ينشر هذا التقرير بالشراكة مع مؤسسة هاينريش بول - مكتب الشرق الأوسط
مقدمة | مشاكل إدارة النفايات في لبنان: لمحة عامة موجزة
منذ عام 1994، اعتمدت سياسة إدارة النفايات في لبنان على تطبيق سلسلة من خطط الطوارئ، جرى تنفيذ كل منها على نحو جزئي واتسمت بسوء التنفيذ، واستمر العمل بها واعتمادها إلى حين ظهور أزمة جديدة. وفي غياب أي تدابير للانتقال إلى التخطيط المستدام على المدى الطويل، تكبد المواطنون تكاليف مالية باهظة بسبب هذه الحلول المحلية الطارئة لأزمة النفايات التي طال أمدها، فضلاً عن الآثار السلبية على البيئة والصحة والسلامة.
يدفع المواطنون اللبنانيون ثمناً باهظاً لإدارة النفايات الصلبة. إذ ينفق لبنان 154.5 دولار لإدارة كل طن من النفايات الصلبة، مقارنة بالجزائر والأردن وسوريا التي تنفق 7.22 دولار و22.8 دولار و21.55 دولار على التوالي (هيومن رايتس ووتش، 2020). واحتل قطاع النفايات الصلبة المرتبة الأولى من حيث الإنفاق الحكومي المتعلق بالبيئة في لبنان، وبلغ إجمالي الإنفاق 647 مليون دولار بين عامي 1998 و2008 (شريف عريف وفادي دوماني، 2014). في حين بلغت النفقات على إدارة النفايات الصلبة 2.2 مليار دولار بين عامي 1996 و2015 (عقيقي، 2019).
على الرغم من هذه النفقات الباهظة، بلغت كلفة التدهور البيئي من قطاع النفايات الصلبة نحو 66.5 مليون دولار (0.2% من الناتج المحلي الإجمالي الوطني) في عام 2012 (عريف ودوماني، 2014)، وارتفعت إلى 200 مليون دولار (0.4% من الناتج المحلي الإجمالي) في عام 2018 (وزارة البيئة اللبنانية، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 2019). حتى الآن، يتم استرداد حوالي 20% من النفايات، 6% منها فقط تصل إلى مرافق إعادة التدوير، و36% يتم طمرها، و44% يتم التخلص منها في حوالي 940 مكبّاً عشوائياً منتشراً في جميع أنحاء البلاد (وزارة البيئة اللبنانية، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، اليونيسف، 2020).
في الوقت نفسه، حققت الشركة الخاصة التي تم تلزيمها منذ عام 1994 جمع ومعالجة النفايات في معظم أنحاء لبنان (بيروت وجبل لبنان) -شركة سوكلين (جزء من مجموعة أفيردا) - إيرادات سنوية تجاوزت 170 مليون دولار، وهو ما يُعد أحد أعلى عائدات إدارة النفايات في العالم (شعبان، 2016). فقد احتكرت شركة سوكلين إدارة النفايات في بيروت وجبل لبنان منذ التسعينيات، عندما فازت بعقد لبناء واختبار وتشغيل محرقة للنفايات تقع في منطقة العمروسية. بيد أن العمل في هذا الموقع لم يدم طويلاً حيث أحرق الأهالي الغاضبون المنشأة في عام 1996، ولكن من خلال عقود أخرى، تمكنت سوكلين من معالجة حوالي 50% من النفايات المنتجة على الصعيد الوطني، وقدمت خدماتها لما يقارب الـ 400 بلدية (شعبان، 2016). وقام مجلس الإنماء والإعمار بتجديد عقد الشركة ثلاث مرات دون طرح مناقصات عامة. ومع كل مرة يُجدد فيها العقد، زادت رسوم جمع ومعالجة النفايات، التي تسدد جميعها باستخدام التحويلات من الصندوق البلدي المستقل، وهو نظام منح حكومي يوزع الضرائب والرسوم المخصصة للبلديات.
لم تؤت الخطط المتعاقبة للإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة ثمارها أبداً في الأعوام 2006 و2010 و2014 و2015 و2019. بل واستمر احتكار شركة سوكلين في بيروت وجبل لبنان، حيث أدارت الحكومة المركزية عقودها وليس البلديات. وفي الوقت نفسه، في مناطق أخرى، أدارت البلديات واتحادات البلديات نفاياتها باتباع نهج لامركزي، مع توجيه المساعدات الدولية لتمويل محطات المعالجة الميكانيكية البيولوجية التي تضم وحدات لفرز النفايات وتحويلها إلى أسمدة، وتحقيق معدلات منخفضة لمنع وصول النفايات إلى المطامر والمكبات العشوائية (قزي، 2017).
يجب فهم السياسات غير الملائمة لإدارة النفايات في لبنان في سياق المشهد العام لصنع السياسات، الذي يتجسد في "سياسة الإقصاء" (كارمن جحا، 2021). ويتمثل أحد أبعاد الإقصاء في الإفلات من العقاب، إذ يمكن أن تمر السنوات دون وجود خطة للإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة، ويمكن ارتكاب الجرائم البيئية دون التعرض لأي مُساءلة قانونية على الإطلاق. كما يتسبب النظام السياسي الذي يعزز المحسوبية في التوظيف والتعيينات في المؤسسات الحكومية، لا سيما في المؤسسات الرقابية (مكتب التفتيش المركزي، وديوان المحاسبة، من بين هيئات أخرى) وعدم استقلال القضاء، في إضعاف المُساءلة. فعلى سبيل المثال، لم تتمكن عدة قرارات قضائية من الحيلولة دون تشييد وتوسيع مطمري برج حمود وكوستا برافا، على الرغم من عدم موافقة وزارة البيئة على دراسات تقييم الأثر البيئي التابعة لهذه المطامر ومخالفتها للقوانين المرعية الإجراء.
