مقدّمة
أتت الأحداث الدامية في السادس من آذار/مارس 2025 على الساحل السوريّ لتضع – في قلب الكثير من تساؤلات المرحلة – سؤال علاقة أبناء الساحل العلويين بالدولة الناشئة. فقد تفاوتت ردود أفعال مناطق الساحل المختلفة من دعوات فلول نظام الأسد للسيطرة على تلك المناطق وقتل عناصر الأمن العام ومحاولة فرض واقع جديد؛ حيث أظهرت الأحداث تباينات كبيرة في أعمال الاشتباك وسيطرة الفلول على تلك المناطق وخروجها عن سيطرة الدولة.
تنطلق الدراسة من إشكاليّة أساسية تتمثّل في محاولة فهم الأسباب الكامنة خلف هذه التباينات، عبر تحليل ردود فعل الأهالي تجاه دعوات الفلول لحمل السلاح وتقصّي سلوكهم أثناء العمليات وردود أفعالهم حول ضحايا وزارة الدفاع والأمن العام والفلول والمدنيين. ولفهم طبيعة هذه العلاقة وتشابكاتها، تعتمد الدراسة على مقاربة ميدانيّة تحليلية تستكشف عمق البيئات العلويّة في مختلف مناطق الساحل السوري، عبر فحص التباينات في المواقف والوقوف عند أسبابها، مع تركيز خاص على طبيعة الاستجابة لدعوات الفلول خلال أحداث السادس من آذار/مارس.
تنقسم هذه الدراسة إلى خمسة أجزاء، يقف أوّلها عند التمثيل السياسي في البيئات العلويّة قبل السادس من آذار/مارس، وسيركّز ثانيها على السياسات الحكوميّة في المرحلة نفسها، وسيقوم الجزء الثالث منها على تقسيم المناطق العلويّة إلى قسمين من حيث ردود أفعال هذه المناطق على مخطّط الفلول، أما الجزء الرابع فسيحلّل أحداث السادس من آذار/مارس وأثرها على مواقف البيئات العلويّة السياسيّة، وختامًا فسيقف القسم الخامس عند النتائج التحليليّة الواقفة خلف تلك التباينات. إنّ هدف الدراسة هو المساعدة في رسم خارطة طريق لإرساء الاستقرار في الساحل السوري، وفهم مفردات الموقف السياسي للبيئات العلويّة لتحليل الوضع السياسي الداخلي بسوريا الناشئة.
تعتمد الدراسة منهج دراسة الحالة، وسنستخدم فيها أدوات البحث الميداني المتمثِّلة في إجراء مقابلات تحليليّة مع ناجين من مناطق اشتعل فيها القتال ومناطق أخرى شهدت وتشهد هدوءًا نسبيًّا أو غيابًا لأيّ تفاعلات أمنيّة.
أولا: التمثيل السياسي في البيئات العلويّة قبل السادس من آذار/مارس
بعد سقوط نظام الأسد ظهر في البيئات العلويّة نوعان من التنظيمات السياسيّة التي بقيت ضمن أطر تنظيمية بدائية من حيث قدراتها على الفعل السياسي والتأثير. يتمثل النموذج الأول في التنظيمات الدينية، التي عُرفت بـ"المجالس العلوية"، والتي اعتمدت في إعلان وجودها على تسمية "المجلس الإسلامي العلوي الأعلى" في بيانات متعدّدة صدرت عن جهات وشخصيات مختلفة، لا تنتمي بالضرورة إلى كيان تنظيمي واحد. أما النموذج الثاني، فيتمثل في التنظيمات المدنية، وتشمل منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية التي انخرط فيها ناشطون علويون، ووجّهت خطابها السياسي والاجتماعي إلى البيئات العلوية تحديدًا.
أ - المجالس العلويّة:
عمل نظام الأسد على تفكيك المرجعيّات الدينيّة العلوية منذ وصول الأسد الأب إلى السلطة، ليبقى آل الأسد هم المرجعيّة الوحيدة للطائفة. حيث قام الأسد الأب بمحاصرة المرجعيّات التي كانت موجودة ومنع ظهور مرجعياتٍ جديدة، وحدّ من سلطة رجال الدين العلويّين في البيئات المحليّة، ووسّع سلطات البعثيّين والعسكريّين المتنفّذين في النظام.
بعد سقوط نظام الأسد، قام السيّد باسل الخطيب وهو من الكلازيين بالإعلان عن أول مجلس علوّي، ويعرف عنه علاقاته مع مسؤولين ونافذين في النظام السابق، لكنّ أسئلة كثيرة تطرح حول حجم التمثيل خاصّة أنّه وفي جميع بياناته على الفيسبوك لم يذكر شخصيات فاعلة معه أو رجال دين أو أعضاء المجلس المزعوم نفسه. إلّا أنّ خطابه قد لاقى آذانًا صاغية في بعض البيئات العلويّة حيث انتقد تسريح الموظفين الحكوميين وطالب بالإفراج عن المعتقلين العلويين (العسكريين الذين اعتقلوا إبان سقوط النظام). وحملت بعض بياناته لهجة تهديد للإدارة الجديدة وطالب في أكثر من مناسبة بالعفو العام عن كل ما حدث قبل 8 ديسمبر/كانون الأول، لكنّه تراجع في بيانات لاحقة عن مطالبه هذه واختفت لهجة التهديد بعد أنباء عن اعتقاله لأيام من قبل الأمن العام.
كما ظهر السيد صالح منصور في بيانات مشابهة لتلك التي طرحها باسل الخطيب وأعلن عن مجلس علوي آخر. وحاول أن يبرز دوره ونفوذ، حيث توسّط لحل التوتر الذي حصل بعدما قامت مجموعة مسلّحة تابعة للفلول باختطاف دوريّة تابعة للأمن العام في بلدة عين الشرقيّة في ريف جبلة في 14 يناير/كانون الثاني.
