1. مقدمة
تلقي الأنظمة الاستبدادية بظلالها على المواطنين لفترةٍ طويلة، وتبقى حتى بعد انهيارها. وتؤثر هذه الموروثات الدائمة تأثيرًا كبيرًا على غرس ثقافةٍ سياسية ديمقراطية في البلدان التي تمر في مراحل انتقالية ديمقراطية وحتى الديمقراطيات الراسخة. ويصبح الحنين إلى الاستبداد إحدى العقبات التي تحول دون ترسيخ الديمقراطية. وتعرَّف هذه الظاهرة بشكلٍ عام بأنها الحنين إلى الماضي الاستبدادي. ويبدو أنه يشير إلى ما هو أكثر من مجرد حنين عاطفي إلى "الأيام الخوالي"؛ فهو يعكس أيضًا كيف يفتح عدم الرضا السياسي والاقتصادي والاجتماعي عن الحاضر، إمكانية التراجع في ظل الانتقال الديمقراطي غير المستقر.
في تونس، يتسلل الماضي الاستبدادي كموضوع حنين إليه من قبل الناس والنخب السياسية على حد سواء. فمن ناحية، لُوحظت عودة الأحزاب والشخصيات السياسية إلى تبني إرث بورقيبة "الحداثي" وإضفاء الطابع المثالي على "المعجزة" الاقتصادية التي حققها بن علي. من جهةٍ أخرى، أصبح بعض الفاعلين السياسيين المرتبطين بالنظام السابق خيارات انتخابية قابلة للتطبيق وحتى مقبولة. وفي خضم ديمقراطية جديدة تعاني من أزمة اقتصادية وعدم استقرار سياسي، استغل بعض الفاعلين السياسيين الحنين إلى الاستبداد لإضفاء الشرعية على أجنداتهم وكسب ثقة الناخبين وتأمين الوصول إلى السلطة. من ناحية أخرى، كان الجيل الأكبر سنًا يعبر عن مشاعر الحنين إلى الماضي. ويميل الكثير منهم إلى مشاركة تقييمات للديكتاتورية السابقة التي تشدد غالباً على إنجازاتها على حساب قمعها الاستبدادي. ويبدو أن هذا يؤكد الأدبيات الراسخة عن التنشئة الاجتماعية السياسية التي تُظهر حنينًا أكبر لدى الأفراد الذين نشأوا في ظل الاستبداد.
لكن الغريب أن هذا الحنين السلطوي لا يقتصر فقط على التونسيين الأكبر سناً. في الواقع، في بحثٍ أجرته مبادرة الإصلاح العربي حول التنشئة الاجتماعية السياسية للشباب الذين نشأوا خلال ثورة 2011 أو حتى بعدها، كانت أكثر النتائج إثارة للدهشة هي الحنين المتزايد إلى نظام بن علي - أي الولع بفترة ماضية لم يشهدها معظمهم شخصياً، ويصفونها بأنها ترمز إلى "الأمن والأمان" و"الاستقرار" و"هيبة الدولة". وتشير هذه النتائج إلى أن التأثير الوجداني للأنظمة الاستبدادية طويل الأمد، ولن يختفي ببساطة مع حلول أجيالٍ جديدة محل الأجيال القديمة.
في خضم التراجع الديمقراطي الحالي في تونس، نشهد عودةً مقلقةً للممارسات الاستبدادية المألوفة، مع استمرار القمع الذي يستهدف النشطاء والسياسيين والصحافيين والجهات الفاعلة في المجتمع المدني. وهذا يثير الحاجة الملحة إلى استكشاف جذور الحنين إلى الاستبداد، لا سيما ارتباطه بفشل البلاد في مواجهة جذور الاستبداد ومعالجتها بشكلٍ كافٍ. سيجادل هذا المقال بأن الحنين إلى السلطوية ينبع من أوجه القصور في القطيعة غير الواضحة مع ممارسات وسياسات حقبة الديكتاتورية. كما يمكن أن يُعزى استمرار وجود هذا الحنين إلى عدم القدرة على إدانة إرث الاستبداد وغياب الوعي بالتاريخ الوحشي للبلاد. لم تُنفذ عملية عدالة انتقالية ذات مغزى بشكلٍ كامل، لأسباب سياسية وهيكلية مختلفة، فسمحت هذه الانتكاسة باستمرار الحنين إلى الاستبداد.
ولاستكشاف كيفية استمرار هذا الخيال في زمن الانتقال الديمقراطي، يبدأ المقال بدراسة مفهوم الحنين إلى الاستبداد في ما يسمى بالموجة الثالثة من الديمقراطيات ، ويضعه في السياق التونسي. ثم يبحث القسم التالي في كيفية استمرار الاستفادة من إرث السلطوية في الساحة السياسية، وتشكيل الديناميات والأجندات السياسية على حد سواء. ويتناول الجزء الأخير أوجه القصور في عملية العدالة الانتقالية في تونس، لا سيما كيف أضاعت هيئة الحقيقة والكرامة فرصةً حاسمة لزيادة الوعي وبناء الزخم بين عامة الناس، خصوصاً الشباب. ويختتم المقال بالتأمل في الحضور الدائم للحنين الاستبدادي.
2. الحنين إلى الاستبداد وديمقراطيات الموجة الثالثة: لمحة عامة
يعيش المواطنون حنينًا جماعيًا إلى حقب سياسية في الماضي، وغالبًا ما تحددها أحداث تاريخية مهمة، مثل التحولات في الإدارة أو الانتخابات أو تغيير النظام إلى نظامٍ سياسي جديد. ) وينظر أحد أنواع هذا الحنين إلى تغييرٍ سياسي أكثر أهمية وانفصالًا في التاريخ: التحول الديمقراطي. فبالنسبة إلى بعض المواطنين، يُعدّ التحول الديمقراطي تطوراً طبيعياً لتقدّم البلاد، بينما يرى آخرون أنه انقطاع. وقد يشعر الأفراد الذين يحملون وجهات نظر أكثر إيجابية تجاه الماضي الاستبدادي، بالحنين إلى الديكتاتورية السابقة في سياق ما بعد الاستبداد.
يشير الحنين السلطوي إلى بعض القيم التي كانت سائدة في الماضي، لكنها لم تعد قائمة في سياق التحول الديمقراطي. وهي تشمل غالباً الازدهار الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي والأمن القومي. في العديد من التحولات الديمقراطية، يمكن أن يُقابل التحول في الأولويات التي تميل نحو التوطيد المؤسساتي والدستوري للديمقراطية بدلاً من النمو المالي والأمن، بخيبة أمل من قبل بعض المواطنين. وفي خضم الإحباط المتزايد من الحكومات غير الفعالة، ينظرون إلى إنجازات الديكتاتورية السابقة على أنها أكثر إثارة للإعجاب، خصوصاً عند مقارنتها بتحديات النظام الديمقراطي الجديد. يمكن أن يساهم تزايد التفاوت الاجتماعي وتدهور الأوضاع الاقتصادية واستمرار الفساد والحاجة إلى التعامل مع ظروفٍ جديدة وصعبة في كثيرٍ من الأحيان، مثل العنف السياسي والهجمات الإرهابية، في استياء الرأي العام. ويؤدي الغياب الملموس للتحسينات إلى اعتقاد البعض بأن الحقبة السابقة ربما كانت أفضل في نهاية المطاف. كما يمكن أن يدفع هذا التصور بعض الأفراد للتوق إلى "يدٍ حازمة" يمكنها استعادة ما يُتصوَّر أنه الأمن والاستقرار الذي كان سائداً في الماضي.
