منذ فبراير 2022، أصبحت مسألة انعدام الأمن الغذائي، الناجمة عن الحرب الدائرة في أوكرانيا، قضية مركزية تحتل الصدارة في النقاش العام، حيث يتنامى فهم الناس بشأن خطورة حالة الاعتماد الغذائي التي تعاني منها تونس، التي تستورد أكثر من نصف احتياجاتها.
هذا الرقم المثير للقلق يعزز المخاوف، ولهذا الشعور بالذعر ما يبرره، لأن الإنتاج السنوي للمواسم الزراعية لا يُمّكن البلاد من التكيف الفوري مع الوضع في حالة توّقف هذه الواردات. يعتري نموذج الإنتاج الزراعي العديد من التناقضات، علماً بأن هذا النموذج لا يأخذ في الاعتبار التغيرات الديموغرافية التي شهدتها تونس بين 1984 و2014 (الإحصاء العام للسكان لعام 2014). على الرغم من ارتفاع حجم الاحتياجات الخاصة بالسكان الذين ارتفع عددهم من 7 إلى 11 مليونًا خلال هذه الفترة، لم تشهد مساحة أراضي الحبوب منذ عام 1984 تغيراً ملحوظاً. لقد اختارت الدولة التونسية زيادة حجم واردات الحبوب، والانسحاب تدريجياً من جمع المحاصيل لصالح القطاع الخاص.
إن الأزمة الناجمة عن الحرب في أوكرانيا حديثة العهد، وتندرج في سياق مسار طويل لا يمكن عزله عن الأزمات والنقص في التموين الذي عرفته تونس في الماضي. تعود أسباب حالة انعدام الأمن الغذائي الحالي إلى السياسات الزراعية والاقتصادية والاجتماعية المتبعة من قِبل الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال، وهي بدورها نتيجة مباشرة لنُظُم الغذاء العالمية. تواجه هذه الأنظمة ضرورتين زمنيتين متناقضتين: من جهة الحاجة الملحة إلى تلبية الاحتياجات اليومية الفورية، ومن جهة أخرى، أهمية اعتماد نموذج زراعي مستدام وعادل يحمي البلد من الأزمات البيئية والاجتماعية والسياسية المحتملة.
في هذه المقالة، سنبحث في التغييرات المهمة التي طرأت في العلاقة بالزراعة والغذاء، من حيث التبعيات التي يعاني منها البلد ومسألة السيادة في التاريخ الزراعي التونسي المعاصر.
السيادة الغذائية واقتلاع الفلاح من بيئته، والحصول على الحقوق: مسائل احتلت تدريجياً موقع مركزي ضمن جدول أعمال الناشطين منذ عام 2011
أثار توّقُف عملية التسويق من قِبل دولتين رئيسيتين من البلدان المصدرة للحبوب والمعادن والمحروقات، أسئلة أساسية، مرتبطة بمشكلة انعدام الأمن الغذائي، منها السيادة الغذائية، واقتلاع الفلاحين من بيئتهم ، والإصلاح الزراعي، إلخ.
في تونس، يحظى النقاش الخاص بالسيادة الغذائية منذ شباط/فبراير 2022 بمكانة رئيسية ذات أهمية ملحة بالنسبة لجماهير المواطنين ووسط وسائل الإعلام. يحدث هذا التطور في سياق تجري فيه منذ سنوات أعمال توثيق وأخرى تخص الذاكرة والعمل البحثي، مما يضع تونس ضمن حركة النضال العالمي من أجل السيادة الغذائية، ولا سيما حركة الفلاحين الدولية من خلال منظمة "فيا كامبيسينا | Via Campesina". نجد ضمن أبرز الجمعيات التي تخصصت في معالجة هذه القضايا: "مرصد السيادة الغذائية والبيئة" (منذ 2017)، و"فريق العمل من أجل السيادة الغذائية" (2019)، و"الجمعية التونسية للزراعة المستدامة" (2013)، و"الأرض والإنسانية" ... وفي هذا السياق تجرى بحوث في العلوم الاجتماعية الريفية بشكل تدريجي، تَجْمَع علماء الجغرافية وعلماء الاجتماع والمؤرخين من أجل القيام بتحليل تونسي وإقليمي معاصر، متعدد التخصصات ومنهجي (المنطقة العربية، بلدان الجنوب). في قلب هذا الفضاء الجديد الخاص بالبحث النشِط في تونس، يتم تشكيل رؤية للزراعة، تأخذ في الاعتبار أهمية سبل الوصول إلى الموارد وكرامة الفلاحين كعوامل أساسية للزراعة المسؤولة. هؤلاء الفلاحون، الذين يشكلون القاعدة الأساسية للغذاء واستمراريتنا في الحياة، لا تزال النخبة البرجوازية تعتبرهم كوابح تعرقل مسار الحداثة التي تطمح إليها تونس. ومن المفارقات المثيرة، أن سلطات البلاد تعتبر تعبئة الفلاحين، مصدراً من مصادر الإخلال بالنظام العام ومساساً بمصلحة البلاد.
