ملخَّص
في تشرين الأوّل/أكتوبر عام 2019، عانى الاقتصاد اللبنانيّ المستنزف بالفعل من صدمة مدمِّرة أدّت إلى نقص ملموس في الدولار الأميركيّ، وقيود على عمليّات سحب العملات الأجنبيّة وتحويلها، وانخفاض هائل في قيمة العملة اللبنانيّة، وتراجع كبير في القوّة الشرائيّة. وقد كان لهذا الانهيار الاقتصاديّ تأثيراً سلبيّاً على كافّة قطاعات الرعاية الصحّيّة بما في ذلك المستشفيات ومقدِّمي خدمات الرعاية الصحّيّة وصناعة الأدوية والمستلزمات الطبّيّة. فضلاً عن أنّ تفشّي فيروس كورونا أدّى إلى تفاقم الأزمة. ولمواجهة أزمة الرعاية الصحّيّة، يتعيَّن على لبنان اتّباع نهج مزدوج المسار، ينطوي على اتّخاذ تدابير فوريّة وملموسة لمعالجة القضايا المُلحة على المدى القصير من جهة، وبذل المزيد من الجهود على المدى المتوسّط/الطويل لمعالجة القضايا الهيكليّة التي يعاني منها القطاع الصحّيّ من جهة أخرى. نستعرض في هذه الورقة البحثيّة بعضَ الإصلاحات الأساسيّة اللازمة على المدى القصير. يركّز هذا النهج على ضمان وصول الجميع إلى خدمات الرعاية الصحّيّة، وتحسين مراكز الرعاية الصحّيّة الأوّليّة والطوارئ والتحكّم في إعادة الدخول [تكرار دخول المريض إلى المستشفى للعلاج من نفس المشكلة الصحّيّة خلال شهر] وتقديم خدمات التطبيب عن بُعد. سيتطلّب الأمر اتّخاذ تدابير فوريّة لتقليل العبء الماليّ على المستشفيات وتكاليف العلاج فيها. وفي نفس الوقت، يجب القيام بجهود لدعم مقدِّمي خدمات الرعاية الصحّيّة والتعامل مع التحدّيات التي تواجه صناعة الأدوية والمستلزمات الطبّيّة. قد تشمل هذه الجهود الدعم النقديّ المباشر وغير المباشر، إضافةً إلى وضع مبادئ توجيهيّة لدعم الأشخاص المسؤولين عن هذه الصناعات مع الحفاظ على جودة المنتجات والخدمات التي يقدِّمونها.
اقرأ المزيدمقدّمة
كان تشرين الأوّل/أكتوبر من عام 2019 بمثابة نقطة تحوّل في لبنان، فقد عانت البلاد من صدمة اقتصاديّة عارمة دمَّرت كلّ القطاعات. بعد إغلاق المصارف عدّةَ أسابيع، اكتشف الشعب اللبنانيّ أنّ احتياطيّ العملة الأجنبيّة في المصارف ومصرف لبنان قد استُنفد، وأنّ المودِعين واجهوا ضوابط صارمة على رأس المال لم تقرّها السلطات الرسميّة. وشهد السوق اللبنانيّ فجأة نقصاً في الدولار الأميركيّ مما أدّى إلى تجاوز العديد من أسعار الصرف في السوق الموازية الأسعار الرسميّة، وفرْض قيود شديدة وصارمة على سحب الدولار والتحويلات الدوليّة من العملات الأجنبيّة خارج البلاد. فضلاً عن أنّ أزمة كورونا التي بدأت في شباط/فبراير 2020 أدّت إلى تفاقم الاضطرابات الاقتصاديّة، بينما خضع لبنان بالكامل للإغلاق مدّةَ ستّ أسابيع تقريباً. وفي دولة تعتمد اعتماداً كبيراً على السياحة والخدمات، ألقَت أزمة كورونا بثقلها على الاقتصاد الذي كان يعاني بالفعل من ارتفاع التضخّم ومعدّلات البطالة، وعجز كبير في ميزان المدفوعات وارتفاع الدين العامّ.
تأثّرت سلاسل إمداد البضائع بما في ذلك المستلزمات الطبّيّة في لبنان، مثلما تأثّرت في دول أخرى، بشدّة بفعل الجائحة. وفيما تمكّنت دول عديدة من تخفيف آثار أزمة كورونا، لم يستطع لبنان ذلك، في ظلّ الأزمة الماليّة الطاحنة والكساد الاقتصاديّ غير المسبوق الذي مُنيت به البلاد. ويتوقّع البنك الدوليّ أزمة ممتدّة ومزيداً من فقدان القوّة الشرائيّة وارتفاعاً في معدّلات الفقر والبطالة.
تناقش هذه الورقة آثار الأعباء الاقتصاديّة على نظام الرعاية الصحّيّة، وتركّز على قطاع المستشفيات ومقدِّمي خدمات الرعاية الصحّيّة وقطاع الأدوية والمستلزمات الطبّيّة. واجه قطاع الرعاية الصحّيّة، شأنه شأن غيره من القطاعات الاقتصاديّة في لبنان، تحدّيات كبيرة لا يمكن التغلّب عليها من دون إجراء إصلاحات جادّة. ثَمّة حاجة ماسّة إلى تنفيذ خطط فوريّة وخطط على المدى الطويل. تركّز هذه الورقة بصفة أساسيّة على الإجراءات والحلول اللازمة لوقاية نظام الرعاية الصحّيّة من الانهيار التامّ وضمان قدرة الأفراد المحتاجين إلى الرعاية الصحّيّة وأسرهم على دفع تكاليف الرعاية الصحّيّة. يتّسم هذا الأمر بأهمّيّة كبرى نظراً إلى إعلان مصرف لبنان عن وقف كلّ الدعم بما في ذلك دعم الأدوية والمستلزمات الطبّيّة بحلول تشرين الثاني/نوفمبر 2020.
نظرة عامّة على نظام الرعاية الصحّيّة اللبنانيّ
على مدار العقدَين الماضيَين وفي أعقاب الحرب الأهليّة المدمِّرة (1975-1990)، اتّخذت وزارة الصحّة العامّة خطوات عديدة لتعزيز نظام الرعاية الصحّيّة وضمان جودة أفضل للخدمات وتمكين الوصول إليها. واحتلّ لبنان المركز رقم 33 بين 195 دولة في مؤشّر الوصول إلى الرعاية الصحّيّة وجودتها (HAQ) لعام 2018. ، وحصل لبنان على المركز الأوّل بين جميع دول الشرق الأوسط وسجَّل أفضل أداء من بين الدول ذات المؤشّر الاجتماعيّ الديمغرافيّ (SDI) المتوسّط إلى المرتفع، إلى جانب المملكة العربيّة السعوديّة وتركيا بالنسبة إلى مؤشّر الوصول إلى الرعاية الصحّيّة وجودتها. وعلاوةً على ذلك، يبلغ متوسّط العمر المتوقّع في لبنان عند الولادة 76.28 عاماً ليحتلّ لبنان المركز الثالث في الشرق الأوسط بعد الإمارات وقطر. نجح لبنان أيضاً في تقليل معدّلات وَفَيَات الرضع إلى حدٍّ كبير، ومعدّل وفيات حديثي الولادة ومعدّل وفيات الأطفال دون سن الخامسة خلال الثلاثين عاماً الماضية.
