير التي تحتّمها الحالة الاستثنائية وذلك بعد "إعلام رئيس المحكمة الدستورية".
وفي ظل غياب مؤسسة المحكمة الدستورية، ثمّة قراءتان محتملتان:
الأولى، أن هذا شرط أساسي لتفعيل الفصل 80 من الدستور وبناءً عليه، فإن عدم القيام بذلك قد يُمثل مخالفة للفصل.
التفسير الثاني المحتمل -الذي يميل إليه أستاذ القانون الدستوري أمين محفوظ- أنه في مرحلة تفعيل الفصل 80، فإن دور المحكمة الدستورية ليس حاسماً، طالما أن على الرئيس فقط إعلام رئيس المحكمة الدستورية. ومن ثمّ، فإن عدم القدرة على إعلامه لا يمنع الرئيس من تفعيل الفصل 80. ومع ذلك، فإن غياب المحكمة يُمثل مشكلة حقيقية بعد مضي 30 يوماً على سريان هذه التدابير، عندما يتوجب على المحكمة "البتّ في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه".
وفي خضم الأزمة الحالية، فإن طول فترة تأجيل إنشاء مؤسسة المحكمة الدستورية يعد العنصر الأساسي الغائب الذي كان بإمكانه أن يؤدي إلى تفادي الأزمة السياسية التي وصلت أوجها في هذه الاضطرابات التي تمر بها تونس اليوم.
- إعلان التدابير في بيان إلى الشعب
ينص الفصل 80 على أنه "يعلن الرئيس عن التدابير في بيان إلى الشعب". وفي مساء يوم 25 تمّوز/يوليو 2021، أعلن قيس سعيّد التدابير المذكورة آنفاً على شاشة التلفزيون الوطني التونسي.
تقييم التدابير المطبَّقة في 25 تمّوز/يوليو 2021
حول تجميد أعمال مجلس نواب الشعب
تنص الفقرة الثانية من الفصل 80 من الدستور على أنه "يُعتبر مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة. وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب".
رفض خبراء القانون، لا سيما الجمعية التونسية للقانون الدستوري، قرار تجميد أعمال مجلس نواب الشعب، موضحين أن الفصل 80 يعني أن للمجلس دوراً في الإدارة الفعلية للحالة الاستثنائية، ولا يُستثنى منها.
ومع ذلك، وافق خبراء وفقهاء قانون آخرون على تفسير سعيّد للفصل القانوني، معتبرين أنه قد تصرف في إطار الامتيازات المخولة إليه في ظل حالة استثنائية لأنه ببساطة "جمد" نشاط البرلمان، بدلاً من حله.
يعتمد هذا التفسير على حقيقة أنه في حين أن الفلسفة والمعنى الواضح للفصل 80 يسعيان إلى ضمان أن الفروع الثلاثة للحكومة تواجه مجتمعةً "الخطر الداهم"، استند الرئيس في قراره إلى تأويل أوسع نطاقاً بناءً على السياق الحالي، وهو تأويل يقر أن السلطة التشريعية والحكومة جزء من الخطر المذكور.
جاء هذا الوضع بصورة أساسية نتيجة أن عملية صياغة الدستور بأكملها قد أفسدها ما أُطلق عليه في فلسفة المنظِّر السياسي الألماني كارل شميت "اتفاقات ارجائية"؛ مما يعني صياغة ألفاظ مقبولة -في ذلك الوقت- من قِبل الجهات الفاعلة، لكنها أخفت ورائها دوافع خفية متناقضة تم الاتفاق ضمنياً على تأجيلها للمستقبل.
ووفقاً لوجهة نظرهم، جُرد البرلمان من الثقة، وأوضحت دراسة أن 19% فقط من المشاركين لديهم ثقة في السلطة التشريعية. وعلى مدار الشهور القليلة الماضية تصاعدت مطالبات شعبية بحل البرلمان نتيجة مسلسل العنف الذي ازداد تكرره في البرلمان التونسي، "على الرغم من حقيقة أن البرلمان قد انتخب بحرية، إلا أن المؤسسة لا تتمتع بقدر كبير من الثقة بين الشعب. ويُعدّ فشل البرلمان في مواجهة التحديات الاقتصادية في الدولة، إلى جانب تواصله الضعيف نسبياً مع الأحزاب السياسية من العوامل الرئيسة التي أدت إلى ضعف مستوى الثقة فيه". إن التقرير العام حول نتائج مراقبة تمويل الحملات الانتخابية خلال الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها والانتخابات التشريعية لسنة 2019، ومراقبة مالية الأحزاب، الذي صدر عن محكمة المحاسبات، قد أوضح وجود إخلالات شابت الحسابات المالية وشرعية الموارد والنفقات للمرشحين في الانتخابات الرئاسية والتشريعية لعام 2019. وفي السياق نفسه، يزعم سعيّد وأنصاره أن البرلمان قد أصبح جزءاً من المشكلة.