على الرغم من تقاطع مسارات مختلف النضالات من أجل الحقوق والكرامة منذ الربيع العربي، بما قرّب المسافة بين سكان المناطق الحضرية والريفية في تونس، إلا أن التغيير لم يتحقق بعدُ ويطول انتظاره. ورغم هذه الصعوبة، بدأت تتشكل أدبيات جادة تحترم التاريخ والتجارب المتراكمة، بفضل مساحات البحث الجديدة هذه، وأضحت تملأ الفراغ الموجود. هذه الأدبيات كانت موجودة من قبل ولو بشكل متواضع، لكن أصبح صوتها أعلى ومسموعًا أكثر منذ الثورة. ودون تجاهل كل ما هو موجود في الماضي، تم توثيق قائمة المراجع ونشرها على الموقع الإلكتروني لمرصد السيادة الغذائية والبيئة (OSAE). وقد تم إعداد أشرطة وثائقية وأفلام وكتب وتقارير دراسية وبرامج التعميم، يمكننا في هذا الصدد الإشارة إلى الأفلام الوثائقية "التونسيون المتعطشون"؛ والكسكس: بذور الكرامة، وبراعم الربيع، والتقارير الميدانية لفريق العمل للسيادة الغذائية[8] GTSA.. سمح العرض في القاعات (دور السينما، الجامعات، الجمعيات) لهذه الأعمال بوصول صدى أصوات الفلاحين إلى المدن ووضع حد لنسيان العالم الريفي.
عندما يتعلق الأمر بدولة تستدين من جديد لتُسدد ديونها السابقة، يبدو الأمل في السيادة الغذائية مجرد خيالاً بالنسبة للبعض، وأمراً واقعيًا للآخرين. لكن إذا كانت هذه السيادة أمراً صعبًا في أوقات السلم، هل تصير ممكنة في أوقات الحرب؟ هل تنجح الزراعة التونسية في الانتقال إلى زراعة أكثر اهتماماً بالغذاء وأقل اهتماماً بالإنتاجية وفائض الإنتاج؟
السيادة الغذائية، التي تلوح في الأفق كضرورة ملحة وحالة طارئة، تقدم نفسها باعتبارها الرد المناسب على أزمة الغذاء الحالية، وهي بمثابة مسار يجب سلكه للتحرير من التبعية الغذائية وانعدام الأمن الذي يتكشف عقب كل أزمة.
لماذا السيادة الغذائية هي الحل؟ السياق الذي فرض هذا المفهوم واختلافه مع مفهوم الأمن الغذائي
الطابع الأول لنضال الفاعلين المحليين من أجل السيادة الغذائية، يكتسي بعداً دلالياً. هناك فارق معتبر بين المفهومين، فارق يؤثر على وضعية الزراعة والأغذية التي تتبعها. وهو ما تؤكد عليه منظمة "فيا كامبيسينا" (حركة الفلاحين الدولية) منذ 1996:

منظمة فيا كامبيسينا، مقتطفات من الموقع
عقب أزمة الطاقة وموجات الجفاف والمجاعة في سبعينيات القرن الماضي ، برز مفهوم الأمن الغذائي في مؤتمر القمة العالمي للأغذية وبدأ يفرض نفسه كأولوية. أصبحت الزراعة الآن تعتمد على إنتاجية المحاصيل وتكثيفها لإطعام أكبر عدد ممكن من الناس، من أجل مكافحة المجاعة في العالم. يتزامن ذلك مع ظهور الثورة الخضراء في البلدان النامية: إنها مقاربة تولي الأهمية للإنتاجية حصرياً، لنوع من الزراعة دون فلاحين. في تلك الفترة، ولسنوات عديدة، عمدت الدولة على توزيع البذور المهجنة مجانًا على المزارعين التونسيين، مثلما يوّضحه جلال، مزارع وابن مزارع، يعمل في مزرعة تعاونية بسيدي بورويس. ونتيجة ذلك، سرعان ما تخلى المزارعون، على نطاق واسع، عن البذور التي كان يستعملها الأجداد، وهو تحوّل بالغ الدلالة، يدفع باتجاه استعمال طرق بديلة، ويمثل وسيلة أخرى لتجريد المزارعين من استقلاليتهم (مقال نُشر على منصة حلول يعرض تاريخ إدخال هذه البذور في تونس).