تتولّى شبكة من المستشفيات الخاصّة والحكومية تقديم خدمات الرعاية الصحّيّة للمرضى الداخليّين. ووفقاً لموقع وزارة الصحّة العامّة، تمتلك المستشفيات الحكومية 18% من إجماليّ عدد الأسرة في لبنان. بينما تُستخدم العيادات الخاصّة معظم الوقت لتقديم الخدمات الخارجية. إضافةً إلى ذلك، هناك شبكة موسّعة من مراكز خدمات الرعاية الصحّيّة الأوّليّة والمستوصفات تديرها وزارة الصحّة العامّة والمنظّمات الخيريّة لتقديم الخدمات للشرائح السكّانيّة الأقلّ دخلاً وغير القادرة على تحمُّل تكاليف الرعاية المُقدَّمة في العيادات الخارجيّة الخاصّة.
رغم خضوع أسعار الأدوية لهياكل التسعير التي وضعتها وزارة الصحّة العامّة، ما تزال هناك أدوية عديدة لا يستطيع المرضى ذوو الدخل المنخفض تحمَّل تكلفتها. ومن خلال شبكة مراكز الرعاية الصحّيّة الأوّليّة، توزّع وزارة الصحّة العامّة بالتعاوُن مع جمعيّة الشبّان المسيحيّين وغيرها من المنظّمات غير الحكوميّة، أدوية الأمراض المزمنة مجّاناً. يوجد 650 مستوصفاً نشطاً منتشرة في جميع المحافظات، بالإضافة إلى 238 مركزَ رعاية صحّيّة أوّليّة. سعت وزارة الصحّة العامّة إلى تعزيز جودة الرعاية المقدَّمة من خلال ضمان قدرة هذه المراكز على تقديم مجموعة من الخدمات والمنتجات الصحّيّة الأساسيّة المدعومة ماليّاً للجميع (تُعرف باسم حزمة خدمات الرعاية الصحّيّة الأساسيّة) ومن خلال إدخال نظام اعتماد يضع معايير الجودة ويحثّ على التحسين المستمرّ لهذه المراكز لتنفيذها.
في عام 2017، موّلت الحكومة، عبر وزارة الصحّة والطبابة العسكرية التي تغطّي نفقات أفراد الجيش اللبنانيّ وأسرهم، 21.4% من تكلفة المنتجات والخدمات الصحّيّة التي أنفقت في لبنان (التي تُعرف باسم "الإنفاق الصحّيّ الحاليّ" [CHE]). أما الصناديق المعتمدة على مساهمات صاحب العمل (ما عدا الجيش كصاحب عمل) مثل "الصندوق الوطنيّ للضمان الاجتماعيّ" و"تعاوُنيّة موظّفي الدولة" فقد تكفّلت بنحو 23% من نفقات الرعاية الصحّيّة. في حين غطت شركات التأمين الخاصّة نسبة 19.1% من النفقات، والمنظّمات غير الحكوميّة 3.1%، دُفعت باقي النسبة وهي 33.1% من أموال المواطنين الخاصّة. يتولّى القطاع العامّ إدارة أموال تأمين الرعاية الصحّيّة المعتمدة على مساهمات صاحب العمل باستثناء الجيش في لبنان وتشمل:
- الصندوق الوطنيّ للضمان الاجتماعيّ هو صندوق يعتمد على مساهمات أصحاب العمل لموظّفي القطاع الخاصّ. ومن الجدير بالذكر أنّ الرعاية الصحّيّة المنزليّة غير مشمولة بتغطية الصندوق. في عام 2018 انتفع 26% من المواطنين منه.
- تتكفّل تعاوُنيّة موظّفي الدولة بتكاليف الرعاية الصحّيّة لموظّفي القطاع العام. في عام 2018، انتفع 3% من المواطنين من التعاوُنيّة.
يوضّح الشكل رقم 1 توزيعَ مساهماتهم في إجماليّ الإنفاق وَفقَ صناديق العمالة (العسكريّة وغير العسكريّة)، ويمثّل إسهام الصندوق الوطنيّ للضمان الاجتماعيّ (NSSF) معظمَ النفقات الصحّيّة التي يدفعها أرباب العمل.
شكل 1. توزيع نفقات صناديق العمالة بين مختلِف الوكالات.
مفتاح الشكل: قوى الأمن العامّ (GSF). قوى الأمن الداخليّ (ISF). قوّات أمن الدولة (SSF). الجمارك. الجيش. الصندوق الوطنيّ للضمان الاجتماعيّ (NSSF). تعاوُنيّة موظّفي الدولة (تعاوُنيّة موظّفي القطاع المدنيّ) (MFE)
تقوم وزارة الصحّة العامّة -من حيث المبدأ- بتغطية مَن لا يتأهّلون للاستفادة من صناديق العمالة، ومَن ليس لديهم الوسائل للحصول على تأمين صحّيّ خاصّ. إضافةً إلى ذلك، ومنذ العام 2016، تقوم الوزارة -من ناحية المبدأ- بتغطية نفقات العلاج في المستشفيات بالنسبة لجميع المواطنين اللبنانيين من كبار السنّ (من سنّ 65 فما فوق).
في العام 2012 استفادت نسبة 8% فقط من أولئك المستحقّين لتغطية وزارة الصحّة العامّة من تلك التغطية. وقد شعر عديد من اللبنانيّين بالاستياء لعدم تغطية تكاليف علاجهم في المستشفيات؛ في حين كان يجب أنْ تشملهم الهيكلية الموضّحة في الأعلى. قد يعني هذا استبعاد كثيرين من تغطية وزارة الصحّة العامّة، على العكس ممّا هو عليه الحال رسميّاً على الأوراق. فقد أثّرت السياسة والمذهبيّة والانتماء الدينيّ على إمكانيّة الحصول على الرعاية الصحّيّة في لبنان، ، ولذا فمن المنطقيّ أنْ نتوقّع حدوثَ الأمر ذاته مع تغطية وزارة الصحّة العامّة وتأثّرَها بالعوامل نفسها. ومع ارتفاع نسبة البطالة، لن يكون بمقدور المزيد من المواطنين استحقاق تغطية صناديق العمالة، وسيعتمدون على إنفاق وزارة الصحّة العامّة أو سيدفعون من جيوبهم لتغطية نفقاتهم الصحّيّة، كلّ هذا مع عجزهم عن دفع أقساط التأمين الخاصّ في ظلّ استمرار تراجُع قدرتهم الشرائيّة.
يسجّل الصندوق الوطنيّ للضمان الاجتماعيّ عجزاً في الموازنة منذ عدّة سنوات، و ما زالت بعض المستشفيات ترفض استقبال المرضى المشمولين بتغطية وزارة الصحّة العامّة، بسبب عجز الوزارة عن دفع نفقات هؤلاء المستحقّين نظريّاً لتلك التغطية. ونظراً لأنّ الصندوق هو أكبر المساهمين من بين صناديق العمالة، ولأنّ الوزارة هي شبكة الأمان النهائيّة بالنسبة للمواطنين الذين ليست لديهم تغطية صحّيّة، فإنّ فشلهم في تلبية تلك الالتزامات يؤثّر تأثيراً بالغاً على هدف توفير الرعاية الصحّيّة للجميع. وقد شهدت ميزانيّة وزارة الصحّة العامّة زيادةً ملحوظة من 232,945,000 دولار أميركيّ في العام 2005 إلى 485,899,000 دولار أميركيّ في العام 2018 (بافتراض سعر الصرف الرسميّ للدولار الأميركيّ بقيمة 1500 ليرة لبنانيّة). وكانت أعلى المبالغ التي أنفقتها الوزارة هي تلك التي تغطّي فواتير المستشفيات بنسبة تصل إلى 64% والأدوية بنسبة 22% في العام 2018.
على مدار الأعوام الخمسة عشر الماضية، زادت النفقات الصحّيّة في لبنان بنسبة 57% لتصل إلى 719 دولاراً للفرد في عام 2017. ونسبةً إلى الناتج المحلّيّ الإجماليّ اللبنانيّ، فإنّ البلاد لديها أعلى نسبة إنفاق صحّيّ بين الدول العربيّة (8.2% في العام 2018). ومع أنّ النظام الصحّي اللبنانيّ قد حقّق معايير جودة حسنة (نُوقِشت في الأعلى)، لا يُزيل الإنفاق العالي في مجال الرعاية الصحّيّة تلك التفاوُتات في الحصول عل الرعاية ولا يضمَن اجتناب الفقراء تلك النفقات الكارثيّة.