حول إقالة رئيس الحكومة
قبل أسبوع من تلك الأحداث، وفي غمرة الأزمة الصحية المتفاقمة في الدولة، تم تسريب صور لمجلس الوزراء داخل فندق فاخر في مدينة الحمامات التونسية؛ مما أثار غضب الرأي المحلي، وحرَّض على مطالب بإقالة رئيس الحكومة وأعضائها.
لا تتناول الفقرة الثانية من الفصل 80 سوى حالة تنحية رئيس الحكومة عن طريق المجلس: "لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة". ولا توجد امتيازات مماثلة مُنحت لرئيس الجمهورية خلال هذه الولاية ولا في الأوقات العادية. لذا، لتبرير هذه الإقالة، يجب اعتبارها "تدابير تحتّمها الحالة الاستثنائية".
بدلاً من اختيار تأويل واسع النطاق للفصل 80 من الدستور، كان من الممكن أن يصدر الرئيس مرسوماً بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية لوقف العمل بأبواب الدستور (البابان الثالث والرابع تحديداً بشأن السلطتين التشريعية والتنفيذية)، لتفادي الخلاف القائم حالياً (إصدار مراسيم رئاسية لتعديل الدستور).
حول الاستحواذ على السلطات
في أعقاب قرار الرئيس بتولي الإشراف على النيابة العمومية، تلقى انتقادات لجمعه كل السلطات بيده ولتعدّيه على استقلال القضاء، وهو مبدأ يكفله الدستور والقانون في الدولة.
مع ذلك، تخضع سلطة النيابة العمومية (الفصلين 22 و23 من مجلة الإجراءات الجزائية التونسية )، بموجب القانون، لسلطة وزارة العدل ومن ثَمّ للسلطة التنفيذية.
علاوة على ذلك، ينص الفصل 115 من الدستور على أن "النيابة العمومية جزء من القضاء العدلي، […] ويمارس قضاة النيابة العمومية مهامهم المقررة بالقانون وفي إطار السياسة الجزائية للدولة". ويسمح الفصل 80 من الدستور للرئيس بـ"اتخاذ التدابير التي تحتّمها الحالة الاستثنائية"، بما في ذلك السياسات الجزائية. لكن هذا يثير مخاوف حقيقية من عملية تحقيق الموازنة لسلطات الرئيس.
وقد أكد المجلس الأعلى للقضاء في بيان له أن "النيابة العمومية جزء من القضاء العدلي، يتمتع أفرادها بنفس الحقوق والضمانات الممنوحة للقضاء الجالس". ومع ذلك، بدا واضحاً أن البيان يفتقر للكثير من الحقائق، لأنه لم يشر إلى الفصل 102 من الدستور، الذي ينص على أن "القضاء سلطة مستقلة تضمن إقامة العدل وعلوية الدستور وسيادة القانون وحماية الحقوق والحريات"، ولم يرفض أيضاً قرارَ الرئيس تولي الإشراف على النيابة العمومية. ولا بد أن تكون هذه التدابير مؤقتة، لتأمين "عودة السير العادي لدواليب الدولة". هذه قضية مصيرية تتمحور حول مَن سيقوم بتقييم عودة السير العادي للأمور، وكيف سيتم ذلك.
هل هذا انقلاب؟
لا بد أن نتذكر أن الانقلاب هو استيلاء غير شرعي على السلطة، وتعطيل تطبيق الدستور، ونشر الجيش، وإسكات الأصوات المعارضة. ولكن الرئيس أعلن بوضوح أنه يعتمد في قراراته على الفصل 80 من الدستور، وبالتالي فإن إجراءاته -بالنسبة إليه- لا تزال في نطاق الشرعية الدستورية.
في ظل غياب تعريف الانقلاب في القوانين التونسية، نعود إلى "الميثاق الأفريقي للديمقراطية والانتخابات والحكم" الذي يعرِّف الانقلاب في المادة 23 منه بأنه:
"- كل استيلاء على السلطة أو انقلاب عسكري ضد حكومة منتخبة ديمقراطياً.
- كل تدخُّل من قِبَل مرتزقة لاستبدال حكومة منتخبة ديمقراطياً.
- كل تدخل من قِبَل مجموعات من المنشقين المسلحين أو حركات متمردة لقلب حكومة منتخبة ديمقراطياً.
