تونس غداة الاستفتاء: انقسامات على خلفية الدستور الجديد

في 25 تموز/يوليو 2022، نَظمَ الرئيس التونسي قيس سعيد استفتاءً حول اعتماد نص جديد للدستور، بدا واضحًا أنه هو يقف وراء صياغته. تسمح القراءة الأولى بقلم باحثي المبادرة زياد بوسن وملاك الأكحل بتقديم توضيحات أكبر للوضع التونسي السائد، والمتميز بحالة عدم استقرار بالغة الخطورة.

فاروق بوعسكر (يمين)، رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التونسية ، يعقد مؤتمرا صحفيا للإعلان عن النتائج الرسمية لاستفتاء 25 تموز/يوليو على الدستور الجديد في تونس العاصمة بتونس في 16 آب/أغسطس 2022. ©AA/Yassine Gaidi

في 25 تموز/يوليو 2022، نَظمَ الرئيس التونسي قيس سعيد استفتاءً حول اعتماد نص جديد للدستور، بدا واضحًا أنه هو يقف وراء صياغته. شكَّل هذا التصويت، الذي كان بمثابة استفتاء على الدستور، وعلى شخصه، في الوقت نفسه، إحدى مراحل العملية التي وصفها قيس سعيد بأنها "تصحيح للثورة"؛ وهي العملية التي بدأها في 2021 بتنفيذ انقلاب ضد حكومته وضد البرلمان المنتخب.

تُبيّن النتائج الأولية1سيتم نشر النتائج النهائية في 26 آب/أغسطس، أي بعد شهر كامل من تاريخ الاستفتاء. للاستفتاء، فوزًا ساحقًا للمصوّتين بنعم (94٪)، غير أن المشاركة في عملية الاستفتاء كانت جد منخفضة (30٪). تسمح القراءة الأولى بتقديم توضيحات أكبر للوضع التونسي السائد، والمتميز بحالة عدم استقرار بالغة الخطورة.

مشاركة جد منخفضة، ربع الناخبين فقط ذهبوا إلى صناديق الاقتراع

حسب النتائج الأولية التي نشرتها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات (ISIE)، توجه 30٪ فقط من الناخبين يوم 25 تموز/يوليو إلى صناديق الاقتراع للمشاركة في الاستفتاء. اكتسح التصويت "نعم" بنسبة 94٪، تلته "لا" بنسبة 5٪ والباقي تقاسمته الأصوات البيضاء أو الأوراق الملغاة. وقد استبقت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات (ISIE) احتمالية انخفاض نسبة الإقبال من خلال إعلانها عشية الانتخابات أنه لن يكون هناك حدًا معينًا من المشاركة يجب بلوغه لقبول النتائج.

وحتى إن لم تكن نسبة المشاركة في الاستفتاء هزيلة تمامًا، كانت مع ذلك أقل بكثير من النسب المسجلة في الانتخابات السابقة في تونس (من 50٪ إلى 70٪ بين عامي 2011 و2019)، بما في ذلك الانتخابات البلدية لعام 2018 (35٪) رغم أن أهميتها كانت أقل بكثير مقارنة بالاستفتاء على الدستور. على المستوى الدولي، باستثناء الاستفتاء على الدستور في الجزائر في عام 2020 (حيث قاطعت المعارضة العملية برمتها)، لم يُسجَل من قبلُ في أي استفتاء دستوري مثل هذه النسبة المنخفضة في المشاركة، سواء في دول المنطقة أم في العالم أجمع.

تعددتْ القراءات بشأن تفسير سبب الامتناع عن التصويت في الاستفتاء. وبينما اعتبرها زعماء المعارضة تراجعًا واضحًا بالنسبة لقيس سعيد وانتصارًا لدعوتهم للمقاطعة2صرّح كلٌ من أحمد نجيب الشابي من جبهة الخلاص الوطني وراشد الغنوشي، أن نسبة الامتناع عن التصويت شكَّلت بالنسبة لهما انتصارًا لدعوة المقاطعة. ، يرى فيها محللون آخرون، استمرارًا لوهن الاهتمام بالسياسة المتعاظم منذ عام 2011. إذا كانت المعارضة غير مقنِعة تمامًا في محاولتها تحويل هذا الامتناع عن التصويت إلى دعم نشط لقضيتها، فإن ما غاب عن الكثير ملاحظته، هو أن الأطروحة التي تعتبر أن الإقبال المنخفض في الاستفتاء مَرَده ببساطة عدم الاهتمام المتزايد، هي الأخرى فرضية ضعيفة. والدليل على ذلك، انتخاب سعيد نفسه في 2019، في آخر اقتراع شهدته تونس قبل الاستفتاء. شهدت الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية لعام 2019 قفزة معتبرة في المشاركة، مقارنة بالجولة الأولى (من 49٪ إلى 57٪). بُذِلت جهود كبيرة، وتعبئة حقيقية لانتخابه ضد نبيل القروي. وسواء أكانت هناك مقاطعة أم لا، فالواقع يبين أن سعيد لم يتمكن من تنظيم حركة تعبئة جماهيرية لدعم مشروعه، رغم النبرة المسيانية الحازمة التي تبنَّاها خلال حملته الانتخابية: "قولوا نعم لتجنب تفكك الدولة وتحقيق أهداف الثورة. لن يكون بعدها بؤس وإرهاب ومجاعة وظلم وألم ".