كما ظهر الشيخ غزال غزال، وهو من الحيدريين، ببيان يُعلن فيه تشكيل المجلس الإسلامي العلوي. (لم يعلن موافقته على أن يكون رئيساً للمجلس الذي أعلنه باسل الخطيب كما لم يشر لأي علاقة مع صالح منصور رغم تقاربهم وعدم نفيهم لوجود روابط). ومن المهم أن نذكر أنّ غزال ينتمي للقسم الحيدري من العلويين. تنقسم الطائفة العلوية إلى مذهبين رئيسيين هما الكلازي والحيدري، يتوزع أتباع الكلازي جغرافيا في مناطق جبلة والقرداحة وطرطوس وبعض قرى ريفي حمص وحماة.وأما الحيدريون فيتوزعون على القرى العلوية بمنطقة الحفة وصولا لناحية صلنفة شرق اللاذقية. وتعتبر القرى العلوية شمال اللاذقية مثل بسنادا ودمسرخو والبهلولية والقرى المحيطة بمنطقة كسب حيدرية في غالبيتها. هنالك خلافات كبيرة بين المذهبين لا تعرف حقيقتها بدقة، واختلف الباحثون في تحديدها ولكن هنالك الكثير من الحيدريون الذين يقولون أن أتباع المذهب الكلازي تولوا تاريخيا المناصب العليا بسوريا، بينما بقي الحيدريون بالمقام الثاني ومنع عليهم تولي المناصب القيادية المدنية والعسكرية .
كانت لهجة بيان غزال أقل حدّة من البيانات الأخرى. ومن الجدير بالذكر أن الحيدريين لم يشاركوا الفلول في هجمات 6 آذار/مارس، ولم تشهد مناطقهم أعمال قتاليّة أو حوادث وانتهاكات أو مجازر بحقّ المدنيين.
وقد شكّلت ضاحية دمسرخو، الواقعة على بُعد نحو 2 كم من مدينة اللاذقية، استثناءً نسبيًا، إذ تُعد من أبرز المناطق ذات الغالبية الحيدرية التي تعرّضت لمحاولة تدخل. فقد سعت فصائل تابعة لوزارة الدفاع إلى دخول المنطقة وتمشيطها، إلا أن الأمن العام تدخّل بسرعة وطوّق المنطقة، مانعًا تلك الفصائل من الدخول، ما حال دون وقوع أي اشتباك أو تجاوزات.
ب - التنظيمات المدنيّة والأهليّة:
تعتبر التنظيمات المدنيّة والأهليّة الحاضنة الشعبيّة الأهم والأكثر قربًا من العلويين، سواء من حيث الخطاب المسالم أو الدعوات لحقن الدماء والدفاع عن مشروع بناء الدولة. وتكتسب تلك التنظيمات أهميّتها من حيث ارتباطها الوثيق بالشارع العلوي وانبثاقها منه، وتنقسم لثلاثة أقسام:
- منظمات المجتمع المدني التي ظهرت بعد السقوط: وهي منظّمات أنشأها ناشطون سياسيون ومعارضون للنظام السابق ومجموعات من الشباب العاملين في القطاع المدني. لا تطرح هذه المنظمات نفسها كممثل لبيئات علويّة ولا تحمل أجندات ما دون وطنيّة، ويتنوع أعضاؤها طائفيًّا، لكنّها تتسم بالمناطقيّة حيث تمتد هذه التنظيمات على مساحات مدن بعينها وبلدات في بعض الأحيان، كما أنّها لا تحمل صفة المنظّمة المدنيّة رغم إصرار أعضائها على تسميتها كذلك؛ فمعظمها يُعنى بالشأن السوري العام وينشر بيانات سياسيّة ولا تختص بمجال مدني محدّد. وتكمن أهميتها في استقلالها المادي والإمكانيّة الديمقراطيّة داخلها التي يعوقها ضعف وعي الممارسة الديمقراطيّة والسياسيّة وغياب الآليات والأدوات الديمقراطيّة، إذ تنحو لأن تكون منظمات سياسيّة مدنيّة تشاركيّة قد تتطور لأشكال أكثر وضوحًا وبآليات أكثر ديمقراطيّة.
- فعاليات دينيّة وأهليّة تحاول تنظيم نفسها: نشأ هذا النوع من المبادرات السياسية التنظيميّة في القرى والبلدات العلويّة ومازالت في طور التأسيس لتنظيم علوي، إلّا أنها الآن ترتكز على مرجعيات دينيّة محليّة تحظى بشعبيّتها في قراها وبلداتها ومرجعيات مجتمعيّة. ساهمت هذه المبادرات في وأد الكثير من الفتن التي حاول الفلول إشعالها كما حدث في ريف القدموس الشمالي. وقد أخفقت في مناطق أخرى، كريف القدموس الجنوبي، حيث سيطر ضبّاط الحرس الجمهوري في نظام الأسد على القرار في قرية حمام واصل خلال الفترة التي سبقت أحداث السادس من آذار/مارس، وتركت الأمر للمختار وشيخ القرية بعد فشل مخطّط الفلول للتفاوض مع لجنة السلم الأهلي.
- رجال أعمال مؤثرين في البيئات العلويّة: يحظى العديد من رجال الأعمال الذين ينتمون لبيئات علويّة بحضور مجتمعي واسع خاصّة أولئك الذين يقدّمون مساعدات ماديّة وعينيّة لأهالي مناطقهم. وقد تواصلت الإدارة الجديدة مع الكثير من رجال الأعمال وأقامت معهم روابط واتصالات ساهمت في إخماد العديد من الاضطرابات الأمنيّة بعد 6 آذار/مارس – كما فعل رجل الأعمال نزار أسعد، الذي يقدم مساعدات ماديّة لقرابة الألفي طالب جامعي في منطقة الدريكيش – وفي تفويت الفرصة على 150 مسلحًا كانوا قد أقاموا كمينًا لقوى الأمن العام المتوجّهة للدريكيش يوم 8 آذار/مارس بعد أن قام الفلول بإخراجهم منها، وذلك حسب إفادة شاهد عيان من المنطقة. وتقيم الإدارة الجديدة علاقات جيدة مع رجال أعمال آخرين كمهران خوندة، صاحب أكبر شركة نقل ركاب في سورية (القدموس) وغيرهم.
