بعد أربع سنوات على انطلاقة أولى مسيرات الحراك، التي شهدت خروج ملايين الجزائريين، اعتباراً من 22 شباط/فبراير 2019، التي كانت تجوب الشوارع للاحتجاج سلمياً ضد الولاية الخامسة للرئيس بوتفليقة، والمطالبة بـ"تغيير جذري للنظام"، عاد الصمت والركود من جديد ليعُم الشارع الجزائري. ولا يزال قمع الحريات مستمراً، قبل فترة وجيزة، في كانون الأول/ديسمبر 2022، تم إغلاق إحدى منابر المعارضة الأخيرة على الإنترنت، راديو M ، وتشميع مقرها ووضع رئيسها، إحسان القاضي، رهن الحبس الاحتياطي . وقبل ذلك بقليل، أعلن المعارض رشيد نكاز في كانون الثاني/يناير 2023، بعد أن صدرت ضده عدة أحكام بالسجن، انسحابه من الحياة السياسية ، في حين، أبلغت الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان (LADDH) بخبر حلها، الذي تم قبل ستة أشهر دون أن تكون على علم بذلك. وقبل أيام قليلة فقط، في شباط/فبراير 2023، فرّت أميرة بوراوي، إحدى قيادات "حركة بركات" والناشطة في صفوف الحراك، خارج الجزائر، منتهكة بذلك قرار حظر مغادرة التراب الوطني الصادر ضدها . يأتي هذا التعزيز للحكم الاستبدادي، كنتيجة مباشرة لموجة القمع الشامل الذي باشرته أجهزة الأمن المختلفة، منذ حزيران/يونيو 2019 وسانده في ذلك، تحريك التشريعات المفرطة في قمع الحريات، فضلاً عن عملية مراجعة الدستور، التي فاقمت من صلاحيات السلطة التنفيذية، في إطار سياسة قضائية تهدف في أول الأمر إلى احتواء الحراك، ثم القضاء عليه نهائياً.
بعد استقالة الرئيس بوتفليقة في 2 نيسان/ أبريل 2019، واصل الشارع الجزائري تعبئته، رافضاً الفترة الرئاسية المؤقتة التي ينص عليها الدستور، والتي تقضي بانتخاب رئيس جديد للجمهورية خلال 90 يومًا (المادة 102، الفقرة 6، لعام 2016)، خشية أن يؤدي هذا المسار إلى انتخاب رئيس يتمتع بالصلاحيات الواسعة نفسها التي كان يتمتع بها الرئيس المستقيل، ومن ثم يعيد تكريس النظام السياسي القائم نفسه . وتعبيراً عن رفضهم استنساخ منظومة الحكم السابق، رفع المتظاهرون لافتات، تشير إلى المادتين 7 و8 من الدستور، المتعلقتين بالسيادة الشعبية، وضد المادة 102 المتعلقة بالانتقال الرئاسي، لكن رغم حرص المتظاهرين، ظل قائد أركان الجيش ونائب وزير الدفاع، اللواء أحمد قايد صالح، متمسكاً بصرامة، ومصراً على تنظيم انتخابات رئاسية، الأمر الذي دفع المتظاهرين إلى تأكيد مطالبهم بإقامة "دولة مدنية، وليست عسكرية"، خاصة اعتبارًا من تاريخ 10 أيار/مايو 2019.
