جدلية العلاقة بين العمل النقابي والاحتجاجات المطلبية في العراق: دراسة حالة "النقابة الوطنية للصحافيين"

تنشر مبادرة الإصلاح العربي هذه الورقة ضمن سلسلة أوراق حول النقاقات المهنية المستقلة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ممكن الإطلاع على الأوراق البحثية الأخرى هنا.

تمهيد

فتحت عملية إسقاط النظام الدكتاتوري في العراق في 9 نيسان عام 2003 اسئلة متعددة حول مآلات التغيير الذي لم يحصل في البلاد بإرادة داخلية وإنما بتدخل خارجي من دون وجود حاضنة اجتماعية داخلية واضحة تتولى إدارة وتنظيم عملية التغيير. فانهيار البنى المؤسسية والحاجة إلى تنظيمات مؤسسية جديدة، والرغبة الكبيرة في التحرر من قيود الماضي، كانت دافعاً لانطلاق الاحتجاجات والحراك المدني الذي كان يجتاح الشارع العراقي بمناسبة ومن دونها. ويمكن رصد تلك الاحتجاجات منذ الأيام الأولى من التغيير السياسي بعد 9 نيسان 2003، إذ تظاهر، على سبيل المثال لا الحصر، المئات من العسكريين الذين أنهيت خدماتهم من العمل في بغداد، فيما تظاهر الآلاف ضد الاحتلال الأمريكي في النجف، كما تظاهر العشرات دعماً لقانون الأحوال الشخصية، رافضين تعديله من قبل الإسلاميين الذين شاركوا للمرة الأولى في الحكم بعد انتهاء العهد الدكتاتوري.

وكان للمثقفين/الصحافيين/الناشطين دور بارز في تحريك الشارع وصناعة الرأي العام، والمدافعة عن قضايا الحريات الفردية والجمعية منذ السنوات الأولى بعد التغيير، وكان نتيجة هذه النشاطات المتواصلة لعقد كامل بعد 2003، تأسيس نقابة موازية لنقابة الصحافيين الرسمية، التي تأسست في 1959م.

وقد ساهمت هذه التجربة بنجاحات تركت آثارها على الواقع الإعلامي والثقافي والاجتماعي في العراق، فيما حملت مآلات هذه التجربة دروساً عميقة في العمل الجمعي التطوعي الذي يواجه أية تجربة فتية لتأسيس تنظيم نقابي مشابه.

وتكمن اهمية هذه الورقة في كون النقابة الوطنية للصحافيين هي النقابة الأولى التي اظهرت استمرارية وتأثيراً لأطول مدة زمنية ممكنة، تركت تأثيراتها المهمة على العملية السياسية وحياة الصحافيين، وتجربة العمل الجمعي. كما أن أهمية الخوض في تجربة النقابة الوطنية تتأتى من كونها شكلت تحدياً للنمط السائد الراضخ للدولة بوصفها رب العمل الرئيس تاريخياً، وصاحبة الريع الاقتصادي الوحيد. وبذا كان ظهور النقابة الوطنية بمثابة نتوء في السياق الذي كان يفترض عدم ظهور مثل هذه التجارب، إذ لا مصلحة لمواطنين جلّهم موظفون لدى الدولة، في تبني مشاريع تتحدى سياساتها.

وتهدف هذه الورقة إلى البحث عن تجربة فريدة لعمل نقابي أنشأه صحافيون مستقلون شباب، بقناعة أن هذه التجربة تظهر صعوبة ولادة التنظيمات النقابية في العراق، لا لمستوى منسوب الحربات العامة بالضرورة، وإنما لسياقات اقتصادية وقانونية وسياسية متوارثة منذ عقود.

الخلفية التاريخية والقانونية للعمل النقابي في العراق

يعود تنظيم الحياة المهنية لأصحاب الحرف في العراق إلى النصف الثاني من الحكم العباسي في القرن الحادي عشر بعد الميلاد بحسب بعض المؤرخين. ففي ذلك الحينن حدثت تطورات اقتصادية وسياسية داخلية أسفرت عن تنظيمات أولية لأصحاب الحرف، إذ أصبح لكل حرفة شيخ أو (رئيس) من أصحابها، يتلقى الدعم من السلطة حينذاك، وهو ما كان يعني اعترافاً رسمياً يتضمن إجراء الاتصالات والاستشارات في المواقف الخاصة. وقد كوّن هؤلاء (أي رؤساء الحرف) تقاليد وأعرافاً في ما بينهم، أقرت من قبل السلطات وأخذها القضاة والمحكّمون في الاعتبار أثناء النظر في الخلافات التي تظهر بين الصناع.1- د. حمدان عبد المجيد الكبيسي، الصناعة، دار الحرية للطباعة، 1985، ج5، ص295-301.

وفي العهد العثماني، كان نظام (نقابات الأشراف) على رأس التنظيمات الاجتماعية في المدن الكبرى، مثل بغداد والبصرة والموصل وكربلاء والنجف، إذ كان للنقباء دور اجتماعي بين أبناء مدينتهم، وسياسي في مواجهة السلاطين العثمانيين ومندوبيهم من الولاة وقادة الجيش. كما بقيت (الأصناف) كتنظيم اجتماعي للحرفيين إبان القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في العراق، يجمع أرباب الحرف وأصحاب المشاغل اليدوية وأصحاب العمل. وكان لكل صنف قواعد عمل تتعلق بالأمور المالية للصنف، وخاصة أجور الصناع وكمية الإنتاج والضرائب المفروضة على الصنف.2- د. عماد عبد السلام رؤوف، التنظيمات الاجتماعية، المصدر نفسه، ص129-158.

وفي العقد الأخير من حكم الدولة العثمانية، صدرت تشريعات تنظم ممارسة مهنة وكلاء الدعاوى (المحامين)، ونظام لممارسة الطبابة، ونظام آخر لممارسة مهنة الصيدلة.3- يراجع: مجموعة القوانين العثمانية، المطبعة العلمية، 1925، ترجمة: عارف أفندي رمضان، ج5.

وبعد تأسيس الدولة العراقية مطلع العشرينيات من القرن الماضي، صدرت مع بداية الحكم الملكي، واستناداً إلى قوانين عثمانية سابقة وتقاليد دستورية متبعة في الدول الأخرى، قرارات من الحكومة بتأسيس مجموعة من النقابات والجمعيات والنوادي، منها نقابة المحامين 1918، الجمعية الطبية العراقية 1921، جمعية العمال 1928، جمعية تعاون الحلاقين 1929، وجمعية أصحاب الصنائع 1929.4- د. ابراهيم خليل أحمد، الجمعيات والنوادي، حضارة العراق، مصدر سابق، ج13، ص145.

