1. المقدمة
شهد العراق في السنوات الأخيرة زيادة ملحوظة في النشاط البيئي. وحدث هذا التحول في سياق ما تم تقديمه في كثير من الأحيان على أنه استقرار جديد، بسبب غياب النزاع المسلح النشط في البلاد منذ عام 2017. ومع ذلك، بينما تفسح جهود "الاستقرار" المجال لجهود "التنمية"، فإن العراق يتعايش أيضًا مع العنف البطيء للحروب التي طال أمدها، والارتفاع الفلكي والسريع في إنتاج النفط، وآثار تغير المناخ – الأكثر وضوحًا في انتشار التلوث وأزمات الصحة العامة، وكذلك في جفاف الأنهار والبحيرات القديمة والتصحّر، الذي يدمر سبل العيش ويتسبب في هجرة جماعية في جميع أنحاء البلاد. وقد جاء تزايد الاهتمام بالبيئة أيضًا في أعقاب انتفاضة تشرين الأول/أكتوبر 2019، والتي ردت عليها الحكومة والميليشيات المرتبطة بها بحملة قمع واسعة النطاق على حرية التعبير والتجمع، ما زاد من خطورة أي شكل من أشكال النشاط. تبحث هذه الدراسة في كيفية تفاعل الناشطين البيئيين الذين يعرّفون عن أنفسهم في العراق مع هذا السياق المعقد والتحديات التي يواجهونها.
وللتغلب على السلطوية المتزايدة للدولة العراقية، يجد هذا البحث أن دعاة حماية البيئة يميلون إلى تبني مبادرات صغيرة مؤطرة بعناية، وعادة ما يقدمونها على أنها دعم للحكومة في حل بعض المشاكل البيئية التي تواجهها، بدلاً من خصومة علنية. ويعني هذا النهج أيضًا أن الحركات البيئية في العراق تفتقر إلى الاستقلالية، وأن بعض القضايا – لا سيما تلك التي قد تضر بمصالح الأعمال أو مكانة النخبة السياسية – تبقى خارج نطاق اهتمامات الحكومة. ونتيجة لذلك، تميل المبادرات البيئية في العراق إلى القيام بتدخلات سطحية لا تساهم بكثير في معالجة الأسباب الجذرية للتدهور البيئي أو تخفيف آثار تغير المناخ. وتتفاقم هذه الديناميكيات بسبب هياكل التمويل للمنظمات المانحة، التي تفضل تقديم المنح للمشاريع صغيرة الحجم والمحددة زمنياً والتي يمكن قياس نتائجها بسهولة. كما بدأت الجهات الفاعلة البيئية الناشطة في العراق بتشكيل تحالفات مع الحكومة والقطاع الخاص وأعضاء آخرين من المجتمع المدني، مثل النشطاء السياسيين. ومع ذلك، لا يزال هذا الأمر في مراحله الأولى وغالباً ما يقتصر على عدد قليل من الأفراد الذين يعملون بمفردهم. ولا يزال بناء التحالفات يشكل تحديًا كبيرًا، وغالبًا ما يتم حظره بشكل فعال من قبل الحكومة، وتستخدمه الشركات للغسل الأخضر (الخداع البيئي) وترى جهود النشطاء والمنظمات البيئية مستغلة من قبل السياسيين لتحقيق أهدافهم السياسية والمالية.
وتؤيد نتائج الدراسة الحالية عمل فيكتور-ماخ وآخرين حول كردستان، وتوسع نطاقه، لا سيما توصيفهم للنشاط البيئي في المنطقة على أنه "نوع محدد من النشاط الذي لا يشكك في السياسات والممارسات السائدة، ولكنه يهدف إلى الدفع باتجاه التغيير ضمن الأنظمة القائمة ويتسم بطابع تعاوني" .مع ذلك، من المهم أيضًا ملاحظة (كما تناقشه هذه الورقة بمزيد من التفصيل لاحقا) أن تبني مثل هذه التكتيكات غير التصادمية في العراق الاتحادي هو نتيجة لحملة القمع المتزايدة على المجتمع المدني ما بعد تشرين، ما زاد من مخاطر العمل الأكثر خصومة. بالإضافة إلى ذلك، في حين أن حالات التنازع الجماهيري في كردستان نادرة نسبيًا وغالبًا ما تركز على قضايا مثل الرواتب وتوفير الخدمات، فقد كانت هناك حالة واحدة على الأقل من التعبئة الجماهيرية في العراق الاتحادي استجابةً للقضايا البيئية في السنوات الأخيرة في شكل احتجاجات المياه في البصرة عام 2018.
2. المنهجية
تستند نتائج هذا التقرير إلى 30 مقابلة شبه منظمة أُجريت في أربيل والسليمانية وبغداد والبصرة بين أيلول/سبتمبر وتشرين الأول/أكتوبر 2024 مع منظمات غير حكومية بيئية أو منظمات غير حكومية لديها برامج بيئية، وأكاديميين، وصحافيين وناشطين. تتوزع هذه المقابلات بين سبع مقابلات مع جهات فاعلة ومنظمات في السليمانية، وواحدة في دهوك، وواحدة في كركوك، وأربع في أربيل، وثماني في بغداد، وواحدة في الفلوجة، وخمس في البصرة، وواحدة في ميسان، وواحدة في الناصرية، وواحدة في السماوة. تعمل تسع من المنظمات التي تمت مقابلتها كجزء من هذه الدراسة في جميع أنحاء البلاد. وكما نناقش بالتفصيل في هذه الورقة أنه غالباً ما تواجه الجهات الفاعلة البيئية أعمالاً انتقامية وتهديدات بسبب عملها في العراق. وعلى هذا النحو، تم إخفاء أسماء جميع الأشخاص الذين تمت مقابلتهم في هذه الدراسة حفاظاً على سلامتهم.
وتم اختيار المشاركين في المقام الأول من خلال أخذ عينات هادفة، حيث اختير الأشخاص الذين جرت مقابلتهم مسبقاً بناءً على معرفة الباحثة بالجهات الفاعلة والمنظمات البيئية التي تعرف نفسها بنفسها في العراق. وكان الهدف هو الحصول على عينة تمثيلية لمختلف أنواع الجهات الفاعلة العاملة في المناطق الجغرافية الأربع التي أجريت فيها المقابلات وفي جميع أنحاء البلاد. وبلغ معدل الاستجابة من المحاورين الذين اتُّصل بهم ليكونوا جزءاً من هذه الدراسة نحو 75%. إضافةً إلى ذلك، استُخدمت منهجية أخذ عينات كرة الثلج خلال مرحلة العمل الميداني لزيادة عدد المشاركين والحد من أي تحيزات موجودة في شبكات الباحثة. اختيرت المواقع الأربعة الرئيسية التي أُجريت فيها المقابلات لأنها مراكز لنشاط المجتمع المدني في شمال ووسط وجنوب العراق. في حين أن بعض الجهات الفاعلة التي أجريت معها المقابلات تعمل في غرب العراق، إلا أن البيانات عن هذه المنطقة محدودة في هذه الدراسة. خلال كل مقابلة، دُونت ملاحظات مكتوبة بخط اليد، ثم جُمعت في وثيقة واحدة وحُلّلت بحثاً عن المواضيع المشتركة.
