العدالة البيئية والانتقالية في سوريا

تنويه من الكاتب: استُخدمت صيغة المذكر لسهولة الكتابة والقراءة، لذا أود التأكيد أن المحتوى يشير إلى التنوع الجندري والجنساني الذي تشمله التعابير المستخدمة في هذا المقال.

الاشتباكات بين المعارضة المسلحة والجيش السوري. تسيطر المعارضة المسلحة السورية على مدينة حلب. سوريا ، 30 نوفمبر 2017 (c) محمد باش - شترستوك

خلّف الصراع والحرب في سوريا أضرارًا إنسانية واقتصادية كارثية مع إرث خطير من التلوث البيئي. فبينما تصدّرت مشاهد الدمار والأنقاض واحتراق المدن المشهد الصحفي، ثمة أضرار أخرى كانت أقل ظهورًا، لكنها تزداد خطورة كل عام. فقد أتلفت العمليات القتالية جملةً من النظم البيئية، وضاعف التلوث الناتج عن الأسلحة من معاناة المدنيين في غالبية المناطق السورية. إن تدمير الأراضي الزراعية، واقتلاع الغطاء الأخضر، وانسكاب المواد السامة ليست آثارًا عابرة، بل تترك إرثًا ثقيلاً على الصحة العامة والتنوع البيولوجي للسكان (روزانا، 2022).

في السنوات الأخيرة، اكتسبت العدالة البيئية زخمًا عالميًا غير مسبوق، لا سيما في ضوء العدوان الروسي على أوكرانيا، والحرب الإسرائيلية على غزة. إذ سلطت هذه النزاعات الضوء على الرابط العميق بين الدمار العسكري والانهيار البيئي. وعلى الرغم من أن ملاحقة الجرائم البيئية قضائيًا لا تزال محدودة على المستوى الدولي، إلا أن إدماج البعد البيئي في آليات العدالة الانتقالية يوفر مدخلًا أوسع وأكثر واقعية للمعالجة، يقوم على الاعتراف بالضرر، وجبره، وضمان عدم تكراره.

في السياق السوري، من الضروري أن تتضمن العدالة الانتقالية المقبلة بُعدًا بيئيًا واضحًا، عبر إجراءات مثل تشكيل صندوق وطني متعدد الأطراف لتعويض المتضررين من الأضرار البيئية والتلوث، وتمويل مشاريع لإعادة تأهيل المناطق المنكوبة. كذلك يجب الانطلاق من خطوة أساسية تتمثل في التوثيق الشامل ومتعدد الأبعاد، سواء عبر الشهادات المجتمعية أو التحقيقات العلمية أو الصور الجوية والخرائط البيئية. ولا تقتصر المسؤوليات على أطراف النزاع المحلي فحسب، بل تمتد لتشمل فاعلين خارجيين كروسيا وأعضاء التحالف الدولي المناهض لداعش الذين شاركوا في أنشطة عسكرية ملوثة، ويجب أن يتحملوا جزءًا من مسؤولية إعادة الإعمار البيئي.

الأثر البيئي للحرب في سوريا

لا تزال الصورة الكاملة للتأثير البيئي للنزاع في سوريا غير مكتملة، بسبب ضعف القدرات البحثية، وغياب نظام رقابة بيئية وطني أو دولي فعال خلال النزاع. وترافق هذا الغياب مع تجاهل ممنهج من قبل أطراف النزاع كافة، ما ساهم في مفاقمة الكارثة.

ساهم القصف المكثف والمنهجية العسكرية في سوريا في تفاقم التلوث بأشكالٍ عدة. فاستُهدفت مصافي النفط ومحطات التكرير بغارات جوية وقصف مدفعي، ما أدى إلى تسربات نفطية ضخمة، ملوثةً المياه السطحية والجوفية والتربة الزراعية. وتشير تقارير إلى أن انسكاب النفط الناتج عن ضرب مصافي حمص أنشأ بقعًا سامة امتدت عبر مساحات واسعة من الأراضي المروية، ما أنهى إنتاجها النباتي وعرّض المزارعين ورعاة المواشي للخطر (مبادرة الإصلاح العربي، 2021).

إلى جانب ذلك، استُخدمت في بعض المعارك ذخائر محمّلة بمعادن ثقيلة ومواد كيمياوية خطرة، فأصبحت تلك المعادن (كالرصاص والزئبق والزرنيخ المترسبة في التربة) مصدر تلويث طويل الأمد. وهي في النظام البيئي لعقود، فتنتقل من التربة إلى النباتات ثم إلى البشر والحيوانات مُسببة أمراضًا مزمنة (روزانا، 2022).

كما فاقم التلوث الهوائي الأزمات الصحية. فكان غبار الجسيمات الدقيقة (PM2.5) مشكلة قائمة في المدن السورية حتى قبل الصراع، إلا أن الحرب زادت من حدتها. فارتفعت نسبة السكان الذين يتعرضون لهذه الجسيمات إلى نحو 72 في المئة في العام 2015 بعد أن كانت تبلغ 69 في المئة عام 2010، نتيجة القصف الجوي والحرق العشوائي للرواسب والنفايات. وتشير الدراسات إلى أن التلوث الهوائي تسبّب في زيادة تقارب 17 في المئة في معدلات الوفيات خلال سبع سنوات (حكاية ما انحكت، 2023).

أما المياه، فشهدت مصادرها تدهورًا كبيرًا. إذ دُمّرت محطات معالجة الصرف الصحي، ما أدى إلى تدفق المياه الملوثة نحو الأنهار والآبار، وانتقال أمراض كالتهاب الكبد والكوليرا (حكاية ما انحكت، 2023).