في كتابه الكلاسيكي "الموجة الثالثة"، حدد هنتنغتون خيبة الأمل العامة كاتجاه مهم بين ديمقراطيات الموجة الثالثة. ففشل الحكومات الديمقراطية الجديدة في معالجة ما يعرّفه بـ"مشاكل الانتقال" و"المشاكل السياقية"، يولد مشاعر اللامبالاة والخيبة. ) ويحدد هنتنغتون "مشاكل الانتقال" التي تظهر أثناء التحول من الأنظمة الاستبدادية إلى الأنظمة الديمقراطية، مثل إنشاء أنظمة دستورية وانتخابية جديدة، مراجعة القوانين، وتفكيك أو إصلاح المؤسسات الاستبدادية. كما يسلط الضوء على أن التحديات الأكثر ديمومة التي تواجه توطيد الديمقراطية، تنشأ من "المشاكل السياقية" الفريدة لكل بلد، مثل الصراع الطائفي، التوترات الإقليمية، الفقر، عدم المساواة، التضخم، الديون الخارجية، وانخفاض النمو الاقتصادي. عندما تفشل الحكومات في معالجة هذه المشاكل، تتزايد غالباً خيبة الأمل العامة من الديمقراطية، على الرغم من أن الاستياء من حكومة معينة لا يعني بالضرورة رفض الديمقراطية نفسها. ويحذر هنتنغتون أيضًا من أن دورات الأمل المتكررة خلال الانتخابات التي تليها الخيبة من الحكومة المنتخبة وتجدد الأمل، لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية. وبمرور الوقت، يدعو هذا النمط إلى إحباط وخيبة أمل أوسع نطاقاً، ما يهدد في نهاية المطاف قابلية الأنظمة الديمقراطية للاستمرار على المدى الطويل.
يُمهد شعور الخيبة من التحول الديمقراطي والقلق المتزايد بشأن المستقبل، الطريق لعودة مشاعر الحنين إلى الديكتاتوريات السابقة. وتشير دراسات مختلفة إلى أن ظهور مثل هذا الشعور يشجعه استياء عام من أداء النظام الديمقراطي، لا سيما في مجالات مثل سيادة القانون والاقتصاد والسلامة العامة وتوفير الخدمات العامة. وتسلط بيانات الاستطلاع حول الحنين إلى الاستبداد في منغوليا والفلبين الضوء على استمرار معاناة العديد من ديمقراطيات شرق آسيا من "ضبابية الحنين إلى الاستبداد". ) ويُصاب الناس بخيبة أمل متزايدة بسبب الفجوة بين وعود الديمقراطية ونتائجها الفعلية. ويشعر العديد من المواطنين أن التقدم نحو تحقيق الأهداف الديمقراطية الرئيسية، مثل سيادة القانون والمساءلة، كان بطيئًا وغير كافٍ. ويقارن غالباً بعض المواطنين حياتهم في ظل الديمقراطية بالاستبداد الموجّه نحو النمو في الماضي أو بالازدهار الذي شهدته الدول المجاورة غير الديمقراطية، خصوصاً الصين. ويميل الصعود الاقتصادي والجيوسياسي للصين على مدى العقد الماضي إلى وضع معيار الأداء للأنظمة الديمقراطية في شرق آسيا في مستوى غير معقول. وكشفت دراسة أخرى حول خصائص الحنين إلى الاستبداد، بالاعتماد على بيانات استطلاع رأي من كوريا الجنوبية وتايوان، أن الازدهار الاقتصادي الذي تتمتع به في ظل الديكتاتوريات السابقة هو أمر أساسي للحنين الاستبدادي. وعزا المشاركون في هذه الدراسة النجاح الاقتصادي غالباً إلى القيادة القوية والاستقرار الاجتماعي. كما شارك المواطنون أيضًا تقييمات المواطنين للديكتاتوريات السابقة التي تركز غالباً على إنجازاتها السياسية والاجتماعية على حساب قمعها الاستبدادي. على سبيل المثال، فاز لي ميونغ باك في الانتخابات الرئاسية لعام 2007 من خلال تعبئة الذاكرة للمعجزة الاقتصادية لكوريا الجنوبية تحت قيادة بارك جونغ هي وتعهد بإنعاش الاقتصاد الوطني.
يتقاطع الحنين إلى الاستبداد مع الأجيال، ويمكن أن يتواجد بين الشباب الذين لم يختبروا الديكتاتورية بشكلٍ مباشر. ) ويُرجّح أن يملك الشباب توقعات أعلى من الديمقراطية ومعلومات أقل عن تكاليف الاستبداد، ما قد يؤدي للشعور بالحنين إلى الماضي. وبافتقارهم إلى التجربة المباشرة، يمكن أن يطوروا وجهات نظر متحيزة عن الحياة السياسية في ظل الاستبداد. وعندما لا تتحقق توقعاتهم، قد يقودهم الإحباط من الحكم الديمقراطي إلى النظر للبدائل الاستبدادية بشكلٍ أكثر إيجابية. وكشفت الأبحاث عن تزايد "الحنين إلى الشيوعية" في أوروبا الوسطى والشرقية. وتشير النتائج إلى أن هذا الحنين ليس فقط نتيجة التنشئة الاجتماعية السياسية في ظل الشيوعية. ففي أوساط الشباب الذين ولدوا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، يظهر الحنين الشيوعي كنتيجة لعدم الثقة أو خيبة الأمل أو مزيج من الاثنين في قدرة النظام الديمقراطي على إنتاج مخرجات اجتماعية واقتصادية. وبالمثل، في بلدان جنوب الصحراء الكبرى، مثل موزمبيق ومالي ومدغشقر، الشباب هم في المقام الأول الأكثر تأييدًا للاستبداد، خصوصاً أنهم لم يختبروا القيود الاستبدادية. في تونس، هناك أيضًا شعور بالحنين إلى الماضي الذي ينظر إلى بن علي كرجل قوي كان يهتم بالفقراء بينما يقمع الأثرياء في المقام الأول، ويضمن ظروفاً معيشيةً لائقة لـ"الزوالية" (الفقراء). ومن المعتقدات الشائعة الأخرى أن الجيل الذي عايش الحياة خلال فترة الديكتاتورية كان الجيل "الذهبي" و"المزدهر"، معتبرين تلك المدة فترة راحة اتسمت بالاستقرار والأمان. وفي حين تُعد هذه المنظورات متحيزة، إلا أنها تعكس القيم التي كان الشباب يأملون في تحقيقها خلال فترة الانتقال الديمقراطي.
3. عدم القطيعة مع الماضي: تتبع جذور الحنين إلى الاستبداد في تونس
1.3 الاستقرار الوهمي: أسطورة اقتصاد بن علي
كان يُنظر إلى تونس منذ فترة طويلة على أنها بلد مستقر وغير ملحوظ لا يستقطب اهتمامًا كبيرًا من الباحثين. وتصفها جوسلين دخلية في كتابها عن الثورة التونسية بـ"Le Pays Sans Bruit" (بلد بلا ضجيج). صاغت ديكتاتورية بن علي هذه الصورة الخارجية بدقة في الوقت الذي اعتمدت فيه استراتيجيات "الارتقاء السلطوي". ولسنوات، أبرز الشركاء الماليون لتونس، ومن ضمنهم البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي، صورة "المعجزة" الاقتصادية التي حققتها الحكومة التونسية. ومع ذلك، كشفت الثورة عن جانبٍ مظلم، اتسم بالبطالة ومحدودية الوصول إلى سوق العمل وعدم المساواة في الدخل، والتفاوتات الجهوية الكبيرة.