الأوضاع في المستشفيات الخاصّة
ضربَت الأزمة الاقتصاديّة الأخيرة في البلاد المستشفيات بشدّة. يوجد في لبنان 163 مستشفىً (شكل 2). ، وحتّى اليوم (أيلول/سبتمبر 2020)، ما تزال المستشفيات تقدِّم فواتير خدماتها بنفس الأسعار حين كان سعر الصرف الرسميّ هو 1500 ليرة لبنانيّة مقابل الدولار الأميركيّ، مقارنة بأسعار الصرف الحاليّة في السوق السوداء التي تقترب من 8000 ليرة لبنانيّة مقابل الدولار الأميركيّ.
علاوة على ذلك، وبسبب التحدّيات الماليّة التي تواجهها شركات التأمين، فإنّ كثيراً منها تصدر سياسات تستثني المستشفيات الكبرى، أيْ الأغلى؛ وذلك من أجل توفير أقساط أقلّ وبأسعار معقولة. إضافةً إلى هذا، فإنّ تراجُع القوّة الشرائيّة للأسر اللبنانيّة تُعيق كثيرين عن شراء بوليصات التأمين الخاصّ. وقد أدّى نقص التغطية التأمينيّة بالنسبة لكثيرين إلى انخفاض في عدد المرضى النازِلين بالمستشفيات الكبرى (التي عادةً ما تكون رسومها أعلى). وليس لدى هؤلاء الأفراد والأسر من خيار سوى محاولة الاعتماد على وزارة الصحّة العامّة لتغطية فواتير الرعاية الصحّيّة.
لَطالما كانت وزارة الصحّة العامّة والصندوق الوطنيّ للضمان الاجتماعيّ مدِينَين للمستشفيات بسبب التأخّر في دفع الفواتير. وتلك الفواتير المتأخّرة بالليرة اللبنانيّة، ولذلك فهي عُرضة لكلّ تأثيرات انخفاض قيمة العملة خلال موعد تسوية الحسابات. ومع زيادة اعتماد المرضى على الوزارة، والخسائر التي يتكبّدها الصندوق الوطنيّ للضمان الاجتماعيّ، وزيادة نفقات الجهتَين [الوزارة والصندوق]، فقد يصعُب على الجهتَين الوفاء بالتزاماتهما تجاه المستشفيات، مّما قد يُحدث مزيداً من التأثير على القدرات الماليّة لتلك المستشفيات. وبَينما قرّرت الحكومة في تشرين الثاني/نوفمبر 2019 دعمَ بعض عناصر الرعاية الصحّيّة، وذلك من خلال توفير العملة الأجنبيّة [الدولار الأميركيّ] بسعر صرف 1500 (وذلك للإمدادات الطبّيّة والأدوية على سبيل المثال)، إلّا أنّ بعض العناصر الحيويّة الأخرى غير مشمولة في خطّة الدعم هذه. فعلى سبيل المثال لا يتمّ دعم قطع غيار المعدّات الطبّيّة، وعادة ما تُخرَق عقود صيانة تلك المعدّات من قِبَل الشركات المصنِّعة. مِن ثَمَّ، ومن أجل استمرار العمل وتقليل الخسائر، لجأ كثيرٌ من المستشفيات إلى خفض أجور العاملين فيها، وتسريح البعض، ومَنْح البعض إجازات مؤقّتة بلا أجر، وتقليص أو إغلاق بعض الخدمات. ومع هذه الإجراءات المؤلمة بُغية خفض النفقات، فإنّ الوضع الحاليّ غير مستدام؛ وقد أشار رئيس نقابة المستشفيات الخاصّة، سليمان هارون، إلى أنّ هناك 15 مستشفىً يتهدّدها خطر الإغلاق الوشيك وتّتجه إلى الانهيار.
شكل 2. أعداد المستشفيات لكلّ محافظة، مخطّطةً تبعاً لتعداد السكّان في تلك المحافظة
تحدّيات أمام مقدِّمي الرعاية الصحّيّة
لدى لبنان وفرة في عدد الأطبّاء لتغطية احتياجاته في مجال الرعاية الصحّيّة؛ فهناك أكثر من 22 طبيباً لكلّ عشرة آلاف شخص، وهي خامس أعلى نسبة في منطقة شرق المتوسّط. لكنّه، من ناحية أخرى، يعاني من نقص في أعداد طاقم التمريض؛ إذ هناك أقلّ من 17 ممرِّضة وقابلة لكلّ عشرة آلاف شخص، ممّا يجعل لبنان في المرتبة 12 من بين 22 دولة في المنطقة. ويتعرَّض العاملون في مجال الرعاية الصحّيّة لضغوط هائلة نتيجة الأزمة الاقتصاديّة والماليّة. إذ يُصنِّف القانونُ اللبنانيّ الطبَّ على أنّه "مهنة حرّة"؛ ومِن ثَمَّ يُعامَل الأطبّاء باعتبارهم مهنيّين مستقلّين ويمكنهم العمل لحسابهم الخاصّ. وتبعاً لهذا، فالأطبّاء ليسوا موظّفين ذوي رواتب، سواء عملوا في عيادات خاصّة أو في مستشفيات كبيرة. وتُدفَع رواتب الأطبّاء من رسوم مهنيّة تُحصَّل بشكلٍ منفصل عن رسوم المستشفيات. وفي العيادات الخاصّة، يحصل الأطبّاء على رسومهم المهنيّة مباشرةً من المرضى. وكالمستشفيات، ما تزال رسوم الأطبّاء المهنيّة، كما حدّدتها نقابة الأطبّاء، تُدفَع بالليرة اللبنانيّة، مع مجرّد تعديل طفيف لجعلها تتماشى مع أسعار الصرف الجديدة أو معدّل التضّخم الجديد. وقد أدّى هذا -إضافةً إلى انخفاض القوّة الشرائيّة اللبنانيّة وانخفاض حالات العلاج داخل المستشفيات خلال تفشّي فيروس كورونا- إلى انخفاض ملحوظ في دخل الأطبّاء. وكدولٍ أخرى، انخفض دخل الأطبّاء بنسبة 50% بسبب وباء كورونا. غير أنّه في لبنان، وبسبب أنّ هذا الانخفاض كان مصحوباً بخفض قيمة الليرة اللبنانيّة (من 1500 إلى 7500 ليرة مقابل الدولار الأميركيّ)، فإنّ إجماليّ الخسارة المتوقّعة في القوّة الشرائيّة يصل إلى أكثر من 80%.
لنفس الأسباب، تعرَّض العديد من أفراد طاقم التمريض لتقليص الرواتب أو التسريح أو مُنِحوا إجازات مؤقّتة بلا أجر. بناءً على هذا، يفكّر كثير من الأطبّاء وأفراد طاقم التمريض في مغادرة البلاد وتأمين وظائف أفضل في أماكن أخرى. ومنذ تمّوز/يوليو الماضي تقدّم رسميّاً أكثر من 300 طبيب وأكثر من 200 من أفراد طاقم التمريض إلى مستشفياتهم وإلى نقابة الأطبّاء بطلبات لترك وظائفهم من أجل العمل في الخارج.