استمر التجاذب، مع إعلان قائد أركان الجيش، في 18 حزيران/يونيو، رفضه لأي انتقال ديمقراطي، بحجة خطر حدوث "فراغ دستوري"، وفي اليوم التالي، 19 حزيران/يونيو، انطلقت حملات القمع، لتطال حاملي الراية الأمازيغية ، تنفيذاً لسياسة فرق تسد. لكن سرعان ما انتشرت رقعة القمع لتشمل الحراك بكافة أطيافه. وتنفيذاً لهذه الخطة، اعتمدت السلطات على ترسانة قمعية مكتملة، في ظل غياب التحوّل الديمقراطي، وقد شملت هذه الترسانة أحكام تعود إلى عهد الحزب الواحد، من جملتها تجريم المساس بالوحدة الوطنية (القانون الجنائي، المادة 79) أو المساس بالمصلحة الوطنية (القانون الجنائي، المادة 96) المنبثقة عن قانون العقوبات لعام 1966، في صيغته المعدَّلة في 1975، إلى جانب أحكام موروثة عن العشرية الدامية، التي تفرض الحصول على إذن مسبق لكل من يريد التظاهر، عملاً بالقانون رقم 91-19 المؤرخ 2 كانون الأول/ديسمبر 1991، وأحكام تجرم الإرهاب، سارية المفعول بموجب المرسوم التشريعي رقم 92-03 المؤرخ في 30 أيلول/سبتمبر، 1992 (قانون العقوبات، المادة 87) وكذلك التضييق على التعددية الحزبية، منذ إصدار المرسوم رقم 97-09 بتاريخ 6 آذار/مارس 1997؛ وأخيرًا الأحكام الناتجة عن الربيع العربي، ولا سيما من خلال تقييد حرية تكوين الجمعيات، بموجب القانون رقم 12-06 الصادر في 12 كانون الثاني/يناير 2012.
في ظل هذه الأجواء القمعية، استطاع النظام في نهاية المطاف تنظيم الانتخابات الرئاسية في 12 كانون الأول/ديسمبر 2019، والتي تميزت بنسبة مقاطعة غير مسبوقة، بلغت قرابة 60٪ ، وأصبح خلالها عبد المجيد تبون، الوزير عدة مرات في حكم الرئيس بوتفليقة، رئيسًا للجمهورية. ابتداء من 11 كانون الثاني/يناير 2020، باشر الرئيس عملية مراجعة الدستور، لكن ليس عن طريق الدعوة إلى انعقاد جمعية تأسيسية، وإنما من خلال اجتماع لجنة خبراء، كان هو مَن عيَّن جميع أعضائها ، تمخض هذا الاجتماع عن مسودة أولية، تم توزيعها في 7 أيار/مايو 2020. تلقت لجنة الخبراء على إثر ذلك 5018 اقتراحًا ، معظمها صادرة عن هيئات أو شخصيات مقربة من السلطات. وقد ساهمت هذه الاقتراحات في ديباجة مشروع جديد، نُشر في 5 أيلول/سبتمبر التالي، قبل اعتماده من قِبل مجلس الوزراء، ثم من قِبل غرفتي البرلمان، الذين انتُخِب معظم أعضائه أو عُينوا في عهد الرئيس السابق بوتفليقة. وبعد ذلك، تم تنظيم الاستفتاء في 1 تشرين الثاني/نوفمبر 2020، تميز بدوره بنسبة مقاطعة قياسية، بلغت قرابة 76٪ ، واعتُمد التعديل الدستوري في 30 كانون الأول/ديسمبر التالي . ويعلن الجيش الآن الضامن "للمصالح الحيوية والاستراتيجية للبلاد" (الفقرة 4 من المادة 30)، في حين أصبح من الممكن الآن الانتقاص من الحقوق والحريات الدستورية، بموجب القانون، من أجل الحفاظ على النظام العام والأمن والثوابت الوطنية (الفقرة 2 من المادة 34).
في تلك الأثناء، أجبرت جائحة كوفيد-19 متظاهري الحراك على تعليق مسيراتهم، وفي سياق الحجر الصحي، صدر قانونان قمعيان جديدان في 28 نيسان/أبريل 2020، يدرجان على وجه الخصوص جريمة "الأخبار الكاذبة" في قانون العقوبات (قانون العقوبات، المادة 196 مكرر) و"جريمة التضامن" (قانون العقوبات، مادة 95 مكرر). حتى وإن استطاع المتظاهرون العودة إلى المسيرات ابتداء من شباط/فبراير 2021، إلا أن السلطات وضعت حداً لها، قبل أسابيع قليلة من موعد الانتخابات التشريعية في 12 حزيران/يونيو 2021، مع تذكير السلطات الأمنية في 20 أيار/مايو الماضي، بضرورة الحصول على إذن مسبق للتظاهر، وعقب ذلك، أصدر الرئيس المرسوم رقم 21-08 المؤرخ 8 حزيران/يونيو 2021، حيث وسّع بموجبه توصيف جريمة الإرهاب، لتشمل أي عمل يهدف إلى "الوصول إلى السلطة أو [...] تغيير نظام الحكم بوسائل غير دستورية" (قانون العقوبات، المادة 87 مكرر 14).