ونصّ دستور المملكة العراقية الصادر عام 1925 وفي المادة (12) منه على الاعتراف بحرية العراقيين في إبداء الرأي والنشر والاجتماع وتأليف الجمعيات والانضمام إليها ضمن حدود القانون. أما في الدساتير اللاحقة مثل دستور 1970، فقد نصت المادة 26 منه على كفالة حرية تكوين الجمعيات والنقابات بالوسائل المشروعة وعلى أسس وطنية. واعتنى دستور 2005 ضمن المادة 22 منه أيضاً بكفالة الدولة لحق تأسيس النقابات والاتحادات المهنية والانضمام إليها.

واعتنى المشرّع العراقي بتشريعات العمل التي نظمت عقود العمل وفصلت حقوق وواجبات كل من أرباب العمل والعمال أو المهنيين، كما اعتنت بضمان حق التنظيم النقابي للعمال، ابتداء من قانون العمال رقم 62 لسنة 1936 وامتداداً إلى قانون العمل رقم 151 لسنة 1970 وصولاً إلى قانون العمل الحالي رقم 71 لسنة 1987.

في عام 1978 صدر القرار المرقم 150، إذ قلب الحياة النقابية رأسا على عقب. وتضمن القرار المذكور تحويل العمال والمهن إلى موظفين رسميين في الحكومة العراقية. وكان هذا القرار إيذاناً بتمييع دور النقابات في الحياة السياسية والمؤسساتية للبلاد. وصدر هذا القرار في أثناء حكم البعث الذي تسلم مقاليد السلطة بانقلاب عسكري عام 1968، وقد جاء تساوقاً مع الرؤية الاشتراكية في الاقتصاد التي تبنتها الدولة، وأيضاً بهدف إسكات الأصوات المعارضة وإنهاء وجود التعددية الحزبية التي غالباً ما كانت تنشط عبر النقابات المهنية والاتحادات الطلابية.

واستمرت تبعية النقابات والاتحادات فيما بعد (أي زمن حكم صدام) للقانون والحكومة، فيما تحولت من جهة أخرى إلى ذراع رسمي لحزب البعث في جلب الانتماء الإجباري أحياناً، وكتابة التقارير الاستخبارية ومراقبة المواطنين أحياناً أخرى.

ولم تكن نقابة الصحافيين الرسمية بمنأى عن هذا التوجه طيلة حكم البعث، إذ لم تضم سوى الصحافيين في الصحف والمؤسسات الرسمية، وكانت تمثل أيضاً توجهات البعث الإيديولوجية من جهة، وتطبق ما يفرض عليها من قرارات في مجلس قيادة الثورة في حينها، من جهة أخرى.

ونقابة الصحافيين العراقيين (الرسمية) هي نقابة مؤسسة بقانون منذ ،1959 إذ كان الشاعر المعروف محمد مهدي الجواهري نقيبها الأول. وتضم النقابة حالياً أكثر من 16 ألف عضو، وارتباط رسمي بدوائر الدولة وموازنة سنوية من الحكومة.

السياق الاقتصادي للعمل النقابي في العراق

يعتمد الاقتصاد العراقي بشكل رئيس على عائدات النفط، إذ يشكل النفط أكثر من 95% من الموازنة السنوية، و75% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. وعلى الرغم من ذلك، فإن القطاع النفطي بمجمله لا يضم سوى 1% فقط من مجموع الأيدي العاملة في العراق، وهو ما يعني أن الاقتصاد العراقي يعاني من نقص خطير في التنوع. ويمكن الإشارة إلى أرقام مرتبطة للكشف عن خطورة الاقتصاد الريعي العراقي، إذ إن عدد مستلمي الرواتب من الدولة (الموظفين والعسكريين والمتقاعدين والمشمولين بالإعانات الاجتماعية) بلغ بنهاية عام 2020 نحو 4 ملايين و800 ألف شخص، وهو يشكّل 55% من إجمالي القوى العاملة في البلاد. وتعد هذه النسبة خطيرة قياساً بالأرقام المقارنة في دول أخرى مثل إيران بـ5% ومصر بـ7% والأردن بـ13%. ويكمن خطر النسبة الكبيرة من العراقيين الموظفين لدى الدولة اقتصادياً في إضعاف القطاع الخاص، وسياسياً في عدم وجود مصلحة في بناء المؤسسات الداعمة للحقوق.

ويعد هذا التوجه الريعي في الاقتصاد نتيجة لأكثر من 21000 قانون وتعليمات وأنظمة وأوامر متراكمة من العهد الملكي حتى 2003، كلها تصب في صالح اقتصاد اشتراكي ريعي مدعوم وموجّه من قبل الدولة، وهو يتناقض مع القوانين والتعليمات المطلوبة لنجاح القطاع الخاص ونظام اقتصاد السوق في البلاد.5- حوار أجراه الباحث مع سفير الولايات المتحدة في المنظمة الأمريكية للتنمية الدولية في العراق USAID، السيد جوزيف كوكسيان في بغداد بتاريخ 12/1/2012.

وبسبب ذلك كله أصبحت الدولة في العراق هي صاحبة المال السهل المتأتي من النفط، وهي صاحبة العمل الرئيس أيضاً، ما فرض ضعفاً كبيراً على القطاع الخاص الذي عاش طفيلياً محتاجاً للدولة وعلى هامشها طيلة عقود، وهو ما أنتج ضعفاً بيّناً في التنظيمات النقابية المهنية لمختلف الحرف وأصناف العمل.

وعلى الرغم من كل ذلك، فإن النقابات كانت تشكل صداعاً مزمناً للحكومة في ظل أية فسحة من الحريات. فمثلاً بين عامي 2003 و2005 نجحت النقابات العمالية بتنظيم إضرابات واعتصامات في البصرة بهدف الوقوف بوجه "خصخصة" القطاع النفطي.6- Rima Majed and Janan Aljabiri, Contemporary social movements in Iraq: mapping the labor movement and the 2015 mobilizations, Rosa-Loxemburg Stiftung, 2020, p29-33. إلا أنه سرعان ما خفت دور هذه النقابات، بل جرى تذويب عملها في إطار وزارات الدولة المختلفة بسبب مجمل التحديات التي تعيشها الحياة النقابية في العراق، مثل ضعف التنظيم والموارد المالية والخبرة الإدارية، فضلاً عن تضارب مصالح المنضوين تحت ظل النقابات بوصفهم موظفين من جهة، وبوصفهم أعضاء من جهة أخرى.

وجاءت هذه التحركات النقابية في ظل الانفتاح الفجائي والسريع أمام الإعلام، والرغبة بإظهار الحريات الكبيرة التي حققها نظام ما بعد 2003. وقد بقيت الحريات إلى حد بعيد أحد أبرز إنجازات المدة التي أعقبت تغيير النظام الدكتاتوري في العراق، ظهرت على شكل مئات الصحف والمجلات والفضائيات وآلاف منظمات المجتمع المدني تأسست طيلة هذه المدة.

