مقدمة
عانت مصر خلال السنوات الممتدة من عام 2022 حتى عام 2024 من أزمة ديون سيادية عميقة، امتدت تأثيراتها المختلفة إلى جميع قطاعات الاقتصاد المصري. وأدت الأزمة، ومدفوعات الديون المرتفعة خلال السنتين الماضيتين، إلى شحّ الدولار، وما تبعه من تخفيضات متتالية للعملة، وأزمة حادة في الواردات، أدت إلى ارتفاع التضخم إلى مستويات قياسية تخطت الـ40% على أساس سنوي في يونيو/حزيران 2023. تعد أزمة المديونية نتاجاً مباشراً لسياسات الاقتراض المكثف التي بدأت في مصر بعد عام 2016 وتجذرت بشكلٍ كبير بعد تخفيض العملة، في نوفمبر/تشرين الثاني 2016. وبسبب هذا التخفيض أصبحت السندات المصرية وأذون الخزانة أكثر جاذبيةً لرأس المال الدولي، خصوصاً بالنسبة إلى مستثمري المحفظة أو الأموال الساخنة، ما عرّض مصر بشكلٍ مستمر إلى خروج تلك الأموال، بالإضافة إلى المتغيرات على الصعيد العالمي. عانت مصر من ثلاث أزمات لتخرج مستثمري الأموال الساخنة: الأولى عام 2018 مع رفع البنك الفيدرالي أسعار الفائدة، والثانية عام 2020 مع الموجة الأولى لانتشار كوفيد 19، وحالة انعدام اليقين حول مآل الاقتصاد العالمي في تلك الفترة. وكانت الثالثة عام 2022، بعد الحرب الروسية الأوكرانية التي كانت بمثابة المسمار الأخير في نعش الاعتماد على الأموال الساخنة لإبقاء سعر الصرف في مستويات مقبولة، والحفاظ على معدلات التضخم بالتبعية في نطاق مقبول.
بدأ نطاق الأزمة يتسع في نهاية عام 2021 بسبب مدفوعات الديون المصرية، إذ قفزت أقساط الدين من دون الفوائد من 10 مليارات تقريباً عام 2019، إلى نحو 21.7 مليار عام 2022، بحسب بيانات البنك المركزي. خلال السنوات الثلاث، منذ بداية عام 2021 وحتى نهاية عام 2023، كانت مصر في أشد الحاجة إلى الدعم الخليجي الذي تأخر كثيراً، خصوصاً لأسباب سياسية، فكانت الاستقلالية النسبية التي حاولت مصر أن تصوغ بها سياستها الخارجية تجاه ملف ليبيا على سبيل المثال، على الجانب الآخر من دعم الإمارات، المستثمر الأكبر في مصر. كما انشغلت المملكة العربية السعودية في تبعات مقتل الصحافي جمال خاشقجي وتأثيرها على العلاقة مع الولايات المتحدة، وملف الحرب في اليمن الذي اتخذت فيه مصر موقفاً محايداً بشكلٍ كبير بعدم التورط بشكلٍ مباشر في الحرب.
لكن بحلول عام 2022 كانت مصر في أشد الحاجة إلى الإنقاذ المالي للسيطرة على تبعات أزمتها الاقتصادية. فبدأت في نهاية عام 2021 التفاوض مع صندوق النقد الدولي وغيره من الشركاء الإقليميين، حول خطة إنقاذ مالي كبيرة. لكن صندوق النقد أقرّ فقط قرضاً بقيمة 3 مليارات دولار مع بداية عام 2023، وألزمت اتفاقية القرض الحكومة بجمع نحو 14 مليار دولار أخرى عبر عدد من التمويلات الأخرى، وبيع عدد من الأصول المملوكة للدولة، كجزء من مطالب صندوق النقد الدولي، وتأمين الدعم الخليجي. لكن عملية تأمين الدعم الخليجي لم تكن سهلة، فتعطلت الكثير من صفقات الاستحواذ الخليجية المفترضة على عدد من الشركات.
تأخر الدعم الخليجي بقدرٍ ما خلال عام 2023، وهي السنة التي اشتدت فيها الأزمة الاقتصادية، لكنه جاء في النهاية في فبراير/شباط عام 2023 بصفقة رأس الحكمة التي ضمنت تدفقات دولارية جديدة للحكومة المصرية تقدر بـ24 مليار دولار، بالإضافة إلى تنازل الإمارات عن 11 مليار دولار، وهي جزء من ودائعها في البنك المركزي المصري.
في هذه الورقة التي تنطلق من التأكيد على الطبيعة المزدوجة (السياسية والاقتصادية) للدعم الخليجي، وتحديداً بعد عام 2013، نسعى إلى الإجابة عن سؤال الدعم الخليجي من خلال النظر إلى الخليج نفسه ومنطلقاته في هذا الدعم، الاقتصادية والسياسية معاً. ستحاول الورقة رسم صورة أوسع للاستثمارات الخليجية في مصر، ودورها في ربط الاقتصاد المصري، خصوصاً بالنسبة إلى القطاع الخاص المصري في الخليج. وكيف تؤثر طبيعة التراكم الرأسمالي في البلدين الخليجيين الكبيرين السعودية والإمارات العربية المتحدة، على هيكل الاقتصاد المصري بشكلٍ عام.
سنعرض في القسم الأول صفقات الاستحواذ الأخيرة، ولماذا تهتم السعودية والإمارات بالاستحواذ على تلك النوعية من الأصول؟ ولماذا تأخر الدعم المالي الكبير، المتمثل في صفقة رأس الحكمة، وكيف حدث في النهاية؟
وفي القسم الثاني، سنستعرض العلاقة المركبة بين الرأسمالية في مصر، والرأسمالية في الخليج. وكيف تعمق الارتباط العضوي بين الرأسمالية في مصر والخليج خلال العقد الماضي، عبر هيكل التراكم الاقتصادي في المنطقة ككل الذي لعب الخليج دوراً مهماً خلاله عبر فوائض البترول. ويبحث القسم الثالث في ما تهدف المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة إلى كسبه من عمليات الاستحواذ هذه.
الاستحواذات الأخيرة (أبريل/نيسان 2022 – أبريل/نيسان 2024)
بدأت موجة الاستحواذات الأخيرة من قبل الصناديق السيادية الخليجية في أبريل/نيسان 2022، بشراء شركة أبو ظبي القابضة، إحدى الشركات التابعة لصندوق أبو ظبي السيادي، حصصاً في 5 شركات مصرية مدرجة في البورصة المصرية، في صفقة نُفّذت خلال يومٍ واحد في البورصة المصرية. شملت الاستحواذات حصة 32%من "شركة الإسكندرية لتداول الحاويات والبضائع" بقيمة 186 مليون دولار، وحصة الحكومة في "فوري للمدفوعات الرقمية" قدرت بـ12%، بقيمة 68.6 مليون دولار. واستحوذت "أبوظبي القابضة" على 18.5% من البنك التجاري الدولي، عبر صفقة بلغت قيمتها 911 مليون دولار. وهي الحصة التي كان يملكها مصرفا الأهلي ومصر، أكبر المصارف الحكومية المصرية. واشترت "إيه دي كيو" أيضاً جزءاً من حصة وزارة المالية في "شركة موبكو للأسمدة" بنسبة 20% وبقيمة 266.6 مليون دولار، وحصة بنك الاستثمار القومي في "شركة أبو قير للأسمدة"، البالغة %21.52، بقيمة 391.9 مليون دولار.