قطاع الأدوية والمستلزَمات الطبّيّة
هناك في لبنان 2614 صيدليّة، تتركّز الغالبيّة العظمى منها في منطقة جبل لبنان. ووَفقاً لـ"نقابة مصانع الأدوية في لبنان"، يُقدَّر حجم سوق الأدوية اللبنانيّ بنحو 1.98 مليار دولار أميركيّ عام 2019، منها 139 مليون دولار أميركيّ (7% من إجماليّ حجم السوق) تُمثّل حصّة صناعة الأدوية المحلّيّة.
منذ تشرين الأوّل/أكتوبر عام 2019، يُقدِّم مصرف لبنان الدعمَ الماليّ للمنتجات الدوائيّة (بما في ذلك الموادّ الطبّيّة الأوّليّة التي تدخل في الصناعات الدوائيّة المحلّيّة)، وذلك من خلال توفير 85% من العملات الأجنبيّة اللازمة لاستيراد الأدوية بسعر الصرف الرسميّ المعمول به في السابق. إضافةً إلى الهيكل والآليّة القائمة بالفعل لتسعير الأدوية، كان من المفترض أنْ تضمَن هذه الإجراءات استقرارَ الأسعار بالنسبة للمستهلكين واستمراريّةَ العمل بالنسبة للمستورِدين والصيادلة. بَيد أنّ الأسواق المحلّيّة شهدت نقصاً في الأدوية منذ حزيران/يونيو 2020. علاوةً على الاضطرابات التي واجهتها سلاسل الإمدادات بسبب تفشّي فيروس كورونا، أسهمت عدّة عوامل محلّيّة أخرى في هذا النقص، كان من الممكن السيطرة عليها ومعالجتها، من بينها: تهريب الأدوية المدعومة خارج البلاد، وتوجّه المرضى وأصحاب المستودَعات المحلّيّة إلى تخزين الأدوية تحسّباً لزيادة الأسعار في المستقبل، وفرْض مصرف لبنان آليّةً لاستيراد الأدوية تتطلّب وقتاً طويلاً للحصول على الموافقة وفتح الاعتمادات. ، وثَمّة سببٌ آخر غيرُ معلَن، ويُسهِم بشكل رئيسيّ في تفاقُم الأزمة، وهو التعارض المحتمَل في هياكل التسعير بين المستورِدين ووزارة الصحّة العامّة.
فيما يتعلّق بعمليّة التوزيع ووصول الأدوية إلى المرضى، أعلنت "نقابة صيادلة لبنان" أنّ عدد الصيدليّات التي أقفلت أبوابَها تخطّى 200 صيدليّة حتّى الآن، مع وجود 800 صيدليّة أخرى مُهدَّدة بملاقاة المصير نفسه. ويُعزَى السبب في ذلك إلى الانخفاض الكبير في الأرباح والخسائر التي مُنِيَت بها هذه الصيدليّات خلال العام الحاليّ. إذ إنّ الصيدليّات في لبنان تبيع المستحضرات الصيدلانيّة، كالأدوية، بهامش ربح ثابت تحدِّده وزارة الصحّة العامّة، ووَفقاً لسعر الصرف المدعوم. ومع انخفاض قيمة الليرة اللبنانيّة، انخفضت القيمة الفعليّة لهامش الربح الثابت للصيدليّات من بيع الأدوية. في حين شهدت الصيدليّات أيضاً انخفاضاً في مبيعات الكماليّات نظراً إلى ارتفاع تكلفة هذه المنتجات. والنتيجة النهائيّة هي إفلاس العديد من الصيدليّات.
ثَمّة سياسة دعم مماثلة تنظّم استيراد المستلزَمات الطبّيّة والمغروسات إلى لبنان؛ غير أنّ المعدّات الطبّيّة وقطع الصيانة غير مشمولة في هذه السياسة. ومِن ثَمَّ، فإنّ استيراد أيّ معدّات جديدة حاليّاً يتوقّف على إمكانيّة تأمين العملات الأجنبيّة من السوق السوداء. وبما أنّ الأسعار الحاليّة للخدمات الطبّيّة المُقدَّمة ما تزال عند مستويات ما قبل تشرين الأوّل/أكتوبر 2019، فليس لدى مقدِّمي الخدمات الصحّيّة حافزٌ يذكَر لشراء أيّ معدّات طبّيّة في الوقت الراهن.
اقتراح حلول للمضيّ قدُماً
فرضَ تدفّق اللاجئين السوريّين خلال السنوات الماضية عبئاً ثقيلاً على مختلِف ركائز نظام الرعاية الصحّيّة اللبنانيّ، بدءاً من مراكز الرعاية الصحّيّة الأوّليّة وصولاً إلى مراكز الرعاية المتخصّصة. فيما يقع قطاع الرعاية الصحّيّة اللبنانيّ حاليّاً تحت وطأة ثلاثة عوامل اقتصاديّة، فضلاً عن العواقب الناجمة عن تفشّي فيروس كورونا، تتمثّل في: 1) تراجُع القوّة الشرائيّة للمرضى، 2) إجراءات مراقبة رؤوس الأموال، 3) تخفيض قيمة العملة اللبنانيّة. وبالرغم من تدخّل مصرف لبنان للتخفيف من حدّة أثر إجراءات مراقبة رؤوس الأموال على هذا القطاع تحديداً، فإنّ الأمر يتطلّب وضع خطّة أشمل. وهذه مسألة ملحّة، خاصّةً في ضوء الإعلان الذي صدر مؤخّراً عن مصرف لبنان بأنّه سيُوقِف جميع أشكال الدعم بحلول تشرين الثاني/نوفمبر 2020، لمنع نزول الاحتياطيّ بعد تآكُل إجماليّ احتياطيّاته من النقد الأجنبيّ.
أظهرت تجارب الدول الأخرى أنّ لخفضِ الإنفاق على الرعاية الصحّيّة -كجزءٍ من تدابير التقشّف- عواقبَ سلبيّة خطيرة على الصحّة العامّة، وتبيَّن أنّ له تأثيراً أكبر على الوصول إلى الرعاية الصحّيّة مقارنةً بالأزمات الاقتصاديّة ذاتها. ومِن هذا المنطلَق، يجب وضع خطّة استجابة مشترَكة بين وزارة الصحّة العامّة وبين ممثّلي مختلف أعضاء القطاعات الصحّيّة وممثّلي الوزارات الأخرى المعنيّة. ويجب أنْ تتمثّل أهداف هذه الخطّة في ضمان توفير خدمات الرعاية الصحّيّة التي يسهل الوصول إليها، ودعم قطاع الرعاية الصحّيّة خلال فترة الركود الحادّ، في انتظار الوصول إلى حالة استقرار جديدة.
نُقدِّم هنا إطارَ عمل لمعالجة المشكلة على أساس تقليل النفقات مع الحفاظ على جودة خدمات الرعاية الصحّيّة، بالإضافة إلى حلول ماليّة من أجل مواصلة عمل مقوّمات قطاع الرعاية الصحّيّة.
لا ينبغي لخفض النفقات الصحّيّة واحتواء التكاليف أنْ يؤثّر بأيّ حال من الأحوال على الجودة. ففي ظلّ محدوديّة الموارد المتاحة، ومع ضرورة منح المرضى أفضل ما هو متاح، لا بدّ من وضع استراتيجيّات وسياسات لتسهيل اعتماد خطّة تعاوُن في إدارة تكاليف الرعاية الصحّيّة تكون مخصّصةً لكلّ حالة مرَضيّة على حِدَة ومشتركةً بين المنظّمات. وهذا من شأنه أنْ يجمع المستشفيات في القطاعَين الخاصّ والعامّ ووزارة الصحّة العامّة، فضلاً عن جماعات الدفاع عن حقوق المرضى، من أجل تنسيق الجهود وتوجيه السياسات وتخصيص الموارد من أجل تحسين خدمات الرعاية الصحّيّة.