3. الفضاء المدني في العراق ما بعد تشرين
في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، واجهت الأحزاب السياسية التي وصلت إلى السلطة على خلفية الغزو الذي قادته الولايات المتحدة وبريطانيا للعراق أكبر انتفاضة في تاريخ البلاد بعد عام 2003. فقد خرج ما يصل إلى مليون شاب إلى شوارع محافظات الوسط والجنوب مطالبين بإنهاء النظام السياسي العرقي والطائفي. وكانت الاحتجاجات من بين أهم التهديدات التي واجهها النظام السياسي العراقي منذ عام 2003، وكانت مؤشراً على فقدان شرعيته بالكامل بين قطاعات واسعة من الشعب. في أعقاب الاحتجاجات وانتخابات 2021 التي أعقبتها، أعادت الأحزاب الحاكمة في العراق – التي تتألف بشكل متزايد من الأجنحة السياسية للميليشيات – تنظيم نفسها وتبنت سياسات استبدادية بشكل متزايد، ما أدى إلى تقلص سريع في الفضاء المدني وخنق الأصوات الناقدة.
تعتبر الحركات البيئية في العراق ظاهرة جديدة نسبيًا ولم تبدأ في اكتساب قوة دفع إلا في العامين الماضيين وسط تقلص الحيز المدني. وفي حين أن منظمات المجتمع المدني نشطت منذ عام 2003، إلا أنها ركزت في أعقاب الغزو على توفير الخدمات والطعن في السياسات والقوانين التي وضعتها قوات الاحتلال. والاستثناء الوحيد الملحوظ هو منظمة "طبيعة العراق"، وهي منظمة تأسست عام 2003 لقيادة جهود المنظمات غير الحكومية لاستعادة الأهوار في جنوب العراق. وقد ذكر العديد من أعضاء المجتمع المدني الذين تمت مقابلتهم من أجل هذا المشروع، أنه على الرغم من نشاطهم في مجال المنظمات غير الحكومية منذ تغيير النظام، إلا أنه في ذلك الوقت لم تكن هناك منظمات تعمل في القضايا البيئية تقريبًا، وأن الاهتمام بالبيئة لم يبدأ في الارتفاع إلا في السنوات العشر الماضية. إن حداثة الاهتمام بالقضايا البيئية نسبيًا تُشكل تحديًا كبيرًا لأنصار البيئة بسبب محدودية الوعي بين الجمهور والحكومة والمجتمع المدني بالقضايا المتعلقة بالمناخ والبيئة. كما أن حداثة هذا النوع من العمل البيئي في العراق تعني أيضًا عدم وجود حركة بيئية موحدة واحدة في البلاد. وعلى الرغم من أن الارتفاع السريع في إنتاج النفط في السنوات الخمس عشرة الماضية والآثار المتزايدة الوضوح لتغير المناخ والتدهور البيئي قد أدت إلى تحولات عميقة، إلا أن فهم الجمهور والمجتمع المدني لها لم يصل إلى مستوى التماسك الخطابي حول قضايا أخرى، مثل الفساد والطائفية العرقية.
وعلاوة على ذلك، ومنذ عام 2019، أصبحت الحركات والجهات الفاعلة في مجال البيئة على رادار الحكومة والقوى المرتبطة بها، بما في ذلك جماعات الميليشيات. وقد أصبحت الأحزاب المهيمنة في العراق، التي أصبحت غير واثقة بشكل متزايد من موقفها وشرعيتها، تنظر إلى دعاة البيئة على أنهم تهديد بدلاً من أن يكونوا شركاء في معالجة تغير المناخ والتدهور البيئي. ونتيجة لذلك، كان هناك رد فعل عنيف ضد أبرز النشطاء البيئيين في العراق، حيث اضطر العديد منهم إلى الفرار من البلاد. ففي كانون الأول/ديسمبر 2019، اعتُقل سلمان خير الله، أحد مؤسسي جمعية حماة نهر دجلة، واختفى لمشاركته في انتفاضات تشرين الأول/أكتوبر 2019، واضطر لاحقًا إلى الفرار من العراق بسبب نشاطه البيئي. وفي شباط/فبراير 2023، اختطف جاسم الأسدي، المؤسس المشارك لمنظمة طبيعة العراق، وتعرض للتعذيب على يد مجموعة من الميليشيات بسبب عمله في الدفاع عن أهوار العراق – أحد مواقع التراث العالمي لليونسكو – واتهم بالارتباط بدول معادية للحكومة العراقية. ويشكل الإكراه الذي يواجهه المدافعون عن البيئة في العراق جزءًا من حملة أوسع نطاقًا على المجتمع المدني، حيث شنت الأحزاب المهيمنة حملات تتهم المنظمات غير الحكومية بدعم المصالح الأجنبية من خلال العمل مع المنظمات الدولية أو تلقي التمويل منها، خاصة الجهات المانحة التي تعمل في قضايا النوع الاجتماعي أو تلك التي تنتمي إلى دول معينة مثل الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من أن كردستان لم تشهد احتجاجات حاشدة في عام 2019، إلا أن حرية التعبير محدودة هناك أيضًا، مع تواتر التقارير عن اعتقال صحافيين وتعرضهم للتعذيب بسبب انتقادهم الأحزاب السياسية المهيمنة في الإقليم. على الرغم من هذا المستوى من الإكراه، أوضح من قابلتهم أن هناك حرية أكبر في العمل على القضايا البيئية في هذا الإقليم، وأنه في كثير من الأحيان عندما يواجه الناشطون البيئيون أعمالًا انتقامية في وسط العراق، فإنهم يحتمون هناك. لكن حتى في كردستان، غالبًا ما يتلقى الناشطون تهديدات مبطنة من الأحزاب السياسية بسبب عملهم البيئي، خاصةً عندما يدعون إلى أنشطة قد تضر بمصالح هذه الأحزاب التجارية. ولتوضيح هذا التناقض الظاهري، بدأ أحد الأشخاص الذين قابلتهم بشرح مدى الأمان الذي تتمتع به السليمانية بالنسبة للناشطين البيئيين مقارنةً بأجزاء أخرى من العراق، قبل أن يخبرني عن خطة الهروب التي وضعها في حال تعرضه هو نفسه للتهديد أو الإكراه. وهكذا، في حين أن الفضاء المدني في كردستان لم يتقلص بقدر ما تقلصت مناطق أخرى من العراق منذ عام 2019، إلا أنه لا تزال هناك مخاطر ملموسة مرتبطة بالقيام بالنشاط البيئي هناك.