أثارت الموجة الأولى من الاستحواذات انتقادات كثيرة من الخبراء الماليين، بسبب الوضع المتدني لقيمة الأسهم لانخفاضها بشكلٍ كبير في البورصة. وهي الأسعار التي نُفذت على أساسها غالبية صفقات الاستحواذات، وكان الرد عليها بالحاجة العاجلة إلى الدولار لمواجهة أزمة نقص العملة الحادة.
بدأت في أغسطس/آب 2022 موجة أخرى من الاستحواذات السعودية، نفذت خلالها "الشركة السعودية المصرية للاستثمار"، وهي شركة تابعة لصندوق الاستثمارات العامة السعودي، الاستحواذ على عدد من الشركات المصرية شملت 25 %من شركة "إي فاينانس للاستثمارات المالية والرقمية"، و19.82% من "شركة أبو قير للأسمدة والصناعات الكيماوية"، و 25% من "موبكو للأسمدة"، و20% من "الإسكندرية لتداول الحاويات".
وفي يونيو/حزيران 2023، أعلنت "أبوظبي القابضة" استحواذها على حصص في ثلاث شركات مصرية أخرى، هي "شركة الحفر الوطنية" التي استحوذت على 25% منها مقابل 330 مليون دولار، ونحو 30% من "شركة إيثيدكو"، بالإضافة إلى 35% من شركة "المصرية لخطى البنزين والألكيل" (إيلاب). لم تكن الشركات الثلاث مدرجة في البورصة، لكنها ضمن صندوق "ما قبل الطروحات" الذي أنشأه الصندوق السيادي المصري بهدف تجهيز الشركات قبل طرحها في البورصة، ويلعب في المرحلة الحالية من الاستحواذات، دور الوسيط بين الشركات الخليجية والحكومة المصرية.
يوضح الجدول الآتي الشركات التي استحوذت عليها الصناديق السيادية السعودية والإماراتية، وهي لا تشمل صفقات الاستحواذ التي قامت بها شركات القطاع الخاص الخليجي.
جدول 1: استحواذات الصناديق السيادية السعودية والإماراتية الأخيرة
إجمالي حصة السعودية + الإمارات (بالمليون دولار) |
المتبقي من الحصة الحكومية |
الإمارات
صندوق أبوظبي السيادي والشركات التابعة له |
السعودية
الشركة السعودية للاستثمار |
الشركة |
771 |
38.22% |
21.5% من الشركة مقابل 393 مليون دولار |
19.8% من الشركة مقابل 379 مليون دولار. |
أبو قير للأسمدة |
636 |
40 % |
20%مقابل 266 مليون دولار |
25% مقابل 370 مليون دولار |
مصر لإنتاج الأسمدة موبكو |
68.5 |
22.3 |
12.6% من أسهم الشركة مقابل 68.5 مليون دولار |
--- |
فوري |
911 |
-- |
18% مقابل 911 مليون دولار |
----- |
البنك التجاري الدولي |
315 |
42% |
32% مقابل 159 مليون دولار |
20% مقابل 156 مليون دولار |
الإسكندرية لتداول الحاويات |
391 |
35% |
--- |
25% مقابل 391 مليون دولار |
إي فاينانس |
330 |
غير معروف |
25% مقابل 330 مليون دولار |
-- |
الحفر الوطنية المصرية |
170 |
غير معروف |
35% مقابل 170 مليون دولار |
-- |
إيلاب |
380 |
غير معروف |
30% مقابل 280 مليون دولار |
-- |
إيثديكو |
3.9 مليارات دولار |
|
2.6 مليونا دولار |
1.3 مليون دولار |
المجموع |
بحسب قيمة الصفقات الأخيرة، كانت الإمارات، عبر صندوق أبو ظبي السيادي وغيره من الشركات التابعة، الأكثر نشاطاً في عمليات الاستحواذ. يمكن أن يرجع ذلك إلى درجة التنويع الاقتصادي الكبيرة الموجودة في الإمارات مقارنةً بالمملكة العربية السعودية التي بدأت مؤخراً في تفعيل استراتيجية التنويع الاقتصادي. لكن السبب الأكبر في الاهتمام الإماراتي، هو طبيعة الأصول التي طُرحت للبيع، ودرجة الارتباط القبلية بين القطاع الخاص المصري والقطاع الخاص في الإمارات. على سبيل المثال، تشكّل صفقة البنك التجاري الدولي مؤشراً هاماً إلى ذلك الارتباط. إذ تملك الإمارات خمسة مصارف عاملة في مصر، تتخطى أصولها 418 مليار جنيه. وبالتالي، يزيد الاستحواذ على حصة كبيرة (18%) من أكبر بنوك القطاع الخاص العاملة في مصر، الارتباط بين القطاع المصرفي في البلدين. وتعد الإمارات مركزاً مالياً في الشرق الأوسط وفي العالم. كما يقع الاهتمام بالأصول في القطاع المالي، سواء القطاع المصرفي أو المالي غير المصرفي ضمن استراتيجيات توسيع أعمال القطاع المالي في الإمارات.
يعتبر قطاع الأسمدة أيضاً شديد الأهمية بالنسبة إلى الإمارات، وعهدت "أدنوك" (وهي مملوكة بالكامل لحكومة أبوظبي) على ربط نفسها بقطاع الأسمدة المصري منذ البداية. وازدادت تلك الروابط مع اكتشافات الغاز في شرق المتوسط التي ضمنت تدفق الغاز إلى مصانع الأسمدة في العين السخنة، المملوكة لشركة "أوراسكوم". وأسست "أوراسكوم" بالشراكة مع "أدنوك" عام 2018، وهي تملك أربع منشآت للإنتاج على مستوى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تجعلها صاحبة أكبر طاقة إنتاجية للأمونيا في منطقة الشرق الأوسط. وتعدُّ "فيرتيجلوب" أكبر منصة تصدير بحرية للأسمدة النيتروجينية عالمياً، وأكبر منتج لها على مستوى منطقتي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وبالتالي، تطال عمليات الاستحواذ على حصص في الشركات الحكومية للأسمدة الاستراتيجية الخاصة بإنتاج الأسمدة وقطاع البتروكيماويات بشكلٍ عام، وهو يعد قطاعاً مترابطاً بشكلٍ كبير بين مصر والخليج.
بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية، لا تختلف اهتماماتها كثيراً عن الاهتمامات الإماراتية. فكان قطاع البتروكيماويات في الخليج في طليعة القطاعات الصناعية، لارتباطه بشكلٍ كبير بالبترول، ويبدو بالتالي أن الحصول على جزء من قطاع البتروكيماويات المصري شديد الأهمية بالنسبة إلى السعودية.
يبرز بين الشركات المُستحوذ عليها في الشركات الأخيرة شركتا "فوري" و"إي فاينانس"، وهما أكبر شركتين للمدفوعات الإلكترونية في مصر. وتنشط "فوري" بشكلٍ كبير في مجال التمويل الاستهلاكي والتمويل الصغير، وهو قطاع يشهد طفرات متزايدة في مصر. ويشكّل الاستحواذ على شركة مثل "فوري" صفقة جيدة بالنسبة إلى الإمارات والسعودية اللتين يشهد قطاع المدفوعات الرقمية فيهما طفرة هو الآخر. لذلك يعتبر التوسع إلى أسواق أكبر مثل السوق المصري مربحاً بشكلٍ كبير للصناديق الخليجية التي أصبحت في السنوات الأخيرة أكثر اهتماماً بالاستثمار في القطاع المالي غير المصرفي، والحلول التكنولوجية المرتبطة به.
لم تكن تلك الشركات الحكومية فقط هي ما جذب رأس المال السعودي والإماراتي في الاستحواذات الأخيرة، بل نشط القطاع الخاص الخليجي في الاستحواذات والاندماجات كعادته من قبل الأزمة في مصر. على سبيل المثال، تنشط الشركات الإماراتية بشكل كبير في القطاع الصحي الخاص في مصر عبر الاستحواذ على المستشفيات الخاصة ودمجها في مجموعتين من أكبر المستشفيات في القطاع الخاص، هما "كليوباترا" و"ألاميدا" اللتان تستحوذان على نحو 15% من سوق الرعاية الصحية الخاص في مصر. كما أن "السيادي السعودي"، ومنذ بداية عام 2021، وكجزء من إجراءات تخارج أبراج الإماراتية، أصبح مساهماً في مجموعة مستشفيات كليوباترا. كما اهتمت الشركات السعودية والإماراتية كثيراً بالقطاع العقاري المصري فاستحوذ على سبيل المثال تحالف إماراتي بقيادة شركة "الدار العقارية" و"مجموعة القابضة ADQ" على 85% من شركة السادس من أكتوبر "سوديك"، مقابل 6 مليارات جنيه. وقدمت "سوديك" لاحقاً عرضاً للاستحواذ على أسهم "شركة مدينة مصر للتطوير العقاري"، إحدى أكبر الشركات العاملة في هذا المجال. لكن الصفقة باءت بالفشل بسبب الخلافات حول تقييم أصول الشركة. ويحضر القطاع الخاص الخليجي بشكلٍ كبير في سوق الأغذية المصري عبر شركات مثل "صافولا" السعودية، و"الظاهرة" الإماراتية و"الجرير"، وغيرها من الشركات التي تسيطر على عمليات إنتاج الغذاء من المزرعة إلى المستهلك النهائي.
يمكننا أن نوجز شبكة الفاعلين في الاستحواذات الأخيرة في مصر في الحكومة المصرية، ممثلة في الصندوق السيادي المصري الذي يتولى إدارة عملية البيع للأصول المصرية. وعلى الجانب الآخر، يوجد "صندوق أبوظبي السيادي" الذي تتبعه عدد من الشركات، سواء عبر الملكية المباشرة مثل "أدنوك" و"أبوظبي القابضة" و"أبوظبي للموانئ"، أو من خلال شراكات مع القطاع الخاص الكبير في الخليج، والمقرّب من العائلات الحاكمة، مثل شركات "الدار العقارية" وغيرها من الشركات الخليجية التي تنشط في السوق المصري والخليجي على السواء. وعلى الجانب الآخر، يوجد "صندوق الاستثمارات العامة" السعودي الذي ينفذ الاستحواذات الأخيرة في مصر، عبر الشركة السعودية المصرية للاستثمار التي تأسست عام 2022 بهدف شراء الأصول المصرية.
تظهر المؤسسات الدولية الداعمة لعمليات البيع، وهي صندوق النقد الدولي الذي شكلت خطة بيع الأصول المملوكة للدولة، جزءاً من اتفاق القرض الأخير معه عام 2022، وكانت حاضرة أيضاً بقرض 2016 الذي شملت فيه شروط الصندوق برنامج الطروحات الحكومية الذي تعثر لسنوات قبل أن يعاد إطلاقه عام 2022. ويذكر أن الإعلان عن برنامج الطروحات الحكومية عام 2018 كان يستهدف تنشيط سوق المال، وتوسيع قاعدة ملكية الشركات العامة، ما يختلف في الفلسفة وراءه عن عمليات البيع الحالية للأصول التي تتم لمستثمرين استراتيجيين، خصوصاً من الخليج، يمكن أن يكون ذلك التحول في الهدف تحت ضغط شح الدولار الذي دفع الحكومة للبيع إلى مستثمرين خليجيين لضمان التدفقات الدولارية اللازمة لتمويل العجز الدولاري، خصوصاً مع زيادة مدفوعات الديون الخارجية.
بدا الخليج أبطأ في دعم مصر خلال الأزمة، وتحديداً خلال الربع الأخير من عام 2022 حتى نهاية عام 2023. لكن التغيرات الجيوسياسية المتسارعة في المنطقة، خصوصاً الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، أعادت إلى مصر أهمية جيوسياسية كانت مفقودة بشكلٍ ما خلال سنوات الأزمة، ثم جاءت صفقة رأس الحكمة. بدت مصر، وللمرة الأولى خلال الأزمة بالفعل "أكبر من أن تسقط"، ربما كان هذا رهان الحكومة المصرية منذ البداية ، ويبدو أنه أتى بثماره في نهاية الأمر.
اتفق "صندوق أبوظبي" مع الحكومة المصرية على دفع 35 مليار دولار، مقابل الحصول على حق تطوير منطقة رأس الحكمة. وهي منطقة ساحلية على ساحل المتوسط، تعادل مساحتها 40.6 ألف فدان. وشملت الصفقة تطوير منتجعات سياحية فاخرة في المدينة، بالإضافة إلى ميناء ومنطقة حرة، ومرسى لليخوت. وتغيب الكثير من التفاصيل الهامة عن الصفقة، إذ أعلنت الحكومة أنها تتضمن استثمار نحو 150 مليار دولار على عشرة أعوام ، مع حصولها على 35%من الأرباح، ما يشير إلى شراكة الحكومة في الاستثمار عبر عمليات الترفيق ومد الطرق وشبكات المياه والكهرباء وغيرها. لكن لا تُعرف على وجه الدقة طبيعة الشراكة، بسبب غياب الشفافية بشكلٍ كبير عن الصفقة وتفاصيلها.