المجتمع المدني والسياق السياسي بعد 2003

تعد الحريات العامة من أبرز ما تحقق في العراق بعد 2003. ويتضمن باب الحقوق والحريات في الدستور العراقي النافذ نحو عشرين مادة تخص حقوق المواطنين في الحياة والأمن والتمتع بالجنسية العراقية بالإضافة إلى حقوق العمل والرعاية الصحية والاجتماعية وتأسيس النقابات والانضمام إلى الجمعيات والاتحادات. وضَمِنَ الدستور حرية التعبير عن الرأي والصحافة، والاجتماع والتظاهر، وتأسيس الأحزاب والالتزام بالأحوال الشخصية، وأيضاً حرية ممارسة الطقوس. لكن المواد الدستورية المتعلقة بالحريات واجهت تحديات في تطبيقها، أهمها التلكؤ في تشريع القوانين الضامنة للحقوق والحريات مثل قانون حرية التعبير عن الرأي، وحق التجمع والتظاهر والاعتصام، وقانون حرية الوصول إلى المعلومة، وحتى إلغاء القوانين السابقة المتعلقة بالنقابات أو إقرار التعددية النقابية في البلاد.

لم يكن المجتمع المدني في العراق بأطرافه الأساسية (المنظمات المدنية والنقابات والإعلام) وليد عام 2003. فيمكن رصد العديد من النقابات وعشرات المنظمات الإنسانية والحقوقية وأيضاً المؤسسات الإعلامية (صحف، مجلات، إذاعات، مواقع إلكترونية) عراقية بعضها انبثق في المهجر سنوات الشتات، وعادت إلى العراق بعد 2003. وبعد تغيير النظام السياسي تشكّلت آلاف المنظمات المدنية ومئات من وسائل الإعلام عبرت عن الإرادة الجماهيرية، والصورة الديمقراطية الجديدة. وقدمت الكثير من المنظمات ووسائل الإعلام تجربة جديدة في الدعوة والتثقيف على المشاركة العامة في الانتخابات، والترويج للدستور الجديد، وأيضاً قضايا حقوق الإنسان، والمرأة والأقليات، كما ساهمت في مجالات الإغاثة والعمل الإنساني، وفضاءً حقيقياً للتواصل، موفّرة مجالاً عاماً عابراً للطائفية والإثنية.

ولابد من الإشارة إلى أن النقابات بوصفها تجمعات مهنية، تقليدياً تتبع قوانين منفصلة في التشريعات العراقية. وبعد التغيير السياسي عام 2003 ظهرت الحاجة إلى تشريع جديد ينظم منظمات المجتمع المدني التي جاءت أحياناً بوصفها فكرة موازية لفكرة النقابات من حيث الانتماء المهني (حالة النقابة الوطنية للصحافيين على سبيل المثال لا الحصر). وكانت ميزة قانون المنظمات غير الحكومية أنه شمل كل المنظمات (على عكس حالة النقابات التي حظيت بقانون لكل منها تم تشريعه طيلة التاريخ التشريعي للدولة العراقية).

ويمكن تقسيم النقابات ومنظّمات المجتمع المدني من حيث جهة التمويل وحجم المصروفات إلى خمس مجموعات رئيسيّة. الأولى، هي تلك المنظّمات ذات الطابع الخيري التي تتلقّى تمويلها من المؤسّسات الدينيّة أو الأحزاب السياسيّة بشكل أساس، بحيث تستفيد هذه الجهات السياسيّة من الطابع الدعائي الذي توفّره منظّمات المجتمع المدني التابعة لها أو المتعاونة معها لا سيّما في فترات الانتخابات.

المجموعة الثانية، هي المنظّمات التي تتميّز بطابعها الاحتجاجي والمناهض للحكومة. وقد قامت هذه المنظّمات بتنظيم عشرات التظاهرات، غالبيتها بعد أحداث الربيع العربي في العام 2010. وتميّزت بعض هذه التظاهرات بضبابيّة الموضوع والشعارات مثل تظاهرات 25 شباط/فبراير 2011. وقد أشّر بعضها إلى مدى انسلاخ هذه المنظّمات وبُعدها عن هموم الشارع العراقي، مثل تلك التي خرجت لتأييد الانقلاب العسكري ضدّ الرئيس المصري محمد مرسي في 30 حزيران/يونيو الماضي. لكن البعض من تلك التظاهرات كانت مطلبيّة وشديدة التنظيم والوضوح والتأثير، مثل تلك التي خرجت في 31 آب/أغسطس 2013 وطالبت بإلغاء امتيازات النوّاب ورواتبهم التقاعديّة. ولا تبحث مثل هذه المنظّمات الاحتجاجيّة عن تمويل كبير ما دام نشاطها يقتصر على الحضور في الشارع أو على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي.

المجموعة الثالثة، هي المنظّمات التي يمكن تسميتها بمنظّمات "الصالونات" المهتمة بحضور الملتقيات النخبويّة وبالمشاركة في المؤتمرات والندوات ولقاءات وسائل الإعلام، من دون أن يعكس ذلك بالضرورة مدى تجذّرها في المجتمع العراقي أو تمثيلها شرائح حقيقيّة من العراقيّين. ويبدو أن مثل هذه المنظّمات المتمرّسة في التعامل مع المنظّمات الدوليّة وسفارات الدول الغربيّة، كانت الحصيلة الأبرز للمساعدات الأميركيّة التي حظيت بها النقابات ومنظّمات المجتمع المدني خلال فترة تواجد القوات الأجنبية في العراق. وتجدر الإشارة إلى أن تلك المساعدات بلغت نحو 850 مليون دولار أميركي، بحسب ما أفادت  مستشارة الديمقراطيّة الأقدم في سفارة الولايات المتحدة في بغداد لوسي شانغ.

أما المجموعة الرابعة، فهي في الغالب تلك النقابات التي تعمل بقوانين أقرت قبل 2003، بقوانين منفردة عديدة لكل نقابة (مثل نقابة الصحافيين والأطباء والمهندسين وذوي المهن الطبية والعمال وغيرها)، وهي تتلقى أموالها وحضورها بموجب القانون وضمن الموازنات الرسمية للدولة، فضلاً عن الاشتراكات والخدمات التي تقدمها للمنتمين. وكان لارتباط النقابات بالتمويل الحكومي، وعلاقتها المشروطة بمؤسسات الدولة، دور مهم في عدم اهتمام النقابات بالشأن العام، بل انسياقها وراء الإرادة السياسية في السلطة. وظهر ذلك جلياً في كل الاحتجاجات التي حدثت بعد عام 2003 تقريباً، إذ غابت عنها النقابات الرسمية.

أما المجموعة الأخيرة من منظمات المجتمع المدني، فهي تلك التي تسعى إلى تقديم خدمات محددة مستفيدة من التمويل الذاتي أو من خلال التبرعات، حيث غالباً ما تكون هذه المنظمات صغيرة الحجم ونوعية التأثير.7- أشرنا في وقت سابق إلى تصنيف المنظمات من حيث الحجم وجهة التمويل وذلك ضمن مقال نشر على موقع المونيتور. للمزيد ينظر: علي طاهر، منظمات المجتمع المدني في العراق.. وهم أم حقيقة؟، متاح على: http://www.al-monitor.com.

