في حين تدعم منظمة الصحة العالمية سياسة إجراء اختبارات واسعة النطاق للمصابين بفيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، إلا أن بعض البلدان تتبع استراتيجيات مختلفة تمامًا، وفقًا لتوافر الاختبارات وحالة انتشار الوباء في البلد وقدرة السلطات الصحية المحلية على إدارة الاختبارات.
تركز هذه الورقة على نهج الاختبار الذي تتبناه لبنان. وترى أنه، بالنظر إلى موارد الاختبار المحدودة ونظام الرعاية الصحية المُفتّت والذي يعاني نقص التمويل (خاصةً في القطاع العام)، والظروف الاقتصادية الصعبة التي تجعل إستراتيجية الحظر طويلة المدى صعبة الاستمرار، يجب أن يركز نهج لبنان على إجراء الاختبارات للفئات الأضعف (الأشخاص الذين يتعدّى عمرهم 60 عامًا أو المصابون بأمراض مزمنة على سبيل المثال) والأكثر عرضة للإصابة بالعدوى ونشر المرض (مثل العاملين في مجالات الرعاية الصحية والخدمات الغذائية والنقل). كما يجب أن تكون سياسة الاختبار مصحوبة بحجر صحي للأفراد المصابين.
نهج لبنان الحالي في الاختبار
تم تأكيد أول حالة إصابة بفيروس كورونا في لبنان في 21 شباط/فبراير. حينها، خصصت الحكومة مستشفى رفيق الحريري الجامعي، وهو مستشفى عام في بيروت، ليكون المرجع الطبي الرئيسي (والوحيد آنذاك) لإجراء الاختبار للحالات المشتبه بإصابتها بالفيروس واستقبال المصابين. حتى منتصف آذار/مارس، كان الاختبار يقتصر على معامل مستشفى رفيق الحريري ويُجرى مجانًا . وبعد اكتشاف عدد كبير من الحالات في الشمال في أعقاب اكتشاف حالة في منطقة المتن، افتُتِح مركز اختبار آخر في أحد المستشفيات الإقليمية الخاصة. وبحلول بداية شهر نيسان/أبريل، وسّعت الحكومة نطاق الاختبار وأضافت المزيد من المراكز لتصل إلى ما مجموعه 16 مركزًا بحلول 8 نيسان/أبريل.
من خلال زيادة عدد مراكز الاختبار، تمكن لبنان من زيادة معدّل الاختبارات من 250 اختبار في اليوم كحد أقصى (حتى 31 آذار/مارس) إلى 500 اختبار في يوم اعتبارًا من 1 نيسان/أبريل. حتى 14 نيسان/أبريل، أجرى لبنان ما مجموعه 14،007 اختبار .
وعلى الرغم من توافر الاختبارات حاليًا في 16 مستشفى، إلا أنها تتركز في المقام الأول في المناطق الحضرية، مع إمكانية وصول محدودة جدًا أو معدومة للاختبار في جميع المناطق الريفية تقريبًا في لبنان (الشكل 1). تجرى الاختبارات مجانًا في مستشفى رفيق الحريري الجامعي، وتتراوح التكلفة من 150 ألف إلى 200 ألف ليرة لبنانية (حوالي 100 دولار أمريكي حسب سعر الصرف المعمول به) في المواقع الخمسة عشر الأخرى. بالإضافة إلى ذلك، لا تُجرى الاختبارات سوى للأشخاص الذين ظهرت لديهم أعراض والمشتبه في إصابتهم بالفيروس.

رسم توضيحي 1: النقط السوداء تدل على توزيع مراكز الاختبار في لبنان
من حيث المبدأ، ينطبق نهج الاختبار على المواطنين من أهل البلد والأجانب، بمن فيهم اللاجئون السوريون والفلسطينيون. وقد صرّح وزير الصحة حمد حسن أن مسؤولية الرعاية الصحية لللاجئين يجب أن تكون مشتركة بين الحكومة اللبنانية ووكالات الأمم المتحدة ، فيما صرّحت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أنها ستغطي تكاليف اختبارات وعلاج اللاجئين السوريين في أي مركزٍ علاجي، ولكن بناءً على الفحص الذي تجريه وزارة الصحة وتوصياتها. كما أشارت إلى أنها ستموّل أجنحةً إضافية بأسرّةٍ إضافية، بما في ذلك وحدات عناية مركزة، حتى تتوافر استعدادات كافية لاستقبال الحالات من المواطنين اللبنانيين واللاجئين على حدٍّ سواء . حتى 5 نيسان/أبريل، أظهرت الاختبارات إصابة فلسطيني واحد وثلاثة سوريين، جميعهم يعيشون خارج المخيمات، بفيروس كورونا، من أصل 520 إصابة و 17 حالة وفاة في جميع أنحاء لبنان .