أما في الشمال السوري، فتعتمد المجتمعات بشكلٍ رئيسي على آبار محفورة يدويًا، وغالبًا من دون رقابة صحية. وسجلت تقارير تغيّر طعم ولون مياه الشرب (عنب بلدي، 2024).

كما زادت كمية النفايات، بسبب ضعف أو غياب خدمات عمال النظافة التي كانت تقوم بها البلديات عادة، فارتفعت الكمية اليومية إلى أكثر من 850 طناً، أي أكثر مما كانت عليه قبل الحرب. ونتيجة غياب بنى تحتية فعالة، لجأت المجتمعات المحلية إلى حرق النفايات في الهواء الطلق، ما أدى إلى تلوث هوائي شديد وانتشار الأمراض (حكاية ما انحكت، 2023).

التفاوت الاجتماعي والمخاطر المستقبلية

تتفاوت آثار التلوث البيئي باختلاف المناطق والفئات، إذ يتحمل سكان المناطق شبه الحضرية العبء الأكبر، خصوصًا تلك المحيطة بمصافي النفط أو المعامل البدائية. وتكون هذه المناطق غالبًا عرضة لانبعاثات المولدات والوقود الرديء، وقد شهدت مستويات دمار مرتفعة أدت إلى انهيار الخدمات الصحية. وفي حالات كثيرة، تضطر الأسر الفقيرة إلى  الاعتماد على مياه غير آمنة أو حرق النفايات لأغراض التدفئة.

ويتزايد القلق من أن يؤدي استمرار الإهمال البيئي إلى سيناريوات كارثية مستقبلية، تشمل تحولات في بنية التربة، وتراجع الإنتاج الزراعي، وارتفاع معدلات الأمراض المزمنة. ومع غياب المعالجة، تصبح احتمالات تكرار الكوارث أو تفشي أوبئة واسعة الانتشار أمرًا واردًا.

العدالة البيئية كجزء من العدالة الانتقالية

تؤكد تجارب دولية عدة أن إدماج البعد البيئي ضمن آليات العدالة الانتقالية ليس أمرًا رمزيًا، بل ضرورة عملية لضمان المصالحة والاستقرار. ففي كولومبيا، خصصت لجنة الحقيقة عام 2022 فصلاً مستقلاً للأضرار البيئية، تناول إزالة الغابات، وتلوث الأنهار، وتدمير أراضي السكان الأصليين. وأوصت بإعادة الترميم البيئي، وحماية المدافعين عن البيئة، ودمج الحقوق البيئية في عمليات بناء السلام (اللجنة الدولية للصليب الأحمر، 2024).

وفي البيرو، دفعت منظمات مدنية باتجاه تعويض المجتمعات المتضررة من التلوث الناجم عن أنشطة التعدين، كما يتضح من قرار محكمة العائلة الأميركية لحقوق الإنسان الذي ألزم الدولة بتعويض سكان مدينة "لا أورويا" عن الأضرار الناتجة عن تلوث الهواء والماء بالتعديلات الثقيلة مثل الرصاص والزرنيخ، بما في ذلك التزام الدولة بتقييم التلوث وتقديم دعم طبي ومالي لهم (رويترز، 2024).

أما في تونس، فتناولت هيئة الحقيقة والكرامة مسألة التهميش البيئي في المناطق الريفية، واقترحت صندوقًا وطنيًا لإصلاح الضرر البيئي، وإن لم يُنفذ لأسباب سياسية (المركز الدولي للعدالة الانتقالية، 2024).

وفي ليبيريا، استمعت اللجنة إلى شهادات حول التدمير الممنهج للغابات من قبل جماعات مسلحة، وتأثيره على التنوع الحيوي والنزوح (ديه لايت، 2023) .

أما في الحالة السورية، فمن الضروري اقتراح آليات واضحة تشمل:

  • لجنة وطنية فرعية ضمن الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية تتولى التحقيق البيئي، وتوثيق الانتهاكات عبر أدوات علمية ومجتمعية.
  • جلسات استماع عامة في المناطق الأكثر تضرراً مثل دير الزور وبانياس وسواهما.
  • إشراك الخبراء المحليين والدوليين في تقييم آثار الأضرار البيئية والتلوث.
  • تضمين المعايير البيئية في مشاريع إعادة الإعمار، وإلزام الشركات المنفذة باحترامها.
  • التحقيق في دور الشركات والجهات الأجنبية المشاركة في النشاط الصناعي أو العسكري الملوث، ومن ضمنها أعضاء التحالف الدولي.

نحو سلام شامل ومستدام بيئيًا

لا يمكن لأي مصالحة في سوريا أن تكون مستدامة إذا تجاهلت الأثر البيئي للحرب. فالإصلاح البيئي لا يقل أهمية عن إصلاح المؤسسات، بل هو ركيزة أساسية لتحقيق العدالة بمعناها الشامل الذي يعترف بأن الضحية لا تقتصر على البشر فقط، بل تمتد إلى الأرض، والهواء، والمياه، والأنواع البيئية التي دمرت.

ضمان حق السوريين في بيئة آمنة وصحية هو جزء لا يتجزأ من حقهم في الكرامة. وتضمين العدالة البيئية في العدالة الانتقالية هو استثمار في مستقبل سليم لأجيال قادمة تبحث عن الأمان، والعدالة، والعيش الكريم.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.