ثمة سؤال يطرح نفسه، إلى أي مدى سمحت هذه الأحكام، الدستورية والتشريعية، إلى جانب القمع القضائي الذي نتج عنها، بتفكيك الحراك وفض مسيراته وتعزيز النظام الاستبدادي؟
لقد سمحت الأحكام التشريعية المطبقة ضد الحركة الشعبية (الحراك) بمنع تنظيم صفوفها، وقمع سبل التعبير عن نفسها في آن واحد (1)، في حين مكّنت المراجعة الدستورية لعام 2020 ليس فقط في إضفاء الشرعية على هذه الأحكام، بل نجحت أيضاً في التفاعل مع المشاكل المؤسسية لسنة 2019 لصالح السلطات الحاكمة (2).
1- القمع القضائي للحراك: عاملٌ حاسم في فض الحركة الجماهيرية
أدى القمع القضائي إلى جعل أي تنظيم لحركة الجماهير أمراً مستحيلاً، بسبب القيود المفروضة على الحريات الجماعية (أ) والحريات الفردية (ب) على حد سواء.
أ. استحالة تنظيم حركة الجماهير: القيود الصارمة على حرية التظاهر وتكوين الجمعيات والتعددية الحزبية.
رغم استمرار مسيرات يوم الجمعة وقبولها كأمر واقع، منذ شباط/فبراير 2019، ظلت مع ذلك غير قانونية. بالفعل، منذ إضراب الجبهة الإسلامية للإنقاذ (FIS) في أيار/مايو وحزيران/يونيو 1991، لم يعُد الحق في التظاهر يتطلب فقط تصريحًا مسبقًا بل أصبح يستوجب الحصول على إذن مسبق، بمقتضى القانون رقم 91-19 المؤرخ 2 كانون الأول/ديسمبر 1991 (المادة 15، الفقرة 2)، وإلا عرّض المتظاهرون أنفسهم للمتابعة القضائية بتهمة التجمع غير المسلح (قانون العقوبات، مادة 98) والتحريض المباشر على التجمع غير المسلح (قانون العقوبات، مادة رقم 100). بعد أن شكلت هذه الأحكام الأساس المستخدم لقمع المسيرات في غير يوم الجمعة، أو حتى مسيرات الطلبة يوم الثلاثاء، اتسعت رقعة المنع لاحقاً، في أعقاب نشر السلطات، في 20 أيار/مايو 2021، بعد عودة المسيرات منذ شباط/فبراير السابق، بيانًا تذكِّر فيه بضرورة الحصول على إذن مسبق للسماح بالتظاهر، بما في ذلك يوم الجمعة ، ومنذ ذلك الحين، لم تشهد لا العاصمة ولا أي مدينة من المدن، في جميع أنحاء التراب الوطني، أي مسيرات أخرى. وفي هذا السياق تحديداً، أصدرت محكمة الجزائر العاصمة، في 22 آذار/مارس 2022، ضد منسق الحركة الديمقراطية والاجتماعية (MDS)، فتحي غارس، حكماً بالسجن لمدة عام، منها ستة أشهر غير نافذة، جزئياً بتهمة التحريض المباشر على التجمهر غير المسلح، فقط لأنه دعا إلى استمرار الحراك .