كيف يمكننا الحديث عن شرعية شعبية لدستور جديد سجل مثل هذه النسبة المنخفضة من المشاركة في التصويت؟ من الصعب على الرئيس الدفاع عن هذه النسبة المتدنية: لم يستجب ما يقرب من ثلاثة من أصل كل أربعة تونسيين لدعوته، على الرغم من حملة التعبئة التي وظفت خدمات ومصالح الدولة - بشكل غير قانوني - لتنشيط الحملة المكرسة للحث على التصويت بنعم (مراكز الشباب، وسائل الإعلام العامة، سيارات الإدارة، وما إلى ذلك). ورغم ذلك، ووفقًا لسيغما | SIGMA، معهد الاقتراع الرئيسي الذي أجرى استطلاعًا جمع بين المكالمات الهاتفية مع المواطنين وأسئلة الناخبين عند الخروج من صناديق الاقتراع، ثمة 21٪ فقط من الناخبين قاطعوا الاستفتاء بشكل نشط، أي عن قناعة واختيارهم عدم التوّجه إلى مركز اقتراع، مقابل 54٪ امتنعوا عن التصويت بكل بساطة. عملية الاستطلاع هذه توّضح أيضًا أن السبب الرئيسي للمقاطعة، يكمن على ما يبدو في الرفض المبدئي للعملية الانتخابية والاستفتاء.

أكد انخفاض نسبة الإقبال ما كانت تدل عليه كل المؤشرات منذ الأشهر الأولى من الانقلاب: خلف الخطاب الشعبوي لقيس سعيد، الذي قدم نفسه على أنه يجسد إرادة الشعب، لم يتحمس الشعب لمشروع الرئيس ولم يندفع لينخرط فيه عبر الفجوة التي سمحت بها مؤسسات الدولة. وفي أحسن الحالات، يمكن للرئيس أن يدَّعي أن حوالي ربع التونسيين يدعمون مشروعه للإصلاح الدستوري، وهو ما يشكل قاعدة جد محدودة.

على المستوى الدولي، لم يفت الدبلوماسية الأميركية والاتحاد الأوروبي تسجيلهما نسبة المشاركة المنخفضة. وكان البيان الأميركي حول الاستفتاء فرصة لأنصار الرئيس سعيد للتلويح بورقة التدخل الأجنبي، واستدعاء القائم بالأعمال في السفارة الأميركية. وإذا استثنينا ردود الفعل الأميركية والأوروبية، لم يثر الاستفتاء سوى القليل من ردود الفعل الدولية، خاصة من جانب الدول العربية. في الواقع، تبدو تونس معزولة دبلوماسياً بشكل متزايد، أو ربما محل تجاهل من قبل عواصم العالم.

فازت "نعم" بأكثر من 94٪: الاستفتاء على الدستور، وسيلة لدعم حكم الرئيس

إذا تجاوزنا مسألة التصويت على الدستور، نجد أن قيس سعيد لم يخرج خاسرًا البتة من هذا الاستفتاء. بحصوله على 2.6 مليون صوت بنعم، يمكن اعتبار ذلك، استفتاءً متجددًا للرئيس في المقام الأول و"نعم" مدوية تُعَبر عن الرغبة في "التغيير". ومما يزيد من أهمية هذه النسبة، أنها قريبة جدًا من نتيجة قيس سعيد في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية لعام 2019. وحتى إذا لم يَعتبِر كل مَن صوّت بنعم، نفسه من أنصار سعيد، فقد فسر العديد من المحللين هذه النسبة على أنها مؤشر يدل على أن ناخبي الرئيس ما زالوا أوفياء له وأنه لا يزال يمثل القوة السياسية الرئيسية في تونس المتميزة اليوم بانقسامات كثيرة، وهذا على الرغم من غياب حزب راسخ تابع له.