كانت الإصلاحات الاقتصادية مرغوبة فقط طالما أنها لم تقوض استقرار البلاد وسلطة النظام. وفي التسعينيات، طبقت تونس سياسات متقدمة موجهة نحو السوق كجزءٍ من الإصلاحات الاقتصادية المدعومة من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وشكّلت هذه الإصلاحات جزءًا من برامج التكيف الهيكلي التي هدفت إلى فتح الاقتصاد والحد من تدخل الحكومة وتشجيع نمو القطاع الخاص. واقترن هذا النهج الاقتصادي الجديد بتدابير حماية اجتماعية مبتكرة تهدف إلى تقليل الآثار السلبية لبرامج التكيف الهيكلي على الطبقات الدنيا والوسطى. )
وأدى استحداث مؤسسات الحماية الاجتماعية مثل البنك التونسي للتضامن والصندوق الوطني للتشغيل إلى زيادة تدخل الدولة وإشرافها في المجالين السياسي والاقتصادي. وارتكز العقد الاجتماعي الضمني بين النظام والشعب التونسي على القمع السياسي مقابل الحصول على مزايا اجتماعية. وأنشأت هذه المؤسسات علاقات زبائنية مع الفئات الضعيفة في المجتمع من خلال التحويلات الاجتماعية في المقام الأول. كانت هذه التحويلات عبارة عن مدفوعات أو مزايا مقدمة للأفراد أو الجماعات مقابل دعمهم وولائهم. باستخدام آلية المساومة السلطوية التي تمثل اتفاقًا غير رسمي بين الدولة والمجتمع، تجري غالبًا مقايضة المنافع الاقتصادية بالولاء السياسي. وبذلك، عززت الدولة نفوذها على هذه الجماعات، ما جعلها تعتمد على مساعدة الحكومة.
كان بن علي حريصًا على أن تكون إصلاحاته الاقتصادية ملموسة ليس فقط للطبقات الدنيا، بل أيضًا للطبقات الوسطى. فبالنسبة إلى الطبقة الوسطى الحضرية، انعكس ازدهار الاقتصاد على النجاح المالي الفردي والوصول إلى مستوى معيشي لائق. ومكّن صعود النزعة الاستهلاكية إلى جانب تسهيلات الائتمان العديد من العائلات التونسية من توسيع قدرتها الشرائية. وكما يلاحظ بكار غريب "الطبقات الوسطى حاضرة في كل مكان في الخطابات السياسية. فمثلت في الواقع جزءًا أساسيًا من خطاب نظام بن علي في استراتيجيته لإضفاء الشرعية على نفسه". وكان التوسع المستمر للطبقات الوسطى مرادفًا لاستقرار نظام بن علي وتجانسه. وحرص النظام على أن يكون رفاه هذه الشريحة من المجتمع عنصرًا أساسيًا في صورة حكمه.
ومع اشتداد القمع السياسي وتصاعد التحديات الاقتصادية، كثف النظام جهوده لصناعة الاستقرار والترويج لصورة تونس كدولة تقدمية وخالية من الجريمة محلياً ودولياً. وكان للاعتراف الدولي بـ"المعجزة الاقتصادية" التونسية دور حاسم في الحفاظ على سلطة الحكومة التونسية. كما أن نشر هذا الخطاب على نطاق واسع من الحلفاء الأجانب عزز سمعة تونس عالمياً، وسهّل جذب المساعدات المالية، والأهم من ذلك عزز شرعية الحكومة محلياً. كان جزء أساسي من هذه السردية صورة تونس كبلدٍ آمن والجريمة فيها شبه غائبة في ظل حكم بن علي القوي. لكن هذا الإحساس بالأمان كان مبنيًا على أجهزة المراقبة والدعاية الحكومية. فخلف أسطورة قصة نجاح تونس، تقف دولة بوليسية شرسة تُثقل كاهل المعارضين والتونسيين عموماً.
بنى نظام بن علي الديكتاتوري بعناية صورةً لحكمه كمصدر للأمن والاستقرار والنمو الاقتصادي، بالاعتماد على التحديث السلطوي والدولة البوليسية القوية، والدعاية الحكومية والدعم الثابت من الجهات الدولية التي غضت الطرف عن جرائمه. ومع ذلك، لا يزال إرثه يثير الفخر بماضٍ أسطوري راسخ في المخيلة التونسية، إذ لم تتح للكثيرين فرصة التعرف إلى القمع الوحشي الذي مارسه. واليوم، لا يزال العديد من الشباب يصفون عهده بالـ"أمن وأمان"، غافلين عن حقيقة ديكتاتوريته التي يُفترض أن تكون معروفة للجميع بعد الثورة، خصوصاً مع مسار العدالة الانتقالية. ويبقى إرثه الاستبدادي مثل الجرح العنيد الذي يرفض الالتئام.
2.3 العشرية السوداء: نضال تونس من أجل الديمقراطية
اتسمت عملية الانتقال الديمقراطي في تونس بالنشاز، بما فيها الركود الاقتصادي والتشرذم السياسي والاضطرابات الاجتماعية. وبدأ مصطلح "العشرية السوداء" كتعبير عن الإحباط، لكنه تطور تدريجيًا ليصبح سردية مميزة للمرحلة الانتقالية. وبمرور الوقت، بدأ العديد من التونسيين ينظرون إلى هذه الفترة على أنها مرحلة اتسمت بالفشل بدلاً من التقدم. وغذت خيبة الأمل من المرحلة الانتقالية، إلى جانب التأثير الدائم للإرث الاستبدادي، صعود خطاب الحنين إلى الماضي في السياسة.
وعلى الرغم من الإنجازات الهامة في الانتقال إلى الديمقراطية، إلا أن الاقتصاد بقي في حالة اضطراب، مع ارتفاع معدلات البطالة واتساع العجز التجاري وانخفاض قيمة العملة الوطنية بسرعة. ولا تزال العدالة الاجتماعية والاقتصادية بعيدة المنال، على الرغم من أن المطالب الاقتصادية سبقت الشعارات السياسية خلال الثورة التونسية. فطالب المتظاهرون في المقام الأول بتحسين ظروف المعيشة، وبرز حينها شعار "شغل، حرية، كرامة" كرمز قوي للمطالب في المناطق المهمشة في تونس. وفي عام 2011، اعتقد 72 في المئة من التونسيين أن الثورة كانت مفيدة لبلدهم، لكن بحلول العام 2014، انخفضت هذه النسبة إلى 31 في المئة، وبقيت المخاوف بشأن الاقتصاد على رأس اهتماماتهم.
بالإضافة إلى الركود الاقتصادي، قوّض عدم الاستقرار السياسي عملية الانتقال الديمقراطي في تونس. فاستمرت خيبة الأمل الشعبية الواسعة من النخبة السياسية بعد العام 2011. واتسم المشهد السياسي بانقسامٍ مركزي بين حركة النهضة، وهي معسكر ديني محافظ، وحزب نداء تونس الذي يمثل وجهة نظر "حداثية" تركز على الحفاظ على الطبيعة العلمانية للدولة التونسية ما بعد الاستعمار. وتفاقم الانقسام بعد اغتيال اثنين من السياسيين اليساريين هما شكري بلعيد في شباط/فبراير 2013 ومحمد البراهمي في تموز/يوليو من العام نفسه. وتصاعدت حدة الصدامات السياسية بين القوى الإسلامية والعلمانية، ما أدى إلى تسوية هشة حول دستور 2014. وساعد التوافق في تقدم الديمقراطية في تونس والحصول على الاعتراف الدولي. كما أضعف قدرة الأحزاب الكبرى على تمثيل أنصارها بشكلٍ فعال، ففقدت المنافسة السياسية جوهرها. كما أثبتت الحكومات المنبثقة عن توافق النخبة عام 2014 أنها غير قادرة على معالجة الأسباب الجذرية للمشاكل الاقتصادية في البلاد. لذلك، بدأ العديد من التونسيين بالابتعاد عن السياسة التقليدية.