منذ ذلك الحين، دعت الجهات الرسمية المعنية والمسؤولون التنفيذيون في وزارة الزراعة والتعليم العالي في الهندسة الزراعية إلى الترويج للحداثة التي تحقق في نظرهم وعود التنمية التي تطمح إليها البلاد. وقد أثر خطاب الحداثة الذي اعتمده بورقيبة في عقول الناس، وروّج له في خطاباته اليومية، إلى درجة ترسخ لديهم الاعتقاد بأن كل ما له صلة بالتقاليد هو مرادف لممارسات عفا عليها الزمن، وأصبح من الضروري استبدالها. في الحقيقة، هذه التحوّلات قد بدأت عملياً حتى قبل الاستقلال. أصبح المزارع التونسي مولع بالتقنيات الزراعية التي استخدمها المستوطنون، ووجد فيها نموذجاً يستلهم منه، ومال إلى تحديث طريقته في الزراعة، ومنذ ذلك الحين، لجأ إلى العمل الآلي في الأراضي التي يملكها، التي تظل مساحتها أصغر بكثير من مساحة الأراضي المستعمرة ، المحيطة بوادي مجردة.
حلّت المزارع الكبيرة والزراعة المكثفة محل زراعة الكفاف طيلة حكم الأنظمة المختلفة التي حكمت تونس، من العهد العثماني حتى يومنا هذا. والمعروف عن زراعة الكفاف الأسرية، أو زراعة الفلاحين، أنها على النقيض من الزراعة القائمة على الربح وتشكل في الوقت نفسه الأساس لتراث عريق من الممارسات وتراكم الخبرات التي لا يمكن أن توّفرها البذور الجديدة المستعملة. يمكننا على سبيل المثال، ذكر ممارسة شهيرة منتشرة بين جميع مزارعي القمح والشعير، المعروفة باسم "المتمورة"، وهي عبارة عن مخازن حبوب يتم حفرها في الأرض لتُخزن فيها البذور. كانت هذه المخازن تستخدم للاستهلاك والتكيف لمواجهة المواسم القاسية، وهي ممارسات موجودة أيضًا في المغرب أو الجزائر، لكنها ضاعت وتوّقف العمل بها خلال الثمانينيات. وبالنسبة لمحصول العام التالي، يحتفظ أخصائيو الانتقاء ببذور أفضل النباتات. لقد ساهمت هندسة الفلاحين هذه على مر القرون في انتقاء الأنواع الأكثر تكيفًا مع الأرض الأصلية، أي الأنواع التي توّفر مقاومة أكبر للتغيرات في كمية هطول الأمطار ودرجة الحرارة والأمراض. إلى جانب ذلك، تتطلب زراعة البذور المحلية كمية أقل من المياه، كما يوضحه زكريا هشمي، المزارع من واحة شنيني قابس حيث تستمر ممارسة الزراعة الإيكولوجية. وقد اشتهر زكريا بكفاحه من أجل إنقاذ بذور المزارعين واحترام نمط حياة الفلاحين.
باستخدام تقنية البذور، يجد المزارع الآن نفسه في نهاية دورة الإنتاج في وضع المستهلك لا أكثر.

دورة إنتاج البذور
منذ أن حدثت هذه التحوّلات الكبرى، وجد المزارعون أنفسهم في حالة تبعية تامة للشركات التي توّفر عبوات المواد الخاصة بالزراعة: البذور والأسمدة والمبيدات الحشرية، حتى أصبحت الثمرة النهائية مرادفًا لمُنتج جاهز للزرع، خالٍ من جوهره الأصلي. حالياً، 50٪ من إنتاج البذور العالمي تتحكم فيه ثلاث شركات متعددة الجنسيات: Syngenta وMonsanto وDupont-Pioneer. وبعد تجريد المزارعين من استقلاليتهم وخداعهم بوعود الإثراء والتنمية، فقدوا السيطرة على عملهم، واضطروا إلى التكيف مع أسعار السوق.