- كل رفض من حكومة قائمة تسليمَ السلطة للحزب أو المرشح الفائز في انتخابات حرة وعادلة ونزيهة؛ أو هو
- كل تعديل أو مراجعة الدساتير والوثائق القانونية، بالصورة التي تتعارض مع مبادئ التناوب الديمقراطي للحكومة."
وفقاً لهذا التعريف، فما حدث لا يتوافق مع أيّ سيناريو انقلابي. فقد تبايَن توصيف القرارات، فهناك من دعاها "انقلاباً" وهناك من سماها "ثأراً مشروعاً للدولة والمجتمع"، بل إن بعض المحللين وصفوه بأنه "انقلاب الذكاء والبراعة".
قد يتوافق ما حدث بصورة أفضل مع ما أسمته فلسفة كارل شميت "الدكتاتورية الدستورية"، التي تشرعنها الظروف الاستثنائية وتكون محدودة الوقت.
فـ"الدكتاتورية الدستورية" تحدث حين يكون "لدى الأفراد أو المؤسسات الحق في اتخاذ أحكام وأوامر وقرارات ملزمة، وتطبيقها في ظروف محددة، دون عوائق من قيود قانونية على سلطتهم. وهذه الدكتاتورية الدستورية تتسربل بكل سلطة الدولة ونفوذها […] وتخضع للعديد من القيود الإجرائية والموضوعية المختلفة".
أثار هذا الحدث ردود فعل وطنية ودولية. فبينما أكد بعض المعلقين والشركاء الأجانب على ضرورة "الحفاظ على الجذور الديمقراطية للبلاد، واحترام سيادة القانون والدستور والإطار التشريعي؛ مع الإبقاء على الاهتمام برغبات وطموحات الشعب التونسي" (وهو موقف الاتحاد الأوروبي)، اتّخذ البعض مواقفَ أكثر حدة (مثل النائبة في الكونغرس الأميركي إلهان عمر، التي وصلت إلى حد الدعوة إلى تعليق جميع أشكال المساعدات الأمنية لمَن أسمتهم "منتهكي حقوق الإنسان"). غير أن المنظمات الوطنية أكدت على أهمية "ضمان استقلالية القرار الوطني، ودون تدخل أي طرف أجنبي" (الهيئة الوطنية للمحامين).
خاتمة
يتعدّى النقاش حول هذا الأمر مسألة قانونية التدابير ليتناول شرعيتها. يشهد على ذلك مشاهد التونسيين يهتفون في الشوارع في كثير من أنحاء البلاد مساء يوم 25 تمّوز/يوليو، في تحدٍّ لمخاطر وباء كورونا وحظر التجول، وذلك من أجل دعم سعيّد. وتظهر نتائج استطلاعات الرأي التي أجرتها "إمرود للاستشارات" (Emrhod Consulting) أن هناك حتى الآن دعم شعبي حقيقي لتدابير سعيّد.
وقد استشهد بعض مَن دافعوا عن أفعال سعيّد بالاقتباس الشهير عن شارل ديغول الذي يقول إن "هناك فرنسا أولاً، ثم الدولة، وأخيراً -بعد تأمين المصالح العليا لكليهما- القانون" للمُحاججة أن الدستور، من حيث أهميته، يخضع للمصالح الوطنية.
المخاوف بشأن احتمالات الانجراف نحو الاستبداد هي مخاوف مشروعة، لا سيّما أنه ليست هناك ضمانات لاحترام تقييد الحالة الاستثنائية، ولا ضوابط لقانونية التدابير المتّخَذة. فقد وصف أستاذ القانون الدستوري أمين محفوظ القرارات التي اتخذها رئيس الجمهورية خلال الحالة الاستثنائية بأنها من "أعمال السيادة"، وهو ما تُعرّفه المحكمة الإدارية على أنه "يقصد به الأعمال السياسية الهامة كحالات الحرب والعلاقات الخارجية وعلاقة الحكومة بالسلطة التشريعية"، حيث لا يقبل الطعن فيها بحجة تجاوزها السلطة المخوَّلة لمَن اتخذ هذه الإجراءات والتدابير. ومع الصلاحيات المحدودة الممنوحة للهيئة المؤقتة المكلَّفة بمراجعة مدى دستورية القوانين، لا يمكن إلغاء الإجراءات التشريعية أيضاً.