في موازاة ذلك، نجحت شخصيات من نظام بن علي في الانضواء داخل الأحزاب السياسية. فبينما أسس السبسي حزب نداء تونس وجمع العديد من الشخصيات السابقة من النظام القديم تحت مظلة بورقيبية، أسست عبير موسي النائبة السابقة للأمين العام للتجمع الدستوري الديمقراطي المنحل، وهو الحزب الحاكم في عهد بن علي، الحزب الدستوري الحر، داعية علناً إلى استعادة النظام القديم. واستغلت أحزاب مثل نداء تونس والحزب الدستوري الحر الأهمية السياسية للحنين إلى الماضي السلطوي لاكتساب الشرعية والدعم الانتخابي من خلال تبني إرث بن علي وبورقيبة والاستفادة منه. واستند كلا الحزبين إلى إنجازات الماضي المتمثلة في الازدهار الاقتصادي والوعود السياسية والأمن القومي، وقارنها بتحديات التحول الديمقراطي الذي اتسم بالأزمة الاقتصادية وعدم الاستقرار السياسي والإرهاب والفساد المستشري. كان الانتقال الديمقراطي هشاً، إذ كافح نظام الحكم الجديد لإرساء الاستقرار، في حين ظلت الهياكل والممارسات الاستبدادية مرنة بشكلٍ مدهش. فمن ناحية، لم يشهد التونسيون تقدماً حقيقياً يُذكر في القضايا التي أشعلت شرارة ثورة 2011. ومن ناحيةٍ أخرى، بقي الكثير من النخب القديمة نفسها وأعادوا الممارسات الاستبدادية التي كانوا يجسدونها. واستمرت الهجمات الإرهابية والممارسات القمعية ومن ضمنها الاعتقالات التعسفية للمتظاهرين ووحشية الشرطة ومراقبة الأصوات المعارضة بعد التحول الديمقراطي. وسمحت هذه البيئة بتنامي خطاب الحنين إلى الماضي إلى جانب القومية الضيقة والمواقف غير الليبرالية.
ليست تونس البلد الوحيد الذي عانى من الحنين إلى الاستبداد. ومع ذلك، فإن القطيعة غير الواضحة مع موروثات الماضي أضعفتها بشكلٍ خاص، فلا يزال التأثير المستمر للأنظمة السابقة يشكل الخطاب السياسي والمشاعر العامة. وعلى مر السنين، استمر العديد من التونسيين في التمسك بالرواية القائلة إن البلاد بحاجة إلى رجلٍ قوي كحل قابل للتطبيق لمعالجة مشاكلها، معتقدين أن "اليد الحازمة" يمكنها إعادة ما يشعرون أنه ينقصهم في الحاضر. ويمكن أن ينعكس ذلك جزئيًا في الدعم الذي قدمه بعض التونسيين لانقلاب قيس سعيد، محتفين بالرجل الذي يسعى إلى إنقاذ البلاد من أزمة اقتصادية وسياسية وصحية ثلاثية (كوفيد-19)، ويستمر تأثير هذه السردية على الشعب التونسي. في الآونة الأخيرة، كشفت بيانات صادرة عن موقع "أفروباروميتر" عن تحول ملحوظ في الرأي العام، مع تراجع كبير في رفض الديكتاتورية من 78 في المئة في العام 2013 إلى 48 في المئة في العام 2024. وبالمثل، انخفض تفضيل الديمقراطية على أي نظام آخر من 71 في المئة إلى 54 في المئة خلال الفترة نفسها. تبرز البيانات التالية أن التشاؤم تجاه الديمقراطية في أعلى مستوياتها اليوم مع تراجع البلاد إلى الاستبداد.
4. نطاق الحنين السلطوي: فهم نتائجه
1.4 الحنين إلى الاستبداد ودور الأحزاب السلطوية الوريثة للاستبداد: حالتا حزب نداء تونس والحزب الدستوري الحرّ
لم يكن الحنين إلى عهد الديكتاتورية مجرد شعور شعبي بأن "الأمور كانت أفضل في عهد بن علي". فمن ناحية، كان التصور "الخيالي" لتونس في عهده يتناقض مع الصعوبات الكثيرة التي واجهت الانتقال الديمقراطي، ما أصاب التونسيين بخيبة أمل من الوضع الحالي. من ناحيةٍ أخرى، استفادت بعض الأحزاب السياسية من الحنين إلى الاستبداد لمخاطبة حنين أنصارها إلى الاستقرار والنظام الذي كان متصوَّراً في الماضي.
ويُعد حزب نداء تونس والحزب الدستوري الحر مثالين على الأحزاب الوريثة للاستبداد. وبحسب لوكستون، تنشأ هذه الأحزاب من أنظمة استبدادية، لكنها تعمل في نظام ديمقراطي، ويقودها غالباً مسؤولون رفيعو المستوى في النظام السابق. فقد أسست عبير موسي حزب "الاتحاد الوطني الحر" المحافظ والمناهض للإسلاميين والقومي المتطرف، بعد أن شغلت منصب نائب الأمين العام لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل في عهد بن علي. وأسس السبسي، وهو مسؤول سابق في عهد كل من بورقيبة وبن علي، حزب نداء تونس عام 2012. وكغيره من الأحزاب العربية الأخرى، بنى كلا الحزبين دعمهما عبر استحضار إرث الديكتاتوريات واحتضانه. وساهمت هذه الأحزاب في التراجع الاستبدادي، وحافظت على عناصر النظام القديم، وعرقلت العدالة الانتقالية.
تتبنى الأحزاب الوريثة للاستبداد استراتيجيات محددة لتبني الماضي الاستبدادي، لأن الناخبين عادة يرفضون أصولهم وقد يترددون في دعمهم. وتعتمد هذه الأحزاب على عنصرين أساسيين هما: الموروث السلطوي والميراث الاستبدادي. يشير الميراث الاستبدادي إلى الأصول التي ترثها الأحزاب من النظام الاستبدادي، ويمكن الاستفادة منها لتحقيق النجاح الانتخابي. ويمكن أن تكون الموارد المادية والخبرة السياسية والتكوين السياسي والشبكات الزبائنية، والسجل السابق من الإنجازات. في الوقت نفسه، تتمثل العواقب الاستبدادية في التبعات التي تحملها هذه الأحزاب من الماضي التي قد تدمر فرصها الانتخابية، ومن ضمنها انتهاكات حقوق الإنسان والفساد. ولكسب التأييد، يجب على قادة الأحزاب إيجاد طرق للتقليل من عيوب تبعاتهم السلطوية مع تعظيم مزايا ميراثهم السلطوي.
ركزت موسي على الميراث الاستبدادي من خلال تصوير حكم بن علي على أنه عقود من "الاستقرار" مع التقليل من أخطاء النظام. وبنت شعار حزبها حول إنجازاته، بما فيها النمو الاقتصادي والأمن القومي والنظام، خصوصاً أن أداء الديمقراطية الجديدة كان مخيبًا للآمال في هذه المجالات. وتعهدت باستمرار بإعادة هذه القيم المفقودة. ووعدت بالتصدي للإرهاب وإنعاش الاقتصاد وتعزيز الاستقرار السياسي. و لقيت هذه السردية صدىً جيدًا لدى من يشعرون بالحنين إلى النظام السابق وغيرهم من المواطنين الذين لم تتحقق آمالهم في حياة أفضل في ظل الديمقراطية. اعتمدت موسي في مقاربتها لاحتضان الماضي على الإرث الأسطوري لنظام بن علي، ما زاد من جاذبية حزبها بالنسبة إلى العديد من التونسيين.
بالإضافة إلى أجندتها المناهضة للإسلاميين، دعمت موسي مجموعة من السياسات التي هددت التوازن السياسي الهش في تونس وذكّرتنا بديكتاتورية بن علي. فدعم حزبها مشروع قانون يسعى إلى توسيع الحماية القانونية لقوات الأمن الداخلي وضباط الجمارك في العام 2015. ونصبت موسي نفسها فعلياً مدافعة سياسية عن نقابات الشرطة. ويشير دعمها الثابت لهذه النقابات، إلى جانب تفاني حزبها في دعم جهاز شرطة قوي، إلى العودة إلى استراتيجيات النظام السابق، حين كان يُنظر إلى الشرطة على أنها "رمز للفساد والقمع والمحسوبية، أي رمز للنظام نفسه".