ما يميز الصفقة الأخيرة لرأس الحكمة إلى جانب الحجم الكبير للإنقاذ هو هيكل الدفع، ولا تتم صفقات التطوير العقاري عادةً بهذا الهيكل السريع للدفع، فثمن الأرض أو حق الانتفاع يُسدّد عادةً عبر أقساط قد تمتد إلى نهاية تطوير المشروع. لكن خلال الصفقة، أعلنت الحكومة أن الدفع سيكون خلال شهرين فقط، ما يشير إلى أن جانباً مهماً من الصفقة كان الإنقاذ المالي للاقتصاد المصري. إلا أن ذلك الإنقاذ لم يعف من تخفيض سعر الصرف مرة أخرى ، فخفضت الحكومة في السادس من مارس/آذار 2024، بعد أسبوعين فقط من توقيع الصفقة، الجنيه بواقع 38% ليسجل أدنى مستوى تاريخي، إذ انخفض إلى مستوى 50 جنيهاً لكل دولار بعد التخفيض مباشرة. دفعت تلك الصفقة أو الإنقاذ المالي المؤسسات الدولية إلى تقديم حزمة أخرى من الإنقاذ للاقتصاد المصري، فرفع صندوق النقد قيمة القرض الذي وافق عليه مسبقاً في بداية عام 2023 للحكومة، من 3 مليارات دولار إلى 8 مليارات دولار. كما أعلن البنك الدولي عن حزمة تمويل جديدة لمصر بقيمة 6 مليارات دولار على مدار ثلاث سنوات، يخصص 3 مليارات منها لدعم الحكومة، بالإضافة إلى3 مليارات موجهة إلى القطاع الخاص. وأعلن الاتحاد الأوروبي بعدها عن توقيع اتفاقيات مع مصر، تضمنت حزمة تمويل بقيمة 7.4 مليارات يورو (8.06 مليارات دولار) على مدى أربعة أعوام، تشمل قروضاً واستثمارات وتعاونا في ملفي الهجرة إلى أوروبا ومكافحة الإرهاب. جاءت التعهدات بالتدفقات الدولارية المقدرة بـ57 مليار دولار خلال فترة لا تتجاوز الشهر تقريباً منذ توقيع صفقة رأس الحكمة، ما يدعم الفكرة القائلة إن مصر كانت في حاجة إلى إنقاذ مالي سريع.
كان الإنقاذ المالي في القلب منه إنقاذاً سياسياً للنظام في مصر، فلم تكن تلك الأزمة لتستمر كثيراً قبل أن تنتج غضباً اجتماعياً كبيراً، خصوصاً في ظل عجز الحكومة عن السيطرة على التضخم خصوصاً في أسعار الغذاء. ربما كان هناك توافق على ضرورة تعويم الأزمة الاقتصادية، ومعها النظام في مصر، واختلفت اللغة الناقدة من قبل صندوق النقد الدولي، والمطالبات بالإصلاحات الهيكلية فجأة بعد الصفقة، بل إن الصندوق سارع إلى إجراء مراجعتين تأخرتا لمدة تقارب الـ10 أشهر ليصرف الشريحة الثانية من القرض لمصر. وبدا الاتحاد الأوروبي والخليج نفسه، ممثلاً في الإمارات مع توقعات بصفقات مستقبلية من السعودية وقطر، أكثر انفتاحاً على فكرة الإنقاذ المالي لمصر.
تعرضت مصر للعديد من الضغوط الاقتصادية جراء حرب غزة، ربما أهمها الانخفاض المستمر في إيرادات قناة السويس، بسبب الحرب والهجمات الحوثية على السفن. لكن تلك الضغوط الاقتصادية لا تفسر الإسراع في حزم الدعم الكبيرة، إذ كانت تلك الضغوط حاضرة دائماً منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، لكن الإنقاذ لم يتحقق إلا بعد الصفقة.
يحيلنا ذلك إلى التغيرات الجيوسياسية والسياسية التي شهدتها المنطقة جراء هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول على إسرائيل، والتبعات المحتملة للحرب الإسرائيلية على القطاع التي تشمل تهجيراً محتملاً للفلسطينيين في القطاع. فأصبحت مصر آخر هدف للاستقرار للحفاظ على ما تم التوافق عليه سابقاً في ملف العلاقة مع إسرائيل، وأهمها عمليات التطبيع الخليجي المستمرة منذ مجيء ترامب عام 2016.
لكن رأس الحكمة صفقة تجارية، فجاء الدعم الخليجي في النهاية عبر استثمار مباشر، يستحوذ من خلاله "صندوق أبوظبي" على قطعة كبيرة من الأرض على ساحل المتوسط. توفر تلك المساحة موطئ قدم مهماً للإمارات على ساحل المتوسط، ومنطقة حرة وميناء لا تُعرف استخداماته المستقبلية. يتوقع أن تساهم الصفقة أيضاً في تسريع عمليات بيع الأصول المصرية الأخرى، سواء الأصول العقارية كالأراضي والمباني التاريخية كما حدث في رأس الحكمة وصفقة الفنادق، أو غيرها من أنواع الأصول التي تقع ضمن متطلبات برنامج بيع الأصول الذي أعلنت عنه الحكومة العام الماضي.
تبين الصفقة الأخيرة لرأس الحكمة طبيعة الارتباطات الذي ذكرناها سابقاً بين القطاعين العقاريين في الخليج وتحديداً في الإمارات، والقطاع العقاري في مصر. إذ تنظر الشركات الإماراتية الخاصة والحكومية إلى القطاع العقاري في مصر بطريقة إيجابية، بسبب الحجم الكبير للطلب المستمر والمتجدد بفعل التركيبة الديموغرافية. كما تلعب الثقافة السائدة للاستثمار في العقار وقدرة تحويلات المصريين العاملين في الخارج على تمويل طلب متجدد على العقار، دوراً هاماً.
يمكن ملاحظة هذا الارتباط العضوي بين القطاع العقاري في مصر والخليج في المشروعات الساحلية، وحتى في القاهرة، بحسب دراسة أجراها مرصد العمران، بيّنت أن المستثمرين الإمارتيين يملكون نحو 16% من محفظة الأراضي في القاهرة للشركات المطروحة في البورصة، وتنتشر الشركات الإماراتية والسعودية بشكلٍ مكثف في المشروعات الساحلية، في الساحل الشمالي تحديداً.