وقد بلغ عدد النقابات والمنظمات غير الحكومية في العراق بحسب الإحصائيات الرسمية 2192 منظمة مسجلة بموجب قانون المنظمات غير الحكومية النافذ حتى مطلع شباط عام2015،8- "دائرة المنظمات غير الحكومية، تقرير شهر شباط 2015"، مجلس الوزراء، متاح على: http://www.ngoao.gov.iq/. تخصصت في أنواع المهن والحرف فضلاً عن قضايا التنمية، والإغاثة، والثقافة، وحقوق الإنسان، والإعلام والشباب.9- مركز المعلومة للبحث والتطوير، دليل المنظمات غير الحكومية في العراق 2013، ص8-9.

أما في ما يتعلق بالإعلام، فقد ارتفع عدد قنوات البث التلفزيوني العراقية المسجلة من قناتين قبل عام 2003 إلى 108 محطات، منها 28 محطة تلفزيونية أرضية، و25 فضائية، و55 إذاعة عام 2005،10- هيئة الإعلام والاتصالات، التقرير السنوي لهيئة الاعلام والاتصالات 2004-2005، ص41. وارتفع هذا الرقم إلى 121 محطة تلفزيونية أرضية وفضائية وإذاعة بحلول نهاية  2014،11- هيئة الإعلام والاتصالات، الإذاعات والفضائيات والمحطات الارضية المرخصة لعام 2014، ص1-10. وهو بطبيعة الحال لم يشمل العشرات من القنوات الفضائية العراقية التي فضّلت البث من خارج العراق.12- وزارة التخطيط وبيت الحكمة، التقرير الوطني لحال التنمية البشرية 2008، ص99. وقد كان لهذا النمو الكبير في الإعلام العراقي دور مهم في نشوء الدافع والحاجة إلى تأسيس نقابة/جمعية تدافع عن حقوق وحريات العاملين فيه.

مفارقات العمل الصحفي في العراق

فتحت لحظة سقوط النظام السياسي في العراق في 9 نيسان عام 2003 خزّاناً من الأحداث السياسية والتساؤلات عن شكل النظام المأمول. وكان لمستوى الحريات دافع للكثير من النخب والمثقفين إلى الاندفاع نحو وسائل الإعلام الصانعة للرأي العام. فقد تسنّم الجيل الأول من السياسيين العراقيين زمام السلطة بعد 2003، متعكّزين على شرعيتين أساسيتين: الأولى، مناهضة حزب البعث المنحل، والثانية، النظام الديمقراطي البديل للدكتاتورية الذي يعتمد صناديق الاقتراع. وبهاتين الشرعيتين وبمعية الشرعية الدولية، اكتسب النظام السياسي الجديد مشروعيته (بمعنى مقبوليته من قبل العراقيين). وشكّلت المعارضة السياسية قبل 2003 من الإسلاميين المبعدين والحزبين الكرد عماد الجيل الأول، وهو جيل حمل معه تأريخاً نضالياً طويلاً ضد الدكتاتورية، وهو جيل اكتوى بلظى نار التمييز الطائفي والقومي، وهو المرتاب دوماً من التحالفات الإقليمية والدولية. وبذلك شكّل الانتماء الديني/المذهبي/القومي هاجساً لهذا الجيل الذي لم يتوانَ عن الاحتماء بهذه الهويات وتصديرها في خطابه اليومي، ضمن نظام المحاصصة السياسية الذي ميّزه. وبالطبع هذا الجيل تكيّف بشكل كامل مع النظام السياسي الجديد الذي وفّر له كل ما يلزم من مال وسلطة ومكانة وشعور بالأمان.

وإلى جانب الجيل الأول كان الجيل الثاني من الشباب المثقفين، وهم القريبون من الجيل الأول في الهموم، والشعور بفداحة الإجرام الذي مارسه النظام الدكتاتوري السابق. لكن هذا الجيل وفي الوقت نفسه كان بعيداً عن الجيل الأول تنظيمياً وتكويناً ثقافياً. ولعل ذلك بالإضافة إلى التدافع على المواقع السياسية عبر نظام المحاصصة أبعد هؤلاء عن مواقع السلطة، لكن ذلك جعلهم عماد الوعي الثقافي الجديد في عراق ما بعد 2003. وقد اندفع الثاني من المثقفين الناشطين إلى أن يكونوا عاملين في الإعلام والصحافة بشكل رئيس لما توفره لهم وسائل الإعلام والتفاعل عبر مواقع التواصل الاجتماعي من منابر للتأثير المزدوج على الرأي العام من جهة والسلطة السياسية من جهة ثانية.

وقد حمل الجيل الثاني شعار إصلاح النظام أساساً في التوعية اليومية والتظاهرات المتعددة التي قادها بدءاً من 25 شباط 2011 وصولاً إلى الذروة في تموز 2015.

وفي هذا السياق بالضبط كان الشعور بالتحرر من الانتماء السياسي للأحزاب القومية والطائفية، والرغبة بالتعبير عن الحرية دافعاً نحو تحدي السلطة القائمة وتعليماتها البوليسية أحياناً والتي كانت في أذهان هؤلاء الإعلاميين امتداداً للنظام الدكتاتوري السابق.

وقد صنف هؤلاء الصحافيين أنفسهم أصحاب مشروع لإصلاح النظام، بوصفهم "صحافيين أحراراً" يمارسون المهنة والنشاط المدني والدفاع عن قضايا الحريات في الوقت نفسه.13- حوار مع حامد السيد العضو المناوب في مجلس النقابة الوطنية للصحافيين في الدورة الأولى، وعضو مؤسس فيها.

وكان الصحافيون يتميزون بما يشبه الحصانة عند السياسيين، إذ نجحت النشاطات المدنية بعد 2003 في رفع منسوب التحسس من تقييد الحريات العامة، ما جعل من التعدي أو التضييق على الصحافيين أمراً ذا كلفة باهظة على الحكومة.14- كان يكفي مثلاً اعتقال أو ضرب أو تهديد أحد الصحافيين، كي ينبري الصحافيون إلى تخصيص برامج وأعمدة في وسائل الإعلام، أو حتى إقامة وقفات احتجاجية. وكان أبرز مثال عليه الاحتجاجات الكبيرة التي نظمها الصحافيون اعتراضاً على إساءة إمام جمعة جامع براثا الشيخ جلال الدين الصغير بحق الصحافي احمد عبد الحسين الذي كتب عن توزيع هبات للمواطنين للتصويت لإحدى القوائم الانتخابية قبيل انتخابات عام 2010.