اتبع حزب نداء تونس نهجًا مختلفًا عن الحزب الديمقراطي الحر في احتضان إرث الماضي. فانطوت استراتيجيته على التمييز بين الديكتاتور "الصالح" الذي احتضنه الحزب، والديكتاتور "السيئ" الذي ندد به. وعلى الرغم من اعتراف الحزب بالجوانب القبيحة للأنظمة السابقة، إلا أنه ألقى اللوم بالكامل على الديكتاتور "السيئ". وسعى السبسي إلى النأي بنفسه عن بن علي المغضوب عليه، في حين تبنّى حزبه علانيةً إرث بورقيبة. ولتسليط الضوء على ارتباطه بـ"البورقيبية"، أطلق السبسي حملته الرئاسية المنتصرة في العام 2014 أمام ضريح بورقيبة فكان هذا الحنين في صميم الحملة السياسية لحزب النداء. فمجدوا "أسطورته" لإضفاء الشرعية على مطالبهم بالسلطة. ودافعوا عن خطابه حول "الحداثة" وادعوا أنه تقليد مستمر انتقل إليهم. كما اعتبروا أنفسهم الحامي الوحيد لهذا الإرث ضد تهديدات الإسلاميين. فهم بالتالي يمثلون ما يعتبرونه الهوية التونسية "الحقيقية" و"الأصيلة".
وعلى الرغم من أن حزب النداء نأى بنفسه عن ديكتاتورية بن علي، إلا أنه لا يزال يعتمد على ميراثه السلطوي. فأعاد الحزب توحيد العديد من "الأزلام" (رموز النظام القديم)، وورث شبكات واسعة كانت موجودة من قبل امتدت من الفترة الاستبدادية. مثلت هذه الشبكات أصولاً مهمة وفّرت للحزب نفوذاً مالياً وسياسياً. في المقابل، كانت دعوة السبسي إلى إنهاء "النبش في جراح الماضي والمضي قدماً" ) التي قرّبت إليه هذه الشخصيات الكبيرة من نظام بن علي، مؤشراً واضحاً إلى عدم رغبته في التعامل مع الإرث السلطوي لكل من بورقيبة وبن علي. ومن المهم النظر في مثل هذه التصرفات التي وإن لم تكن استبدادية بشكلٍ صريح، إلا أنها ساهمت في تعزيز شعور واسع بالإفلات من العقاب لدى نخب ومؤسسات النظام القديم، ما أعاق جهود العدالة الانتقالية.
وتبنّى كلٌّ من حزبي الدستوري الحر ونداء تونس، بصفتهما من أحزاب نداء تونس، وبصوت عالٍ وفخور إنجازات النظامين السابقين، وشدّدا على التناقض بين الوضع الذي يُفترض أنه كان مثالياً في عهد النظام السابق وبين الاختلالات التي اعترت عملية التحوّل الديمقراطي. فاتسمت حقبة بن علي بالقيادة القوية و"الاستقرار"، بينما ارتبط حكم بورقيبة فقط بكفاحه ضد الاستعمار وجهوده التحديثية. وتكتسب شخصية الزعيم المستبد غالباً جاذبية في أوقات عدم الاستقرار، وتثير الإعجاب والحنين فيأمل بعض التونسيين في وجود زعيم قوي "ينجز المطلوب". لكن كان لبقاء جزء مهم من النخبة السياسية والبيروقراطية السلطوية وإعادة تشكيلها تداعيات كبيرة على الانتقال الديمقراطي، ما وفر لتونس نخبة كان ولاؤها للنظام الديمقراطي الجديد موضع شك. ويوضح كلا الطرفين أوجه القصور في القطيعة غير الواضحة مع مؤسسات وسياسات أيام الديكتاتورية، ما ساهم في الارتداد السلطوي وعرقلة العدالة الانتقالية.
2.4 العلاقة بين العدالة الانتقالية وإرساء الديمقراطية: فرصة ضائعة
1.2.4 العوامل الداخلية والخارجية: محدودية تأثير هيئة الحقيقة والكرامة في تونس
كانت الجهود التي بذلتها تونس في البحث عن الحقيقة وحفظ الذاكرة محدودة، ما سمح للحنين الاستبدادي بالتجذّر. وعلى الرغم من أن عملية العدالة الانتقالية في البلاد كانت مكلفة بتحديد ما حدث ومن المسؤول عن انتهاكات الماضي، والسعي إلى تحقيق أهداف مثل البحث عن الحقيقة وحفظ الذاكرة والمساءلة، إلا أن تأثيرها لم يدم طويلاً بسبب التحديات السياسية والهيكلية والمؤسسية. كما كان الدعم الشعبي لعملية العدالة الانتقالية والمشاركة فيها محدودًا. فقد فوّتت هيئة الحقيقة والكرامة فرصةً حاسمة للتواصل مع الجمهور، لا سيما الشباب، بطرقٍ هادفة من شأنها أن تشجّع على التفكير النقدي في فهمهم للموروثات الاستبدادية. سيتناول هذا القسم القيود التي واجهت هيئة الحقيقة والكرامة مع التركيز على الأعباء المفرطة التي تحملتها والخلافات الداخلية، والطبيعة السياسية لمشروع العدالة الانتقالية.
في كانون الأول/ديسمبر 2013، اعتمد المجلس الوطني التأسيسي في تونس القانون الأساسي المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها (قانون العدالة الانتقالية). أتاح هذا القانون إنشاء هيئة الحقيقة والكرامة للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان منذ العام 1955 حتى العام 2013 وكشفها. في 24 حزيران/يونيو 2020، نُشر أخيرًا التقرير النهائي لهيئة الحقيقة والكرامة بعد ست سنوات من بدء عملها. عانت عملية العدالة الانتقالية من قيود كبيرة على الصعيدين الداخلي والخارجي أثرت على عمل الهيئة والوصول إلى أهدافها.
وهيئة الحقيقة والكرامة هي المؤسسة التي يمكننا أن نلاحظ فيها، على أفضل وجه، عدم التوافق بين التوقعات والقدرات. ففي إطار ولايتها لمعالجة نحو 60 عامًا من الحكم القمعي وانتهاكات حقوق الإنسان، حققت في انتهاكات حقوق الإنسان والحقوق المدنية والسياسية، وتزوير الانتخابات والفساد والاختلاس والهجرة القسرية وغيرها من القضايا. وكان تضمين الجرائم الاقتصادية ابتكاراً مهماً، فعالجت قضايا البطالة والفساد والتهميش الاقتصادي التي كانت سبباً جزئياً في اندلاع الثورة. ومع ذلك، كانت ولاية طموحة للغاية بدعم من المتخصصين الدوليين في مجال العدالة الانتقالية والشركاء المحليين. ولم تكن المقاربة الشاملة لعملية العدالة الانتقالية هي الأنسب بالضرورة للحالة التونسية. فأغفل ممارسو العدالة الانتقالية القدرة المحدودة للمؤسسات السياسية ومؤسسات العدالة الانتقالية المنشأة حديثاً، التي أصبحت مثقلة شيئاً فشيئاً بالعمل الذي كانت تطمح إلى إنجازه خصوصاً في غياب الدعم السياسي المستدام. فعلى سبيل المثال، أشارت الهيئة في تقريرها النهائي إلى أنها تلقت عددًا كبيرًا من الشكاوى المتعلقة بقضايا الفساد من المؤسسات العامة والحكومية على حد سواء. ومع ذلك، أعلنت أنه لم يكن هناك وقت كافٍ للتحقيق فيها كلها. وعلى الرغم من أن الهيئة تمكنت من تنفيذ إجراءات التحكيم وعقد جلسة استماع علنية بشأن الفساد، إلا أنها لم تتمكن من تأدية مهام رئيسية أخرى، أهمها التحقيق في قضايا الفساد لمقاضاة مرتكبيها في الدوائر الجنائية المتخصصة. )
وقعت مشاكل داخلية طوال فترة ولاية اللجنة، من بينها صراعات على السلطة بين الأعضاء واتهامات بالقيادة غير الديمقراطية. أدّت هذه الاحتكاكات الداخلية إلى إبطاء عملية توطيد لجنة الحقيقة، ما نتج عنه تصوّر مفاده حدوث مزيدٍ من التأخير في أنشطة العدالة الانتقالية. وبدأت الهيئة بـ15 من أعضاء لجنة الحقيقة الذين استقال بعضهم فورًا من دون استبدالهم في نهاية المطاف. وأثّر ذلك على عمليات اللجنة في المستقبل وعلى التصور العام لأدائها.