ما مدى انتشار الفيروس في لبنان؟
من الضروري عند تقييم استراتيجية الاختبار في لبنان، أن نفهم مرحلة تفشي الوباء في البلاد. يمكن أن تلعب الاختبارات المكثّفة للأشخاص الذين يعانون من الأعراض دورًا حاسمًا في احتواء الفيروس في مرحلةٍ مبكّرة، كما حدث في حالة كوريا الجنوبية، التي نجحت في احتواء الوباء سريعًا من خلال تنفيذ برنامج ضخم وجيد التنظيم للاختبار، جنبًا إلى جنب مع الجهود المكثّفة لعزل المصابين وتتبّع وعزل المخالطين لهم .
لقد فوّت لبنان، مثل معظم البلدان الأخرى، هذه الفرصة المبكرة ، مما زاد من معدّل انتقال العدوى بين الأفراد . على الرغم من إمداد منظمة الصحة العالمية وبعض الدول الأوروبية لبنان بمعدّات الاختبار، من غير المحتمل أن يكون لدى لبنان القدرة على زيادة الاختبارات بما يكفي لرصد وعزل أكبر عدد ممكن من الحالات، ومن ثم اعتماد تدابير لاحتواء الفيروس ووقف انتشاره بالكامل.
ولكن الأمل لم يُفقد بالكامل، ويبدو أن اجراءات الاحتواء التي اتخذتها لبنان بالإضافة إلى إجراءات أخرى نجحت في الإبطاء من انتشار الوباء. حتى 14 نيسان/ أبريل، بلغ عدد حالات الإصابة المؤكدة بـ الفيروس 641 حالة، بالإضافة إلى 21 حالة وفاة مرتبطة بها في لبنان. تشير هذه الأرقام إلى أن الفيروس ينتشر بالفعل ولكن معدل نموّه (الذي يمكن تقديره من خلال حساب الوقت المضاعف، أي الوقت الذي تستغرقه الحالات المؤكدة لتتضاعف) أبطأ مما كان سيكون عليه إن لم تُتَخذ أي تدابير، وهو ما يوحي بأن منحنى انتشار الوباء ربما يشهد تسطيحًا.
تعتمد صحة هذه الاستنتاجات على دقة الأرقام المعلَنة، والتي يرجَّح أن تكون أقل من الواقع. إذ لا يمكن أبدًا حصر العدد الفعلي للحالات، لأن السلطات لا يمكنها إجراء اختبار للسكان بأكملهم. قد لا يبدي العديد من الأفراد المصابين أعراضًا، وفي حالة لبنان، لا تتوفر مراكز اختبار في المناطق الريفية، وقد تثني تكلفته الكثير من الناس عن الإقبال عليه. إحدى الطرق الممكنة لمحاولة تقدير العدد المحتمل للحالات هي من خلال حساب معدل إماتة الحالة (CFR) ، والذي يمثل نسبة الوفيات مقارنةً بإجمالي عدد الحالات المؤكدة في فترة معينة. يختلف معدل إماتة الحالة بصورة يومية، ومع تغير عدد الحالات والوفيات، لا يمكن أن يستقر إلا بعد أن يتوقف الانتشار. إذا ما طبقنا هذا النهج على عدد الوفيات في لبنان ، سنجد أن الأرقام الحالية المعلنة لا تعكس العدد الفعلي للأشخاص المصابين، بعامل 3 إلى 5. تثير هذه النتائج تساؤلًا مهمًا، وهو: إذا كان هناك الكثير من الحالات غير المعلَنة في لبنان، فلماذا لا تشهد المستشفيات طفرةً في الأعداد الواردة إليها؟ هناك تفسير محتمل لهذا، وهو أن الغالبية العظمى من الحالات في لبنان تنتمي إلى الفئات العمرية الأصغر سنًا، والتي غالبًا ما تكون إصابتها طفيفة لا تتطلب دخول المستشفى .
إن عدم الإبلاغ عن حالات الإصابة – التي من المرجح أن تكون خفيفة أو بدون أعراض – قد لا يكون له تأثير على المدى القصير من حيث قدرة المنظومة الصحية، مع ذلك سيكون له تداعيات على المدى الطويل فيما يتعلق برفع الحظر دون دراية حقيقية بنطاق الانتشار الفعلي داخل المجتمع. فإذا كان هناك عدد كبير من الحالات التي لم يتم اكتشافها، يمكن لهؤلاء الأفراد الاستمرار في نقل العدوى إلى آخرين، والوصول في نهاية المطاف إلى الفئات الضعيفة عند رفع الحظر. يعد الاختبار لتحديد أكبر عدد ممكن من الحالات أمرًا حاسمًا في فهم حالة انتشار الفيروس، حتى يمكن التخطيط لرفع الحظر بشكل آمن، والعودة تدريجيًا إلى الحياة الطبيعية.