ثانيًا: السياسات الحكوميّة في البيئات العلويّة قبل السادس من آذار/مارس
لقد كانت تركة نظام بشار الأسد ثقيلة على الإدارة الجديدة وبالأخص فيما يتعلّق بالفساد وتدهور حالة السكان المعيشيّة، لكنّ الإدارة الجديدة جاءت بقرارات متسرّعة وارتجاليّة في كثير من الأحيان بغية الشروع في تنفيذ سياساتها الاقتصاديّة والأمنيّة. أد هذا إلى تشكُّل حالة من الغضب الشعبي عند مجموع العلويين لأسباب تتعلّق بالبيئة العلويّة أولًا وشكل الإصلاحات التي شرعت بها الإدارة الجديدة. فالبيئة العلويّة ترتبط بالجيب الحكومي بشكل كبير وبنسب أعلى بكثير من باقي شرائح المجتمع السوري؛ ذلك بسبب سياسات النظام السابق في إفقار مناطق العلويين وتجفيف منابع دخلهم لتعزيز هذا الارتباط ولدفعهم صوب التطوّع في الجيش والمخابرات. ومنذ الساعات الأولى لسقوط النظام سُرِّح عشرات الآلاف من العسكريين العاملين في جيش الأسد، وارتفعت أجور النقل العام لقرابة ثلاثة أضعاف بسبب تحرير سعر الوقود، ثم تبعها خلال ثلاث شهور تسريح آلاف الموظفين الحكوميين خلال عمليات الإصلاح الإداري. ومع غياب زيادات على رواتب من تبقى من الموظفين، فقد ظهر طيف واسع من المواطنين شديدي الفقر في مناطق العلويين معظمهم من العسكريين المسرّحين العائدين من المدن الكبرى كدمشق وحمص وحلب ممن خسروا المساكن التي كان نظام الأسد يوفرها لهم. وترافق ذلك مع انتشار كبير للسلاح في المناطق العلويّة بعد أن قام الكثير من العلويين بسرقة ونهب القواعد العسكريّة التابعة للنظام بعد سقوطه، حيث تقدر أعداد قطع السلاح المفقودة بعشرات الآلاف، بينها أسلحة متوسطة وخفيفة، فضلا عن ترك فضاءات وسائل التواصل الاجتماعيّ متاحة أمام مروّجي خطاب الفلول، الذين أطلقوا العنان لحملات التخوين والكراهيّة والترهيب بين صفوف أبناء الساحل. وترى الورقة أنّ معظم الشبان العلويين قد عُرض عيهم العمل مع الفلول، وشعروا بالقلق من المستقبل واختلجتهم آمال كثيرة انتشرت في الأوساط العلويّة حول التدخّل الدولي ووضع الساحل تحت الحماية الدوليّة، في وقتٍ عملت فيه الإدارة الجديدة على تغييب العنصر العلوي من المراكز القياديّة والحسّاسة واستبداله بعناصر إسلاميّة وجّهت خطابات طائفيّة متشدّدة لمن بقي من الموظفين في القطّاع الحكومي. وقد أدّت هذه العوامل مجتمعةً إلى ظهور حالة من اليأس والإحباط عند شريحة واسعة من العلويين بالتزامن مع انتشار السلاح وإهمال ملف ضبّاط الأسد الكبار وتركهم في البيئات العلويّة مع خبراتهم العسكريّة دون حتى التحقيق معهم.
ثالثا: ردود أفعال العلويين على مخطط الفلول
انقسمت مناطق العلويين لقسمين رئيسيين في ردود أفعالها على أحداث السادس من آذار/مارس وفق التالي:
أ- مناطق منقسمة بين الدفاع عن الدولة وحمل مشاريع أخرى
شهدت قرابة تسع مناطق اشتباكات يوم السادس من آذار/مارس بين فلول النظام وقوات الحكومة السوريّة، وهي: حريصون وبانياس وجبلة والقرداحة ومنطقة الدعتور وما حولها في مدينة اللاذقيّة، ناحية سطامو، مثلث صلنفة والدالية وبيت عانا. كما قد شهد بعضها خروج عن سيطرة الحكومة لساعات، امتدّت في مناطق أخرى لأكثر من 24 ساعة؛ حيث عمل الفلول على تفجير الأحداث في هذه المناطق بشكل ناجح نوعًا ما، وقاموا بقطع طرق الإمداد وعزل هذه المناطق ونشر عناصر الفلول في محيطها. وجرت بعدها اشتباكات وحرب عصابات في بعض المناطق كالقرداحة وبانياس وجبلة حيث استمرّت المعارك لأكثر من يومين للسيطرة على بعضها كما حدث في القرداحة، حيث قام عناصر الفلول بنصب الكمائن واستهداف عناصر القوى الحكوميّة وقاموا ببعض حالات الاعتداء على السكّان وترويع الأهالي. شهدت بعدها دخولًا لقوّات الحكومة وعمليات مطاردة أعقبتها عمليات إعدام تعسفيّة وعشوائيّة وانتقاميّة في بعض هذه المناطق وبلدات أخرى. بل وارتقى بعضها لدرجة مجازر مروّعة بحق السكان المدنيين لتلك المناطق. وقد التقينا بأفراد من هذه المناطق ووجهنا لهم أسئلة تتعلق بالأسباب التي دفعت بعض أبناء هذه المناطق للاستجابة لقادة الفلول بنسب أعلى من مناطق ثانيّة وعجز باقي الأهالي عن ردع الفلول أسوةً بمناطق أخرى:
- منطقة بانياس
أتت أحداث السادس من آذار/مارس 2025 في مدينة بانياس لتشكل واحدة من أكثر المحطات دموية وتعقيدًا في العلاقة بين مكونات المدينة والدولة السورية الناشئة، وخاصة في الأحياء ذات الأغلبية العلوية مثل القوز والقصور. فقد مثّلت تلك الأحداث ذروة التوترات الأمنية والاجتماعية التي تراكمت منذ سقوط نظام الأسد.