أضف إلى كل ذلك، أن وسائل إعلام غير منتمية إلى أحزاب السلطة، كانت تدعم حراك الإعلاميين الناشطين الذين باتوا أساس الحركة المدنية في العراق، مع ضعف النقابات وحداثة تجربة منظمات المجتمع المدني. فقد نظّم هؤلاء الناشطون الإعلاميون حملة كبيرة تحت عنوان: "بغداد لن تكون قندهار" احتجاجاً على تعرض ميليشيا جيش المهدي لعدد من طالبات الجامعة في البصرة عام 2008، فضلاً عن العديد من التظاهرات الاحتجاجية المطلبية المختلفة. وكان الصحافيون العماد الأساس للاحتجاجات العراقية منذ 2003 حتى تموز 2015. ويمكن القول إن الصحافيين العاملين في وسائل الإعلام والموجهين للرأي العام، كانوا هم النخبة المثقفة، وهم أنفسهم الناشطن المنضوين في منظمات المجتمع المدني، وصوت المعارضة السياسية في الشارع في الوقت نفسه، وهي مفارقة عراقية بامتياز.

النقابة الوطنية للصحافيين: إرهاصات النشأة والاستقلال

عقب الاحتجاجات التي نظمها الصحافيون الناشطون ومنظمات المجتمع المدني الناشئة في 25 شباط 2011 وبعد ثورات الربيع العربي، رغبت السلطات السياسية بالتقرب من الوسط الصحفي من خلال طرح قانون حمل عنوان (قانون حماية الصحافيين) للتصويت في مجلس النواب العراقي. وشهد طرح المسوّدة الأولى للقانون ردود أفعال حادة من الوسط الصحفي الذي رأى أن القانون في حال إقراره سيكبّل الحريات، ويميّز الصحافيين عن عامّة الناس على غرار السياسيين الذين ميّزوا أنفسهم بامتيازات مالية وصلاحيات غير معقولة.

وجادل الوسط الصحفي بأن اسم القانون الذي يحمل عنوان (الحماية) ويتضمن تخصيص قطع الأراضي، والعلاج المجاني وغير ذلك من الامتيازات ليس سوى رشوة حكومية للإعلاميين، داعين إلى تغيير العنوان إلى (حقوق الصحافيين) وإلغاء الفقرات التمييزية في مسودته.15حوار مع قيس العجرش.

كما أن القانون كان يتضمن ضمنياً إعادة تفعيل مواد جرائم النشر وقوانين مرتبطة مثل قانون الأفلام السينمائية وقانون المطبوعات العراقي وقانون وزارة الإعلام المنحلة والتي أوقفتها سلطة "بول بريمر" الحاكم المدني للعراق بعد 2003، ما جعل الوسط الصحفي يتحسس عودة الاستبداد للنظام السياسي في العراق.

وكان موقف نقابة الصحافيين العراقيين (الرسمية) داعماً لمشروع القانون، ومصرّاً على الحكومة بتضمين جميع تعليماتها أن "الصحافي هو المنتمي إلى نقابة الصحافيين" ليس إلا. بل أكثر من ذلك، عمدت النقابة إلى محاربة الصحافيين الرافضين مسودة القانون حد تهديدهم بإجراءات عقابية مختلفة.16- حوار مع حامد السيد.

وكانت نقابة الصحافيين العراقيين (الرسمية) داعمة لمجمل التوجه العام للإعلاميين الراغبين بتوسيع دائرة الحريات في البلاد حتى اغتيال نقيبها (شهاب التميمي) عام 2006 على يد تنظيم القاعدة، واستلام (مؤيد اللامي) مهام النقيب، إذ "انحدرت النقابة إلى حضن السلطة بدلاً من الدفاع عن الصحافيين".17- حوار مع مصطفى ناصر رئيس جمعية الدفاع عن الصحافيين وعضو مؤسس للنقابة الوطنية للصحافيين.

وبعد أشهر حافلة بالنقاشات والضغط الإعلامي على البرلمان، صوّت مجلس النواب العراقي على قانون (حقوق الصحافيين) بعد الأخذ بالعديد من ملاحظات الأسرة الصحفية، ومنها تعريف الصحافي على أنه (العامل في مجال الصحافة) وليس المنتمي إلى نقابتها.

وقد شكل النجاح في الضغط على إجراء تعديلات كبيرة في القانون روحاً تضامنية بين الإعلاميين البارزين، ودافعاً نحو تأسيس نقابة جديدة تتولى الدفاع عن الصحافيين بعدما تخلت النقابة الرسمية عن هذه المهمة.

ومنذ بدايات عام 2010 شعر الوسط الصحفي بتزايد التضييق على الحريات العامة، منها صعوبة إصدار الإجازات القانونية لمنظمات المجتمع المدني، والتي كانت تطول لأشهر عديدة، الا إذا حملت المنظمة المعنية اسماً إسلامياً أو حظيت بعلاقات سياسية. ومن مظاهر التضييق أيضاً، منع التصوير للإعلاميين إلا بإجازات رسمية، وتقييد التظاهر، وإعطاء صلاحيات لهيئة الإعلام والاتصالات لمراقبة الصحف الورقية وفرض الضرائب، وهي أمور خارجة عن نطاق الصلاحيات المحددة دستورياً. ويذكر الكثير من الصحافيين أن "حمل كاميرا التصوير في ذلك الحين كان يعادل حمل قاذفة RPG 7 في خطورتها على حياة الإعلاميين".18- ذكر ذلك العديد من الذين التقيناهم ضمن هذه الدراسة.

ومع هذه المظاهر جميعها، وبالتزامن مع ثورات الربيع العربي، تحفز الصحافيون إلى تأسيس تجمع للدفاع عن الصحافيين بشكل خاص، والحريات بشكل عام.

"وشجعت الثورة المصرية تحديداً المثقفين العراقيين للنزول إلى الشارع بدلاً من العزلة النخبوية النرجسية عن المجتمع"،19- حوار مع حامد السيد. وأن يكون المثقف فاعلاً اجتماعياً حقيقياً. وعلى الرغم من كل ذلك، لم يصل الأمر إلى معارضة النظام السياسي ككل والمطالبة بإسقاط النظام من قبل المثقفين بشكل عام والصحافيين بشكل خاص، كما جرى في الدول العربية، لأن المثقفين أنفسهم كانوا جزءاً من النظام ومؤسساته في أحيان كثيرة.