تقدم العملية التي أجراها معهد "سيغما" لتحليل نتائج التصويت، قراءة مثيرة للاهتمام توّضح الأسباب وراء التصويت بـ"نعم". ثمة 13٪ فقط ممن صوتوا "نعم" مقتنعون بالدستور، وتأتي هذه الفئة في المرتبة الرابعة فقط من جملة الإجابات الأكثر تكرارًا في العملية. في واقع الأمر، لم يحظ موضوع الدستور سوى بدور هامشي في نقاشات "الحملة". أكثر بكثير من مسألة الدستور، استحوذ موضوع الحكم وتقييم عملية التحوّل الديمقراطي على محور النقاشات في وسائل الإعلام، مع خيار عودة الرجل القوي كحل للأزمة السياسية والاقتصادية، الأمر الذي يتطابق مع نتائج الاستطلاع، بحيث نجد في المركز الأول قضية "إصلاح البلد وتحسين الوضع" بنسبة 24٪ تليها عن قرب مسألة "دعم قيس سعيد/مشروعه" بنسبة 23٪. وهذا يُبيّن أن غالبية ناخبي سعيد يعتمدون على رجل قوي لإصلاح الوضع المتردي، لا سيما اقتصاديًا. وقد فهم هؤلاء جيدًا أن وراء الطابع التشاركي "للبناء القاعدي"، فإن مشروع قيس سعيد السياسي يقوم على نظام رئاسي مفرط، يقوم على رجل مؤيد بالعناية الإلهية، يحتكر عملية صنع القرار في البلد.

لكن الملفت للنظر، فرغم هذه الظروف بالذات، لم يجر أي نقاش حول التقييم السياسي أو الاقتصادي، لممارسة سنة كاملة من نظام رئاسي مفرط، ولم يجر أيضًا أي نقاش حول المواعيد الرئيسية – خاصة المفاوضات الشائكة مع صندوق النقد الدولي. وهذا يعزز الاعتقاد بأن خطاب سعيد، الذي يقضي معظم وقته في التنديد بالمؤامرات والأعداء، قد حقق هدفه فعلًا، المتمثل في إقناع الناس بالوجود المستمر والطاغي للأعداء لتبرير حصيلة ولايته الهزيلة، والتذرع، في السياق نفسه، بضرورة اللجوء إلى حلول سلطوية لتحسين هذه الحصيلة نفسها.

عملية انتخابية قانونية؟

في أعقاب عملية الاستفتاء، اعترضت بعض الأصوات تنديدًا بنتائج الانتخابات 3خاصة حزب "آفاق تونس" الذي طعن في رفض شكواه أمام المحكمة الإدارية. وقد شاب مراحل الحملة الانتخابية العديد من التجاوزات، خاصة وبشكل رئيسي من قِبل معسكر "نعم". وقد انتهك الرئيس بنفسه، واجب الصمت الانتخابي صباح يوم الاثنين، من خلال إلقائه تصريحًا علنيًا، بثه التلفزيون الوطني، لدى خروجه من مركز الاقتراع الذي صوّت فيه، وشجع الناخبين على التصويت بـ"نعم".

وختم هذا النداء مجريات حملة غريبة لم يكن فيها النص المقترح للاستفتاء موضع أي حملة انتخابية ولم يثر أي نقاش بشأنه. ونأى أعضاء اللجنة التي صاغت النص بأنفسهم عن الوثيقة التي أُعلِن عنها في 30 حزيران/يونيو، معتبرين أنها تختلف اختلافًا تامًا عن تلك التي صاغوها، واعتبروا أنها تنطوي على مخاطر جسيمة على الديمقراطية. وفي أعقاب ذلك، قام الرئيس بتعديل النص من أجل "تصحيح الأخطاء" رسمياً، في الوقت الذي كانت الحملة الانتخابية قد بدأت بالفعل.