حي القوز: وهو حي على تماسٍ مباشر مع أحياء ذو غالبية سنيّة. بعد سقوط النظام تلقّ أهالي الحي تهديدات كثيرة من السنّة الذين اتهموهم بالمشاركة والمسؤوليّة عن أحداث مجزرة البيضا التي ارتكبها النظام في 2 مايو/أيار 2013 وكان شارك فيها ميلشيات علويّة بقيادة علي الكيالي، ذهب ضحيتها أكثر من 250 ضحيّة مدنيّة وأحداث القتل النهب والسرقة التي جرت في حي رأس النبع في نفس الفترة.
أُفرغت القوز من سكانها في اليوم الذي سبق الهجوم (5 آذار/مارس 2025) بدعوة من الفلول وبترهيبهم، حيث بقي فيها بعض حمَلة القناصات والرشاشات من أبنائها. وبحسب أحد الشهود:
شعرنا بالخوف من اللحظات الأولى لسقوط النظام ونزح بعض الأهالي منذ تلك اللحظة تحت وطأة التهديدات، تلقينا تهديدات من عناصر أمن سابقين وضباط ومتعاونين معهم (يقصد الفلول) بالقتل في حال لم نستجب لطلبهم بالإخلاء يوم الخامس من آذار/مارس وكان خوف الأهالي مزدوج من الفلول والمتشددين السنة القريبين، حاليًا الحي شبه خالي من السكان وأعتقد أنّ مسألة عودة الأهالي باتت معقّدة.
شهد حي القصور (حي ذو أغلبية علوية في بانياس) أيضا حركة غير طبيعية يوم 6 آذار/مارس 2025 حيث خرج الكثير من سكانه إلى القرى المجاورة.
جرت في 6 آذار/مارس عملية السيطرة على القصور والقوز ونُصبت الكمائن لعناصر الأمن العام. حوصر المشفى وصُفّى الأمن المسؤول عن حمايتها، وأُخرِج بعض أقسامها عن الخدمة لاسيما القسم المسؤول عن مرضى السرطان. كلّ من كان يحاول إنقاذ المصابين من الأمن العام من قبل المدنيين استُهدف عند المركز الثقافي، الذي يعد بوابة حي القصور. نتيجة محاصرة مشفى جبلة الوطني وخروج مشفى بانياس عن السيطرة، كان المصابون من الأمن العام في بانياس يُنقلون عن طريق البحر إلى مشفى جبلة. في اليوم الثاني، وبعد وصول الفصائل والهجوم على حي القصور تحديدًا، توقّفت المعركة وبدأ التمشيط، حيث تخلّل ذلك أحداث قتل جماعيّة لسكّان حي القصور ذهب ضحيتها 186 مدني بحسب الشبكة السوريّة لحقوق الإنسان.
وبحسب شهود من سكان حي القصورـ، تفاجأ معظم سكان الحي بأحداث السادس من آذار/مارس بالرغم من وجود شكاوى من إعادة الهيكلة الحكوميّة التي ترافقت مع فصل عدد كبير من الموظفين، وأخرى تتعلق بالفقر وغياب مداخيل من كانوا عاملين في الجيش وقوى الأمن وهم نسبة كبيرة في المدينة. وأضافوا أن الاحتقان كان كبيرًا في قرى قريبة من المدينة وفيها أعداد كبيرة من الضبّاط في الجيش وقوى الأمن كقرية دير البشل وقرية بارمايا، حيث كانت تسود لهجة عدائيّة حادة تجاه الإدارة. وأضاف أحد الشهود:
"بدأنا نسمع أصوات الاشتباكات والتزم السكان منازلهم. وفي صبيحة يوم الجمعة 7] آذار/مارس [ بدأت أعمال القتل الممنهج من قبل الفصائل وأعمال السلب والحرق، حيث استمرّت عناصر الفصائل في عمليات المداهمة لقرابة الاثنتي عشرة ساعة قتلوا فيها كل من رأوه في الشارع واقتادوا أعدادًا كبيرة من بيوتهم وقتلوهم بدم بارد في الشوارع التي بقيت الجثث ملقاة فيها لأكثر من يومين".