وكان أول الاحتجاجات العراقية بعد ثورات الربيع العربي، التظاهرة المطالبة بالمساواة والتي جرت في عيد الحب عام 2011. وتقدمت النساء صفوف المحتجين الذين شكّل غالبيتهم الصحافيون والصحافيات الناشطون والناشطات "وهو ما استفز السلطة كثيراً بسبب طابع الاحتجاج الحضاري والمدني".20- حوار مع حامد السيد. وكانت الحكومة مدركة أن النخبة المثقفة والصحافيين غير قادرين على تنظيم تظاهرات شعبية واسعة لأسباب موضوعية منها: الانقسام المجتمعي طائفياً، والخوف من عودة شبح الحرب الأهلية وإضعاف الحكومة، ومنها أن الحكومة في تلك المرحلة، وبفضل الارتفاع الفاحش في أسعار النفط دولياً، كانت تقدم خدمات جيدة نسبياً مثل التوظيف الحكومي ورفع الرواتب والمنح المالية وغيرها. ومع كل ذلك، فإن الوسط الصحفي كان يشعر بضرورة إصلاح النظام السياسي من خلال مواصلة الاحتجاجات والضغط الإعلامي وتنظيم هذا الوسط مؤسساتياً وفكرياً، من دون أن يكون لنقابة الصحافيين الرسمية دور في كل ذلك.

جمعية أو نقابة؟!

مثّلت مرحلة ما بعد إقرار قانون حقوق الصحافيين والاحتجاجات المتواصلة للنخبة المثقفة في العراق لحظة محتدمة أيضاً في الحوارات الداخلية ضمن مسارين: الأول تضمّن الدفاع عن تأسيس نقابة جديدة تدافع عن الصحافيين وتشارك في المجال العام بأوسع أبوابه، في مقابل مجموعة أخرى من المثقفين والصحافيين الذين كانوا يدافعون عن النقابة الرسمية بوصفها الجسد الجامع التاريخي لهذا الوسط.

والمسار الثاني كان يدعو إلى تأسيس جمعية (أو منظمة مجتمع مدني) تتولى أمر الدفاع عن حقوق الصحافيين، درءاً للمواجهة مع النقابة الرسمية والموجودة بقانون، في مقابل من دعا إلى تأسيس نقابة جديدة بدافع من الشعور باليأس من إصلاح النقابة الرسمية داخلياً، والرغبة الخفية بمواجهة السلطة وأركانها.

وكان أنصار تشكيل نقابة جديدة يستندون إلى "الدستور العراقي الدائم" الذي يكفل تشكيل النقابات والاتحادات من دون أن يذكر قيداً مثل (نقابة واحدة لكل مهنة). فيما كان أنصار تشكيل جمعية يستندون إلى حاجة التشكيل الجديد لدعم مالي من المانحين الدوليين الذين يشترطون وجود كيان مسجل رسمياً، وهو ما لم يكن ممكناً واقعياً في حال تشكيل النقابة.

انسحب أنصار النقابة الرسمية بهدوء من النقاشات، فيما رجحت كفة المطالبين بتأسيس نقابة جديدة للصحافيين في مقابل من طالب بتأسيس جمعية. وفي هذه النقاشات انسحب العديد من الرموز الصحفية، فيما تولت رموز صحفية أخرى مهمة الخطوات التأسيسية للنقابة الجديدة التي سمّيت: بـ"النقابة الوطنية للصحافيين".

ويذكر الصحافيون المؤسسون أن الدافع وراء تأسيس النقابة يعود إلى أن نقابة الصحافيين الرسمية كانت تعمل بمعايير غير مهنية في إبعاد أو تقريب الصحافيين بمقتضى بعدهم أو قربهم من السلطة. فكانت تقوم بفرز الصحافيين المشاكسين، وتمنعهم من إجازات التغطية الإعلامية. وكانت تستغل إمكانية إصدار الهويات الصحفية بوصفها هبة لمن يؤسس مؤسسة صورية أو أن يحولها بوقاً للسلطة. بل أكثر من ذلك كانت النقابة معروفة ببيعها البطاقات الصحفية لسائق التاكسي بغرض استغلالها لعبور السيطرات الأمنية. واستغل هذا الأمر أحياناً إرهابيون قُبض عليهم لاحقاً.21- حوار مع أمل صقر، عضو مجلس النقابة في الدورة الثالثة.

كما يذكر مؤسسون آخرون، أن النقابة الرسمية كانت غطاءً للنوادي والبارات والقمار استغلالاً لاسم الإعلاميين، لأن القانون يحمي ممتلكات نقابة الصحافيين. وبذلك تحولت النقابة الرسمية إلى حارس للسلطة وليس للصحافيين. فهي على سبيل المثال لم تتخذ أي إجراء إداري أو قانوني أو حتى إعلامي لحماية الصحافيين أمام تصرفات القوات الأمنية.22حوار مع حامد السيد.

وقد مثّل تتويج حوارات الصحافيين بإقامة المؤتمر التأسيسي للنقابة الوطنية للصحافيين مطلع عام 2013، تتويجاً أيضاً للحظة الصراع بين النخبة المدنية المثقفة مع الاسلاميين في السلطة. وعمدت الحكومة إلى قطع الطرق المؤدية إلى فندق الشيراتون الذي كان مقرراً أن يشهد إقامة المؤتمر التأسيسي، في محاولة لمنع الصحافيين من الوصول.

ورغم كل العراقيل، عُقد المؤتمر التأسيسي الأول بحضور عدد من النواب الداعمين، وهو أيضاً شهد حسم قضية قانونية النقابة من عدمها من خلال المادة الدستورية التي تؤكد حرية الانضمام إلى النقابات وتأسيسها. والدستور العراقي لم يشر إلى أن للمهنة الواحدة نقابة واحدة، كما أن البرلمان العراقي لم يقر القوانين الجديدة الخاصة بالنقابات، ما يعني "أن تأسيس النقابة له مبرر دستوري قوي، لكن من دون غطاء قانوني، مثله مثل حالة الأحزاب في حينها، إذ كانت موجودة في العملية السياسية بموجب النص الدستوري الذي يبيح الانضمام وتأسيس الأحزاب من دون أن يكون هناك قانون للأحزاب والجمعيات السياسية"23- حوار مع قيس العجرش، العضو المؤسس للنقابة الوطنية للصحافيين وعضو مجلس النقابة في الدورة الاولى. بحسب سياق الاتفاق الذي جرى على التبرير القانوني للنقابة في مؤتمرها التأسيسي الأول.

وشهد المؤتمر التأسيسي أيضاً اختيار أعضاء مجلس النقابة، ورئيس مجلس النقابة، فضلاً عن قيمة اشتراك الأعضاء المنتمين، والنظام الداخلي الذي اعتمد المهن المجاورة للصحافة (مثل التصوير والإخراج) مِهِناً صحفية للمرة الأولى.

وتابعت النقابة في دورتها الأولى بالخصوص مهمة الدفاع عن الحريات العامة والصحفية بشكل خاص من خلال إصدار المواقف والبيانات. وكان من منجزات النقابة الوطنية للصحافيين المهمة، إثبات إمكانية التعددية النقابية رغم معارضة النقابة الرسمية ومعها السلطة السياسية.

والمنجز الثاني هو محاولتها الناجحة في تحريك تظاهرة للمطالبة بالإفراج عن صحافي فرنسي من أصل جزائري يدعى "نادر دندون" مطلع عام 2014، إذ إن موقف النقابة كان حاسماً في نجاة الصحافي من اتهامات خطيرة بعد 23 يوماً من الاعتقال.