4. تأطير وتنظيم النشاط البيئي في العراق
تفترض الأدبيات المتعلقة بالحركات الاجتماعية أن الجماعات تستخدم عمليات التأطير في "الصراع على إنتاج الأفكار والمعاني التعبوية والمضادة للتعبئة". وتتسم عمليات التأطير بأنها متنازع عليها ومشروطة بهياكل الفرص السياسية والقيود، كما أن عمليات التأطير استراتيجية تهدف إلى تحقيق غايات محددة، مثل تعبئة الأتباع أو الحصول على الموارد. كما تتسم الأطر أيضًا بخصائص مختلفة، بما في ذلك اتخاذها شكلًا "إنذاريًا" يقدم حلولًا للمشكلات. وتماشيًا مع هذه الأدبيات، تشير نتائج هذه الدراسة إلى أنه بسبب المخاطر المرتبطة بالنشاط البيئي في العراق والمساحة المحدودة بشكل متزايد للتعبئة، تميل الجهات الفاعلة البيئية إلى تبني مبادرات صغيرة ذات أطر دقيقة تبتعد عن الموضوعات التي تعتبر "حساسة" قد تضر بمصالح النخب السياسية والميليشيات المرتبطة بها. حيث تميل المشاريع البيئية إلى تقديم حلول للمشاكل، وتؤطّر بعبارات غير عدائية كوسيلة لدعم الحكومة في معالجة المشاكل البيئية. وفي العديد من الحالات، تكون قضايا مثل التدهور البيئي أو التغير المناخي جوانب ثانوية في هذه المشاريع أو تُلحق بها، بدلاً من أن تكون محور تركيزها الرئيسي.
كانت الجهات الفاعلة في المجتمع المدني محوراً رئيسياً للتعبئة البيئية في العراق. حيث تدير بعض المنظمات غير الحكومية برامج بيئية كجزء من تفويض أوسع لحقوق الإنسان والتنمية. وغالباً ما يتم تأطير هذه البرامج كوسيلة لدعم الحكومة في تحقيق أجزاء من أجنداتها الشاملة. على سبيل المثال، تركز العديد من المنظمات التي تمت مقابلتها من شمال ووسط وجنوب العراق على تمكين الشباب. تؤطر بعض هذه المنظمات عملها على أنه تعليمي للإشارة إلى أنه لا يشكل تهديداً للنخب الحاكمة. وتعمل هذه المنظمات على رفع مستوى الوعي من خلال ورش العمل والبرامج التثقيفية، خاصة بين الشباب في المدارس وحول قضايا مثل التغير المناخي. وتركز منظمات أخرى على الشباب من خلال تقديم منح صغيرة للأفراد أو المنظمات التي ترغب في إدارة مشاريع مستدامة أو مشاريع تساهم في حل مشاكل بيئية معينة. وغالبًا ما يتم تأطير هذه المشاريع على أنها جزء من الهدف الأوسع نطاقًا لتنويع الاقتصاد العراقي بعيدًا عن القطاع العام ونحو تنمية القطاع الخاص من خلال مبادرات ريادة الأعمال. في المقابل، تركز المنظمات العاملة في غرب العراق التي تمت مقابلتها في هذه الدراسة على مبادرات إعادة إدماج أولئك الذين نزحوا أو ترمّلوا نتيجة الحرب على داعش (تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام). وتقوم هذه المنظمات بذلك من خلال تعليم الأسر زراعة غذائها وتزويدها بالمعدات الزراعية وقطع صغيرة من الأراضي حتى تتمكن من العيش بشكل مستدام وأحياناً حتى توليد الدخل.
تسليط الضوء 1: تأسست منظمة IRO لتنمية المجتمع في عام 2011 وتعمل على مبادرات التثقيف والتوعية حول تغير المناخ والبيئة في السليمانية. تدير المنظمة "نوادي بيئية" في المدارس مع الأطفال والشباب وأولياء أمورهم وإدارة المدرسة. كما أنهم يديرون مسرحاً تفاعلياً متنقلاً ويقيمون عروضاً للعرائس في المدارس لتعليم الأطفال أهمية حماية البيئة. بالإضافة إلى ذلك، يستضيفون "مقاهي الشباب" لمناقشة القضايا البيئية مع الشباب. |
أما المجموعة الثانية من المنظمات غير الحكومية، التي تعمل في المقام الأول على القضايا البيئية، فتضع مشاريعها في إطار دعم الحكومة في معالجة المشاكل البارزة التي تهم الجمهور، مثل التلوث والتدهور البيئي. على سبيل المثال، من الشائع أن تدير المنظمات حملات إعادة التشجير التي تهدف إلى زيادة المساحات الخضراء للمواطنين وتوفير الظل. وتشير المقابلات التي أجريت من أجل هذا المشروع إلى أن هذا الأمر شائع بشكل خاص في إقليم كردستان، حيث فُقدت 50% من الأشجار في السنوات السبعين الماضية، بسبب قطع الأشجار غير القانوني وحرائق الغابات والجفاف الصيفي وعمليات الجيش التركي. ومثل هذه المبادرات شائعة أيضًا في الموصل التي فقدت 150,000 شجرة خلال الحرب ضد داعش، وفي البصرة، حيث تم تدمير 80% من غابات النخيل منذ الثمانينيات. بالإضافة إلى ذلك، هناك نشاط آخر شائع تقوم به المنظمات غير الحكومية البيئية، بالإضافة إلى بعض الحملات غير الرسمية المؤقتة، وهو تنظيف البحيرات والأنهار من خلال جمع القمامة. هذا هو أحد المسارات الأساسية للعمل الذي تقوم به المنظمات غير الحكومية مثل منظمة حُماة دجلة، التي تعاونت على سبيل المثال مع منظمة أنقذوا دجلة ومنظمة حُماة الفرات في عام 2021 لتنظيف نهر الفرات في الرمادي، أكبر مدن محافظة الأنبار. وبهذه الطريقة، تقدم المنظمات غير الحكومية حلولًا للمشكلات البيئية التي يواجهها المواطنون، وتقوم بعمل الحكومة دون مواجهتها مباشرةً بعيوبها.
تسليط الضوء 2: منظمة هاسار هي منظمة بيئية غير حكومية مقرها في أربيل تسعى إلى زراعة مليون شجرة بلوط في كردستان كوسيلة لتبريد المناخ. يستخدمون منصة على الإنترنت، وهي متاحة مجانًا للجمهور على موقعهم الإلكتروني، لتتبع مدى التغطية الحالية للمظلة في منطقة معينة ومن ثم العمل على التأكد من عدد الأشجار التي يجب زراعتها للحصول على التغطية المثلى. ويعملون في الغالب مع المتطوعين الشباب في مجال الزراعة ولديهم نظام مكافآت وترقيات للشباب المشاركين في مشاريعهم. وقد حققت منظمة هاسار نجاحاً كبيراً في مهمتها جزئياً بسبب تأطيرهم لعملهم الذي يوفر حلاً لمشكلة بيئية رئيسية في كردستان ذات أهمية كبيرة بالنسبة للجمهور. |
هناك أيضًا مراكز أبحاث ومراكز ثقافية في جميع أنحاء العراق تُجري أبحاثًا وبرامج توعية حول القضايا البيئية. وغالبًا ما يتم تأطير هذه المشاريع على أنها دراسات علمية "محايدة" وبالتالي فهي غير معادية للحكومة. في كردستان على وجه الخصوص، يعمل العديد من الأكاديميين والمنظمات في مجال التنوع البيولوجي، حيث يدرسون النباتات والحيوانات في المنطقة وينشرون كتبًا ومقالات أكاديمية حول هذه القضايا. ويعمل آخرون على حماية الحياة البرية، على سبيل المثال من خلال البحث الأكاديمي حول طرق التجارة المستخدمة لتهريب الحيوانات الغريبة عبر العراق وتوثيق الحياة البرية من خلال التصوير الفوتوغرافي. وتؤطر هذه المشاريع على أنها تزيد من مكانة النظام التعليمي في كردستان وتسلط الضوء على الحياة البرية في الإقليم. هناك أيضًا العديد من المراكز البحثية والمؤسسات الصحفية التي تعمل على نشر مقالات قصيرة حول القضايا البيئية وتدريب الصحافيين على كيفية تغطية القصص البيئية وتزويدهم بالمعدات اللازمة للقيام بذلك. وتميل منشورات هذه المنظمات إلى تناول الموضوعات التي تتداولها هذه المؤسسات بشكل عام وسطحي في كثير من الأحيان، وغالبًا ما يكون ذلك وسيلة لتجنب جذب انتباه الحكومة أو الميليشيات المرتبطة بها من خلال النقد العلني.