التغيرات في الدعم الخليجي
طرحت صفقة رأس الحكمة إلى جانب الاستحواذات المستمرة منذ عام 2022 على بعض الأصول الإنتاجية المملوكة للحكومة المصرية، الكثير من التساؤلات من قبل الكثيرين، خصوصاً الرأي العام المصري والمعارضة السياسية، والكثير من المهتمين بالاقتصاد السياسي للمنطقة حول التغيرات في طبيعة الدعم السياسي والاقتصادي الخليجي لمصر منذ عام 2013. ترافقت تلك التساؤلات مع تصريحات لمسؤولين سعوديين كوزير المالية وغيرهم، مفادها أن زمن المساعدات غير المشروطة انتهى. وركز الكثير من الكتّاب المقربين من ولي العهد السعودي على توجيه انتقادات كثيرة للجيش المصري، وطبيعة التدخلات الاقتصادية التي يلعبها في مصر. يرى عدد من المحللين المصريين أن الدعم الخليجي المرتقب لمصر كان يجب أن يكون أسرع، وألا يتضمن شراء الأصول، خصوصاً أن العديد من عمليات شراء تلك الأصول تمت بمنطق التفاوض التجاري حول المكاسب والأرباح، وليس كما كان في السابق حين قدم الخليج مساعدات كثيرة إلى مصر بعد عام 2013. يمكننا مثلاً أن نتتبع، من خلال قاعدة بيانات المساعدات الخليجية التي جُمعت من الأخبار المنشورة من قبل المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، أن الخليج توقف عن تقديم المساعدات عن طريق البترول والمواد البترولية منذ عام 2017 تقريباً.
ويوضح الجدول الآتي تلك المساعدات بالمبالغ التقديرية لأثمانها في الفترة من عام 2012 حتى عام 2017 التي وصلت إلى نحو 6.4 مليارات دولار. لا تمثل هذه المساعدات نسبة كبيرة من الاحتياجات المصرية من البترول والغاز على مدار الخمس سنوات، كما أن معظمها تركز عام 2013 وكان لها تأثير كبير على استمرار عمل قطاعات مهمة بعد عام 2013، وأهمها قطاع الكهرباء الذي عانى من أزمة كبيرة قبل عام 2013، وكان أحد أسبابها نقص الوقود. لكن الخليج لم يبد استعداداً لإعطاء مثل تلك المنح البترولية إلى مصر حالياً، على الرغم من أزمة الكهرباء الموجودة حالياً ويُعزى الجزء الأكبر منها إلى نقص العملة الصعبة اللازمة لشراء الوقود.
جدول 2 – المساعدات الخليجية على شكل المواد البترولية
المبلغ (مليون دولار) |
الدولة |
الشهر |
السنة |
250 |
السعودية |
مايو/أيار |
2012 |
1260 |
الكويت |
|
2013 |
200 |
الكويت |
يوليو/تموز |
2013 |
410 |
قطر |
أغسطس/آب |
2013 |
410 |
قطر |
سبتمبر/أيلول |
2013 |
400 |
السعودية |
أغسطس/آب |
2013 |
280 |
الكويت |
سبتمبر/أيلول |
2013 |
400 |
السعودية |
سبتمبر/أيلول |
2013 |
957 |
الإمارات |
|
2013 |
700 |
السعودية |
|
2017 |
المصدر: قاعدة بيانات المساعدات الخليجية لمصر- المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية
توقف الخليج عن تقديم هذا الشكل من الدعم، لكنه استمر في منح شكل آخر منه هو الودائع لدى البنك المركزي المصري. فتمثل الودائع الخليجية نحو 29 مليار دولار، ما يقارب 83% من إجمالي احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي المصري، المقدر بـ34.9 مليار دولار. وهي تنقسم بين ودائع طويلة الأجل بنحو 15 مليار دولاراً تجددها الإمارات والسعودية والكويت منذ عام 2013 تباعاً، وودائع قصيرة الأجل (أقل من سنة) بنحو 14 مليار دولار أودعتها تلك الدول لمصر كجزء من الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على برنامج الإنقاذ المالي الحالي. تمثل الودائع قصيرة الأجل نحو نصف الدين قصير الأجل، وهو تغير مهم في سياسة الدعم الخليجي. ففي الماضي، كان الخليج يقدم ودائع طويلة الأجل، تستحق بعد 3 أو 5 سنوات. لكن يبدو أن الهدف الأساسي من إعطاء المركزي لودائع قصيرة الأجل المزيد من الضغط على النظام لإجراء إصلاحات اقتصادية، قد تشمل خروج الجيش من الاقتصاد، وإتاحة المجال أمام القطاع الخاص، وهي مطالب لطالما أكد الصندوق أنها من ضمن نطاق خطة الإصلاح الهيكلية التي يجب أن تنتهجها الحكومة المصرية.
يوضح الجدول الآتي حركة الودائع الخليجية للبنك المركزي المصري خلال السنوات 2012-2022:
جدول 3: حركة الودائع الخليجية للبنك المركزي المصري خلال السنوات العشر الماضية
الوديعة (مليون دولار) |
الدولة |
شهر |
سنة |
2000 |
قطر |
أغسطس/آب |
2012 |
1000 |
السعودية |
مايو /أيار |
2012 |
3000 |
قطر |
مايو /أيار |
2013 |
2000 |
الكويت |
سبتمبر/أيلول |
2013 |
2000 |
السعودية |
سبتمبر/أيلول |
2013 |
2000 |
الإمارات |
يوليو/تموز |
2013 |
1000 |
الإمارات |
يوليو/تموز |
2013 |
2000 |
الكويت |
أبريل/نيسان |
2015 |
2000 |
السعودية |
أبريل/نيسان |
2015 |
2000 |
الإمارات |
مايو/أيار |
2015 |
2000 |
السعودية |
سبتمبر/أيلول |
2016 |
1000 |
الإمارات |
أغسطس/آب |
2016 |
1000 |
السعودية |
مايو/أيار |
2017 |
3000 |
السعودية |
أكتوبر/تشرين الأول |
2021 |
2300 |
السعودية |
أكتوبر/تشرين الأول |
2021 |
5000 |
السعودية |
مايو/أيار |
2022 |
5000 |
الإمارات |
مايو/أيار |
2022 |
3000 |
قطر |
مايو/أيار |
2022 |
1000 |
قطر |
نوفمبر/تشرين الثاني |
2022 |
5000 |
السعودية |
نوفمبر/تشرين الثاني |
2022 |
المصدر: قاعدة بيانات المساعدات الخليجية لمصر- المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية
يمكن ملاحظة غياب الودائع القطرية منذ عام 2013 من الجدول السابق بسبب التوتر في العلاقات بين الخليج بشكلٍ عام ومصر بشكلٍ خاص مع قطر. لكن الاستثمارات والودائع القطرية عادت تدريجياً بعد المصالحة الخليجية منذ عام 2021. في تلك الفترة، استمرت الدول الحليفة لمصر كالسعودية والإمارات وبالطبع الكويت، في تقديم الودائع إلى البنك المركزي. وعلى الرغم من أنه لا يمكن اعتبار الودائع أشكالاً مباشرة للدعم كمنح المواد البترولية، إلا أنها تلعب دوراً هاماً، فمعدل الفائدة عليها يكون أقل. وفي حال ربطها لمدد زمنية طويلة، تكون بمثابة الاحتياط من انخفاضات سعر الصرف، وتعطي المركزي القدرة على التصرف في دعم العملة في وقت الأزمات.