سجل العديد من المحللين والمراقبين 4       بيان صحفي رسمي من شبكة "مراقبون"، 26 تموز/يوليو 2022، على موقع "فيسبوك" وقوع مخالفات في عملية فرز الأصوات من قِبل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. وبعد نشر محضر النتائج مساء 26 تموز/يوليو على موقعها وشبكات التواصل الاجتماعية الخاصة بها، سحبت الهيئة الوثيقة رغم توقيعها من قِبل رئيسها صباح يوم 27 تموز/يوليو للتحقق منها. وقد لوحظ عدم تطابق من الناحية الإحصائية، من قبيل تسجيل أرقام مشاركة عالية جدًا في بعض الدوائر الانتخابية، وأحيانًا أعلى حتى من عدد البالغين المسجلين في تلك المقاطعات، وفقًا للمعهد الوطني للإحصاء (INS). وقد سحبت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات مساء 26 تموز/يوليو وثائق إعلان النتائج وأعادت نشرها في صباح اليوم التالي بعد تصحيحها من "أخطاء لا تؤثر على النتيجة النهائية"، حسب تصريح رئيس الهيئة. ونجم عن ذلك عزل مسؤولو الهيئة من مناصبهم في 28 تموز/يوليو في أعقاب تلك الأخطاء.5Tunisie : Des responsables démis de leurs fonctions au sein de l’ISIE, 28 juillet 2022, Gnet وبشكل عام، خلصت بعثات المراقبة إلى قانونية وحسن سير عملية الاقتراع على الرغم من وقوع بعض التجاوزات، التي لم تكن بالحجم والطبيعة التي يمكنها أن تؤثر على النتيجة النهائية للاستفتاء.

دستور جديد يمهد الطريق لنظام سياسي جديد

ومن دون انتظار إعلان النتائج النهائية، نشر قيس سعيد الدستور في الجريدة الرسمية للجمهورية التونسية، ليدخل البلاد في جمهورية ثالثة. ولسوف تتسم هذه الجمهورية بنزعة رئاسية مبالغ فيها من شأنها أن تتيح لرئيس الدولة عدم تقاسم السلطة التنفيذية مع رئيس الحكومة، وألا يحاسَب على أعماله أمام البرلمان، وبأن يعين القضاة في أعلى المناصب، وبالتالي بأن يختار أعضاء المحكمة الدستورية المقبلة. فمن خلال حيلة يصعب ملاحظتها إلى حد ما، فإن سعيد، الذي انتُخب بفضل دستور 2014 الذي ألغاه، لا يزال يحتفظ بالتفويض الذي خوله له ذاك الدستور، مما يجعله من الناحية النظرية قادرًا على الترشح لفترتين كما هو منصوص عليه في دستوره، أي نظريًا حتى عام 2034.

ويمهد النص الجديد الطريق أمام الرئيس سعيّد لتنفيذ فكرته الخاصة "بـالبناء القاعدي" والتي تتطلب إجراء تعديل على قانون الانتخابات وتعديل نظام التصويت بحيث يصبح فرديًا ويتم في جولتين على المستوى الإداري الأدنى على الإطلاق وتنظيم انتخابات تشريعية في كانون الأول/ديسمبر 2022. قد يكون من ضمن النتائج المباشرة لهذا النظام الجديد للتصويت استبعاد الأحزاب السياسية القائمة لصالح الأفراد، كما أنه يحمل في طياته الطموح لكسر النفوذ المركزي للأحزاب السياسية القائمة منذ العقد الماضي لصالح القادة المحليين. وعلاوة على ذلك، فإن الإطاحة بالشرعية على المستوى المحلي (إذ يجب تعيين النواب على المستويين الإقليمي والوطني من خلال نظام سحب القرعة)، سيجعل الشرعية الوطنية حكرًا على رئيس منتخب بالاقتراع العام.

وفي ذات الوقت، يُدخل الدستور الجديد تباينات هامة على نظام 2014، بإنشائه لنظام رئاسي يعتمد على عدم خضوع رئيس الجمهورية للمساءلة أمام أجهزة الدولة الأخرى (فليس بوسع البرلمان عزل الرئيس من منصبه، كما تفقد الحكومة رئيسها ليستبدل برئيس الوزراء الذي يعينه رئيس الجمهورية)، وذلك بالإضافة لتقليص السلطة القضائية بحيث تصبح مجرد وظيفة، والقضاء على "السلطة المحلية" والتي تمثل مع ذلك حجر الزاوية لدستور 2014. وعلاوة على ذلك فإن النص الجديد يشير مجددًا للمستويات الأساسية الدنيا من الحقوق والحريات ولكنه سيشدد الخناق حول القيود المحتملة بموجب القانون ويتضمن كذلك المادة 5 الخلافية التي تثير الجدل حول الإسلام باعتباره دين الدولة.