كما بدأت العديد من المراكز الثقافية في استخدام الفن كوسيلة للتوعية وانتقاد التقاعس عن العمل بشأن التلوث وتغير المناخ، بما في ذلك من خلال نشر الكتب المصورة، وإقامة المعارض، وإنتاج فنون الشارع. وكما أوضح أحد المحاورين من إحدى هذه المنظمات، فإن الفنون وسيلة مفيدة للنشاط البيئي في العراق لأنها تسمح للفنانين بالتعليق على الإجراءات الحكومية بطريقة ضمنية وغير مباشرة، ما يعطي "وجهًا مختلفًا للقضية"، وبالتالي تجنب المواجهة المباشرة مع السلطات. تعمل العديد من الشبكات في جميع أنحاء العراق على قضايا مثل السيادة الغذائية وحماية سبل العيش، بما في ذلك في منطقة الأهوار حيث أدى الجفاف، وبناء السدود، وأنشطة الصناعات الاستخراجية إلى تدمير الأهوار. في مقابلة أُجريت من أجل هذه الدراسة، أوضح منسق إحدى هذه الشبكات أنه كان عليهم أيضًا صياغة رسائلهم بمصطلحات ثقافية، لا سيما في ما يتعلق بالأهمية الثقافية للأهوار بالنسبة للهوية العراقية، كوسيلة لجعل رسالتهم أكثر وضوحًا لصانعي السياسات والحد من احتمال حدوث رد فعل
تسليط الضوء 3: بيت تركيب هي منظمة فنية مقرها بغداد تدير برنامجًا حول الفن و الحراك. وقد عملت مع المنظمة غير الحكومية البيئية "حماة دجلة" لجلب خبراء لتدريب الفنانين على القضايا البيئية لمدة ثلاثة أشهر. ثم يقوم الفنانون بإنتاج أعمال فنية على هذا الأساس يتم عرضها في جميع أنحاء بغداد وفي صالات العرض. كما يعملون بالتعاون مع منظمة ”حماة دجلة“ لجعل مقرها وعملياتها مستدامة. |
عنيف ضد الناشطين في الشبكة.
النمط الوحيد من التنظيم الذي يميل إلى المواجهة في العراق هو الحملة غير الرسمية المخصصة، التي غالباً ما تطلقها الجهات الفاعلة في مجال البيئة في أعقاب الأزمات التي حظيت باهتمام الرأي العام. فعلى سبيل المثال، أطلق نشطاء في السليمانية مؤخرًا حملة غير رسمية باسم "احمي جبل گۆیژە " لتنسيق الجهود لمنع بناء مجمعات سكنية على الجبل، ما أدى بالفعل إلى حرق 13 ألف شجرة صنوبر عمدًا. وقبل ذلك، أطلق نشطاء في البصرة في عام 2018 حملة "أنقذوا البصرة" للفت الانتباه إلى التلوث في المحافظة في أعقاب تسمم 118 ألف شخص بسبب تلوث المياه، والتي بلغت ذروتها في أكبر احتجاجات بيئية في العراق حتى الآن. في هذه الحالات، يمكن للجهات الفاعلة البيئية أن تكون أكثر عدائية في تنظيمها لأن الدعم العام للقضايا المطروحة وإبرازها يزيد من فرص التحرك ويقلل من احتمال رد فعل الحكومة والميليشيات المرتبطة بها بالإكراه العلني. في مثل هذه الحالات فقط عندما يتم تأطير القضايا البيئية بنجاح على أنها أزمات أو تتطلب اهتمامًا عاجلًا، تتمكن الجهات الفاعلة البيئية في العراق من حشد حركات أو نشاطات واسعة النطاق، وهو أمر معترف به على نطاق واسع بين الجهات الفاعلة في المجتمع المدني باعتباره أمرًا حاسمًا للضغط على الحكومة العراقية لتقديم تنازلات.
5. عيوب نهج المشاريع الصغيرة
إن المبادرات الصغيرة المؤطرة بعناية التي تفضلها الجهات الفاعلة البيئية في العراق مفيدة بقدر ما تسمح لها بالبقاء في العمل – وهو ما قد لا يكون الحال لو أنها اعتمدت تكتيكات أكثر جرأة. ومع ذلك، وكما سيتم شرحه في هذا القسم، فإن نهج المشاريع الصغيرة يعني أيضًا أن الحركة البيئية في العراق تفتقر إلى الاستقلالية، وأن القضايا التي تعتبر حساسة سياسيًا تعتبر خطيرة جدًا بحيث لا يمكن طرحها.
إن عمل الحركات البيئية في العراق مقيّد بمدى تشابك مصالح النخبة السياسية والشركات الخاصة. على سبيل المثال، أوضح من تمت مقابلتهم أن منظمة في شمال العراق تعمل على رصد مستويات التلوث لم تستطع وضع أجهزتها في مناطق قريبة من المصانع والمصافي المملوكة لأحزاب سياسية في المنطقة. وقد اتخذ هذا القرار، وفقًا لهم، ليس فقط بسبب الخطر الذي قد يشكله الكشف عن مستويات التلوث المرتفعة على المنظمة وأعضائها، ولكن أيضًا لأن المنظمة نفسها ممولة من قبل سياسي محلي. لذلك، وبدلًا من تقديم صورة دقيقة عن التلوث في المنطقة وكيفية معالجته، تعمل المنظمة على تحسين صورة السياسي المحلي المعني.