- ريف القدموس
حمام واصل بلدة في جنوب منطقة بانياس. وبحسب أحد ساكني البلدة:
معظم شبان البلدة كانوا متطوعون إما في الأمن العسكري أو الحرس الجمهوري، وهناك ضباط كبار من رتب عالية في القرية. وما أن سقط النظام حتى عاد جميع هؤلاء إلى القرية مع أسلحتهم، بالإضافة لقيام عدد منهم بسرقة عدّة نقاط عسكريّة تابعة للجيش خلال الأيام الأولى لسقوط النظام، وبتنا نشعر أننا نعيش ضمن كتيبة عسكريّة. قبل أحداث يوم السادس من آذار/مارس بدأ العسكريون السابقون يشاركون في اجتماعات سريّة مع الضبّاط، وتأكّدت بنفسي من أنهم كانوا يتقاضون رواتب من هؤلاء الضبّاط، لكننا لم نكن نعرف مصدر هذه الأموال. ووصل عدد هؤلاء لقرابة ال 1500 مسلّح، بدأوا بأعمال السيطرة على البلدة ومحيطها منذ نهاية شهر فبراير/شباط ولكن بشكلٍ غير مُعلن وتحت مسميّات حماية المنطقة من اللصوص. قام هؤلاء بحصار مدينة القدموس أكثر من مرّة واستُوعبوا من قبل السلطات المحليّة التابعة للإدارة الجديدة في سوريا، باستثناء يوم السادس من آذار/مارس حيث تركّز نشاطهم في مدينة بانياس ومحيطها. وبعد دخول الفصائل إلى مدينة بانياس، عاد هؤلاء للقرية وتحصّنوا فيها وجرت اشتباكات مع قوات الحكومة ما أدّى لمقتل قرابة العشر أشخاص بالإضافة لدمار كبير للمنازل والممتلكات في القرية. انتهى الأمر بتدخّل الأعيان وتسليم عددٍ من المطلوبين للقوات الحكوميّة وتسليم كميّات من السلاح. [15]
ب - مناطق تميل بشكل كبير للدفاع عن مشروع بناء الدولة
لم تغب هذه المناطق عن مخططات الفلول حيث كانت هناك تحضيرات لاستهداف القوات الحكوميّة المتواجدة فيها كغيرها من مناطق الساحل السوري. إلّا أنّ أهالي تلك المناطق قاموا بإفشال هذه المخططات بعد انطلاق ساعة الصفر في الساحل السوري، حيث خرجت بعض المناطق عن سيطرة الدولة، كالدريكيش والشيخ بدر والقدموس. وشهدت بعضها استهدافًا لعناصر الأمن كما جرى في القدموس بدايةً. وقام الأهالي بحماية عناصر الحكومة كما حدث في القدموس لاحقًا، وفي مناطق أخرى كالدريكيش والشيخ بدر وبيت ياشوط والقطيلبيّة ومدينة طرطوس وباقي مناطق الساحل السوري التي لم تشهد أحداثًا ساخنة. قمنا بإجراء مقابلات معمّقة مع نشطاء من هذه المناطق، وسنقوم بسردٍ مكثّف لسير الأحداث فيها وفق هذه الشهادات:
- القدموس: شهدت المدينة أحداثًا أمنية متفاوتة قبل السادس من آذار/مارس احتواها الأمن العام وأعيان المنطقة، وفي يوم السادس من آذار/مارس استُهدفت سيارة للأمن العام على أحد مداخل المدينة، وخرجت على إثر الحادث القوات الحكوميّة من المدينة. لم تشهد المدينة مظاهر مسلّحة للفلول، حيث تواصل مشايخ وأعيان المنطقة مع قوى الأمن العام وأُمّن دخول قوات الأمن العام وسط ترحيب كبير من الأهالي يوم التاسع من آذار/مارس. كما أقدم الأهالي على جمع السلاح المنفلت وتسليمه لقوى الأمن العام. وشهدت المدينة وريفها الكثير من المبادرات المجتمعيّة لخلق الثقة بين الأمن العام والأهالي كدعوات بعض مشايخ القرى الأمن العام وممثلي الحكومة لوجبات إفطار رمضانيّة.
- الشيخ بدر: قام بعض الفلول بمحاصرة المخفر وأسر عناصر الأمن العام يوم السادس من آذار/مارس، لكنّ الأهالي هبّوا لمقاومة الفلول والوقوف بوجههم وتأمين عناصر الأمن العام، وطردهم من البلدة ومنع المظاهر المسلحة المنفلتة في البلدة لحين عودة الأمن العام يوم الثامن من آذار/مارس حيث أقام الأهالي وليمة ترحيبيّة بالأمن العام.
- النقيب (ريف طرطوس الجنوبي): حاول بعض الفلول مداهمة نقطة للأمن العام في البلدة، لكن شباب البلدة قاموا بحراسة عناصر الأمن العام وطرد الفلول، ذلك في السادس من آذار/مارس، ولم تشهد البلدة أية مظاهر أمنيّة أو عسكريّة بعدها.
لم تشهد هذه المناطق الثلاث أي مظاهر قتل أو تدمير أو سرقة، كما لم تدخل فصائل الجيش إليها، وعادت الحياة إلى طبيعتها منذ صبيحة التاسع من آذار/مارس. كما أن مدينة طرطوس المدينة لم تشهد أية مظاهر عنفيّة تُذكر أو حالات قتل وتصفية، حيث حاول الفلول تحويل مظاهرة مساء السادس من آذار/مارس إلى حالة عنفيّة مسلحة قوبلت بالرفض الشديد والاستنكار من قبل الأهالي، وظلّ الداعون لحمل السلاح قلّة قليلة خشيت على مصيرها فتركوا السلاح وعادوا لبيوتهم.
شهدت جميع المناطق العلويّة حالات خوف ورهاب شديد بعد السادس من آذار/مارس وكانت أخبار أرتال الفصائل تنتشر بين مدن الساحل والقرى والبلدات وتنشر معها رعبًا كبيرًا إثر الأخبار التي تلقاها الأهالي من المناطق التي شهدت المجازر، حيث قضى معظم أهالي الريف ليلتين أو أكثر في البراري هربًا من الفصائل التي عُرف عنها دخولها العنيف وحالات القتل والنهب والحرق التي تصاحب دخولها لأي منطقة.