يمكننا أن نفهم مما سبق أن طبيعة الدعم الخليجي أصبحت متغيرة بالطبع، ليس فقط عبر طبيعة التصريحات والخطاب السياسي بين مصر وشركائها في الخليج، ولا من خلال الموقف المصري، بل عبر طبيعة التغير في الدعم نفسه . فتوقف الخليج منذ عام 2013 عن تقديم البترول كمنح لمصر بعد أن اجتازت أزمة الطاقة نسبياً، وتوقف لاحقاً عن تقديم الودائع طويلة الأجل، حتى حين اندلعت الأزمة الاقتصادية الحالية، قدم ودائع قصيرة الأجل.
أصبحت المصالح التجارية للخليج، تحديداً الصناديق السيادية الخليجية عاملاً مهماً في تحديد كم ونوع الدعم لمصر، ما يمكن ملاحظته في برنامج شراء الأصول المصرية حالياً والمرتبط بترتيبات سياسية بين مصر والخليج وصندوق النقد الدولي. لكنه مرتبط أيضاً بطبيعة الأصول التي يستحوذ عليها الخليج في مصر. بات الدعم الخليجي أكثر مشروطية ومرتبطاً بمصالح بلدان الخليج الاقتصادية والتجارية، لا ينفي ذلك الطبيعة السياسية لتلك الاستحواذات كلياً، لكنه يحتم وضع تلك الاستحوذات السعودية والإماراتية في نطاق أوسع بعيداً عن الدعم السياسي. ولم تتوقف السعودية والإمارات عن الدعم المباشر للنظام عبر الودائع في البنك المركزي التي تقدم من دون شروط اقتصادية مسبقة كما قروض الصندوق وبأسعار فائدة منخفضة.
بالطبع ليست عمليات الاستحواذ على الأصول المصرية جديدة، بل إن الخليج كان ولا يزال، من أكبر المستثمرين الأجانب في السوق المصري. إذ يشكّل مجموع التدفقات الرأسمالية من الخليج نحو مصر خلال العقدين الأخيرين، منذ بداية الألفية، نحو 90 مليار دولار. بينما تمثل الاستثمارات الأجنبية لمجمل دول الاتحاد الأوروبي نحو 48 مليار دولار في المركز الثاني، تليها الصين بنحو 29 مليار دولار خلال الفترة نفسها.
إلام يهدف الخليج من تلك الاستحواذات؟
يمر الخليج – إن جاز لنا اعتباره كتلة واحدة – بمرحلة تحولات عميقة جاءت مع الربيع العربي واستمرت إلى ما بعده، وما تلى الاتفاق النووي الإيراني، ولاحقاً ما يمكن تسميته بنهاية الطفرة البترولية التي امتدت من عام 2000 حتى عام 2014. خلال تلك الفترة، كانت أسعار البترول في ارتفاع مستمر باستثناء فترة الأزمة المالية العالمية عام 2008، ومع ترسخ العولمة المالية دخل الخليج في عمليات واسعة من الأمولة، واحتل مكاناً أكثر رسوخاً في موجات تلك العولمة بفعل تراكم الفوائض المالية المُتحققة بزيادة الطلب الصيني على البترول. وأصبحت عملية استثمار تلك الفوائض مختلفة خلال الفترة التي تلت الأزمة المالية عام 2008. بعد هذه الأزمة أصبحت الصناديق السيادية في الخليج أكثر تنويعاً في الأصول التي تستثمر فيها، وتنوعت استراتيجياتها الاستثمارية لتصبح أكثر تركيزاً على خلق الفوائض طويلة المدى، بدلاً من الاستثمار في الأدوات المالية الأكثر أمناً مثل سندات الخزانة للدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة.
تحاول الأطراف المختلفة في الخليج الحصول على مكان في ذلك العالم من خلال تلك التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. فعلى سبيل المثال، يمثل التنافس الصيني الأميركي حول إفريقيا فرصة لدول الخليج للعب أدوار مهمة ضمن ذلك التنافس. ونلحظ ذلك بشكلٍ مهم في الاهتمام الإماراتي بالسيطرة على الموانئ في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وتستخدم المملكة العربية السعودية البترول كسلاح قوي في محاولة بناء استقلالية في سياستها الخارجية، تحديداً في إطار الحرب الروسية الأوكرانية. وتحاول إحلال العداوة الإيرانية بتنافس يمكن التعايش معه، خصوصاً مع فشل أهدافها العسكرية من حرب اليمن. وتحاول قطر الطرف الثالث في الخليج استثمار علاقاتها الأوروبية والأميركية الجيدة للحيلولة دون أن تبتلعها قوى الخليج المتنافسة.
كانت تلك التغيرات الدافع وراء نمو دور الصناديق السيادية الخليجية، وتعدد أهدافها لتشمل القيام بأدوار كان يؤديها القطاع الخاص الخليجي بشكلٍ مباشر في مصر في السابق عبر الاستثمارات المباشرة لشركات القطاع الخاص الخليجي. وفي الإمارات والسعودية وقطر، وهي أكبر الدول الخليجية في المساعدات والاستثمارات في الخارج، يمكن ملاحظة نمط من العلاقة بين القطاع الخاص الكبير، يشبه إلى حد كبير شبكات المحسوبية بين رجال الأعمال والساسة في دول الجنوب العالمي. لكن ما يميز تلك العلاقات هي أنها أكثر مباشرة، ففي الخليج تملك الصناديق السيادية والمؤسسات الحكومية حصصاً كبيرة في كبرى شركات القطاع الخاص. وكان الهدف من موجات الخصخصة المتتالية في بلدان مثل الإمارات، إشراك القطاع الخاص الكبير في الإدارة وليس التخلي بشكلٍ كامل عن إدارة الاقتصاد التي تضمن بشكلٍ كبير عمليات توزيع فوائض الثروة المنتجة بفعل البترول والغاز والقطاعات المرتبطة باستثمار تلك الفوائض خصوصاً القطاع المالي.
تحضر الصناديق السيادية الخليجية في ملكية شركات القطاع الخاص المحلي في ثلاثة قطاعات أساسية. الأول هو قطاع الصناعة الذي يرتكز على صناعات كثيفة الاستهلاك والطاقة ومرتفعة التكوين التكنولوجي، مثل صناعات البتروكيماويات، الحديد والصلب، والألمونيوم وغيرها. والقطاع الثاني، هو الاستثمارات الخاصة بالبنية التحتية التي تنفق الدول الخليجية الكثير عليها، بدايةً من القطاع العقاري وحتى قطاع الخدمات الأساسية، كالاتصالات والمياه وقطاع التجزئة وغيرها. أما الثالث، فهو القطاع المالي في الخليج الذي تسيطر عليه بشكلٍ كبير عائلات مرتبطة مباشرةً بالعائلات الحاكمة أو يسيطر على البنوك مباشرةً عبر صناديق استثمار في ملاذات ضريبية يملكها أمراء وشيوخ من العائلات الحاكمة. وفي حالة الخليج، لا يمكن فصل القطاع الخاص الكبير عن الدولة، فالعائلات الغنية والتجارية فيه شديدة الارتباط بالدولة، ونمط ممارسة الأعمال لا يزال يحمل الطابع العائلي. فعلى الرغم من الحوكمة الداخلية لتلك الشركات العائلية، إلا أنها تفتقد حتى اليوم مكونات الحوكمة في المركز الرأسمالي لأنها مرتبطة بميكانزمات القوة بين القطاع الخاص والعائلات الحاكمة. ويمكن فهم تلك العلاقة الوثيقة بين الدولة ورأس المال في الخليج عبر النظر إلى مجمل القطاعات الاقتصادية الرئيسية. لكن القطاع المصرفي يعطي صورةً واضحةً عن تلك العلاقة، إذ تملك جميع المصارف الكبيرة في دول مجلس التعاون الخليجي خليطاً من الملكية بين صناديق الاستثمار العامة والعائلات الحاكمة والشركات التجارية الكبيرة في القطاع الخاص.