وشيئاً فشيئاً بدأ دور النقابة الوطنية للصحافيين يخفت في مجال الدعوة إلى الاحتجاج أو المشاركة فيه، واقتصرت الدعوات الداعمة لحرية التعبير والبيان والفكر على تلك المواقف التي كان يصدرها (تحالف المادة 38). وهذه المادة في الدستور العراقي تكفل حرية الفرد في التعبير والتظاهر والاعتصام. وكان التحالف يضم نحو 90% من المنظمات غير الحكومية والعديد من الناشطين بالاضافة إلى النقابة الوطنية للصحافيين، إذ في مرحلة ما كانت المواقف المتعلقة بالدفاع عن الحريات تصدر عن هذا التحالف ليس إلا. حتى إن احتجاجات تموز عام 2015، شهدت غياباً كلياً للنقابة الوطنية للصحافيين بعدما كان أعضاؤها الفاعلين الرئيسيين في احتجاجات متواصلة بدءاً من 25 شباط 2011. وكان موقف النقابة الوطنية متماهياً مع تحالف المادة 38 في دعمه احتجاجات البصرة أيضاً عام 2018 والتي خلفت العديد من القتلى والجرحى.

وفضّلت النقابة الوطنية للصحافيين إبداء موقفها من التظاهرات الاحتجاجية الكبيرة التي اجتاحت العديد من المدن العراقية في تشرين الأول-اكتوبر عام 2019، والتي خلفت مئات القتلى وآلاف الجرحى، ضمن بيانات شكلية أصدرها تجمع غير رسمي لبعض النقابات الداعمة للتظاهرات.

وواصلت النقابة مسيرتها بصعوبة بالغة لثلاث دورات (أمد الواحدة منها 3 سنوات) واجهت خلالها العديد من المشكلات أدت في النهاية إلى تذويب دورها في الساحة  الثقافية والمهنية، وتأثيرها في قضايا الحريات.

منهجية الفعل

ويبدو أن النقابة الوطنية للصحافيين التي كانت حصيلة احتجاجات المثقفين وصراعهم مع السلطة لسنوات واجهت تحديات مختلفة يمكن تعدادها وفقاً للآتي:

  • عدم التجانس الداخلي: فقد افتقدت النقابة في دوراتها الثلاث وجود قائد موجِّه. وكان النقيب في كل دورة مديراً بسيطاً يعتمد الانفتاح الشبكي الصداقوي (القائم على الصداقات) أكثر من الانفتاح على الأعضاء.24- حوار مع حامد السيد.
  • هيمنة الشيوعيين: فعلى الرغم من أن الغالبية العظمى من الصحافيين هم من المدنيين والعلمانيين الليبراليين، إلا أن الصحافيين الشيوعيين ونظراً لقدرتهم على التنظيم، استطاعوا الهيمنة على العديد من المنظمات والتجمعات ذات الطابع الديمقراطي داخلياً، ومنها النقابة الوطنية للصحافيين، إذ كان عدد الشيوعيين في المجلس الأول عضوين، ارتفع بعدها في الدورة الثانية إلى أربعة، فيما كان النقيب في الدورة الثالثة عضواً في المكتب السياسي ومتحدثاً باسم الحزب الشيوعي رسمياً. وكان للحضور الشيوعي وهيمنته على خطاب النقابة تأثير سلبي على الكثير من الصحافيين الذين رأوا أن النقابة تحولت إلى فرع من فروع الحزب الشيوعي من أجل تحصيل الأموال والمنح.25- حوار مع أمل صقر. وفي مقابل هذا الطرح يدافع الأعضاء اليساريين في النقابة الوطنية للصحافيين عن أن انضمام الشيوعيين لم يكن بأوامر من الحزب ولا حتى برغبته، إذ إنهم تلقوا نصيحة من قيادة الحزب الشيوعي العراقي في عدم التوجه نحو تأسيس نقابة، والسعي بدلاً من ذلك إلى اختراق نقابة الصحافيين الرسمية من خلال أدواتها وآلياتها.26- حوار مع ياسر السالم، نقيب النقابة الوطنية للصحافيين في الدورة الثالثة.
  • عقدة السلطة: كان أعضاء النقابة أحياناً يمارسون أعمالهم بوصفهم طرفاً سياسياً معارضاً للعملية السياسية من خلال الاحتجاج والنشاط السياسي، تاركين الهدف الأساس من وجود النقابة في المدافعة عن الصحافيين في القضايا القانونية والإدارية وجلب الامتيازات العامة لهذه الشريحة.
  • الانغلاق العلماني: كان مقرراً أن تكون النقابة الوطنية للصحافيين نقابة لجميع أصحاب هذه المهنة من دون النظر إلى توجهاتهم السياسية. وقد اتخذ مجلس النقابة في أول اجتماعاتها في الدورة الأولى مبادرة لزيارة جميع المحطات الإذاعية والتلفزيونية والصحفية، لدعوة العاملين فيها للانضمام إلى النقابة. إلا أن توجهات الأعضاء الشيوعيين حصرت الأمر بالمحطات القريبة من اليسار العلماني، دون الانفتاح على المحطات المستقلة أو الإسلامية.27- حوار مع حامد السيد.
  • سوء النموذج وغياب التجربة: كانت التجارب النقابية والعمل التنظيمي في العراق بعد 2003 تتمحور حول التنافس على الامتيازات –(مثل السفر، والمكافآت المالية، والتباهي بالمنصب والمكانة في الإعلام وغيرها)-، ولم يكن للأعضاء المؤسسين للنقابة الوطنية للصحافيين تجربة في العمل النقابي الإداري، أو العمل الطوعي الحرّ، ما شكّل عائقاً حقيقياً أمام إنجاز الأهداف وتحقيق التقدم.28- حوار مع قيس العجرش. ولعل ما يؤكد عدم الحرص وسوء الإدارة في النقابة هو تلف السجلات والأرشيف التابع للنقابة من بيانات ووثائق ومواقف بحسب نقيب النقابة الوطنية للصحافيين في الدورة الحالية.29- حوار مع ياسر السالم.
  • غياب الصحافة المستقلة: لم تكن غالبية الصحافيين تعمل في وسائل إعلام مستقلة ومستقرة. وبمرور الوقت اختفت المحطات التلفزيونية والإذاعية والصحفية القليلة غير الحزبية، وزادت قوة وسائل الإعلام المنتمية إلى الأحزاب والشخصيات السياسية. وكانت قوة هذه المحطات في قدرتها المالية واستقرار العاملين فيها، ما جعلهم يبتعدون عن المشاكسات النقابية مع نقابة السلطة.
  • الفساد وانعدام الشفافية: يذكر العديد من الأعضاء المؤسسين أنهم لا يعرفون أحياناً حجم التبرعات أو المنح والهبات التي تقدم من المنظمات الدولية أو الجهات المانحة، بل ذكر البعض منهم وجود طرق ملتوية وغير قانونية للحصول على المنح من بعض المنظمات الدولية بسبب عدم تسجيل النقابة بشكل رسمي.30- حوار مع أمل صقر. وكان لسوء الإدارة وعدم الشفافية وغياب وجود لجنة رقابية من مؤتمر النقابة العام دور في اتهامات بالفساد، طالت بعض أعضاء مجلس النقابة، إذ تناولت وسائل التواصل الاجتماعي أحياناً بيانات ومنشورات محمومة تتناول قصص اختلاس أو فساد إداري في النقابة.
  • نقابة أم منظمة مجتمع مدني؟! من مفارقات المآلات التي بلغتها النقابة الوطنية للصحافيين، هي أن مجمل نشاطها بات محصوراً اليوم في برامج التدريب ونشاطات توعوية، وهي اهتمامات منظمات المجتمع المدني، فيما تركت النقابة مهمة الرصد والمدافعة ورفع الصوت في دعم قضايا الحريات الفردية والعامة. وسبب ذلك كما رأينا انعدام الدافع في انضمام الصحافيين إلى النقابة الجديدة من جهة، وعدم تمكن التشكيل الجديد من ممارسة مهامه دون دعم مالي دعته إلى عقد شراكات مع منظمات دولية. وهذه المنظمات بدورها لم تدعم النقابة لعملها، وانما موّلت نشاطات محددة كانت بدورها في صلب اهتمامات المنظمات أكثر من اهتمامات النقابة.
  • مشكلة التمويل: لعل هذه المشكلة هي الأساس في نشاطات النقابة، إذ لم يلتزم الكثير من أعضاء النقابة البالغ عددهم 1227 عضواً اليوم بتسديد الاشتراكات السنوية، فيما لم تتمكن النقابة من إيجاد مصادر مستقرة ومستدامة للتمويل، وهو ما عرّض النقابة إلى شلل في أبسط مستلزماتها المتمثلة بالمقر والموظفين وإصدار البطاقات وغيرها.31- حوار مع ياسر السالم.
  • مشكلة القانون: على الرغم من التبرير الدستوري الذي تمسك به المؤتمر التأسيسي للنقابة الوطنية للصحافيين، إلا أن الواقع كان صعباً في ظل عدم التكييف القانوني للنقابة. وقد حدا بالنقابة إلى الدفاع عن مشروع قانون قُدِّمَ عام 2014 من قبل بعض النواب واللجان المختصة في البرلمان تحت عنوان (قانون النقابات والاتحادات المهنية) الذي كان يبيح التعددية النقابية انسجاماً مع روح الدستور. إلا أن القانون رُكِنَ جانباً بعد نقاشات أولية، إذ يبدو أن النقابات الرسمية عديدة مثل نقابة المحامين والمهندسين والأطباء وغيرها، ساهمت بإجهاضه، رغبة منها بالإبقاء على الإرث الأحادي القديم بدلاً من التعددية المقلقة.