على الرغم من ضرورة إعطاء الأولويّة لبعض فئات المرضى (المرضى الأكثر ضعفاً، والمرضى المتوقع شفاؤهم، والمرضى العاملين في قطاع الرعاية الصحّيّة...)، فيجب عدم التخلّي عن تقديم الرعاية الصحّيّة لأيّ مريض بسبب القيود الماليّة وحدها. ولذلك، لا بدّ أنْ تدرِس أيّةُ عمليّة منوطة باتّخاذ القرارات عواقبَ هذه القرارات المُتّخذة، وأنْ تحقّق أقصَى قدرٍ من الفوائد التي تعود على الفرد، وأنْ تكفل الإنصاف وتأخذ في أولويّاتها العواقب تجاه فئاتٍ أوسع من المتأثّرين بالقرارات (وليس الفرد فقط). تُعدّ الخبرة المكتسبة من البلدان التي خضعت لتغييرات مماثلة مؤشّراً واضحاً على أنّ مثل هذه العمليّة ستساعد على توجيه صانعي السياسات في اتّخاذ القرارات الصعبة، والتخفيف من قلقهم، وضمان الشفافية أمام الجمهور.
على نحو مماثل، ينبغي بذل جهود لاتّخاذ تدابير من شأنها خفض التكاليف التي يتكبّدها المرضى ومؤسّسات التمويل إلى أقصى حدٍّ ممكن. وفي هذا الصدد، نقترح بعض المجالات التي يمكن أنْ تكون أهدافاً جيّدة لخفض النفقات.
تعزيز خدمات الرعاية الصحّيّة الأوّليّة والطارئة
على الرغم من انتشار مراكز الرعاية الصحّيّة الأوّليّة التابعة لوزارة الصحّة العامّة في مختلف أنحاء البلاد، فإنّها ما تزال غير متطوّرة، ولا تحوي أجهزة التصوير التشخيصيّ الأساسيّة والخدمات المخبرية. فما يزال يتعيَّن على المرضى التوجّه إلى المستشفيات لطلب الرعاية إذا احتاجوا إلى إجراء أيّ فحوصات تشخيصيّة، ولا سِيَّما في حالات الطوارئ. يمكن أنْ تساعد مراكز الرعاية الصحّيّة الأوّليّة في زيادة فرص الحصول على الخدمات الطبّيّة، وتحسين الصحّة، والسيطرة على الأمراض، وخفض التكاليف، من خلال منع الرسوم المفرِطة التي تُلحَق بفواتير المستشفيات، وبذلك يظلّ تلقّي العلاج في المستشفيات هو الملاذ الأخير الذي يلجأ إليه المرضى المحتاجون إليها فعلًا. تدعم الأبحاث في هذا المجال مدى فعاليّة التحوّل إلى الرعاية الأوّليّة من حيث التكلفة. فعلى سبيل المثال، خلال الأزمة الاقتصاديّة التي أعقبت انهيار الاتّحاد السوفيتّيّ، اعتمد نظام الرعاية الصحّيّة في كوبا اعتماداً كبيراً على العيادات المحلّيّة المخصّصة لتقديم خدمات الرعاية الصحّيّة الأوّليّة. ومع أنّ خدمات الرعاية الصحّيّة الثانويّة والمتخصّصة قد تأثّرت بشدّة بسبب الأزمة، كان الكوبيّون راضين للغاية عن نظام الرعاية الصحّيّة الأوّليّة. وقد أظهرت دراسات أنّ مقوِّمات خدمات الرعاية الصحّيّة الأوّليّة وطبّ الأسرة تساهم بالفعل في تحقيق نتائج صحّيّة أفضل وفي انخفاض التكاليف، إلى جانب قلّة استخدام الموارد والعلاج في المستشفيات. ومِن ثَمَّ، فإنّ أحد المسارات الضروريّة لتطوير هذا المجال هو زيادة الاستثمار في توسيع شبكة مراكز الرعاية الصحّيّة الأوّليّة لتشمل المناطق المحتاجة، ودراسة أيّ منها يمكن تطويره لتوفير خدمات الرعاية العاجلة والطارئة، وتزويده بالمختبرات وأجهزة التصوير التشخيصيّ. ويلزم أيضاً البحث في إمكانيّة ربط هذه المراكز بالمَرافق المجاوِرة (على غرار المستشفيات والمراكز التشخيصيّة) لإجراء الفحوصات والإحالات الطبّيّة. تُمثّل عمليّة نقل الرعاية الصحّيّة من المستشفيات إلى مراكز الرعاية الأوّليّة، فضلاً عن الحدِّ من إعادة الدخول إلى المستشفيات (التي نتناولها بالمناقشة لاحقاً)، أهمّيّةً بالغة للحفاظ على موارد المستشفيات لعلاج المرضى المصابين بفيروس كورونا في ظلّ ارتفاع عدد حالات الإصابة.
الحيلولة دون إعادة ادخال المرضى
يُقصد بعمليّة إعادة الدخول رجوع المريض للمستشفى لنفس التشخيص بعد مدّة وجيزة من تلقّيه الرعاية الصحّيّة الأوّليّة وخروجه منها، أو بسبب عرض ناتج عن هذا التشخيص. تُضيف هذه العمليّة عبئاً كبيراً على المرضى من ناحية تفاقم الأعراض وارتفاع النفقات. في دراسة سكّانيّة اشتملت على عدّة ولايات أميركيّة مختلفة، كانت التكلفة السنويّة التي تكبّدها المرضى الذين أُعيد ادخالهم أكثر من ضعف التكلفة التي تكبّدها المرضى الذين لم يُعاد ادخالهم. وكان عدد الحالات الطبّيّة المزمنة في هذه الدراسة مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بمعدّل إعادة ادخال المرضى. كان أيضاً المرضى الذين يعانون من فشل القلب هم أكثر المرضى احتمالاً لإعادة ادخالهم. إذا ما استعرضنا حالة مرضى فشل القلب، فإنّ توفير الرعاية الملائمة للمرضى بعد خروجهم من المستشفى من قبل عيادات فشل القلب والتشجيع على إجراء متابعة مع أحد مقدِّمي الرعاية الصحّيّة الأولية والتأكّد من توعية المرضى بالشكل الكافي، هي من الإجراءات التي يمكن أنْ تَحُول دون إعادة ادخال مرضى الفشل القلبيّ. ويمكن أنْ يؤدّي وضع سياسات في هذه النقاط الثلاث إلى تقليص حالات إعادة ادخال المرضى وتقليل المصاريف الإضافيّة التي تتكبّدها الحكومة والمرضى والهيئات التي تغطّي التكاليف الصحّيّة.
الطبّ الاٍلكترونيّ/ التطبيب عن بعد
يمكن أنْ يساعد الطبّ الإلكترونيّ -أو تشخيص وعلاج المرضى باستخدام وسائل وأدوات تكنولوجيا الاتّصال عن بُعد- في تحسين جودة الرعاية الصحّيّة المُقدَّمة لمن يعانون من أمراض مزمنة، بالرغم من وجود بعض المساوئ. ويجب بذل جهود من شأنها تحديد المبادئ التوجيهيّة والأطر القانونيّة للتأكّد من حماية بيانات المرضى حماية كافية، وتستلزم أيضاً موافقة المرضى على الجهات التي يحقّ لها الوصول إلى سجلّاتهم. خلال انتشار فيروس كورونا في لبنان، أصدرت نقابة الأطبّاء بياناً تسمح فيه بإجراء "المعاينة الطبّيّة عبر الإنترنت".