لذا يتبنّى لبنان، مثله مثل العديد من البلدان الأخرى، استراتيجية مختلطة للاحتواء قدر الإمكان، بينما يحاول التخفيف من تأثير الفيروس. وهنا يصبح السؤال: ما الدور الذي يجب أن يلعبه الاختبار في مثل هذه الاستراتيجية؟ الجواب يعتمد على موارد وقدرات لبنان.
بين المثالي والممكن: خياراتٌ صعبة أمام لبنان
يشكّل فيروس كورونا المستجد أزمةً صحية واقتصادية، ويجد العالم بأسره نفسه الآن في وضع يتم فيه إجراء مقايضات بين حياة بعض الناس وسبل عيش البعض الآخر، وهو أمر في غاية الصعوبة بالنظر إلى الاضطرابات الاقتصادية الأخيرة التي يشهدها لبنان، ولا يمكن أن يستمر الحظر لشهور دون وجود تدابير دعم اجتماعي واقتصادي مختلفة. وعلى الرغم من الخطط والوعود التي أطلقها المسؤولون الحكوميون، لم تظهر حتى الآن أي بوادر لحزمة دعم اقتصادي.
الوضع الأمثل هو أن يكثّف لبنان الاختبارات بشكل كبير مع توسيع نطاقها الجغرافي، لتشمل المناطق الريفية على وجه الخصوص، لمحاولة تحجيم انتشار الفيروس في البلاد بشكل أكثر فعالية. ومن الأفضل أن يصاحب تكثيف الاختبارات نهج أكثر شمولية لتتبّع المخالطين لأولئك الذين تم تأكيد إصابتهم بالفيروس، وإخضاعهم للحجر الصحي. تلك الإجراءات قد تؤدي إلى انفتاح الاقتصاد تدريجيًا.
قد يكون هذا النهج جذابًا إذا كانت منظومة الصحة في لبنان قادرة على استيعاب ومتابعة كافة الحالات المكتشَفة، وإذا كانت الدولة قادرة على رصدها ومراقبتها. تشير بعض الحسابات التقديرية المبدئية إلى أن لبنان لن يتمكّن من وضع تلك السياسة موضع التنفيذ. فحتى إن وجد طريقةً لتكثيف الاختبارات، سرعان ما ستتعرض بنيته التحتية الصحية للضغط الشديد.
ماذا لو كان لبنان غير قادر على زيادة معدلات الاختبار إلى المستوى المطلوب؟
يمكن للبنان أن يتبنى نهجًا بديلاً يتمثل في قصر اختباراته على الفئات الأكثر ضعفًا (الذين تزيد أعمارهم عن 60 عامًا ومن يعانون من أمراض مزمنة على سبيل المثال)، والأشخاص الأكثر عرضة للإصابة بالعدوى ونشر الفيروس (مثل العاملين في مجالات الرعاية الصحية والخدمات الغذائية والنقل). وفي الوقت نفسه، ينبغي توسيع نطاق الاختبار ليشمل المناطق الريفية؛ حيث لا تزال جودة خدمات الرعاية الصحية سيئة والوصول إليها محدود، وذلك حتى يمكن رصد أي حالات من بين الفئات الضعيفة. حتى بالنسبة إلى مواقع الاختبار المركزية، هناك خيارات قابلة للتنفيذ في بلدٍ صغير كلبنان، مثل الاختبارات المتنقلة أو التي تجرى للأشخاص داخل المركبات، حيث يتم جمع العينات ونقلها إلى مختبر مركزي لتحليلها. بالإضافة إلى ذلك، فإن النهج المتبع حاليًا للحصول على العينات يحدّ بشدّة من سعة الاختبار ويعرّض العاملين في الخطوط الأمامية في مجال الرعاية الصحية لخطر التعرض للفيروس، خاصةً وأن معدات الحماية الشخصية تحتاج إلى تغيير في كل مرة يتم فيها أخذ مسحة من حالة مشتبه فيها. لذلك اقترح البعض اختبار المسح الذاتي كنهجٍ لتعزيز سعة الاختبار، وحماية العاملين في مجال الرعاية الصحية . يمكن القيام بذلك إلى جانب إخضاع المجموعات التي تشكّل خطرًا للحجر الصحي، وفتح الاقتصاد للمجموعات التي لا تشكّل خطرًا لفترة من الوقت، حتى يتم تحقيق مناعة القطيع.
يتطلب هذا النهج بالطبع تنسيقًا استثنائيًا للجهود المبذولة على جميع المستويات وفي مختلف قطاعات الحكومة، بالإضافة إلى أقصى قدر من الشفافية التي من شأنها أن تعزز ثقة الجمهور في الحكومة وتعاونه معها. ويبقى السؤال: هل يستطيع لبنان الوفاء بتلك المتطلبات؟
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.