وبالمثل في وسط وجنوب العراق، فإن حجم استثمارات النخبة السياسية في الصناعات الضارة بالبيئة يعني أن بعض المواضيع لا يمكن مناقشتها علنًا. على سبيل المثال، نشرت الحكومة العراقية على نحو متزايد خطابات تعمل على أمننة قطاع النفط، وتصنيفه على أنه "قضية أمن قومي" لأن عائدات النفط تشكل أكثر من 90% من الميزانية العراقية. ويزيد هذا التصنيف من العقوبات المفروضة على انتقاد التلوث الناجم عن استخراج النفط أو الطريقة التي يساهم بها في تغير المناخ البشري المنشأ. لقد عملت أمننة قطاع النفط – إلى جانب العقد الاجتماعي لما بعد عام 2003 الذي يشتري ولاء المواطن من خلال توفير وظائف حكومية – على خلق سردية متجانسة. حتى النشطاء البيئيين كثيرًا ما أخبروني أنه لا يمكن فعل أي شيء للحد من إنتاج النفط، وإلا "كيف سيعيش الناس؟" وبهذه الطرق، تضطر الجهات الفاعلة البيئية في العراق إلى إعطاء الأولوية للتدخلات الصغيرة والسطحية التي لا تضر بمصالح النخبة السياسية، بدلًا من معالجة الأسباب الجذرية للتدهور البيئي وتغير المناخ.
تسليط الضوء 4: في محافظة ميسان، تعاني هور الحويزة من الجفاف بسبب سد أقيم على الجانب الإيراني من الهور ونقص مخصصات المياه من الحكومة العراقية، واستخدام شركات النفط لمياه النهر لأغراض حقن آبارها وانخفاض مستويات هطول الأمطار الناجم عن تغير المناخ. ورداً على ذلك، نظم القرويون من سكان الأهوار، الذين يعتمدون على الأراضي الرطبة في معيشتهم والتي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من تراثهم الثقافي، احتجاجات دورية للمطالبة بإيجاد حل لمشكلة الجفاف. وقد نجح نشطاء من المنطقة في لفت انتباه وسائل الإعلام إلى قضيتهم على الصعيدين الدولي والمحلي. ومع ذلك، وعلى الرغم من حقيقة أن هور الحويزة محمي بموجب اتفاقية رامسار وهي تراث عالمي لليونسكو، إلا أنهم لم يتمكنوا من تحقيق أي نتائج جوهرية، لأن مصالح العديد من الجهات الفاعلة متشابكة مع الوضع في الأهوار. وهذا يعني أن احتجاجاتهم وحملاتهم غالبًا ما تُقابل بالاعتقالات الجماعية واستخدام الرصاص الحي. |
كما أدى تسييس بعض القضايا البيئية إلى فرض رقابة ذاتية على الجهات الفاعلة في مجال البيئة في العراق. على سبيل المثال، كما أوضح باحثون وصحافيون تمت مقابلتهم من أجل هذه الورقة، في عام 2023، عندما أطلقت وزارة البيئة حملة لإغلاق أحواض صيد الأسماك غير المرخصة في جميع أنحاء العراق للحد من سوء إدارة المياه، لم يتمكنوا من التحدث عن القضية علانية لأن العديد من أكبر المزارع مرتبطة بشخصيات دينية في النجف وكربلاء. وفي مثال آخر، أوضح أحد نشطاء المجتمع المدني أن هناك حالات مرتفعة من السرطان والعيوب الخلقية في الفلوجة غرب العراق، والمعروف أن سببها استخدام اليورانيوم المنضّب والفوسفور الأبيض من قبل الجيش الأميركي عقب الغزو عام 2003، ما أدى إلى ”أعلى معدل للضرر الوراثي في أي مجموعة سكانية تمت دراستها على الإطلاق". ومع ذلك، ولأن لفت الانتباه إلى هذه الأضرار وسوء الإدارة بعد الغزو قد يؤثر سلبًا على مصالح السياسيين والبيروقراطيين في المنطقة – بما في ذلك من خلال تسليط الضوء على عدم وجود مرافق طبية كافية لرعاية المتضررين – فإن أي شخص يتناول هذه القضية على الإنترنت تتعرض صفحاته على وسائل التواصل الاجتماعي للاختراق والتهديد. وتشير تجارب المحاورين مجتمعة إلى أن الخوف من الانتقام قد حد من قدرتهم على فضح الأضرار البيئية ومحاسبة الجهات الفاعلة القوية على دورها في ارتكابها أو عدم حلها. ا
6. كيف يتعامل النشطاء البيئيون البيئة العراقيون مع القطاع الخاص والحكومة
على المستوى الفردي، يتعاون بعض العاملين في القطاع الخاص، لا سيما في قطاع النفط، في بعض الأحيان مع الجهات الفاعلة في مجال البيئة كمبلغين عن التلوث، حيث يقومون بتسريب معلومات سرًا إلى منظمات المجتمع المدني عن حالات التلوث. علاوة على ذلك، تمول الشركات الخاصة، لا سيما تلك العاملة في قطاع الطاقة، بشكل متزايد المبادرات المناخية والبيئية في العراق، بما في ذلك المشاريع والبحوث وورش العمل والبرامج التعليمية حول التحول الأخضر والاستدامة. على سبيل المثال، تلقت بعض المنظمات التي تمت مقابلتها في هذه الدراسة تمويلًا من شركات الطاقة لإدارة برامج حول تأثير تغير المناخ على النساء في العراق. كما تمت دعوة آخرون يعرفون أنفسهم بأنهم نشطاء في مجال البيئة للمشاركة في برنامج طويل الأمد لقادة السياسات الشباب، بتمويل من شركة نفط وغاز، والذي ركّز في نسخته لعام 2024 على الاستدامة وتغير المناخ.
تخدم مبادرات القطاع الخاص هذه عدة وظائف. فمن جهة، يتم تقديم التمويل على أنه شكل من أشكال "المنفعة الاجتماعية"، وهو ما يعمل على تحسين الصورة العامة للشركات لأنه يوحي بأنها تقدم للمجتمع بدلًا من مجرد الاستخراج. كما أن التمويل الخاص، لا سيما تمويل الأنشطة البحثية، يمنح شركات الطاقة إمكانية الوصول إلى شخصيات نافذة في المجتمع العراقي مثل صناع القرار والسياسيين والشباب المؤثرين، الذين بدورهم يمكّنون الشركات من استمرار وجودها في البلاد. أخيرًا، يعطي هذا التعاون مظهرًا بأن شركات الطاقة مسؤولة بيئيًا، ولكنه يأتي مع شروط، مثل حقيقة أن متلقي التمويل لا يمكنهم العمل مع المنظمات التي تعتبرها الشركات محفوفة بالمخاطر السياسية.
انخرط المجتمع المدني أيضًا في بعض أوجه التعاون في قضايا المناخ والبيئة مع الحكومة – مع عدد قليل من الأفراد المختارين من مختلف الوزارات بدلًا من التعاون على مستوى أكثر منهجية. على سبيل المثال، في عام 2024، دعم بعض موظفي وزارة البيئة علنًا مؤتمرًا للشباب حول المناخ، وسط معارضة ومخاوف من أن الشباب الحاضرين قد يقترحون توصيات قد تعرض "الأمن القومي" للخطر. كما ذكر من أجريت معهم المقابلات أنهم حصلوا على أراضٍ من الحكومة لمشاريع إعادة التشجير، وتعاونوا مع موظفي وزارة التعليم في برامج حول تغير المناخ والتلوث في المدارس والجامعات، وعملوا مع البلديات في مشاريع إعادة تدوير مياه الصرف الصحي على نطاق صغير.