يعني هذا أن تونس قد دخلت مرحلة ليس فيها فصل بين السلطات، في ظل "دكتاتورية دستورية". وفي هذا السياق، سيعتمد كثير من الأمور على شخص الرئيس قيس سعيّد ومدى التزامه بـ"معايير أو مبادئ أخلاقية التي تشكل جزءاً من عقيدة سياسية" تُعتبر مبادئَ فوقَ دستورية، لا سيّما احترام حقوق الإنسان الأساسية وكرامة الأشخاص. إلا أن المخاوف من "السيناريو المصري" في غير محلها أو تبدو مبالَغاً فيها. فالمعارضون السياسيون يعبّرون عن أنفسهم وآرائهم بحرية، ولم يتولَّ الجيش إدارة الدولة. والضمانات الوحيدة ضد الانتهاكات المحتملة هي متابعة الموقف عن كثب من قِبَل وسائل الإعلام الحر والمنظمات الرقابية القوية.
وأخيراً، تبرز بعض المسائل، وهي على الترتيب التالي:
- أولاً، يؤدي غياب خارطة طريق واضحة وتحديد الفريق المكلف بالإدارة والتواصل، خلال هذا السياق المضطرب، إلى نفاد الصبر والإحباط على المستويَين الوطني والدولي.
- ثانياً، هل تكفي مهلة الـ 30 يوماً لمعالجة "الخطر الداهم"؟ وهل تكفي للسماح بـ"عودة السير العادي لدواليب الدولة"؟
منذ بداية هذه التطورات، كانت القرارات الرئاسية تمضي بوتيرة سريعة. وفي واقع الأمر، كانت النيابة العمومية قد بدأت في رفع قضايا ضد برلمانيين متهمين بارتكاب جرائم انتخابية أو غيرها من الجرائم والجُنَح. سيناريو تغيُّر المشهد السياسي هو سيناريو ممكن، بناءً على تقرير محكمة المحاسبات الذي يفيد بوجود إمكانية إسقاط قوائم الأحزاب السياسية المتهمة بارتكاب مثل تلك الجرائم (وهي حركة النهضة وقلب تونس وعيش تونسي)، وإعادة توزيع مقاعدها (على الأحزاب التالية لها في البرلمان)، والعودة إلى العمل البرلماني بعد انتهاء مهلة التدابير الاستثنائية.
غير أن إحالة مدنيين (أعضاء البرلمان) إلى المحكمة الابتدائية العسكرية الدائمة بتونس تثير قلقاً كبيراً، خصوصاً مع إقالة النائب العام للدولة ومدير القضاء العسكري ووزير الدفاع الوطني، دون تعيين بدائل لهم. فهذه القرارات تتعارض مع المبادئ الدستورية والمواثيق الدولية.
إضافة إلى ذلك، فإن الأمر الرئاسي الذي نص على أن "تُعلَّق كل اختصاصات مجلس نواب الشعب … وترفع الحصانة البرلمانية عن كل أعضاء مجلس نواب الشعب طيلة مدة تعليق أعماله" صدَر مساء يوم 30 تمّوز/يوليو 2021 بالجريدة الرسمية، ونص على "إمكانية التمديد في المدة المذكورة (أي مدة الشهر) بمقتضى أمر رئاسي" دون تحديد عدد هذه التمديدات، بما يفتح الباب أمام تمديد غير محدود. وقد حذرت هيئات ومنظمات وطنية من "أيّ تمديد غير مشروع أو مبرَّر لتعطيل مؤسسات الدولة" مؤكدة على "ضرورة الالتزام بمدة الشهر المعلنة والمنصوص عليها بالدستور".
غير أن مأزقاً حقيقياً يلوح في الأفق إذا "تقدَّم رئيس مجلس نواب الشعب أو ثلاثون من أعضائه بطلب إلى المحكمة الدستورية للبتّ في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه" بعد مرور ثلاثين يوماً على سريان هذه التدابير. فقد نَصَّ الأمر الرئاسي عدد 80 على أن التمديد يكون بمقتضى أمر رئاسي، في تناقض واضح مع الفصل 80 من الدستور، الذي يمنح الحق في البتّ في هذا التمديد للمحكمة الدستورية.
تُظهِر صورة نشرتها الرئاسة التونسية الرئيسَ التونسي قيس سعيّد وهو يلوِّح لمؤيديه خلال سيره، محاطاً بحرّاس الأمن، في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة التونسية في الأول من آب/أغسطس 2021. فيما أشارت تقارير إلى أن نائبَين في البرلمان قد ألقيَ القبض عليهما في اليوم ذاته، بما يرفع عدد النواب المعتقلين منذ أقال سعيّد المشيشي وعلَّق أعمال البرلمان في 25 تمّوز/يوليو الماضي. وحين دعا وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى العودة "إلى المسار الديمقراطي" في البلاد، قال سعيّد إنه تصرف في إطار الدستور.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.