Endnotes

Endnotes
1 - د. حمدان عبد المجيد الكبيسي، الصناعة، دار الحرية للطباعة، 1985، ج5، ص295-301.
2 - د. عماد عبد السلام رؤوف، التنظيمات الاجتماعية، المصدر نفسه، ص129-158.
3 - يراجع: مجموعة القوانين العثمانية، المطبعة العلمية، 1925، ترجمة: عارف أفندي رمضان، ج5.
4 - د. ابراهيم خليل أحمد، الجمعيات والنوادي، حضارة العراق، مصدر سابق، ج13، ص145.
5 - حوار أجراه الباحث مع سفير الولايات المتحدة في المنظمة الأمريكية للتنمية الدولية في العراق USAID، السيد جوزيف كوكسيان في بغداد بتاريخ 12/1/2012.
6 - Rima Majed and Janan Aljabiri, Contemporary social movements in Iraq: mapping the labor movement and the 2015 mobilizations, Rosa-Loxemburg Stiftung, 2020, p29-33.
7 - أشرنا في وقت سابق إلى تصنيف المنظمات من حيث الحجم وجهة التمويل وذلك ضمن مقال نشر على موقع المونيتور. للمزيد ينظر: علي طاهر، منظمات المجتمع المدني في العراق.. وهم أم حقيقة؟، متاح على: http://www.al-monitor.com.
8 - "دائرة المنظمات غير الحكومية، تقرير شهر شباط 2015"، مجلس الوزراء، متاح على: http://www.ngoao.gov.iq/.
9 - مركز المعلومة للبحث والتطوير، دليل المنظمات غير الحكومية في العراق 2013، ص8-9.
10 - هيئة الإعلام والاتصالات، التقرير السنوي لهيئة الاعلام والاتصالات 2004-2005، ص41.
11 - هيئة الإعلام والاتصالات، الإذاعات والفضائيات والمحطات الارضية المرخصة لعام 2014، ص1-10.
12 - وزارة التخطيط وبيت الحكمة، التقرير الوطني لحال التنمية البشرية 2008، ص99.
13 - حوار مع حامد السيد العضو المناوب في مجلس النقابة الوطنية للصحافيين في الدورة الأولى، وعضو مؤسس فيها.
14 - كان يكفي مثلاً اعتقال أو ضرب أو تهديد أحد الصحافيين، كي ينبري الصحافيون إلى تخصيص برامج وأعمدة في وسائل الإعلام، أو حتى إقامة وقفات احتجاجية. وكان أبرز مثال عليه الاحتجاجات الكبيرة التي نظمها الصحافيون اعتراضاً على إساءة إمام جمعة جامع براثا الشيخ جلال الدين الصغير بحق الصحافي احمد عبد الحسين الذي كتب عن توزيع هبات للمواطنين للتصويت لإحدى القوائم الانتخابية قبيل انتخابات عام 2010.
15 حوار مع قيس العجرش.
16 - حوار مع حامد السيد.
17 - حوار مع مصطفى ناصر رئيس جمعية الدفاع عن الصحافيين وعضو مؤسس للنقابة الوطنية للصحافيين.
18 - ذكر ذلك العديد من الذين التقيناهم ضمن هذه الدراسة.
19 - حوار مع حامد السيد.
20 - حوار مع حامد السيد.
21 - حوار مع أمل صقر، عضو مجلس النقابة في الدورة الثالثة.
22 حوار مع حامد السيد.
23 - حوار مع قيس العجرش، العضو المؤسس للنقابة الوطنية للصحافيين وعضو مجلس النقابة في الدورة الاولى.
24 - حوار مع حامد السيد.
25 - حوار مع أمل صقر.
26 - حوار مع ياسر السالم، نقيب النقابة الوطنية للصحافيين في الدورة الثالثة.
27 - حوار مع حامد السيد.
28 - حوار مع قيس العجرش.
29 - حوار مع ياسر السالم.
30 - حوار مع أمل صقر.
31 - حوار مع ياسر السالم.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.