لكنّ هذا البيان يفتقد إلى الإطار التنظيميّ الذي يتناول عدّة تحدّيات من بينها القيود المفروضة والتكاليف والجوانب الطبّيّة القانونيّة. علماً أنّ التسريع في معالجة هذه المسائل بالتنسيق مع وزارة الصحّة العامّة والبرلمان اللبنانيّ لا يوفّر فرصة جيّدة للمرضى المحلّيّين وحسب، وإنما أيضاً للمرضى الذي اعتادوا المجيء من بلدان مجاورة لتلقّي الرعاية الصحّيّة في لبنان على وجه الخصوص. وإذا ما أصبح الطبّ الإلكترونيّ جزءاً من نظام الرعاية الصحّيّة في لبنان، بالإضافة إلى الجوانب القانونيّة والأخلاقيّة، يجب تناول البنية التحتية العامّة أيضاً. بسبب انقطاع التيار الكهربائيّ والسَعة المحدودة لنقل البيانات، يفتقر لبنان إلى البنية التحتية اللازمة لتقديم تلك الخدمة بصورة يمكن الاعتماد عليها. ونظراً لافتقار المناطق المحرومة إلى إمكانيّة الوصول إلى هذه التكنولوجيا، يمكن اللجوء إلى التطبيقات الصحّيّة سهلة الاستخدام التي يمكن تنزيلها على الهاتف والتي حقّقت نجاحاً في البلدان منخفضة الدخل حول العالم. يمكن استخدام الطبّ الإلكترونيّ أيضاً لإجراء تقييم عن بُعد لأعراض الإصابة بفيروس كورونا وتحديد ما إذا كان المريض يحتاج إلى إجراء الاختبار أو تلقّي الرعاية في المستشفى مع تقليل مخالطته للمجتمع والعاملين في قطاع الرعاية الصحّيّة.
خفض تكاليف العلاج بالمستشفيات
يرجع جزء كبير من تكاليف العلاج الباهظة في المستشفيات اللبنانيّة إلى أسعار الأدوية والمغروسات. إذ إنّ أسعار المغروسات في لبنان أعلى منها في البلدان الأخرى المماثلة للبنان في الوضع الاقتصاديّ. إضافة إلى ذلك، يدعم مصرف لبنان بنسبة 85 %العملة الأجنبية لاستيراد المغروسات، لتتبقى 15% تُؤمن في السوق السوداء بسعر صرف يصل إلى 7500 ليرة لبنانيّة مقابل الدولار الواحد، وبالتالي إذا افترضنا أنّ سعر المغروسة 100 دولار أميركيّ (أيْ 150 ألف ليرة لبنانيّة بسعر الصرف الرسميّ) فإنّ سعرها وفقاً لسعر الصرف في السوق السوداء سيكون 240 ألف ليرة لبنانيّة بزيادة إجماليّة قدرها 60% في سعر الليرة.
ولخفض هذه التكاليف يمكن مثلاً الاقتداء بالقصص الناجحة في الهند. في التجربة الهنديّة، كانت أسعار بعض المغروسات مبالغاً فيها إلى حدٍّ كبير. واستجابةً لذلك، حدَّدت الحكومة فئات سعريّة مناسبة للمواطنين وذلك بشكل رئيسيّ من خلال تحسين هوامش الربح في الأسواق المحلّيّة. لم يتم إجراء دراسة مماثلة في لبنان، لكنّ الدلائل (متمثّلةً في ارتفاع أسعار الأطراف الصناعيّة في لبنان مقارنة بالبلدان الأخرى) تشير إلى وجود مشكلة في هذا الجانب. بالمثل، تُستورد الأدوية في لبنان بمعايير جودة جيّدة، ولكنْ من منظور تجاريّ، فضلاً عن أنّ المعايير الحاليّة لا تسمح بالمساومة من أجل خفض الأسعار. تتوفّر مثلاً تركيبات دوائيّة كثيرة لعنصر الأستاتين. ولهذا يجب على لبنان التفاوض من أجل شراء تركيبات دوائيّة بأسعار أفضل، وسيؤدّي طرح هذه الأدوية جيّدة الأسعار في السوق إلى إرغام المستورِدين من الشركات المصنّعة الأخرى على خفض أسعارهم حتّى يتسنّى لهم المنافسة بصورة أفضل.
على صعيد آخر، صرَّح وزير الصحّة العامّة الأسبق أنّ فواتير بعض المستشفيات مضخَّمة ومبالغ فيها. يدلّ هذا على ضرورة تعزيز النظام المعمول به حاليّاً للتحقّق من قرار تلقّي العلاج بالمستشفى وطريقة العلاج المعتمدة، وذلك لوضع حدٍ للأرباح الجشعة وتقليل عمليّات الاحتيال. تبرهن المبالغة في فواتير المستشفيات على وجود الفساد والاحتيال اللذَين يمكن رؤيتهما أيضاً في حجم الفائض في أسواق الرعاية الصحّيّة الذي يشجّع على استغلال لا مثيل له، في ظلّ غياب القوانين التي تسمح بالمساءلة والشفافية وإمكانيّة الوصول إلى المعلومات. لا نعرف مقدار التخفيض المتوقّع في الأسعار الناتج عن مكافحة الاحتيال في لبنان.
لكنّ الفساد في القطاع الصحّيّ ظاهرة عالميّة، ويمكن الاستفادة من تجربة مكتب برنامج الأمم المتّحدة الإنمائيّ في لبنان وتجربة "مركز أوتشتاين لموارد مكافحة الفساد" في هذا المجال. ولتحقيق النتائج المرجوة من عمليّة مكافحة الفساد، فإنّ أهمّ نقطة مركزيّة هي إدراك ضرورة تناول ومعالجة كافّة مداخل نظام الرعاية الصحّيّة بطريقة منهجيّة. لا يمكن تحديد حجم الاحتيال الكامل في قطاع الرعاية الصحّيّة بلبنان بدقّة، وفي باقي البلدان التي تعاني من نفس المشكلة. وكافّة الجهود الفعّالة التي تبذل لوقف الاحتيال والاستغلال، دون إثقال كاهل مقدِّمي الرعاية الرسميّين بلا داع، تتطلّب اهتماماً متواصلاً ومبتكراً وحازماً لحماية كافّة الأطراف المعنيّة، بما في ذلك المرضى والمستشفيات ومقدِّمي الرعاية.
حلول نقديّة وماليّة للمستشفيات
لا شكّ أنّ الأزمة النقديّة التي يعاني منها لبنان هي المحرّك الرئيسيّ لكثيرٍ من التحدّيات الأخيرة. ويُعَدّ استمرار المستشفيات في العمل خلال هذه المرحلة الحرجة، خاصّة في ظلّ جائحة كورونا، أمراً فائق الأهمّيّة. طُلب من المستشفيات إنشاء وحدات مخصّصة لمصابي فيروس كورونا وتوسيع نطاقها. والتدابير التي سنطرحها يمكن أنْ تساعد المستشفيات في عمليّة تجهيز هذه الوحدات بالمعدّات اللازمة والأفراد العاملين فيها. ويساعد أيضاً الاستعراض العامّ للتحدّيات التي تواجه المستشفيات المذكورة بالأعلى في تحديد المشكلات. تتكوّن ميزانيّة المستشفيات في الأساس من رواتب الموظّفين وتكاليف الإمدادات الطبّيّة والصيدلانيّة وبعض الإمدادات الأخرى والاستثمار الرأسماليّ. وفي حين أنّ رواتب الموظّفين ما تزال بالليرة اللبنانيّة وانخفضت بالفعل مع انخفاض قيمتها، فقد ضاعفت المستشفيات الأمر من خلال خفض تلك الرواتب أو تسريحهم من العمل أو منحهم إجازات مؤقّتة بلا أجر.