تبرز من خلال تلك البنية المتشابهة، أهمية مصر بالنسبة إلى الخليج التي يمكن إيجازها في عدد من الأسباب المتعلقة بتشابه البنية الاقتصادية وطبيعة السوق وثقافة الأعمال بين الخليج ومصر بشكلٍ كبير. ويمكن فهم وضعية مصر المناسبة للتنويع الاقتصادي للخليج، والبحث عما يمكن تسميته بتوسيع المجال الحيوي والجغرافي لرأس المال الخليجي. فتمثل مصر أرضية مناسبة للتنويع الاقتصادي للرأسمالية الخليجية، أو بمعنى أكثر مباشرةً توسع رأس المال الخليجي في المنطقة، لأنها تملك السوق الكبير اللازم لعمليات البيع الكثيفة لمنتجات الاستهلاك النهائي، ويعوض نقص القدرة الشرائية في مصر العدد الكبير من البشر القادرين على الاستهلاك، ما يفسر الاهتمام الخليجي بقطاع الأغذية والتجزئة، وقطاعات أخرى تهتم بها شركات القطاع الخاص في الخليج مثل القطاع العقاري. خلقت تلك الشركات العقارية الكبيرة على سبيل المثال "إعمار" ، و"الدار العقارية" وغيرها، الظروف والمكونات نفسها اللازمة للتوسع العقاري في مصر. فبنيت في مصر المجتمعات المسورة في الصحراء، كما في دبي والرياض وغيرها من المدن الخليجية. وأصبحت تلك الشركات، من خلال مشاركتها القطاع الخاص المصري، قادرة على إعادة تشكيل البيئة العمرانية في ضواحي القاهرة الصحراوية كاملةً، وفي المدن الساحلية المصرية على نمط العمران الخليجي. كما يلعب التقارب الجغرافي وسهولة التجارة دوراً مهماً في تنشيط الاستثمارات بين البلدين، وبالتالي تسهيل تدفقات رأس المال من الخليج. فتحولت خلال السنوات العشر الأخيرة، على سبيل المثال، وجهة الصادرات الزراعية المصرية بشكلٍ كبير نحو الإمارات والسعودية التي أصبحت شركاتها في القطاع الزراعي والغذائي في مصر أكثر حضوراً بعد عام 2008. لكن ما يمكن أن يكون الدافع الأهم وراء التدفقات الخليجية في مصر، خصوصاً التدفقات بين القطاع الخاص في الخليج ومصر خلال العقود الماضية، هو طبيعة القطاع الخاص الكبير في مصر والخليج الذي يحمل الكثير من الخصائص المتشابهة بين البلدين. فعلى سبيل المثال، علاقات المحسوبية بين النظام والقطاع الخاص الكبير متشابهة بين البلدين، وإن كانت في حالة مصر تتخذ أشكالاً أكثر مواربة بسبب طبيعة النظام السياسي الجمهوري. كذلك مستويات التركز التي تعد كثيرة التشابه. ففي مصر يمثل القطاع المصرفي وزناً كبيراً من الشركات المدرجة في البورصة، وهي الحالة نفسها في البورصات الخليجية الكبرى. كذلك مستويات التركز على مستوى القطاع المصرفي في الخليج مشابهة لمصر، سواء على مستوى الودائع أو غيرها. لكن في مصر تملك الحكومة المصارف مباشرةً ، بينما يجري الأمر في الخليج عبر تحالفات بين القطاع الخاص الكبير والحكومة. في جميع القطاعات الاقتصادية، يمكن إيجاد التركز المتشابه بين مصر والخليج، ما يمكن إيعازه إلى ضعف البنية التنظيمية والرقابية الخاصة بمكافحة الاحتكارات في المنطقة بشكلٍ عام. لكن حتى تلك المستويات المرتفعة من التركز الاقتصادي، يمكن ملاحظتها في البلدان ذات البنية التنظيمية الأفضل للسوق في المركز الرأسمالي.
ويلاحظ أيضاً، من خلال الاستثمارات الخليجية في مصر، كما في موجة الاستحواذ الأخيرة، تفسير لعملية التنافس بين السعودية والإمارات على السوق المصري الكبير، وكانت الإمارات، صاحبة السكان الأقل والسوق الأصغر، أكثر اهتماماً بالسوق المصري.
يوضح الشكل الآتي توزيع الاستثمارات المباشرة للخليج في مصر خلال العقد الماضي:
كانت عملية توسع رأس المال الخليجي نحو مصر وغيرها من دول المنطقة مدفوعةً بعمليات الأمولة الشديدة للاقتصادات الخليجية، تحديداً منذ بداية الألفية. وجرت عمليات الأمولة، وصعد القطاع المالي المصرفي وغير المصرفي في مصر كما في الخليج. وهي سمة مميزة لعمليات الأمولة في الدول النامية والجنوب التي بدأت بشكلٍ كبير بدفعٍ من المؤسسات الدولية، كالبنك الدولي وصندوق النقد. لكن دول الخليج انخرطت في النظام المالي العالمي من موقع قوة نسبية بسبب عائدات النفط الكبيرة، ما انعكس على طبيعة التبادل التجاري ونسبته من الناتج المحلي في دول الخليج. كما أدى الاستخدام المكثف للعمالة المهاجرة إلى زيادة ارتباط الاقتصادات الخليجية باقتصادات أخرى في المنطقة. في حالة مصر، انضمت بشكلٍ أقل قوة إلى موجة الأمولة، فكان السعي للاستدانة سواء عبر أسواق الديون الدولية أو أسواق الديون الإقليمية في الخليج هو المتاح أمامها بسبب غياب تلك الفوائض النفطية. لكن زيادة الارتباط الإقليمي كان وراءها تحويلات العاملين في الخارج التي لعبت دوراً مهماً في التكوين الرأسمالي لقطاعات كثيرة، وأهمها القطاع العقاري الذي يمول الطلب المتجدد عليه بشكل كبير عبر تحويلات العاملين في الخارج. وبالتالي لعبت تحويلات العاملين المصريين في الخليج، ورأس المال الخليجي دوراً مهماً في ربط الاقتصاد المصري بالاقتصادات الخليجية.