وإلى ذلك تضاف مشاكل إدارة الأراضي الزراعية، والنظام القانوني المزدوج الذي أدى إلى تجزئة الأرض. ونظراً للحد من حقوقهم في ملكية الأرض، يضطر المزارعون إلى الإيجار السنوي لزراعة الحبوب وأحيانًا لتربية المواشي. يتعلق الأمر دائمًا بمساحات زراعية صغيرة، بضعة هكتارات لا أكثر، لا تتيح أي إمكانية للتوسع. استناداً إلى شهادة أمين، المزارع البالغ من العمر 25 سنة، من الكريب، يُسجل أن المزارعين المتزايد عددهم، يفضلون تربية الماشية أو زراعة محصول واحد، الزيتون تحديداً، على زراعة الحبوب. كما أن تربية المواشي من جهة أخرى، تدر عليهم ما معدله 2000 دينار شهرياً، ويتفاوت هذا المبلغ وفق أسعار العلف (الحلفاء) والبيع.

الكمية اليومية من إنتاج الحليب
(سجل الكميات اليومية المباعة من قبل مربي الماشية)
العودة إلى الأساسيات
تذكرنا الأزمة الحالية بما يجب أن تكون عليه أولويتنا الجماعية، وكما يوّضحه الفيلسوف إدغار موران، "من فرط تضحيتنا بالأمور الضرورية لتلبية الأمور الاستعجالية، انتهى بنا الأمر إلى نسيان معنى وحقيقة الضرورة المُلحة". لقد تم الاستهتار بالضروريات مقابل تقديم الحلول قصيرة المدى التي ساهمت في التغطية على أزمة الغذاء منذ ظهور أعراضها الأولى. بالفعل، أدى اختيار نموذج زراعي قائم على الأمن، على حساب زراعة تتمحور حول الغذاء، إلى وضع معقد: فقدان البذور المحلية، تبعية غذائية متعاظمة، واقتلاع الفلاحين من محيطهم، على نحو لا رجعة فيه. وبعد مرور خمسين عامًا على قمة الغذاء، لا يزال الناس يعانون من المجاعات وانعدام أمن غذائي، يشمل سكان الأرض برمتها، إلى جانب فقدان تراث جيني كبير (اختفاء 75٪ من أصناف البذور خلال القرن الماضي وفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة (الفاو). الحصيلة واضحة: الأمن الغذائي، مفهومٌ أفقر نظامنا الغذائي، من خلال حرمان المستهلك من إمكانية اختيار نوعية ما يتناوله من طعام ويقلل من الثراء الجيني الموروث عبر ملايين السنين من التطور وآلاف السنين من الممارسات الزراعية.
انطلاقاً من هذه القاعدة، نشأت حركة الكفاح من أجل السيادة الغذائية في العالم، وفي المناطق والبلدان، والتي تعمل على إعادة استعمال البذور، ومراجعة التشريعات الخاصة بالبذور، وإعادة تأهيل التربة، وإعادة تعلم كيفية ممارسة الزراعة، وتغيير أنماط الإنتاج، وهذا في سياق التغيرات المناخية الوشيكة. يجب بذل الجهود بشكل جماعي، بين البلدان ولكن أيضًا بين المزارعين حول العالم والباحثين والفاعلين الاجتماعيين.
ما الذي تغير؟
لا يتوّقف الأمر عند مجرد مشاعر الحنين إلى حقبة رومانسية لا تزال غير موثقة بشكل كافٍ في تونس، وتخص فلاحين هم أسياد مصيرهم يتحكمون في بذورهم وأرضهم والمياه الوفيرة؛ بل أصبحت العودة الى الزراعة المسؤولة مسألة تُناقَش اليوم باعتبارها شيء ممكن.
نشهد حالياً جمعيات مختلفة تطرح قضايا حيوية، مثل سبل الوصول إلى الأرض والمياه وبذور الفلاحين والسيادة الغذائية. هناك أيضاً طفرة من الحركات الاجتماعية الريفية التي تقترب من الحركات الظاهرة في الأحياء الهامشية بتونس وصفاقس والتجمعات السكنية المتولدة عن الهجرة الريفية في القرن الماضي.