وهناك قرارات هامة أخرى من ضمنها إصلاح النظام القضائي وإنشاء محكمة دستورية وعلى الأرجح تعديل قانون السلطات المحلية في ضوء الانتخابات البلدية لعام 2023. ومع ذلك، لن يُفسح المجال أمام المسائل الدستورية وحدها؛ حيث سيتعين على الرئيس أيضًا مواصلة واستكمال المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وإجراء الإصلاحات الهيكلية اللازمة والبدء فيها، والتي من المرجح أن تكون باهظة التكلفة بالنسبة للبلاد وخاصة فيما يخص الإدارة.

ماذا عن دور المعارضة و"القوى المحركة في البلاد"؟

سلط استفتاء 25 تموز/يوليو الضوء على عدم قدرة المعارضة على تنظيم صفوفها بفاعلية ولا على الاتحاد فيما بينها. وبعيدًا عن الذين لا يولون السياسة اهتمامًا من كلا الجنسين، وجد من يناهضون الاستفتاء أنفسهم منقسمين بين المقاطعة والتصويت بالرفض، هذا إلى جانب الاختلاف في الحكم على العملية المناوئة تمامًا للديمقراطية (وهو ما قد يعد تبريرًا للمقاطعة) والديمقراطية التي تقدم مع ذلك دستوراً يجب رفضه (وهو ما قد يبرر التصويت بـ"لا"). وبحسب توقعات "سيغما"، يصل إجمالي المقاطعة النشطة من قبل الناخبات والناخبين إلى 21٪.

غداة الإعلان عن النتائج، لم يسُمع سوى عدد قليل جدًا من الأصوات حول الدور الذي ستلعبه الجهات السياسية الفاعلة من غير المنتمين لقيس سعيد. ومن خلال بيان صحفي نُشر في 28 تموز/يوليو، عبرت حركة النهضة عن نفسها قائلة إن الحركة تحقر من تنظيم الاقتراع، وتعلن انتصار المقاطعة، وتنوي النظر في إخفاق الاستفتاء والحفاظ على دستور 6Ennahdha : «Le référendum a échoué et la constitution de 2014 reste donc en vigueur», Kapitali 2014. ويتضمّن هذا الموقف تساؤلات بشأن مصير «جبهة الإنقاذ» التي لا يزال وجودها غير مؤكد. ويجمع هذا التحالف من أجل المصلحة حركة النهضة (التي أصابها الوهن منذ عام تقريبًا على إثر موجة استقالات كبار ممثلي الحزب)، وأحزاب محافظة أخرى كانت حليفة للنهضة في السابق مثل أحزاب "أمل" و"الإرادة" و"الكرامة" و"قلب تونس" إلى جانب حركات الناشطين التي أنشئت في هذا الصدد مثل "مواطنون ضد الانقلاب" وشخصيات عامة مثل أحمد نجيب الشابي وصلاح الدين الجورشي. ولم يتضح بعد إلى أي مدى ستظل هذه الجبهة صامدة وما إذا كانت ستتمكن من تبني إجراءات وبرامج سياسية مشتركة.

وفضلًا عن ذلك، فإن الشركاء المجتمعيين، ولا سيما "الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والزراعة" وكذلك "الاتحاد العام التونسي للشغل" الغائبين إلى حد كبير عن المشهد السياسي خلال الأشهر الأخيرة، سيلعبان دورًا مركزيًا في برنامج الإصلاح والذي سيكون لزامًا على رئيس الجمهورية الاضطلاع به.

وسواء أكان الفاعلون سياسيون أم مجتمعيون، فسيستند التحدي الرئيسي إلى القدرة على تعبئة نصف الناخبين المترددين وغير المهتمين وضمهم لجموع الناخبين.

بعيدًا عن الدستور: انقسامات وتحديات حاسمة خلال الأشهر المقبلة

وهكذا يعطي الاستفتاء انطباعًا على كون البلاد لا تزال تسودها الفُرقة ويسود قدر من القتامة الآفاق السياسية والاقتصادية على حد سواء. فعلى الصعيد السياسي، أوجدت عدم قدرة قيس سعيد على خلق الاهتمام الجماهيري بمشروعه، كما أن عدم قدرة المعارضة على الاتحاد، خلفت كتلتين تبدوان متساويتين في الثقل (حوالي ربع الناخبين لكل معسكر)، بأغلبية ساحقة لا تعر أي اهتمام سواء لما يتداوله هؤلاء ولا أولئك. ويبدو أن الأولوية التي وضعتها هذه "الأغلبية الصامتة" نصب أعينها هي الوضع الاقتصادي للبلاد، والذي يتدهور تدهورًا متزايدًا جراء التضخم والإلغاء التدريجى للدعم (الكهرباء والمياه والوقود). فبالطبع لا تأتي الضربة الموجعة سوى من القضايا الاقتصادية. ويبدو أن سعيد يكرر الخطأ نفسه الذي حدث عند التحول الديمقراطي؛ وذلك بإعطائه الأولوية للتغييرات المؤسسية مع عدم طرحه لأي برنامج اقتصادي.