أما البعد الثاني للإقصاء يتمثل بإعطاء شرعية للغير شرعي . إذ إن مؤسسات الدولة والبرلمان ومجلس الوزراء ليست الأماكن التي تُتخذ فيها القرارات. واتخاذ القرارات الاستراتيجية رهن إرادة أمراء الحرب الطائفيين (الزعماء) أو قادة الأحزاب. وهذا يجعل من الصعب تحقيق المُساءلة. على سبيل المثال، لم تستند قرارات إنشاء ثلاثة محارق للنفايات إلى الأسس العلمية أو الجدوى الاقتصادية أو الحاجة الفعلية، بل على أساس الحصص والتوزيع الطائفي لمرافق الدولة. علاوة على ذلك، عندما وافق مجلس الوزراء على خارطة الطريق لإدارة النفايات في عام 2019، أعطى الأحزاب السياسية مهلة عدة أيام لاختيار مواقع المحارق جنوب بيروت، بدلاً من اعتماد معايير علمية لتحديد مواقع المحارق (موقع "نافذة العرب"، 2019).
أما البعد الثالث لسياسات الإقصاء هو انتشار الفساد. إذ يتعامل السياسيون مع المناصب والموارد العامة على أنها أملاكهم الخاصة ويستخدمونها لأغراض الزبائنية. وليس لديهم مصلحة في أي محاولة للإصلاح ولن يستفيدوا منها (كارمن جحا، 2021). فعلى سبيل المثال، كان الدافع وراء قرار اعتماد حرق النفايات، على الرغم من عدة تقارير تفيد بأنه ليس الحل الأفضل للبنان (الاتحاد الأوروبي؛ مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية، 2018)، الأرباح الخاصة التي حققها بعض السياسيين من التعاون مع القطاع الخاص. ويعتقد الكثيرون أن جزءاً كبيراً من عائدات شركة سوكلين كان يُنفق على تقديم الرشاوى إلى القادة السياسيين لضمان "استمرار الأعمال بسلاسة " (شعبان، 2016). وغالباً ما يشير منتقدو الشركة إلى علاقتها القوية بعائلة الحريري كمثال على الفساد والمحسوبية داخل لبنان (مركز معارف المجتمع المدني، 2016).
أدى الفساد المقترن بالإهمال وعدم الكفاءة إلى استمرار سوء إدارة النفايات، مما أدى إلى تفاقم انعدام ثقة المواطنين في الدولة وكذلك القطاع الخاص. وأدى التخلص من 80-90% من النفايات وطمرها دون معالجة، وحرقها في الأماكن المفتوحة، والروائح المنبعثة من مكبّات النفايات البحرية ومحطات تسبيخ النفايات ، والفشل في معالجة العصارة الناتجة عن مطامر النفايات إلى تفاقم ظاهرة "ليس في عقر داري(نيمبي)، حيث عارض السكان بشدة إنشاء مرافق لإدارة النفايات الصلبة في مناطقهم.
وفي ظل استمرار سوء إدارة النفايات، نظم المجتمع المدني العديد من حملات المناصرة على مر السنين للضغط من أجل اتباع ممارسات أفضل في هذا القطاع.
يتناول هذا البحث تطور الجهات الفاعلة في المجتمع المدني ودورها وحملات المناصرة المتعلقة بإدارة النفايات الصلبة منذ بداية أزمة النفايات عام 2015. ويتطرق إلى التنظيم واستراتيجيات المناصرة والأدوات والتحديات وخرائط الطريق المعتمدة والدروس المستفادة من هذه الحركات والتحالفات، باستخدام تحليل مقارن بين "الحراك" الذي نشأ خلال أزمة النفايات عام 2015 و"ائتلاف إدارة النفايات" الذي تشكل عام 2017 في مواجهة استمرار سوء إدارة النفايات وخطط الحكومة لاعتماد حرق النفايات.
كانت الوسيلة الرئيسية لجمع البيانات لهذا البحث هي ملاحظات المشاركة في الاحتجاجات والاعتصامات والأنشطة (مع الأخذ بعين الاعتبار أن مؤلفة البحث هي عضوة في "ائتلاف إدارة النفايات")، بالإضافة إلى الاتصالات الشخصية مع الناشطين، واستعراض الدراسات الموجودة حول هذا الموضوع ومصادر إعلامية ثانوية. ويستند هذا البحث أيضاً إلى مقابلات ومناقشات غير رسمية مع جهات فاعلة في "الحراك" و"ائتلاف إدارة النفايات". وتم تقديم النتائج الأولية خلال ورشة عمل حضرها أعضاء المجالس البلدية ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات الدولية والباحثون لتقييم آرائهم حول النشاط وحملات المناصرة بدءاً من الاحتجاجات التي بدأت عام 2015 حتى الآن.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.