رابعًا: موقف العلويين من الإدارة الجديدة بعد أحداث السادس من آذار/مارس
شهدت أحداث السادس من آذار/مارس، إلى جانب العمليات العسكريّة والانتهاكات التي ارتقت في كثير من الحالات لمجازر بحقّ المدنيين، حملات ترويع وترهيب للسكان ما تزال بعض مظاهرها قائمة حتى الآن على الحواجز التي أقامتها القوات الحكوميّة وفي حالات التحقيق والمداهمة للمنازل بحثًا عن مطلوبين، بما في ذلك الإبقاء على حواجز تابعة للجيش على الكثير من الطرق الساحليّة. كما أنّ حالة الترهيب قد شارك فيها الفلول كذلك، وكلّ من يحمل خطابهم من حيث تضخيم الأحداث بشكلٍ كبير وتهديد العلويين أنفسهم بمزيد من المجازر، بهدف تقويض الإرادة السياسيّة العامة للإدارة الجديدة في رسم صورة متكاملة للدولة. في حين يصرّ خطاب الفلول وبعض المجالس العلويّة – وخاصّة الثلاثي الخطيب ومنصور وغزال – على جعل الأمر يبدو كهجمات للسنّة الجهاديين على العلويين، وتكريس فكرة أنّ المجازر مستمرّة، بل وستزداد وتيرتها لدفع السكّان إلى الاحتفاظ بأسلحتهم وشحذهم لقتال عناصر الدولة. وفيما تُدرك نسبة لا بأس بها من العلويين ماهيّة خطاب الفلول إلّا أن مخاوفهم من تكرار السيناريوهات القاتلة أو استمرار وجود «فصائل متشددة» في الساحل، وما يتبعه من انتهاكات وطرق غير لائقة في تعاملهم مع المدنيين تظلّ قائمة وبقوة. لذا فإنّ المحرّك الأساسي للموقف السياسي في البيئات العلويّة يرتكزُ على الخوف، وهو كموقف سياسي جمعي يقوم على ردود فعل على الأحداث غير محسوبة، ولا يستجدي تفكيرًا جمعيًّا في الآثار التي قد تنجم عن أي مواقف سياسيّة قد يتخذونها. فضلا عن أنّ غياب التمثيل السياسي الفعلي للعلويين على الأرض، باستثناءات نسبيّة، وضعف البنى التمثيليّة الحاليّة أو تلك التي عُمل عليها، يُساهم بشكلٍ كبير في تكريس حالة الشتات الجمعي لدى العلويين. لذا فإنّ مطالب كالحماية الدوليّة أو التقسيم تجد آذانًا صاغية عند العلويين، أملًا منهم في الحصول على إحساس الأمان الذي فقدوه منذ أحداث السادس من آذار/مارس.
إنّ هذه المطالب، التي لا تستندُ عمليًّا على أيّة مفردات سياسيّة في البيئة العلويّة، تُعدُّ بمثابة حامل اجتماعي لمن يُريد استغلال الأحداث واقتناص الفرص لجمع تأييد علوي ولفت الأنظار إليه. ربما بهدف لعب دورٍ سياسيٍّ ما، أو إمعانًا في محاولة تدمير مشروع بناء الدولة كما فعل غزال في بيانه الذي بثّه بعد مرور شهر على الأحداث.
أمّا بالنسبة لمشروع بناء الدولة والاستقرار الأمني فهو طموحٌ لدى العلويين، لكنهم يجدون في تصرّفات الكثير من أفراد الإدارة الجديدة تهديدًا دائمًا ومستمرًّا لهذا الطموح. فلا يمكن القفز فوق مسألة الأمان في الحياة اليوميّة أو إغفال طموحات تحسين المعيشة التي يراها العلويين ممكنةً إذا ما استطاعت الإدارة الجديدة إعادة بناء الثقة وتعزيز الحضور الأمني الدولتي في الساحل، بما يختلف جذريًا عن الحضور العسكري القائم حالياً، والذي يبدو مخيفًا لغالبية العلويين.
خامسًا: خلاصات ونتائج
سياسيًّا: إنّ معظم المجالس العلويّة المُعلنة التي تشكّلت تأتي أغلبيتها من شخصيّات كانت مقرّبة من النظام السابق ومدفوعة بقوّة للتأثير السريع والمباشر في الأحداث، وذلك بسبب سرعة بزوغها وخطابها الواضح والمعادي للإدارة دون الرجوع لقواعدهم العلويّة. فقد استنكر معظم العلويين دعوات التدخّل الخارجي والعفو العام التي ركّزت عليها هذه المجالس في الفترات التي أعقبت سقوط نظام الأسد، في حين كانت مطالب العلويين تتركّز على الأوضاع المعيشيّة والتسريح العشوائي. نتحدّث هنا عن شخصيّات كغزال ومنصور والخطيب، شخصيّات حملت بياناتها تهديدات وترهيب للعلويين ولهجة تهديد للإدارة الحاليّة في سوريا ومعظم الفعاليات الدينيّة العلويّة الأهليّة. ونجحت هذه الشخصيّات لحدّ كبير في نقل حالة الرهاب من الإدارة الجديدة، خاصّة وأن المجالس الأهليّة والمجتمعيّة كانت لا تزال في طور التنظيم، و لم تنجح حتى اللحظة في الإعلان عن مجلس علوي.
لكنّ الثلاثي الخطيب ومنصور وغزال كانوا يمثّلون، بشكل مقصود أو غير مقصود، الخطاب السياسي للفلول، من ناحية مخاطبة العلويين كطرف بوصفهم مستهدفين من قبل السنّة. فقد دأب الخطيب مثلا على عبارة "لكم دينكم ولنا ديننا" بعد كل مطلب يُعلن عنه بلهجة تهديديّة. وكذلك حضّ خطاب غزال غزال في جامع الخلفاء على تكريس فكرة أن العلويين مستهدفون من قبل السنّة وأطفالهم معرّضون للذبح. كما خاطب منصور جموع معزيّن في بلدته وطالب بحماية دوليّة للعلويين من المتشددين السنّة. ومن الواضح أن رهانًا قد دخل فيه الفلول على استجابة العلويين لهذا الخطاب في مقابل قناعة اعتنقها الفلول بضعف التمثيلات الدينيّة والأهليّة والمجتمعيّة العلويّة وضعف تنظيمها، وخطابها المرهون بسياسات الإدارة الجديدة الحسنة تجاه البيئات العلويّة التي قد ترسّخ خطاب بناء الدولة لدى العلويين. الأمر الذي وجد فيه أعيان العلويين ونشطائهم مخرجًا وحيدًا من أي سيناريوهات أخرى قد لا تخدم سوى قلّة قليلة من العلويين لكنها ستسير على برك من الدم العلوي. فالأعيان العلويون مرتبطون ببيئاتهم ارتباطًا وثيقًا من حيث منشأ القوّة السياسيّة لديهم، في حين أن الفلول يرتبطون غالبًا بمشاريع وأهداف تخدم المتورّطين والمجرمين وكبار ضبّاط الجيش والمخابرات وربما دول في الإقليم.