يجب الانتباه إلى عنصر آخر، وهو تغيُّر سعر صرف العملة، الأمر الذي يساهم في زيادة التكلفة حسب الدعم المقدَّم لكلِّ عنصر. ومع ذلك، لا بدَّ من إيلاء اهتمام لثلاثة اعتبارات في هذا النظام. الأوّل هو أنّ لبنان وجهة الكثير من المرضى من جميع أنحاء العالم العربيّ الذين يأتون إليه من أجل تلقّي الرعاية الصحّيّة (وهو ما يعرف بالسياحة العلاجيّة)، ومِن ثَمّ، فإنّ كثيراً من المرضى هم وافدون غيرُ لبنانيّين أتوا خصّيصاً للعلاج في لبنان، وهؤلاء المرضى في إمكانهم، وفقاً لمعايير مختلفة، دفع تكاليف المغروسات والسلع الأخرى الباهظة.
وعليه، يجب معاملة غير اللبنانيّين وفقاً لمعايير مختلفة. ينطبق هذا على القادمين من أجل السياحة العلاجيّة الذين يمتلكون المال الكافي لتغطية تكاليف رعايتهم الصحّيّة مع استثناء اللاجئين الذين تغطّي المنظّمات غير الحكوميّة معظم تكاليفهم العلاجيّة. أما الأمر الثاني، فهو أنّ نظام الدعم لا يشتمل على جهة رقابيّة أو تقييميّة لضمان عدم حدوث احتيال أو إفراط في استخدام السلع. والأمر الثالث هو ضرورة وجود نوع من الرقابة على ماهيّة الشركات أو العلامات التجاريّة المدعومة، إذ يجب على الاقتصاد المنهار التركيز على دعم أرخص الأدوية الفعّالة ولا ينبغي بالضرورة تقديم الدعم لشركات محدَّدة ما دامت البدائل الأرخص متوفّرة.
قد يتمثّل حلٌّ آخر يمكن النظر إليه لتخفيف المشاكل النقديّة في تقديم قروض للمستشفيات بأسعار فائدة منخفضة للغاية. يمكن أنْ تستخدم هذه القروض لتغطية المصروفات التشغيليّة، بما فيها صيانة المعدّات الطبّيّة. يمكن أنْ تأتي الحلول الأخرى من البحث في قائمة التكاليف المتغيرة التي تتكبّدها المستشفيات (مثل فواتير الكهرباء) ودراسة ماهيّة الخطوات التي يمكن أنْ تُتّخذ على هذا المستوى.
وأخيراً، من الواضح أنّ الحلول الواردة سابقاً لا يمكن أنْ تستمرّ مدّةً طويلة للغاية، ومِن ثَمّ يجب أنْ يكون هناك فترة لا يمكن تجاوزها وتستغرق سنة واحدة، من أجل إعادة النظر فيما سبق. يجب أنْ يُنظر إلى هذه الحلول بوصفها حزمة (إجراءات) تستهدف استقرار القطاع، ويمكن ربطها ربطاً مثاليّاً ببعض الاشتراطات لضمان عدم حدوث مزيد من تسريح العاملين. ويجب أنْ يكون واضحاً أمام الجميع أنّ هذه ليست في الغالب إلّا (إجراءات) انتقاليّة إلى أنْ تمرّ موجة أزمة كورونا، وأنّها معلّقة في انتظار الحلول الكلّيّة للمشاكل الهيكليّة النقديّة والماليّة التي تواجه البلاد.
دعم مقدِّمي الرعاية الصحّيّة
ثَمّة حاجة أيضاً لحدوث تعديلات لمساعدة مقدِّمي الرعاية الصحّيّة. في تموز/يوليو 2020، شرعت نقابة أطبّاء لبنان في إدخال زيادة على بدل المعاينات الطبّيّة بنسبة 30%، وشرعت في تقديم طلب إلى وكالات التأمين الحكوميّة والخاصّة؛ من أجل زيادة الأجر الأساسيّ الذي يحصل عليه الأطبّاء لإجراء العمليّات، استناداً إلى سعر الدولار في السوق السوداء. جاء هذا التعديل بعد أنْ درسَت نقابة أطبّاء لبنان إعادة تحديد جميع الأجور استناداً إلى ما أوردته المنصّة الإلكترونيّة لتحديد سعر الصرف التي يجري استخدامها بصورة شائعة لتحديد سعر الصرف في السوق السوداء بلبنان في الوقت الراهن. وفي حال تنفيذ الخيار الثاني، كان هذا سيؤدّي إلى تعديل أكبر كان سيُنظر إليه على أنّه عقبة أكبر بكثير أمام الحصول على الرعاية الصحّيّة. وقد تعهّدت نقابة الأطبّاء في لبنان بإعادة النظر في المخطّط بالكامل بصفة دوريّة فصليّة.
على الجانب الآخر، تخضع أجور الممرِّضات والممرِّضين لشروط عقود العمل الحاليّة، ومِن ثَمّ تعاني من وضع غير مؤات على صعيد التفاوض. مع أنّ نقابة الممرِّضات والممرِّضين في لبنان تصدر سلسلة الرتب والرواتب كلَّ ثلاث سنوات، وفي ظلّ إصدار أحدث سلسلة رتب ورواتب في نيسان/أبريل 2018، فإنّ أغلب المستشفيات لم تمتثل لها بسبب أوضاعها الماليّة السيئة. توجد حاجة إلى تعديل القانون الذي ينظم مهنة التمريض عن طريق البرلمان؛ من أجل السماح للنقابة، بالتعاوُن مع وزارة الصحّة العامّة، بإلزام المستشفيات وأصحاب العمل بالامتثال لسلسلة الرتب والرواتب. ويقضي إجراء آخر بضمان استمرار تشغيل الممرِّضات والممرِّضين من خلال مجموعة خطوات متنوّعة تتضمّن ربط الدعم الماليّ للمستشفيات بوقف تسريح العاملين. إذ إنّ ضمانة استمرار تشغيل الممرِّضات والممرِّضين تضمَن أيضاً تمتّعهم هم وعائلاتهم بتغطية التأمين الصحّيّ من الصندوق الوطنيّ للضمان الاجتماعيّ. علاوة على ذلك، بينما نعيش تحت وطأة فيروس كورونا، فإنّ عديداً من الممرِّضات والممرِّضين يصابون أو يكونون عرضة للعدوى، ولذا يُطلب منهن ومنهم البقاء في الحجر الصحّيّ. لذلك يضمن العملُ من خلال المخطّط الوارِد في الأعلى عدمَ فقدان المستشفيات للموارد البشريّة الضروريّة لاستمرار معركتها ضد تفشّي فيروس كورونا. يمكن البدء في إدخال تعديلات على سلسلة الرتب والرواتب بمجرّد أنْ يصير الموقف قابلاً للتنبّؤ بالنسبة للمستشفيات.