أما بالنسبة للمجتمع المدني، فقد ورث شبكة من الجمعيات بالغة الوهن، بسبب القيود المفروضة عليها بموجب القانون رقم 12-06 بتاريخ 12 كانون الثاني/يناير 2012 ، الصادر بهدف منع انتقال "العدوى" الناجمة عن الربيع العربي، مما أفضى إلى تقليص عدد الجمعيات إلى النصف . وفي سياق الحراك، استخدمت المحكمة الإدارية للجزائر العاصمة هذا القانون، كأساس لحلِها بتاريخ 13 تشرين الأول/أكتوبر 2021 جمعية "تجمع – عمل – شبيبة" أو "راج" (RAJ)، التي تأسست عام 1992، لا لشيء سوى أنها استقبلت في مقرها الرئيسي مناضلين تونسيين ينشطون في مجال حقوق الإنسان دون إذن مسبق من السلطات المختصة (المادة 23) ، واستخدمت أيضاً هذا القانون لحلِ في 29 حزيران/يونيو 2022 الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان (LADDH)، وهي جمعية معتمدة قانونياً منذ عام 1989، وقد بررت السلطات سبب حل الرابطة بعدم تبليغ السلطات المختصة ببعض الإجراءات الإدارية (المادتان 18 و19) وكذلك لقيامها بأنشطة أخرى غير المنصوص عليها في قوانينها الداخلية، ولا سيما منشوراتها على الشبكات الاجتماعية، تندد فيها بقمع مسيرات الحراك أو دفاعها عن الأقلية الدينية الإباضية، (المادة 43) . وعلى مستوى غير مباشر، صدر بحق العديد من قيادات الجمعيات المنخرطة في الحراك أحكاماً بالسجن النافذ، من جملتهم، رئيس جمعية "SOS باب الواد"، ناصر مغنين ، والأمين العام الفخري لجمعية "راج"، حكيم عداد ، وحتى رئيسها الحالي عبد الوهاب فرساوي .
لم يجد الحراك أيضاً دعمًا من الأحزاب السياسية، والسبب أن الذين اعترضوا من هذه الأحزاب على مختلف الاقتراعات التي نظمتها السلطات، منذ تلك التي تمت يوم 12 كانون الأول/ديسمبر 2019، تعرضوا لمتابعات قضائية أو عمليات تضييق وترهيب. وتنفيذاً لهذه الخطة، لجأت السلطات إلى القانون المتعلق بالأحزاب السياسية، والذي يعود تاريخه إلى المرسوم رقم 97-09 المؤرخ 6 آذار/مارس 1997، بصيغته المعدلة بموجب القانون العضوي رقم 12-04 المؤرخ 12 كانون الأول/يناير 2012، الذي كان أصلاً مفرطاً في تقييد نظام التعددية الحزبية، بغية منع عودة الجبهة الإسلامية للإنقاذ المنحلة عام 1992، من خلال إدخال شروط تعجيزية لتكوين الأحزاب السياسية والتضييق على ممارساتها. عملاً بهذا القانون، علّق مجلس الدولة، في 20 كانون الثاني/يناير 2022، أنشطة حزب العمال الاشتراكي (PST)، لعدم تجديد هيئاته التمثيلية في الصيغ والمواعيد المحددة . أما التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية (RCD)، الذي تأسس في عام 1989، فقد تلقى إنذاراً رسميًا في 5 كانون الثاني/يناير 2022، لتنظيمه في الشهر السابق في مقر الحزب، لقاء يدعو لإنشاء جبهة ضد القمع . بالإضافة إلى ذلك، وعلى مستوى غير مباشر، حُكم على العديد من القادة السياسيين بالسجن لأسباب مختلفة، نذكر من بين المعنيين: رئيس الاتحاد الديمقراطي والاجتماعي (UDS)، كريم طابو ، ورئيس حركة الشباب والتغيير (MJC)، رشيد نكاز ، علماً أن كلا الحزبين لم يحصل على الاعتماد الرسمي، مروراً بمُنسِق حركة الديمقراطية الاجتماعية MDS، فتحي غارس، وهو حزب معتمد من قِبل السلطة.