لم يكن المشهد السياسي الذي كان من المقرر أن تؤدي الهيئة عملها فيه مثاليًا على الإطلاق. وكان لمحاولات تخفيف حدة التوترات السياسية وتعزيز التسوية أثر كبير في قرار التخلي عن الرؤية الأصلية لعملية العدالة الانتقالية.
فمع عودة العديد من رموز النظام القديم كنواب منتخبين في البرلمان، بالإضافة إلى مشاركة حركة النهضة في ما يسمى بـ"حكومات الوحدة الوطنية"، تلاشى الدعم لمشروع العدالة الانتقالية كما أقره المجلس الوطني التأسيسي. ومع إمكانية فتح تحقيقات ضد سياسيين ورجال أعمال وبناء رؤى بديلة لماضي تونس، شكلت هيئة الحقيقة والكرامة تحديًا لـ"نداء تونس" التي استفادت من عرقلة مسار العدالة الانتقالية. ويمكن تلخيص موقف الرئيس السبسي من هذا المسار في تصريحٍ واحد: "يجب أن نترك الموتى وشأنهم". وبدأ في معارضة هيئة الحقيقة والكرامة مشككًا في حياديتها. وأعرب حزبه عن عدائه الشديد لها، مستخدماً خطاباً معادياً للإسلاميين. ولا يزال نداء تونس يذهب إلى أبعد من ذلك باتهام الهيئة بأنها عميل سياسي لحركة النهضة. وجرى جمع ضحايا الانتهاكات السابقة واعتبارهم داعمين لمعسكر سياسي على حساب آخر. وكان يُنظر إليهم على أنهم لاعبون سياسيون. لم يضر هذا الخطاب بعمل الهيئة فحسب، بل بنظرة المجتمع إلى الضحايا أيضاً.
واستمرت الأعمال العدائية من خلال عرقلة وصول هيئة الحقيقة والكرامة إلى أرشيف رئاسة الجمهورية ووزارة الداخلية، واتهام الهيئة بالولاءات الحزبية، وإنشاء قنوات سياسية وقانونية موازية للعدالة الانتقالية. وتجلت هذه الأخيرة بوضوح في مشروع قانون المصالحة الاقتصادية لعام 2015 (الذي أعيدت تسميته لاحقًا بقانون المصالحة الإدارية)، إذ اقترح العفو عن الجرائم الاقتصادية والفساد الذي ارتكبه موظفو الخدمة المدنية ورجال الأعمال في ظل الأنظمة الاستبدادية السابقة مقابل اعترافات وردّ الاعتبار في السر.
ووصف المنطق وراء المصالحة الاقتصادية بأنه مشروع "يسعى إلى تحقيق عدالة انتقالية متسارعة ومحددة وملائمة للقضايا الاقتصادية". وفي مناسبات مختلفة، أصر السبسي على الدعوة إلى "المصالحة الوطنية" بين جميع التونسيين. وكان هناك تشديد قوي على لغة المصالحة باستخدامها بالمعنى الذي يوحي بعدم الحاجة إلى تحقيق العدالة الانتقالية. كما استُخدمت المصالحة أحيانًا بشكلٍ خطابي من قبل الجهات السياسية الفاعلة بهدف قمع مساعي التغيير والمساءلة. وكانت حركة النهضة متناقضة إلى حدٍ ما بشأن القانون، ولم يكن دعمها للعدالة الانتقالية خطيًّا. ومن المفارقات أن النهضة التي كانت مهتمة في البداية بالسعي إلى المحاسبة بدأت تتعاون مع من أرادت أن ترى محاسبتهم ثم تخلت شيئًا فشيئًا عن السعي إلى المحاسبة لتأمين مصالحها وتحالفاتها السياسية. وسعت النهضة إلى الحد من تأثير هيئة الحقيقة والكرامة بعد اتهامها بالعنف السياسي من قبل الهيئة المستقلة للدفاع عن البراهمي وبلعيد التي بادر بها أعضاء من أحزاب المعارضة، الجبهة الشعبية تحديداً، للتحقيق في اغتيال السياسيين اليساريين في العام 2013. وفي الوقت نفسه، أعلن السبسي مرارًا وتكرارًا عن استعداده لاتخاذ إجراءات قانونية استنادًا إلى النتائج التي توصلت إليها اللجنة، خصوصاً عندما كان التوتر مع النهضة على أشدّه. وردًا على ذلك، غيّرت النهضة موقفها من العدالة الانتقالية من الدعوة إلى الملاحقة الجنائية لمنتهكي حقوق الإنسان في ظل النظامين السابقين، إلى الدعوة إلى المصالحة العامة.
وعلى الرغم من اعتماد مجلس النواب في نهاية المطاف نسخة معدلة من قانون المصالحة في أيلول/ سبتمبر 2017، إلا أن مشروع القانون لم يمر من دون اعتراض. فاعتبرته الحركة الاجتماعية "مانيش مسامح" (لن أنسى) إشارة إلى تحالف متجدد بين رموز النظام القديم والدولة. كما عارضوا أيضًا جهود النخب السياسية لفرض إحساسٍ بالمصالحة والوحدة بدلًا من السعي إلى المحاسبة. وأطلقوا حملة نظموا من خلالها أكثر من ثمانين احتجاجًا وتظاهرة، بالإضافة إلى العديد من توقيعات العرائض والندوات والمؤتمرات الصحفية والظهور الإعلامي، والفعاليات الثقافية لمعارضة مشروع القانون وتكراراته المختلفة.
وواجهت الهيئة تحدياتٍ داخلية كبيرة، من ضمنها النزاعات بين مفوضيها وغرقها في نهجها الشامل. ومع ذلك، كانت العقبة الرئيسية التي واجهتها هي تسييس عملها. فتحوّل دورها من آلية دستورية إلى أداة سياسية، ويرجع ذلك إلى حد كبير للصراع على السلطة بين نداء تونس والنهضة. كما سمح إحجام السبسي عن الانخراط الكامل في عمليات العدالة الانتقالية بالحفاظ على نظام يحابي النخب وهياكل السلطة في الماضي، لكنه في الوقت نفسه يمنع المجتمع من الانفصال الكامل عن ماضيه الاستبدادي. استمر تقويض عملية العدالة الانتقالية إلى ما بعد إقرار قانون المصالحة الإدارية. وتجلى ذلك في تقاعس الحكومة وتكتيكات المماطلة التي اتبعتها، مثل عدم نشر التقرير النهائي لهيئة الحقيقة والكرامة، عدم فرض حضور المتهمين في محاكمات الدوائر المتخصصة، والتأخير في إنشاء صندوق الكرامة. كما كانت مبادرات تخليد الذكرى محدودة العدد والنطاق.
2.2.4 البحث عن الحقيقة وحفظ الذاكرة: التقصير وتمكين الحنين الاستبدادي
على الرغم من الانتكاسات التي واجهتها الهيئة أسفرت عملية البحث عن الحقيقة عن مجموعةٍ كبيرةٍ من الشهادات والتقارير والتوصيات. ومع ذلك، لم تتحقق قدرتها على تشكيل الذاكرة الجماعية وتحدي الحنين إلى الاستبداد إلى حدٍ كبير، بسبب عدم وجود إجراءات مؤسسية لاحقة، مثل الملاحقات القضائية أو التعويضات أو تخليد الذكرى، أو الإصلاحات التعليمية. على سبيل المثال، ألقت جلسات الاستماع العلنية نظرة ثاقبة مهمة على فظائع الماضي، وبُذلت بعض الجهود لتخليد الذكرى. ومع ذلك، لا يزال العديد من الشباب التونسيين غير مدركين للمظالم التاريخية. كما أدى إخفاق الحكومة في تحديث المناهج التعليمية إلى تقييد وصول جيل الشباب إلى الروايات التاريخية الدقيقة. وهذا يسلط الضوء على الحاجة إلى التفكير في الفرص الضائعة لتعزيز البحث عن الحقيقة وحفظ الذاكرة في تونس، لا سيما من خلال التوعية المحدودة لجلسات الاستماع العلنية والغياب التام للإصلاح التعليمي.