وفي حين تتضاعف آجال الاستحقاق الخاصة بالقروض القديمة، ولا سيما تلك المتعاقد عليها مع صندوق النقد الدولي، فلا يزال النمو ضعيفًا والاستثمار آخذ في الانخفاض منذ أزمة كوفيد، ناهيك عن تداعيات أزمة الغذاء على الميزان التجاري للبلاد. وبينما تدق نواقيس الخطر من كل جانب تقريبًا، ها هي تونس تتفاوض سعيًا للحصول على قرض جديد من صندوق النقد الدولي الذي يعتزم تطبيق الشروط التي يفرضها على المدينين. فلو كانت تونس عام 2011 قد تمكنت من الاعتماد على التعاطف النسبي للجهات المانحة فقط وذلك لتجنب الإصلاحات الاقتصادية الموجعة (والتي لا تحظى بالتأييد الشعبي)، فإن تونس عام 2022 وضعت نفسها في موقف حرج، ولن يكون سعيد قادرًا على المماطلة كما فعل أسلافه. وفي الوقت نفسه، تشير اللامبالاة النسبية للمجتمع الدولي تجاه العملية السياسية الجارية في تونس إلى أن البلاد ستواجه اللامبالاة ذاتها عندما تجد نفسها في موضع اقتصادي حرج.

ويفسح الإطار المؤسسي المتسلط الذي انتهجه سعيد على وجه الخصوص المجال لتبني إصلاحات لا تحظى بالشعبية لكون السلطة التنفيذية تتركز بين يدي شخص واحد في مواجهة "وظيفة" تشريعية تنقسم إلى شرعيات محلية صغيرة. ومع ذلك، فإن هذه الإصلاحات التي ستجدها الطبقات الشعبية والمتوسطة في البلاد موجعة نوعًا ما، من شأنها المخاطرة بجعل "رئيس الشعب" يفقد شعبيته. لذلك، هذا يجعل سعيد أكثر إدراكًا: فإذا وجد نفسه مضطرًا لتمرير الإصلاحات، فسيلقي اللوم على الحكومة، كما سبق وفعل ذلك مع قانون المالية 2022 الذي وقعه بالإشارة علنًا لمعارضته لبعض التدابير التي يشتمل عليها.

ووفقًا لنتيجة السباقات فإن قيس سعيد يركز نفوذه أكثر من أي وقت مضى بينما يتمتع بشرعية مهزوزة، ولا يملك سوى برنامج اقتصادي واحد ألا وهو تبني الشروط التي يفرضها صندوق النقد الدولي. وقد يؤدي تبني هذه الإصلاحات إلى احتجاجات سيكون من الصعب الرد عليها بأي طريقة أخرى غير القوة، في وضع حظي فيه سعيد بتأييد شعبي عارم لمواجهة الحالة الاقتصادية المتردية.

النهضة: "فشل الاستفتاء وسريان دستور 2014 حتى الآن"، موقع كابيتاليس

Endnotes

Endnotes
1 سيتم نشر النتائج النهائية في 26 آب/أغسطس، أي بعد شهر كامل من تاريخ الاستفتاء.
2 صرّح كلٌ من أحمد نجيب الشابي من جبهة الخلاص الوطني وراشد الغنوشي، أن نسبة الامتناع عن التصويت شكَّلت بالنسبة لهما انتصارًا لدعوة المقاطعة.
3 خاصة حزب "آفاق تونس" الذي طعن في رفض شكواه أمام المحكمة الإدارية.
4        بيان صحفي رسمي من شبكة "مراقبون"، 26 تموز/يوليو 2022، على موقع "فيسبوك"
5 Tunisie : Des responsables démis de leurs fonctions au sein de l’ISIE, 28 juillet 2022, Gnet
6 Ennahdha : «Le référendum a échoué et la constitution de 2014 reste donc en vigueur», Kapitali

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.