ومع ذلك، عندما سُئل المحاورون عن العلاقات مع الحكومة، سلطوا الضوء في كثير من الأحيان على نقص التعاون. كان هذا الأمر واضحًا بشكل خاص في ما يتعلق بتوفير البيانات المتعلقة بالضرر البيئي، على الرغم من وجود اختلافات إقليمية. فوفقًا للمقابلات، فإن البيانات متاحة في كردستان أكثر من العراق الاتحادي. وأوضح أحد الناشطين البيئيين الشباب أنه على الرغم من أن بعض الوزارات تحتفظ بسجلات رقمية، إلا أنها عادة ما توجه الباحثين إلى ملفاتها الورقية لتجعل من الصعب عليهم العثور على ما يبحثون عنه. ووفقًا للناشط، فإن بعض البيانات البيئية حساسة سياسيًا لأنها تكشف معلومات عن مدى إخفاقات الحكومة. وكما أوضح باحث شاب آخر، فإن الإدارات في الوزارة الواحدة لا تشارك البيانات مع بعضها البعض، ناهيك مشاركتها مع الناشطين. على سبيل المثال، لا تنتج الحكومة نماذج مناخية محلية وتواصل بدلاً من ذلك الاعتماد على النماذج العالمية للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ التابعة للأمم المتحدة. وعلاوة على ذلك، يتم استخلاص المعلومات الهامة حول مستويات المياه السطحية من خلال الاستشعار عن بعد والبيانات مفتوحة المصدر، بدلاً من العمل الميداني الأكثر دقة. هذه الحواجز المتعلقة بإنتاج المعرفة حول البيئة تجعل من الصعب إقامة تعاون وتقييم التحديات البيئية في البلاد ومعالجتها بدقة.
كما تميل الجهات الفاعلة الحكومية أيضًا إلى استمالة المشاريع التي يُنظر إليها على أنها مربحة أو قد تحسن صورتها العامة، كما تشير المقابلات التي أجريت في هذه الدراسة. على سبيل المثال، وفقا لأكاديمي في البصرة، وافقت الحكومة المحلية في البداية على دعم مشروع لإعادة التشجير من خلال توفير الأموال اللازمة لتوظيف أشخاص لزراعة الشتلات التي تم التبرع بها أو شراؤها بالفعل. وبدلاً من ذلك، انتهى الأمر بالحكومة إلى تكرار المشروع من خلال التعاقد مع شركة خاصة لها صلات بعضو في البرلمان لزراعة 300,000 شتلة بسعر أعلى، ما سمح لها بالاختلاس من العقد الحكومي. كما تحاول الحكومة أيضًا الاستيلاء على مشاريع تتبع مستويات التلوث في جميع أنحاء العراق ودمجها في منصاتها الخاصة. وفي حين أنه من الناحية النظرية يمكن أن يكون مثل هذا التعاون مثمرًا من الناحية النظرية ويسمح للحكومة بالتصرف في بعض المشاكل البيئية التي تواجه البلاد، إلا أنه في الواقع، فإن أنظمة المحسوبية التي يتم من خلالها تعيين جميع موظفي الخدمة المدنية في العراق تعني أنه من غير المرجح أن يقوم شخص يتمتع بالكفاءة أو الاهتمام اللازمين بإدارة المشروع وضمان استمراريته. هناك خطر إضافي يتمثل في أن الحكومة التي تتولى إدارة المشروع قد تجعل البيانات أقل موثوقية من خلال، على سبيل المثال، عدم الإعلان عن حالات التلوث التي تجعل السلطات تبدو مهملة بشكل خاص أو من خلال عدم اتخاذ التدابير اللازمة للتحقق من المصادر. وبالتالي، فإن الحكومة في كثير من الأحيان تستولي على مشاريع النشطاء وتستخدمها لتعزيز مصالحها الخاصة أكثر من تعاونها معهم.
7. كيف يتفاعل النشطاء البيئيون العراقيون مع الفاعلين المدنيين
كان للعديد من الاحتجاجات الحاشدة التي وقعت في العراق منذ عام 2011 مسببات بيئية، على الرغم من أن النشطاء لم يؤطروها بمصطلحات بيئية. ففي عامي 2011 و2015، اندلعت الاحتجاجات بسبب ارتفاع درجات الحرارة وعدم كفاية توفير الكهرباء. وفي عام 2018، اندلعت الاحتجاجات في البصرة بسبب ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض تدفق المياه وإهمال الحكومة في مراقبة تلوث المياه. وفي عام 2019، عندما تظاهر المحتجون ضد النظام السياسي العرقي الطائفي الذي أقامته قوات الاحتلال والسياسيين العائدين من المنفى بعد عام 2003، كانوا يحتجون أيضًا لأجل مستقبل أكثر استدامة. كما تُنظم احتجاجات أصغر حجمًا بشكل دوري في جميع أنحاء العراق، لا سيما في الجنوب، للمطالبة بالتوظيف والخدمات، لا سيما في المناطق القريبة من حقول النفط. وكما هو شائع في الاحتجاجات التي تنظمها المجتمعات المهمشة، فإن العدالة البيئية بالنسبة لهم لا تشمل فقط الهواء والأرض والسماء بل أيضًا جميع الموارد التي حُرموا منها تاريخيًا بما في ذلك التوظيف. وبالتالي، غالبًا ما يجادل المتظاهرون المحليون بأنهم الأكثر تضررًا من تلوث صناعة النفط، فهم أحق بالوظائف من العمال الأجانب أو من المحافظات الأخرى في العراق.
كما ألهمت الاحتجاجات الحاشدة التي حدثت في العراق منذ عام 2011 بعض النشاط البيئي طويل الأمد. على سبيل المثال، شارك العديد من النشطاء الشباب في ميسان الذين أطلقوا حملات شعبية لحماية هور الحويزة في احتجاجات عام 2019، ولا يزالون يتلقون الدعم من نشطاء آخرين في المحافظة. وبالنسبة للعديد منهم، كانت انتفاضة 2019 أول تجربة احتجاج لهم، وقد علمتهم قوة التعبئة الجماهيرية في دفع الحكومة لاتخاذ إجراءات.
كما قام النشطاء البيئيون بمحاولات محدودة لإقامة روابط مع حركة حقوق المرأة، بما في ذلك من خلال تنظيم ورش عمل تتناول تأثير التغير المناخي على النساء. ومع ذلك، نادرًا ما يُنظر إلى النساء في هذه الحالات كشريكات في التصدي لتغير المناخ، وغالبًا ما يتم تأطيرهن كضحايا فقط. ومن الشائع أن تقوم المنظمات بدعوة الأكاديميين الذكور فقط لقيادة ورش العمل حول هذه القضايا، وتوجيه النساء المشاركات حول كيفية تأثرهن بتغير المناخ. ومن خلال عدم إشراك النساء كمشاركات، فإن مثل هذه المبادرات لا تخاطر فقط بترسيخ عدم المساواة بين الجنسين في محاولات التصدي لتغير المناخ، بل أيضًا بإعادة إنتاج مشاكل تغير المناخ من خلال اعتماد سياسات تركز على الحلول التقنية بدلاً من الحاجة إلى إصلاح العلاقات الاجتماعية.