- جلسات الاستماع العلنية: استراتيجية التوعية المفقودة
لم تلتزم هيئة الحقيقة والكرامة والدولة التونسية التزاماً كاملاً بمهمة حفظ الذاكرة المنصوص عليها في قانون العدالة الانتقالية. وأعاق عدم الالتزام الكامل بهذا الهدف الجهود المبذولة لترسيخ عملية البحث عن الحقيقة، بينما يشير قانون العدالة الانتقالية في مادته الأولى إلى أهمية حفظ الذاكرة الجماعية وأرشفتها. ويفصّل في المادة 44 أنّ هيئة الحقيقة مسؤولةٌ عن كشف الحقيقة وضمان المساءلة والمحاسبة وتعزيز حفظ الذاكرة. ويتمثل دورها في "اتخاذ جميع التدابير" و"ممارسة الأنشطة اللازمة"، وفي نهاية عملها، "تعهد بجميع وثائقها وسجلاتها إلى الأرشيف الوطني أو إلى مؤسسة حفظ الذاكرة الوطنية التي تُنشأ لهذا الغرض" . وينطبق الأمر نفسه على دور الدولة، كما هو مبيّن في المادة الخامسة من قانون العدالة الانتقالية؛ فحفظ الذاكرة "واجبٌ على الدولة، وجميع مؤسساتها أو تلك التي تخضع لإشرافها، القيام به لاستخلاص الدروس من الماضي وإحياء ذكرى الضحايا". لكن في كلتا الحالتين، لم يشدد القانون على نطاق هذا "الحفظ" أو العقوبات المترتبة على عدم تنفيذه.
وبسبب التحديات الداخلية، وجهت الهيئة استراتيجيتها الاتصالية للتخفيف من الأضرار التي لحقت بصورتها العامة. كما صعّب التدقيق الإعلامي السلبي والمشهد السياسي المكثف على الهيئة بناء استراتيجية تواصل واضحة لزيادة المشاركة العامة خلال جلسات الاستماع العلنية وما بعدها. عُقدت جلسات الاستماع العلنية لهيئة الحقيقة والكرامة في نهاية عام 2016، كعمل رمزي وجماعي لإحياء الذكرى. وحازت هذه الجلسات على اهتمام الجمهور، لا سيما من خلال شهادات الضحايا التي كشفت واقع عنف الدولة وانتهاكات حقوق الإنسان. وبُثت جلسات الاستماع العلنية الأولى على الهواء مباشرةً على التلفزيون الوطني وأتيحت على الإنترنت بلغات مختلفة. وعلى مدار الأشهر التالية، عُقدت عدة جلسات استماع علنية في جميع أنحاء البلاد. ركزت بعض الجلسات على قضايا مثل العنف الجنسي والنشاط على الإنترنت والفساد. ومن خلال معالجة طيف واسع من الانتهاكات وإشراك الضحايا من مختلف الأجيال والخلفيات الأيديولوجية، أشركت جلسات الاستماع العلنية التي عقدتها الهيئة شرائح متنوعة من المجتمع التونسي، وسمحت بزيادة الوعي العام بالانتهاكات المرتكبة.
وعلى الرغم من النجاح الأولي لجلسات الاستماع العامة، إلا أن الزخم تلاشى وتراجعت الأنشطة المتعلقة بحفظ الذاكرة خلال الفترة المتبقية من عمل الهيئة، خصوصاً أن نطاق معنى "الحفظ" لم يكن محددًا في قانون العدالة الانتقالية. كما ضعفت جهود حفظ الذاكرة مع استمرار التوترات السياسية. ولم تكن الجهود المبذولة لإشراك السكان على نطاق أوسع - لا سيما الشباب - في التعرف إلى تاريخ تونس المظلم والتفكير فيه. كشف هذا التحدي افتقار هيئة الحقيقة والكرامة إلى استراتيجية توعية واضحة ومتعمدة خلال جلسات الاستماع العلنية وما بعدها. في هذا السياق، يشير مصطلح التواصل إلى مجموعة من الأدوات والمواد والأنشطة التي تستخدمها الهيئة لإقامة تواصل مباشر مع المجتمعات المتضررة وتوسيع نطاق المسؤولية لتشمل عامة الناس للانضمام إلى مساحة من التأمل. إنّها عملية ذات اتجاهين - فبينما تتشاركُ اللجنةُ المعلومات مع الجمهور، تفتحُ أيضًا مساحةً لتعليقاتهم ومشاركاتهم. في الأساس، لا يمكن اعتبار دعم الجمهور واهتمامه بعمليات البحث عن الحقيقة أمرًا مفروغًا منه.
كانت جلسات الاستماع العلنية في تونس فرصة مهمة لمواجهة ماضيها المؤلم، أي قدرة الضحايا على مشاركة شهاداتهم والاعتراف بها رسميًا. ومع ذلك، فشلت الهيئة في إعطاء الأولوية لاستراتيجيات توعية فعالة، ما جعل الجمهور مجرد مشاهد سلبي في مثل هذا الحدث الهام. ما كان ينقصنا هو آلية عدالة انتقالية أكثر تشاركية تعتمد على المشاركة الفعالة للمجموعات والأفراد الذين يحشدون من أجل العدالة. وينبغي أن تكون الجهود التي يقودها الشباب والجهود التصاعدية مكملة للآليات الرسمية للعدالة الانتقالية، إلا أن الهيئة فوتت فرصة إشراك الشباب في عملية البحث عن الحقيقة وتعزيز فهم أكثر نقداً لموروثات الماضي. فمن دون الفهم الصحيح لإرث الديكتاتورية، يصبح جيل الشباب أكثر عرضة للوقوع في فخ الحنين إلى الماضي الاستبدادي.
- تجاهل الماضي: غياب الإصلاح التعليمي في تونس
لم يلقَ الإصلاح التعليمي آذاناً صاغية بعد أن نشرت هيئة الحقيقة والكرامة تقريرها النهائي. وكانت إحدى التوصيات الرئيسية هي إدماج تاريخ تونس في انتهاكات حقوق الإنسان في المناهج الدراسية، ما لم ينفذه وزير التربية والتعليم حتى الآن. ويتطلب إصلاح النظام التعليمي استثمارًا سياسيًا وماليًا كبيرًا، وحتى في أفضل الظروف، يتطلب وقتًا طويلًا. ويُعد عدم إعطاء الأولوية إلى هذا الأمر مؤشراً مهماً إلى إحجام الحكومة عن الانخراط الكامل في الاعتراف بالماضي وعدم تكراره.
كما كان دور الهيئة في الدعوة إلى إصلاح التعليم ضعيفاً أيضاً. وتكون لجان العدالة الانتقالية مثل الهيئة مؤقتة عادةً، وانتهاء ولايتها يعني أنها قد تفقد السيطرة الكاملة لضمان نشر نتائج تقريرها النهائي بشكلٍ جيد، وتنفيذ توصياتها بشكلٍ صحيح. ومن المهم أن ننظر إلى ما سيحدث عندما تنتهي ولايتها وكيفية تمديد تأثير عملها إلى ما بعد تلك المرحلة. ففي العديد من الحالات، تخطط الهيئات مسبقاً "برامج إرث" ستُنفذ بعد انتهاء ولايتها، ما يحدث غالباً من خلال شراكات مع المجتمع المدني والمؤسسات الحكومية. ولسوء الحظ، لم تُقِم هيئة الحقيقة والكرامة علاقات مع قطاع التعليم والمجتمع المدني لاستدامة عمل حفظ الذاكرة بعد انتهاء ولايتها.