عسكريًّا: عملت منظومة الفلول خلال ثلاثة شهور – وهنا نتحدث من لحظة سقوط نظام الأسد 8 ديسمبر/كانون الأول 2024 حتّى 6 آذار/مارس 2025 – على تنظيم صفوفها في مختلف مناطق الساحل السوري حيث كان خطابها علني في البيئات العلويّة، فضلا عمّا تمتّع به أفرادها من حريّة تنقّل لم تتمكّن الإدارة الجديدة في سوريا من حدّها، ولا حتى مصادرة أعداد كبيرة من الأسلحة التي نهبتها هذه العناصر من المنشآت العسكريّة والقواعد التي كانت تتبع للنظام. فقد كان الفلول قد تمكّنوا خلال ثلاثة أشهر من تأمين الاتصال مع مجموعة من كل قرية وبلدة ومدينة ساحليّة، والتأكّد من ضمان التحرك الجماعي في جميع مناطق الساحل السوري لهذه المجموعات لحظة الصفر، أي حوالي الساعة الثامنة مساءً من السادس من آذار/مارس، والسيطرة على كامل مناطق الساحل السوري، وفرض واقع جديد على الإدارة الجديدة والمجتمع الدولي. نجحت هذه الخطة جزئيًّا في مناطق معينة واصطدمت بردة فعل العلويين في مناطق أخرى، كما أسهم التدخل السريع من الإدارة الجديدة وتحشيدها لآلاف المقاتلين وتوجيههم باتجاه الساحل لتقويض خطة الفلول في السيطرة على أي منطقة أكثر من اثنتي عشرة ساعة. ففي مدينة بانياس وحي القصور تحديدًا شهدنا أعنف المعارك في ليلة السادس من آذار/مارس بين الفلول والقوات الحكوميّة. وفي صبيحة السابع من آذار/مارس عاد الفلول لوضعهم السابق كجيوب صغيرة وبعيدة عن مراكز المدن وخلايا نائمة. وتبقى الإدارة الجديدة عازمة على إنهاء هذا الملف باستمرار عملياتها العسكريّة في الساحل السوري، ذلك بالرغم من استمرار الانتهاكات وغياب الانضباط عند الكثير من عناصرها. زمن الملاحظ أن وتيرة الأعمال العسكريّة والانتهاكات المرافقة لها انخفضت بالتزامن مع السيطرة الميدانيّة لقوات الحكومة وانتشارها في مناطق ريفيّة علويّة وتسليم العلويين للسلاح في كثير من القرى وتسليم مطلوبين أيضًا.
ومن خلال الوقوف على ما سبق من العوامل الدافعة والمثبطة لحمل السلاح، نستطيع تحديد العوامل التي ساعدت بشكل كبير في خلق التباينات في المواقف من الأحداث الأخيرة وعدم التورّط مع الفلول، ومنها:
- اعتماد السكّان على مصادر الدخل غير العسكريّة كعامل مثبّط، مثل مصادر الدخل المستقلّة والوظائف الحكوميّة المدنيّة. فقد ساهم اندماج النسبة الأكبر من سكان هذه المناطق في الحياة المدنيّة والوظائف الحكوميّة في تغليب حالة احترام القوانين والابتعاد عن الحلول العسكريّة، كما حدث في مدينة طرطوس وأريافها القريبة من مركز المدينة. وبالرغم من حالات الفصل من الوظائف المدنيّة المتعددة، إلّا أنّ الطابع الثقافي العام لهذه المناطق مازال يريد العمل السلمي مع الدولة.
- الاحتكاك الطائفي السنّي-العلوي كعامل محفّز: لعب نظام الأسد الأب والابن على هذه الثنائيّات، محفّزًا خطاب الكراهيّة لدى الطرفين ومهددًا كليهما. فقد سعى على إيصال رسائل تهديد للعلويين منذ أحداث الإخوان المسلمين في الثمانينات. وأيقظت الثورة السوريّة منذ انطلاقها عام 2011 هذا الخطاب عند النظام وعمل على تجييش العلويين من هذه المناطق وإطلاقهم في حملات عنيفة ضد المظاهرات، ولاحقًا زُجّوا في أعمال قتل ومجازر طائفيّة كما حدث في البيضا في بانياس. وبعد سقوط النظام عمل الفلول على تهديد هذه البيئات من الطائفة السنيّة والتأكيد على أنّ السنّة يعدّون لهم مجازر جماعيّة. وهناك وجدوا فيها آذانًا صاغية ومخاوف أكثر من غيرها من البيئات، كمنطقة القوز المحاذية لقرية البيضا في بانياس.
- في الأرياف الفقيرة المتخمة بأعداد كبيرة نسبيًّا من العاملين في الجيش، أدى اعتماد النظام على الانتماءات العشائريّة للعلويين في تشكيلاته الأمنيّة والعسكريّة إلى ظهور تباينات في ردود فعل أبناء هذه المناطق. فقد كان انتماء قرى ومناطق لعشائر المطاولة والكلبيين عاملًا محفّزًا من حيث عمل معظم الأفراد العسكريين في هذه المناطق في التشكيلات العسكريّة والأقرب للنظام والأكثر تورطًا في المجازر التي قام بها نظام الأسد، وهي بشكل رئيسي الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة والمخابرات العسكريّة. ويُعدّ مثال بلدة حمام واصل في ريف القدموس الجنوبي دالًّا على ذلك، إذ انخرط معظم عسكرييها في هذه القطاعات. بينما نجد أن معظم العاملين العسكريين في الريف الشمالي للقدموس يعملون في قطع الجيش النظامي في الوقت الذي تتدنى فيه نسبة عناصر المخابرات وضبّاط الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة بشكل كبير، قياسًا ببلدة حمام واصل التي شهدت اشتباكات واسعة وتورّط الكثير من أبنائها بمشاريع الفلول. في المقابل لم يَشهد ريف القدموس الشمالي أيّة اضطرابات أمنيّة على خلاف ريفه الجنوبي.