كما تحاول الجهات الفاعلة في المجتمع المدني والناشطون العاملون في المجال البيئي بشكل متزايد توحيد جهودهم في كردستان والعراق الاتحادي، مدفوعين بالوعي بتشابه التحديات البيئية التي تواجهها المنطقتان. في أحد الأمثلة على التعاون بين الدول، نشرت منظمة "طبيعة العراق" في عام 2017 كتاب "مناطق التنوع الإحيائي الرئيسية في العراق"، وهو كتاب يستند إلى بحث أجراه أكاديميون من جميع أنحاء البلاد وبدعم من المنظمات التي تعمل في مجال الحفاظ على البيئة، بما في ذلك منظمة "بيردلايف إنترناشيونال"، لتحديد المواقع ذات الأهمية الدولية لتنوعها البيولوجي وتحفيز حمايتها. ولا يقتصر الأمر على الجهات الفاعلة الراسخة في المجتمع المدني التي تشكل تحالفات عبر البلاد فحسب، بل يتزايد عدد الناشطين الشباب أيضًا. ففي عام 2022، نظّمت مجموعة من الشباب حملة "سفراء النظافة" على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث جمعوا متطوعين لتنظيف نهر دجلة في جميع أنحاء العراق. وبناءً على هذا التعاون، شرعوا في تشكيل منظمة "المساحة الخضراء للإبداع والتنمية المستدامة "، وهي منظمة غير حكومية تعمل على حشد الشباب للعمل على مواجهة تغير المناخ. وتعكس هذه الأنواع من المبادرات وجود جيل جديد مهتم بالبيئة والمناخ وتقل أهمية الانقسامات العرقية والطائفية بالنسبة له مقارنة بالأجيال الأكبر سنًا.
وتنظم العديد من المنظمات البيئية أيضًا منظمات عابرة للحدود الوطنية. على سبيل المثال، لدى منظمة "المساحة الخضراء " شبكة فرعية تدعى "المؤتمر المحلي للشباب"، وهو المكون الوطني لحركة الشباب المناخي التابعة لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ. ويحضر أعضاؤها بانتظام الاجتماعات الإقليمية المعنية بتغير المناخ، وفي عام 2024 أداروا مؤتمر الشباب المناخي في البلاد حيث قدموا توصيات سياسية إلى الحكومة العراقية بشأن تغير المناخ. كما تنشط المنظمات غير الحكومية والشبكات التي تركز على السيادة الغذائية على الصعيد الدولي. تصطحب شبكة السيادة الغذائية "كويز ونخل" بانتظام مزارعين من جميع أنحاء العراق إلى مزرعة نموذجية في لبنان لتبادل الأفكار حول الزراعة المستدامة. وقد أعاد نشطاء في الشتات الذين يشكلون جزءًا من هذه الشبكة ولديهم إمكانية الوصول إلى بنوك البذور في الخارج إلى العراق بذورًا محلية لم تعد متوفرة في البلاد. واستفادت منظمة أخرى تدير مزرعة عضوية في السماوة تستخدم الزراعة المستدامة كوسيلة لإحياء الأراضي الزراعية في المنطقة وزيادة قدرتها على التكيف مع آثار تغير المناخ، من شبكات المغتربين النشطة في الزراعة في الخارج للحصول على الشتلات والتبرع بالمعدات وجمع التبرعات. وتعمل شبكة الصحافيات البيئيات العراقيات، على بناء قدرات الصحافيات المتمرسات وطالبات الصحافة لتغطية القصص البيئية، وعلى توسيع نطاق مهمتها لتشمل الأردن وسوريا وفلسطين. وتتيح إقامة علاقات عابرة للحدود الوطنية للمنظمات الناشطة في العراق التعلم من التجارب في سياقات أخرى، وجمع التبرعات، وتطوير مواقف موحدة بشأن القضايا التي تؤثر على المنطقة بأسرها.
8. دور المانحين الدوليين
إن ظهور الجهات الفاعلة في مجال البيئة في العراق واعتماد برامج بيئية في المنظمات غير الحكومية القائمة قد تأثرا أيضاً بزيادة التمويل الدولي لمعالجة تغير المناخ والتلوث في البلاد. هذا التحول في التمويل ليس فقط رد فعل على فهم أكبر للكارثة المناخية التي تواجه العراق فحسب، بل هو أيضًا استجابة جزئية للتضييق المتزايد على المجتمع المدني بعد تشرين. وبما أن مشاريع البيئة وتغير المناخ يمكن تصميمها بطرق تتجنب التصادم مع مصالح النخبة السياسية والمالية أو جماعات الميليشيات، فهي أكثر أماناً للناشطين من المشاريع السياسية العلنية التي قد تدعو إلى إصلاحات حكومية أوسع نطاقاً. وفي المقابل، تقل احتمالات إنهاء هذه المشاريع بشكل مفاجئ من قبل السياسيين أو الميليشيات، كما أنه من المرجح أن تستمر حتى اكتمالها، ما يجعلها أكثر جاذبية للمانحين الدوليين.
فالعديد من المنظمات التي تلقت تمويلاً من المانحين الدوليين حديثة العهد في هذا المجال، كما أن افتقارها إلى الخبرة يحد من عملها وقدرتها على تنفيذ خططها. ويميل المانحون إلى تمويل مشاريع صغيرة لفترات قصيرة فقط، يمكن تتبع نتائجها بوضوح في تقاريرهم، ما يحد من نطاق التدخلات التي يمكن القيام بها. فعلى سبيل المثال، يتم إطلاق حملات إعادة التشجير باستمرار في البصرة، والتي أنشأت ”جزرًا خضراء“ في وسط الطرق السريعة أو حدائق صغيرة في المدارس. ومع ذلك، فإن هذه الجهود لا تعوض بأي حال من الأحوال ما يقرب من 47 مليون فدان من الأراضي الزراعية التي فقدت بسبب أنشطة صناعة النفط في المحافظة بين عامي 2012 و2024. بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن المبادرات التي تحاول تمكين الناس من العيش بشكل مستدام من خلال زراعة وبيع غذائهم الخاص، خاصة في غرب العراق، يبدو أنها تفشل في الأخذ بعين الاعتبار أن سعر الواردات أقل بكثير من المنتجات المزروعة في العراق، وبالتالي لا يمكن للسكان المحليين بأي حال من الأحوال المنافسة أو كسب العيش من هذه المشاريع.
وبالتالي، تشير هذه الدراسة إلى أنه بالإضافة إلى تقلص المساحة المدنية، فإن هياكل التمويل للجهات المانحة الدولية تساهم أيضاً في تبني الجهات الفاعلة البيئية في العراق لتدخلات سطحية وغير فعالة. علاوة على ذلك، فإن الطبيعة قصيرة الأجل للتمويل الدولي تعمل أيضًا على الحد من استدامة المبادرات البيئية.