الصناعات الصيدلانيّة
يمثّل الإنتاج المحلّيّ للصناعات الصيدلانيّة أقلّ من 10% من حصّة السوق. وتعمل الصناعة في الوقت الحاليّ بمعدّل 50% من طاقتها، وذلك بحسب النقابة. وفي الوقت الراهن، تُعفى الواردات الصيدلانيّة والمستلزمات الطبّيّة من الضريبة ولا تخضع إلّا لرسوم جمركيّة بمعدّل 5%. ساعد هذا في توفّر مجموعة كبيرة من الأدوية بأسعار منخفضة، لكنّه ترك الإنتاج المحلّيّ في وضع غير مواتٍ. فعلى عكس الوضع في البلاد الأخرى، ليست هناك سياسات في التجارة الصيدلانيّة تمنح الصناعة اللبنانيّة ميزة على صعيد الصادرات. فعلى سبيل المثال، زاد الأردن ومصر صادراتهما الصيدلانيّة عن طريق الاستفادة من اتّفاقيّات التجارة الحرّة مع عديد من البلاد. وهناك حاجة ماسّة لخطّة موجَّهة للصناعة من أجل زيادة حصتها السوقيّة، على أنْ تكون ذات أهداف واضحة قصيرة الأجل ترمي إلى تلبية الاحتياجات الملحّة للمرضى اللبنانيّين، وذات أهدافٍ بمدى أطول ترمي إلى تقليل الاعتماد على الواردات، وألّا يقتصر القصد من وراء ذلك على تقليل كمّيّة العملة الأجنبيّة المصدَّرة، بل ويمتدّ إلى دعم هذه الصناعة كي تكون قادرة على المساعدة في إعادة التوازن إلى الحساب التجاريّ. يكمن طريق التقدّم نحو إنجاز هذا المسعى في وجود استيعاب عميق لاحتياجات هذه الصناعة، ويعقبه التزام من جانب الحكومة والبرلمان بتمرير تشريعات تلبّي هذه الاحتياجات، وتطبيق هذه التشريعات؛ الأمر الذي من شأنه أنْ يشجّع الاستثمارات ويجذبها إلى هذا القطاع. في أمثل الأحوال، يجب أنْ تتضمّن هذه الخطّة أيضاً إجراء العمليّات الحسابيّة التي توضح عدد الوظائف التي ستخلقها هذه الخطوات. وعلى صعيدٍ بنفس القدر من الأهمّيّة، فإنّ جميع الخطوات الضروريّة لزيادة الثقة في جودة الأدوية المنتجة محلّيّاً، بين كلٍّ من المستهلكين والأطبّاء، ستكون مهمّة. من المعلوم أنّ البنية التحتيّة اللازمة لبناء الثقة من مستوىً تنظيميّ وتنفيذيّ موجودةٌ؛ نظراً إلى أنّ جميع المصانع معتمَدةٌ لتطبيق "الممارسات التصنيعيّة الجيّدة" التي تنصّ عليها منظّمة الصحّة العالميّة، ولكنْ من الأهمّيّة بمكان زيادة الاستثمارات في هذا المجال. وتجدر الإشارة إلى أنّ جميع المصانع تقريباً تُعَدّ من المنتجين المعيَّنين عن طريق العلامات التجاريّة الدوائيّة الدوليّة، التي تشهد على معاييرها. بدون مزيد من الخطوات التفصيليّة، يُعَدّ بناء الثقة بشأن الجودة والجدوى الاقتصاديّة لهذه الخطّة من عوامل النجاح الرئيسيّة. وبجانب بناء الثقة، يجب أنْ يجري تسويق الإنتاج المحلّيّ بطريقة أفضل عن طريق الأطبّاء الذين يستطيعون وصف أسماء تجاريّة للأدوية من مصنِّعين بعَينهم. إذ إنّ الأطبّاء الذي يصفون منتجات (دوائيّة) محلّيّة ويسوقون هذه المنتجات لمرضاهم يستطيعون بدرجة هائلة دعم السوق المحلّيّ. وقد تجلّت الحاجة إلى دعم هذه الصناعة في المخاوف من نقص المستلزمات الطبّيّة في البلاد عند بداية جائحة كورونا. وعُولِجت هذه المخاوف معالجةً مؤقّتةً عن طريق الإعانات والدعم.
وفيما يتعلّق بالصيدليّات، فإنّ مشكلاتها -المذكورة سابقاً- ذات ثلاثة أوجه. أوّلاً، تؤدّي آليّة التسعير إلى انخفاض الربحيّة في المجمل. وثانياً، انخفضت مبيعاتها الإجماليّة بسبب تناقص القوّة الشرائيّة. وأخيراً، يعتمد جزء كبير من تكاليفها الثابتة -مثل الإيجار- على الدولار، وليس هناك قاعدة واضحة حول أيٍّ من أسعار الصرف يمكنها اتّباعها؛ فأغلب العمليّات تتطلّب التعامل مع سعر الصرف بواقع 4000 ليرة لبنانيّة مقابل الدولار أو 8000 ليرة لبنانيّة مقابل الدولار. ويُعَدّ العمل على الوصول إلى حزمة متكاملة لمعالجة هذه المشكلات نهجاً منطقيّاً وضروريّاً للغاية. سيتضمّن هذا النهج: تعديل آليّة التسعير، ولا سِيَّما بالنسبة للأدوية الجَنِيسَة (المكافِئة)، وتمرير تشريعات تضمَن تقديم الدعم إلى التكاليف الثابتة للصيدليّات (مثل الإيجار)، وهي تشريعات على شاكلة تحديد أسعار الصرف الخاصّة بعمليّاتها، وإلغاء رسوم حكوميّة/بلديّة محدّدة، وتقديم إعفاءٍ ضريبيّ.
في الشكل رقم 3، نلخّص إطاراً عامّاً للنهج الخاصّ بكلِّ قطاع:
أ. تحديد التحدّيات أمام كلّ عضو في قطاع الرعاية الصحّيّة
ب. تصنيف التحدّيات إلى:
تكاليف ثابتة |
تكاليف متغيّرة |
تحدّيات نقديّة |
عمليّات وإجراءات |
ج. تصنيف الحلول إلى:
د. تحديد جهة مسؤولة عن تقديم كلّ حلّ
هـ. تحديد تكلفة كلّ حلّ
و. ترتيب أولويّات الحلول استناداً إلى الأهمّيّة والموازنة (وبدعم من لجنة إداريّة مدرَّبة على الأخلاقيّات النفعيّة)
ز. تطوير جهة مراقبة وتقييم الحلول
ح. التطبيق
ط. إعادة النظر والتعديل على أساس شهريّ |
شكل 3. الإطار الخاصّ بالنهج المقترح لخطّة إصلاح الرعاية الصحّيّة في لبنان خلال الأزمة.
الخلاصة
يمرّ قطاع الرعاية الصحّيّة في لبنان بمرحلة صعبة للغاية، تحت وطأة أزمة كورونا من جانب، وفي ظلّ عجزٍ عاصفٍ عن التنبّؤ بالظروف الماليّة والنقديّة للبنان على جانبٍ آخر. في هذا البحث، سلّطنا الضوء على بعض التحدّيات والحلول المؤقّتة المقترحة. تستهدف هذه الحلول ضمان إتاحة خدمات الرعاية الصحّيّة أمام اللبنانيّين، ودعم قطاع الرعاية الصحّيّة في أثناء التراجع الحادّ في انتظار الوصول إلى الحالة المستقرّة. ومن الأهمّيّة بمكان ضمان أنْ تُتّخذ جميع الخطوات بطريقة أخلاقيّة وشفّافة ومسؤولة ومُجدِيَة من حيث التكلفة. ولا يمكن تحقيق هذا إلّا عن طريق إكمال الحلقة بجهةٍ هدفها التقييم والمراقبة. وثَمّة حاجة إلى مواجهة كلّ هذه الأمور في خطّة شاملة، وفي الوقت ذاته مواصلة إدراك أنّه في الأنظمة المعقّدة يمكن أنْ تكون حتّى التغيّرات الطفيفة إمّا مفيدة للغاية أو ضارة للغاية. قد يكون المسار الآخر في هذه الخطّة، على النحو المذكور في مقدّمة البحث، مساراً طويل/متوسّط الأجل يؤكّد على الإصلاح من منظور تمويل الرعاية الصحّيّة، وطرق الدفع مقابل الخدمات، ومجموعة من التشريعات الضروريّة لربط جميع الجوانب محلّ النظر بالتغيرات على مستويات المنظّمات وسلوكيّات مقدِّمي الرعاية الصحّيّة ومُستهلكيها.
شكر وعرفان
نودّ أنْ نتقدَّم بالشكر إلى الدكتورة منى نصر الله، والدكتورة مونيك شعيا، والدكتور سليم أديب؛ لتعليقاتهم القيّمة على البيانات المجمَّعة لكتابة هذا البحث.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.