إن موجات الربيع العربي في تونس نابعة أصلاً من المناطق الريفية: ما تعرض له البوعزيزي من ظلم مرتبطٌ في المقام الأول بحادثة تجريده من ملكية أرضه ومديونيته للبنك الزراعي الوطني . يدمج النضال من أجل السيادة الغذائية المفاهيم التي ظهرت بعد 2011 في الفضاء العام، من قبيل الكرامة، والحقوق، والعدالة ... ويُلاحظ أيضاً في التظاهرات التي جابت شوارع تونس رَفْع شعارات مسانِدة للمزارعين: مثل حركة #الجيل الخطأ | #WrongGeneration تضامناً مع حركة #أولاد جبالة | #OuledJeballah كما هو موّضح في الصور أدناه. وكان أولاد جبالة قد تظاهروا ضد ارتفاع أسعار الأعلاف الحيوانية، ونقص الأسمدة التي أثرت بشدة على موسم الحصاد في عام 2021.

تعبئة الدعم من حركة #الجيل الخطأ إلى #أولاد جبالة
رغم وجود نقابات مثل Synagri وUTAP، يعاني المزارعون من تجاهلهم وغياب التمثيل النقابي لهم: فالنقابات القائمة لا تمثل مصالح صغار المزارعين. وفي ظل غياب عملية الإحصاء الزراعي (بيانات وخريطة زراعية)، هناك غياب رؤية واضحة تشمل مختلف المهن المرتبطة بالمزارعين، مما يعقد عملية التشخيص ويجعلها تستغرق وقتاً طويلاً بالنسبة للفاعلين الاجتماعيين، مثلما يوّضحه وسيم العبيدي من فريق العمل المعني بالسيادة الغذائية.
بالفعل، نظرًا لندرة الأدبيات المهتمة بهذا الموضوع، غالبًا ما تجرى عمليات المسح والبحث الميداني بأثر رجعي ضئيل للغاية في المرحلة الأولى. وانطلاقاً من شح الموارد الوثائقية، ينظم الفاعلون الاجتماعيون مجموعات بحثية في عين المكان، برفقة المزارعين أنفسهم لفهم الوضع الميداني بشكل أفضل. وقد بدأ هذا العمل النوعي الخاص في الأراضي الزراعية بالغة التنوّع في تونس في إضفاء بعدٍ أعمق على عملية التشخيص التقني الخالص للزراعة، على غرار ما اعتدنا عليه من قبل. في إطار هذه السياقات الجديدة للتحليل والتوثيق، بدأ يتشكل سردٌ جديد (يدمج التضامن الدولي والوعي الطبقي): تعددية التخصصات، والعودة إلى العلوم الاجتماعية، والحصول على الحقوق السياسية، كل ذلك أصبح من العناصر التي تسهم في هذا المجهود.
من منظور هؤلاء الباحثين والناشطين، يميل هؤلاء الخبراء والفنيين إلى شيء من التبسيط والتساهل في اختزال تحليلهم للهشاشة التي تعاني منها زراعتنا، وحصر أسبابها في العوامل البيئية أو حتمية العوْلمة، محاولة منهم لنفي المسؤولية السياسية عن المعنيين بهذا القطاع. وسرعان ما أصبحت مصطلحات "حالة الضيق الناجمة عن شح المياه"، و"التغيرات المناخية"، نوعاً من التضخيم اللغوي، لأن أصل ندرة المياه (والمشاكل البيئية بشكل أعم)، يعود سببه للتسيير العقيم من قبل الدولة للموارد، وهذا هو أساس المشكلة الرئيسية.
إن اختيار نوعية المحاصيل، والإصرار على استخدام الري في الأراضي الصحراوية، والاستغلال المفرط للمياه الجوفية لري المحاصيل الموجهة للتصدير، كلها أمثلة ملموسة تدل على سوء إدارة الموارد، بل والافتقار إلى السيادة على هذه الموارد نفسها. إن السياسات الزراعية الحالية مستمدة إلى حد كبير من إرث الاستعمار الذي عدل النظام الجمركي خصيصاً لتفضيل خيار الصادرات ... في عام 1904، سمح الاتحاد الجمركي بسن قوانين للإعفاء الضريبي على تصدير القمح والإعفاء من الضرائب على الفواكه التي تنضج قبل أوانها. وكانت فرنسا آنذاك تحتاج بشكل خاص إلى القمح، الأمر الذي جعل سياساتها تُوّجه نحو الزراعة التي تحقق أكبر محصول ممكن.
انخفاض النمو كبديل
إن انخفاض النمو هو مفهومٌ يستدعي بذل جهد جماعي لإعادة التفكير في أنماط استهلاكنا ويخص في المقام الأول البلدان الصناعية. إنه إطار جد مناسب، قادرٌ على جمع الجهود من أجل العودة إلى أسلوب حياة أكثر عدلاً.