كما أن الطبيعة المجزأة للتمويل والاعتماد الشديد للمنظمات غير الحكومية العراقية على المانحين الدوليين يعني أن أعضاء المجتمع المدني يتنافسون باستمرار على المنح ليتمكنوا من الحفاظ على وظائفهم. وقد أدى ذلك إلى تجزئة المجتمع المدني وجعل إنشاء شبكات تعمل على تحقيق نفس الأهداف أو قادرة على حشد العمل الشعبي الجماهيري أمرًا صعباً. على سبيل المثال، أثناء قيامي بالعمل الميداني لهذه الدراسة، صادفت ثلاث شبكات منفصلة تشكلت لتجميع الجهات الفاعلة في مجال البيئة في جميع أنحاء البلاد، ولم يكن يبدو أن أيًا منها على علم بوجود الشبكات الأخرى. علاوة على ذلك، وبسبب عدم وجود تنسيق بين مختلف الجهات الفاعلة البيئية في العراق، هناك ميل إلى ازدواجية الجهود، ما يحد من فعالية العمل البيئي. أوضح أحد نشطاء المجتمع المدني أنه بينما كانت منظمته قد طورت بالفعل مرصدًا بيئيًا على الإنترنت، تلقت مجموعة أخرى أيضًا تمويلًا دوليًا للعمل على مشروع مماثل. وبينما كانوا على اتصال لمناقشة توحيد الجهود لتطوير المنصة القائمة، قررت المجموعة الأخرى في نهاية المطاف تكرار المشروع بدلاً من العمل معًا.
علاوة على ذلك، كان هناك تصور بين الأشخاص الذين تمت مقابلتهم أن التمويل الدولي غالبًا ما تحتكره المنظمات الكبيرة الراسخة التي تعرف كيفية كتابة طلبات المنح الناجحة ولديها روابط مسبقة مع المنظمات المانحة (يميل المانحون الدوليون إلى تفضيل المنظمات المعروفة التي عملوا معها في الماضي). وبالتالي، فإن المنظمات والشبكات الشعبية الأحدث والأصغر سنًا التي قد تكون أكثر ابتكارًا في طريقة تنظيمها حول القضايا البيئية وأكثر خبرة في تعبئة العمل المباشر، خاصة بين الشباب، أقل احتمالًا للحصول على التمويل من المنظمات الأكبر المهتمة بتنفيذ مشاريع محددة مسبقًا. كما يتم تسييس الحصول على التمويل من قبل حراس البوابة الأقوياء. على سبيل المثال، كما أوضح أحد علماء البيئة والأكاديميين العاملين في البصرة، من أجل الحصول على تمويل دولي، يجب على الباحثين الحصول على موافقات من الحكومة والجامعة والأجهزة الأمنية.
9. الخلاصة والتوصيات
للتغلب على السلطوية المتزايدة في العراق، يميل دعاة حماية البيئة إلى تبني مبادرات صغيرة النطاق ومحدودة زمنيًا، والتي يضعونها في إطار دعم الحكومة في معالجة القضايا البيئية بدلاً من اتخاذ موقف عدائي علني. وقد تأثّر هذا النهج أيضًا بهياكل تمويل الجهات المانحة، التي تميل إلى تفضيل المشاريع الصغيرة الحجم والمحدودة زمنيًا.
تعني هذه الديناميكيات أن الحركات البيئية في العراق تفتقر إلى الاستقلالية، الأمر الذي أثر بدوره على تحديد أولويات القضايا، ما أدى إلى حصر العمل البيئي في المجالات التي لا تضر بمصالح الشخصيات والجماعات الدينية والسياسية والمسلحة القوية. يتطلب التصدي للتدهور البيئي الواسع النطاق في العراق تعبئة أوسع نطاقًا وأكثر منهجية بالإضافة إلى فهم الأسباب الجذرية لموجات الحر وأزمات الصحة العامة والجفاف التي يعاني منها العراقيون اليوم. لكن الأمر يتطلب أكثر من ذلك إصلاح النظام السياسي الذي فُرض على العراق من خلال الغزو والاحتلال الذي قادته الولايات المتحدة وبريطانيا، والذي سمح بترسيخ الأحزاب السياسية والميليشيات التي لا تخدم سوى مصالحها الخاصة، بما في ذلك على نحو متزايد من خلال القمع العنيف للنشاط والأصوات الناقدة.
وبالنظر إلى النتائج التي توصلت إليها هذه الدراسة، فإنها تتضمن التوصيات التالية للمانحين الدوليين والمنظمات البيئية العالمية:
التمويل:
- إنشاء آلية لتنسيق التمويل وتعميمه لمنع ازدواجية المشاريع وضمان وصول التمويل إلى المنظمات الجديدة التي يقودها الشباب، بدلاً من اقتصاره على المنظمات الراسخة التي قد تكون أقل قدرة على تحفيز العمل الجماهيري.
- النظر في طرق لجعل التمويل أكثر استدامة، على سبيل المثال من خلال مساعدة المنظمات غير الحكومية على إنشاء مؤسسات اجتماعية قد تسمح لها بمواصلة تمويل المشاريع بنفسها ودفع الرواتب والتكاليف الأساسية حتى عندما ينفد تمويل الجهات المانحة. وقد يسهم ذلك في تقليل المنافسة على التمويل الدولي وزيادة فرص التواصل والتعاون بين المنظمات غير الحكومية.
المشاريع:
- استشارة الجهات الفاعلة المحلية الناشطة في الحركة (الحركات) البيئية في العراق بشأن تصميم المشاريع وأهدافها، بدلاً من إعطاء الأولوية للمشاريع التي تقوم بتدخلات سطحية وتحقق نتائج ملموسة خلال فترات قصيرة. سيعمل ذلك على جعل المشاريع أكثر فعالية، فضلاً عن ضمان أن أي عمل يتم القيام به يأخذ سلامة الجهات الفاعلة البيئية التي تحدد نفسها بنفسها في الاعتبار.
- إعداد مبادرة لتبادل المعرفة بين الجهات الفاعلة في كردستان والعراق الاتحادي لزيادة التنسيق بين البلدان وتبادل الخبرات والتجارب.
- التأكد من أن جميع المشاريع الممولة تأخذ نهجاً متعدد الجوانب للقضايا المطروحة، بما في ذلك أن تكون الفئات المهمشة، بما في ذلك النساء وسكان المناطق الريفية، محورية في تطوير المشاريع وتنفيذها.
الدبلوماسية:
- الاستفادة من القوة الدبلوماسية والوضع المحمي للأهوار العراقية كموقع تراث عالمي لليونسكو وبموجب اتفاقية رامسار لوقف توسع الصناعات الاستخراجية في الأراضي الرطبة. وهذا أمر مهم لدعم جهود الناشطين والحملات الشعبية لإنقاذ الأهوار.
- استخدام الصلات مع الوزارات ومنصب الوسيط لمساعدة الناشطين البيئيين في الوصول إلى البيانات الحكومية.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.