لم يكن التنويع الاقتصادي الهدف الوحيد للاستثمارات الخليجية، ربما أصبح الخليج أكثر اهتماماً بالمصالح التجارية والتنويع الاقتصادي خلال السنوات الماضية، لكن ذلك لا يمكنه تفسير الودائع الخليجية في البنك المركزي، والدعم عبر تقديم شحنات الغاز والبترول. وبالتالي، فإن أحد أهداف محاولة الخليج دعم مصر تحقيق الاستقرار الاقتصادي والسياسي، من خلال دعم النظام السياسي لتمويل الموازنة والحفاظ على استقرار – حتى لو كان صورياً – لأسعار الصرف وما يستتبعه ذلك من قدرة أكبر للنظام على السيطرة على التضخم. لكن ربما أصبح البحث عن الاستقرار الاقتصادي ذا حدود واضحة خلال السنوات الماضية، خصوصاً أن الدعم الخليجي لم ينتج عنه بحسب الخليج وصندوق النقد الدولي إصلاحات هيكلية، أو بمعنى أصح حوكمة للإنفاق الحكومي، خصوصاً عبر الاستثمار المكثف في مشروعات البنية التحتية من خلال الاقتراض من الخارج ما أنتج أزمة الديون الحالية.
ساهمت الاستثمارات والودائع الخليجية في مصر أيضاً في تأصيل الهيمنة السياسية والجيوسياسية للخليج على المنطقة، وتحديداً في إطار التنافس السعودي الإماراتي القطري على زعامة المنطقة. هذا التنافس الذي بدأ في الظهور قبل مقاطعة قطر، وبعدها في المصالحة ومآلات الحرب في اليمن التي دعمت فيها السعودية والإمارات أطرافاً مختلفة، وكان لكل منهما أهدافها الخاصة من الحرب. كما يمكن رؤية التنافس السعودي الإماراتي الحالي في محاولة السعودية تنويع وتحديث اقتصادها للابتعاد عن النفط أكثر، وما يستتبعه ذلك من منافسة الرياض لدبي وأبو ظبي كمركز مالي وترفيهي في المنطقة. وتمثل الهيمنة الجيوسياسية على مصر أيضاً هدفاً شديد الأهمية لأي مشاريع سياسية في المنطقة. فمصر تملك ثقلاً تاريخياً وثقافياً في المنطقة، وعلاقات ممتدة مع حلفاء تقليديين للخليج مثل الولايات المتحدة، وحلفاء يريد الخليج توطيد علاقته بهم مثل إسرائيل وروسيا. كما أن موقعها الجغرافي على طرق التجارة بين الصين وأوروبا ضروري لمشاريع التجارة العابرة للحدود التي أصبحت تكتسب الكثير من الأهمية خلال العقدين الماضيين. يمكن مثلاً النظر إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية، والمكافأة الأميركية التي أُعلن عنها في أيلول/سبتمبر 2023، وهي ممر التنمية بين الهند وأوروبا.
خاتمة
يمكننا النظر إلى الاستحواذات الخليجية الأخيرة على أنها حلقة في سلسلة من محاولات صناديق الثروة الخليجية لتنويع استثماراتها في المنطقة، وزيادة فعالية تلك الصناديق في السيطرة على قطاعات حاضرة فيها بالفعل في المنطقة، ما يمكن تسميته توسيع نطاق عمل رأس المال الخليجي. جاءت تلك الموجة الأخيرة من الاستحواذات في ظل أزمة اقتصادية حادة، فاعتقد كثيرون أنها كانت تحمل شروطاً عديدة مقارنةً بأشكال الدعم الأخرى التي قدمها الخليج في السابق. بالطبع حملت موجة الاستحواذات مشروطيات، عطلت جزئياً عملية الإنقاذ المالي المفترضة لمصر. لكن تلك المشروطيات، التي تتعلق في الأساس، بالمصالح التجارية والاقتصادية للشركات الخليجية كانت دائماً حاضرة، وجزءاً مهماً من معادلة التفاعل بين رأس المال الخليجي ومصر.
استمر الخليج في تقديم الودائع إلى البنك المركزي، وأصبحت أقصر في المدة للضغط على مصر لتبني مجموعة السياسات التي يريدها الخليج وصندوق النقد الذي يبدو أنه كان أكثر إصراراً في اتفاقية القرض الأخير على تحمل الخليج مسؤولية أكبر في إنقاذ الوضع المالي في مصر. ثمة تغير في طبيعة الدعم الخليجي لمصر، لكنه جزء من تغير أولويات الخليج في المنطقة والعالم، وتموضع الخليج نفسه خلال السنوات الأخيرة كجزء من القطاع المالي العالمي. بمعنى ما، كان ذلك التحول سيحدث سواء نجحت مصر في إصلاحاتها الاقتصادية منذ عام 2014 أو لم تنجح، لأن الصناديق الخليجية السيادية أصبحت أكثر أهمية في تنويع وتدويل رأس المال الخليجي خلال العقد الماضي.
ما يميز تلك الحلقة المستمرة من الاستحواذات ليس فقط طابعها السياسي والتجاري المركب، بل تمثل إحدى حلقات إلحاق الاقتصاد المصري بالاقتصاد الخليجي. لا يقتصر الأمر على بحث الخليج عن طريقة لاستثمار الفوائض المالية لديه فقط، لكن على تغيير كامل في طبيعة الاقتصاد السياسي للمنطقة، فأصبحت معظم القطاعات الاقتصادية الرئيسية في مصر مرتبطة بالخليج. ويشكل الارتباط العضوي في توليد القيمة الاقتصادية بين مصر والخليج الآن حلقة مختلفة عما سبق، فكانت تحويلات العاملين في الخارج جزءاً مهماً في السابق، بينما أصبحت اليوم التحويلات والاستثمارات والاستحواذات. يمكن النظر إلى هذا الأمر على أنه جزء من تنويع الصناديق الخليجية لاستثماراتها في المنطقة، لكنه أيضاً جزء من إعادة ترتيب الاقتصاد السياسي للمنطقة ليصبح الخليج، خصوصاً الدول ذات المشاريع السياسية مثل السعودية والإمارات وقطر، هي المتحكمة فعلياً في أكبر الدول سكاناً في المنطقة.
ما تحاول هذه الورقة أن تؤكده في النهاية، هو أن تغير طبيعة الدعم الخليجي كان له علاقة مباشرة بالتغيرات السياسية والاقتصادية داخل الخليج، ومحاولة الصناديق الخليجية إنشاء نطاق هيمنة اقتصادي في المنطقة خصوصاً في القطاعات الاستراتيجية التي تملك الشركات الخليجية خبرة في العمل فيها، وهي الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، تشكيل البيئة العمرانية بما يشمل القطاع العقاري والاتصالات والخدمات الأساسية الأخرى، وأخيراً القطاع المالي بشقيه المصرفي وغير المصرفي الذي يضمن استثمار وإعادة استثمار تلك الفوائض الخليجية خارج حدود الخليج.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.