خاتمة
إنّ الاضطرابات التي أحدثها الفلول تبدو منسّقةً، حيث اعتمدت في خطابها على مظلوميّة نشأت حديثًا في البيئات العلويّة بالتوازي مع مظلوميّات تاريخيّة تتعلّق باضطهاد السنّة للعلويين في مراحل تاريخيّة سابقة. كما ركّزت على الوعود بعودة الحكم إلى أيادي العلويين، وخاصّة في مناطق الساحل السوري. بيد أنّ عوامل أخرى كانت أكثر تأثيرًا، كالبطالة التي وجدَ عناصر الجيش وقوى الأمن أنفسهم في خضمّها فجأة، وتوق معظم المتورطين منهم للعودة لحمل السلاح ومراكمة الأموال. فقد وجد الكثيرون منهم رواتب مغريّة آتية من الفلول في حين كان واقعهم المعيشي مأساوي. وذلك بالرغم من إهمال الإدارة الجديدة لملف الفلول من الناحية الأمنيّة، علاوةً على تجاهل المزاج العام في البيئة العلويّة – ذات الارتباط الشديد بالجيب الحكومي – نتيجة الفصل التعسّفي لأعداد كبيرة من الموظفين، ما جعل البيئة العلويّة من أكثر البيئات تضررًا على الصعيد المعيشي. كما تركت الإدارة الجديدة كبار ضباط الأسد العاملين في قطاعات الاستخبارات والأمن والحرس الجمهوري والفرقة الرابعة دون ملاحقة أو تحقيق أو مراقبة – وهم أفرادٌ لن يرضوا بالمعادلة السياسيّة الجديدة التي ستسوقهم ربما لمحاكمات ومصادرة ثروات نهبوها من الشعب السوري على مرّ عقود. وقد كانوا ومازالوا العصب الرئيسي المحرّك للفلول.
إنّ كل هذه العوامل كانت ستُفْضي لا شكّ لحرب أهليّة شاملة، حربٌ ينتظرها الفلول وأعوانهم. بيد أنّ ميل كثيرون من البيئات العلويّة لمشروع الدولة الوطنيّة ورفضهم لحمل السلاح وإدراكهم العميق لحجم إجرام نظام الأسد وأتباعه، فضلا عن أملهم في بناء وطن آمن ومستقر، قد كان العامل الرئيسي وراء إفضال مخططات الفلول. حيث أسهمت التباينات الكبيرة في رد فعل البيئات العلويّة على مشروع الفلول في إفشالهم، وساهمت بشكل رئيسي على قدرة الإدارة الجديدة على التعامل مع الجيوب التي خرجت عن سيطرتها، لكنّ رد فعل الإدارة الجديدة يحمل بين طياته أخطارًا كبيرة قد تفضي لفوضى على حساب العلويين. فقد اندفعت عناصر وفصائل غير منضبطة – بعضها جهاديّة ذات سجل إجرامي – في تنفيذ حالات إعدام جماعيّة وميدانيّة في المناطق العلويّة، الأمر الذي يجب أن تضمن الإدارة الجديدة عدم تكراره ومحاسبة الجناة.
تأتي أهميّة لجنة التحقيق التي أعلن عنها رئيس المرحلة الانتقالية السيّد أحمد الشرع في رسم وجه سوريا الجديدة حيث لا جريمة تمرّ بدون عقاب، علاوةً على دورها في ضبط عناصر الجيش وتحييد العناصر الجهاديّة وحل الفصائل غير المنضبطة. كما أبرزت أحداث الساحل الأخيرة ضرورة المضي بمسار العدالة الانتقاليّة، وتشكيل حكومة مدنيّة تمثّل أطياف الشعب السوري، والعمل على وأد الاقتتال الطائفي والانفلات الأمني وتخميد الدوافع السياسيّة للتمرد في هذه البيئات من خلال دمج جميع أطياف المجتمع السوري في قوى الأمن والجيش وتعزيز التواصل مع شرائح المجتمع والشروع في بناء علاقات صحيّة بين المجتمع والدولة.
لا شكّ أنّ هناك الكثير من العوامل الموضوعيّة التي تدفع البيئات العلويّة باتجاهات خارج إطار بناء الدولة، إلّا أنها تبقى أضعف من عوامل أخرى معاكسة تجعل من العلويين جزءًا أصيلًا من القوى الفاعلة في التشكيل الجديد للدولة السوريّة. لكنّ ضعف التنظيم السياسي التمثيلي للعلويين وغياب المبادرة السياسيّة تزيد من تعقيدات المشاكل التي ورثها العلويون من النظام السابق، كالتفتت العميق للبنية الاجتماعيّة والسياسيّة وغياب الثقة بين العلويين أنفسهم وأي حكومة ستأتي. وهذه أمورٌ لربما ستتفاقم مستقبلًا ما لم يتلمّس العلويين سياسات دولتيّة رشيدة تنعكس إيجابًا على واقعهم المعيشي والأمني. أمّا عن مشاكل التمثيل السياسي وما يطرحه من معوقات سواء بالنسبة للسلطة أو المجتمع، فإنّ الطريق نحو بناء تمثيل سياسي وطني مازال غامضًا، ويحتاج لجهود مكثّفة من النخب الثقافيّة والسياسيّة والإدارة الجديدة والمجتمع المدني، تمهيدًا لدخول صراعات سياسيّة سلميّة وديمقراطيّة تعزز التنمية والانتماء. إنّ هذا الطريق الطويل يوازيه طريق حصر السلاح بيد الدولة وتقييد عنف السلطة وتقنينه، وهما مساران يتفاعلان معًا ويتراكبان لإنتاج المعادلة السياسيّة الوطنيّة عند العلويين، ممّن سيتحولون بدورهم في حال نجحت الإدارة الجديدة في هذين المسارين، واجتازت بسلامةٍ اختبار الدولة الجديدة الصعب، ونقطة الابتزاز الدوليّة لحكام سوريا بمقولة «اضطهاد الأقليّات»، إلى رافعة وطنيّة ومسند مهم للدولة السوريّة في مشروعها المدني والحداثوي.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.