وفي أعقاب التحول نحو السياسة التوافقية في العام 2013، أعطى نموذج الحكم الأولوية للاستقرار والحد من الانقسام من خلال التركيز على الوحدة الوطنية. وامتد هذا النهج إلى قطاع التعليم فقررت وزارة التربية والتعليم عدم مراجعة المناهج الدراسية لتعكس ثورة 2011 والانتقال الديمقراطي في تونس من دون خطابٍ موحد. ولا يزال الطلاب يتلقون تعليم التربية المدنية نفسه الذي كانوا يدرسونه في عهد نظام بن علي. وفي الوقت نفسه، يعتمد بعض المدرسين على جهود فردية لتناول الثورة وتداعياتها من وجهة نظرهم.
في هذه الحالة، تستمر كتب التاريخ المدرسية التونسية أيضًا في نشر النظرة نفسها إلى الماضي حتى بعد الثورة، ما يتجلى بوضوح في تصوير بورقيبة المتحيز. إذ يرد ذكر بورقيبة بشكلٍ متقطع في الدروس التي تركز على النضال من أجل الاستقلال وعملية بناء الدولة بعد العام 1956. وتصفه السردية أحادية الجانب بأنه المهندس الوحيد لنجاح تونس، مع التركيز على دوره كرجل قوي حقق وحده التقدم، والتغاضي عن القمع والاضطهاد المنهجي الذي تعرض له معارضوه. تعكس التدابير المختلفة التي فرضها السبسي محاولة لتعزيز إرث بورقيبة في المجال العام. ويشمل ذلك السياسة التي تفرض على المدرّسين تخصيص ساعة في السادس من نيسان/أبريل للحديث عن بورقيبة في ذكرى وفاته.
يلعب التعليم دورًا حيويًا في مساعدة الشباب على التصالح مع الماضي الاستبدادي، فيمكّنهم من دراسة التاريخ وتأثيره الدائم على الحاضر. وخلال فترة الاستبداد، أصبح التلاعب بالكتب المدرسية وتشويهها أداة لإضفاء الشرعية على القمع وتعزيز الروايات التي كانت مفيدة للنظام، وهذا ما حدث في تونس. على سبيل المثال، كانت صورة بورقيبة في الكتب المدرسية متناقضة ومتحيزة، ما ترك صورةً ملتبسةً عن إرثه في الذاكرة الجماعية للتونسيين، خصوصاً في أوساط الشباب. واستغلت الأحزاب السياسية والنخب السياسية هذه الفجوات في الذاكرة لصياغة سردية تناسب أجندتها، وكانت تستدعي غالباً الحنين إلى الماضي السلطوي. وكان غياب الإصلاحات التعليمية مقصودًا، فتجنب صناع السياسات والنخب السياسية إلى حدٍ كبير إعادة النظر بالكتب المدرسية. وتوافق غياب الإرادة السياسية لمعالجة الماضي مع مصالحهم، لأن مواجهة الحقيقة من شأنها أن تتحدى الروايات التي يسعون إلى ترويجها.
5. تأملات وخلاصة
فتح التحول الديمقراطي صندوق باندورا من التحديات غير المتوقعة. وأدى تعقيد عملية الانتقال ونجاحاتها وإخفاقاتها ووعودها وخيبات أملها إلى شعور الكثيرين بالحنين إلى نسخة مثالية من الماضي. وكما يلاحظ ريد بجدارة: "الحنين إلى الماضي لا يوجد ولا يمكن أن يوجد إلا في حوار مع حاضر غير مرضٍ على الإطلاق". يعمل الحنين السلطوي بمثابة "آلية للتكيف" في مواجهة الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الكبرى، ما يعكس الرغبة في القدرة على التنبؤ والاستقرار والسيطرة، ومع ذلك، يغطي على الجوانب الأكثر قتامة من الماضي. وربما كان للروايات السياسية المثيرة تأثير مهم في تشكيل وجهات نظر الحنين إلى الماضي لدى بعض التونسيين.
قد ينظر بعض الشباب الذين لم يبلغوا سن الرشد بعد قبل العام 2011 إلى الديكتاتوريات السابقة على أنها "الأيام الخوالي". وتتأثر تصوراتهم للماضي بشكل كبير بتجاربهم الحالية والأداء الحالي للحكومة ومؤسساتها. والواقع أنه في أثناء عمله على التحول الديمقراطي في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، أظهر إيفكوفيتس أن الشباب قد يدعون تأييدهم للاستبداد لأنهم لم يعيشوا في ظل الاستبداد. ولأنهم لم يختبروا الاستبداد، فمن المرجح أن يكون لديهم توقعات أعلى للديمقراطية ومعلومات أقل عن تكاليف الاستبداد. وينطبق الأمر نفسه على الشباب التونسي الذي يشعر بخيبة الأمل من الانتقال الديمقراطي الذي فشل في تحقيق الأمن والاستقرار والازدهار الاقتصادي المُتأمَّل، ومن وعود الديمقراطية. وقد ينظرون بإيجابية إلى النظام الديكتاتوري السابق - وهو نظام قمعي لم تتح للكثيرين فرصة التعرف إليه بشكلٍ كامل.
ويتمثل التحدي في كيفية صياغة سرديات موحدة وعملية، ولكن تعددية في الوقت نفسه وقادرة على الاعتراف بالماضي من دون أن يصبح فخًا، وتتطلع أيضاً إلى المستقبل بوعي بأخطاء الماضي وإنجازاته على حد سواء. هذه هي المعضلة التي يمكن أن يكون فيها دور العدالة الانتقالية حاسمًا. تُشكل جهود البحث عن الحقيقة وحفظ الذاكرة فرصةً أساسية للعديد من الدول لمواجهة ماضيها المؤلم والتعلم منه كضمان لعدم التكرار. ومن المهم توثيق شهادات الضحايا وعائلاتهم، ومحاسبة المسؤولين عن تلك الانتهاكات، وتحدي أنظمة السلطة والامتيازات التي ساهمت في الانتهاكات.
وعلى الرغم من أن النهج الذي اتبعته تونس في تحقيق العدالة الانتقالية كان مخططاً بعناية ومحل إشادة دولية لكونه شاملاً وجامعاً، إلا أن مؤسسات العدالة السياسية والانتقالية المنشأة حديثاً كانت مثقلة بحجم العمل الذي كان عليها القيام به بما يتماشى مع النهج الشامل. ومع المزيد من التحولات في السلطة والتفضيلات السياسية، واجهت هيئة الحقيقة والكرامة تحديات متزايدة من المجال السياسي، ما قوض سلطتها. وببطء، تراجع هدف المساءلة شيئًا فشيئًا إلى أسفل جدول الأعمال السياسي، وأعاقت الاحتكاكات الداخلية بين أعضاء الهيئة أنفسهم أداءها وصورتها. وفي حين تمكنت الهيئة من تحقيق بعض الإنجازات على الرغم من التدقيق السياسي والإعلامي القاسي، بما في ذلك عقد جلسات استماع علنية، ونشر التقرير النهائي، من بين أمورٍ أخرى، إلا أنها فشلت في رفع الوعي العام وتسهيل عملية إعادة النظر في دور المواطنين والشباب تجاه أوجه عدم المساواة الهيكلية وموروثات العنف التي لا تزال قائمة حتى اليوم.
إن بناء الحنين إلى الماضي قائم دائمًا على ظهر نقيضه، أي النسيان. وتجد تونس نفسها محاصرة في "قافية خشنة ونشاز" تردد صدى الماضي نفسه الذي تسعى إلى الهروب منه. وفي حين لا يوجد اتفاق على أفضل السبل لمواجهة الماضي، إلا أن هناك اعترافًا مشتركًا بأن إرث الاستبداد لا يمكن تستر عليه ببساطة، كما كان الحال في تونس. إذ سمحت عملية العدالة الانتقالية المبتورة التي كانت مقيدة بمجموعة من العوامل من ضمنها النفعية السياسية، بازدهار الروايات الكاذبة عن النظام الاستبدادي في الإدراك العام وإدامتها من قبل النخب السياسية الرئيسية، ما خلق بدوره تهديدًا لترسيخ الديمقراطية الذي أصبح واضحًا في الوضع الحالي.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.