اعتمدت البلدان التي عاشت أزمات سياسية وأزمات غذائية كبيرة وحظر اقتصادي أسلوب الانتقال إلى السياسة الزراعية الأنسب لأراضيها واحتياجات سكانها، مثل حالة إيران أو كوبا التي انخفض فيها معدل سوء التغذية من 21.9٪ إلى 5٪ خلال تسعينيات القرن الماضي.
تشكل جمهورية كوبا المثال الأكثر شعبية في مجال السيادة الغذائية في تونس (كلنا يتذكر صورة تجنيد قوافل الأطباء الكوبيين خلال ذروة الوفيات في إيطاليا في عام 2020). إن حسن تدبير وتسيير الأراضي يضمن للمزارعين إمكانية زراعة أراضيهم دون الحاجة إلى إعادة بيعها ودون تراكم رأس المال. لكن في طريقها للانتقال إلى الزراعة الإيكولوجية (أو الزراعة البيئية)، لم تتحرر الدولة كلية من قبضة المرحلة الصناعية: لا تزال الدولة تحتفظ بحقول خاصة بالزراعة الأحادية، لكن تجدر الإشارة مع ذلك إلى أن الزراعة الإيكولوجية، التي بلغت نسبتها 25٪ من الأراضي، تنتج 65٪ من الغذاء . هذه المؤشرات الملموسة تدفعنا إلى الاعتقاد بأن السيادة الغذائية، التي تندرج ضمن نموذج تراجع النمو، ليست مجرد حلم طوباوي بل تمثل الخيار الأكثر واقعية في مواجهة نموذج تكشفتْ عيوبه، غير أن الطريق ما زال طويلاً ويتطلب بذل مزيد من الجهود، كما هو الحال بالنسبة للبذور: حتى وإن كانت جمعية الزراعة المستدامة التونسية تنظم كل عام بالتعاون مع المزارعين، مهرجانًا للبذور، تظل هذه الممارسة مع ذلك غير قانونية: اضطر حافظ كرباع من المنستير، يوم 7 نيسان/أبريل 2022 وخلال أسبوع كامل، إلى وقف توزيع البذور الفلاحية بالمجان والتخلص من البذور التي بحوزته. وبعد ظهوره لأول مرة في نشرة أخبار الثامنة مساءً على القناة الوطنية، قدم شهادته على "أمواج إذاعة شمس"، وصرح بأنه مُنِع من مواصلة مشروعه. توجد التشريعات الخاصة بالبذور في جميع البلدان، وهي بمثابة هيئات رقابة تابعة للشركات متعددة الجنسيات التي تتمتع بالشرعية لمنح الكائنات الحية وضع غير قانوني. القانون رقم 99-42 المؤرخ في 10 أيار/مايو 1999 يشكل النص القانوني الذي يحكم استخدام البذور والملكية الفكرية في تونس، وينص في العنوان الرابع الخاص بالجرائم والعقوبات، في الفصل 44 على أن الغرامة يمكن أن تصل إلى 50,000 دينار. و"في حالة العودة إلى [الجريمة] ترفع العقوبات المنصوص عليها في الفصلين 43 و44 [...] إلى ضعفها".
الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، والزراعة المستدامة، وإيكولوجيا الزراعة، والحراجة الزراعية ... كلها طرق مناسبة للزراعة التي تأخذ في الاعتبار استدامة الممارسات والنظم البيئية. رغم ممارستها بطريقة معزولة، فإنها تحمل مع ذلك، وعوداً برفع مستوى الكفاءة في مجال استخدام الموارد وتشكل وسيلة لتمكين المزارعين، خاصة فيما يتعلق بمُعَوقات المياه والأرض. لكن بالنسبة للباحثين والناشطين، إذا كانت الحلول متوفرة، ينبغي قبل ذلك، معالجة المشاكل الهيكلية المتعلقة بالحصول على الأرض. على الرغم من أن حقوق ملكية الأراضي للمزارعين أمر مفصول فيه ولا يمكن إنكاره، إلا أن توزيع الأراضي المملوكة للدولة لا يمنح المزارعين المعدمين، الأولوية. أصبح الإصلاح الزراعي ضروري بالنسبة لتونس، وانطلاقاً من هذا التغيير يمكن تحسين وضعية آلاف الفلاحين، ويمكن تصوّر تجربة ميدانية تسمح بإنتاج زراعي مستدام، يلبي الاحتياجات المحلية.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.