ب- تجريم التعبير عن الرأي ومطالب الحراك: من المساس بوحدة التراب الوطني إلى الإرهاب السلمي
تم استخدام الراية الأمازيغية، المعبرة عن الثقافة البربرية، في بداية الأمر ذريعةً لقمع المتظاهرين، بينما كانت هذه الراية ترفع خلال المسيرات باعتبارها رمزاً للهوية الثقافية، متمماً للعلم الوطني الجزائري وليس مناهضًا له ، لكن، رغم ذلك تسببت في إصدار الإدانات الأولى، اعتبارًا من يوم 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2019، من قِبل محكمة سيدي محمد، وأحكام بعقوبة السجن 6 أشهر، وغرامة قدرها 30 ألف دينار . لإصدار هذه الأحكام استند القاضي بشكل خاص إلى قاعدة دسترة العلم الجزائري، منذ عام 2008 (2016/2020، المادة 6)، باعتبار أن العلم الوطني واحداً فقط، وبالتالي يشكل رفع الراية الأمازيغية مساساً بسلامة الوحدة الوطنية (قانون العقوبات، مادة 79) . لكن بمجرد وفاة قائد أركان الجيش، بدأت محكمة الجزائر العاصمة في التراجع عن هذا القرار، وفي 18 آذار/مارس 2020، باشرت في إطلاق سراح العديد ممن رفعوا الراية الأمازيغية، مستندة في ذلك على وجه الخصوص، إلى دسترة اللغة الأمازيغية (2016 /2020، المادة 4) وعلى مبدأ قانونية الأمازيغية (2016، مادة 160، الفقرة 1 و2020، مادة 167)، في إشارة إلى غياب أي سند لتجريم هذه الراية . في المقابل، تم على نطاق أوسع استخدام تهمة المساس بسلامة الوحدة الوطنية كأساس لتبرير جميع أشكال عمليات القمع. وعلى هذا الأساس جزئياً، حكمت محكمة الجزائر العاصمة على الصحفي خالد دراريني بالسجن لمدة عامين، في 15 أيلول/سبتمبر 2020، لنشره تعليقات تشكك في الشرعية الانتخابية لرئيس الجمهورية، بينما ينص الدستور على أن الرئيس "يجسد وحدة الأمة "(2016 /2020، المادة 84، الفقرة 1) ، في حين حُكِم على المعارض السياسي كريم طابو بالسجن لمدة سنة نافذة، على الأساس نفسه ومن قِبل المحكمة نفسها، في 24 آذار/مارس 2020، لتمييزه بين كبار قادة الجيش أصحاب الامتيازات الواسعة والجنود البسطاء الذين ليس لديهم أي سلطة، ومن ثم اتُهِم بالسعي إلى تقسيم الجيش .
تم استخدام أحكام أخرى أيضاً، مثل الإضرار بالمصلحة الوطنية (قانون العقوبات، المادة 96). في 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2021 حكمت محكمة الجزائر العاصمة على ناصر مغنين بالسجن سنة، جزئياً بناءً على هذه الأحكام بعد أن عُثر بمقر جمعيته على لافتات، تندد بالتعذيب والاعتقالات التعسفية، ما اعتبره القضاة مساساً بصورة وسمعة الجزائر وتشجيعاً للتدخل الأجنبي . ولجأ القضاء أيضاً إلى استخدام تهمة إهانة والتعدي على هيئات نظامية (قانون العقوبات، مادة 144 مكرر و146)، وتطبيق هذه التهمة في 7 أيار/مايو 2020، من قِبل محكمة بير مراد رايس، ضد لخضر بورقعة، المجاهد والقائد السابق للولاية الرابعة (الجزائر العاصمة) إبان حرب التحرير الوطني، وحُكم عليه بغرامة قدرها 100 ألف دينار، على تصريحه في حزيران/يونيو 2019، قال فيه إن الجيش الوطني الشعبي (ANP) ليس وريثًا لجيش التحرير (ALN)، الذي كان عضوًا فيه، مما تسبب في وضعه رهن الحبس الاحتياطي لمدة ستة أشهر، عن عمر يناهز 86 عامًا.
أما بالنسبة لحرية الصحافة، فقد تعرضت للعديد من القيود. ومن أجل تجاوز أحكام الدستور والتنصل منها والتي تقضي بعدم جواز الحرمان من الحرية في الجرائم الصحفية (2016، مادة 50، الفقرة 4 و2020، مادة 54، الفقرة 5)، لجأ القضاة إلى تقنيتين. أثناء المحاكمة، في قضية خالد دراريني، أشار القضاء إلى أن للاستفادة من هذه الحماية، يحيل الدستور إلى القانون (2016، مادة 50، الفقرة 3 و2020، مادة 54، الفقرة 2، البند 6) وأن القانون العضوي رقم 12-05 المؤرخ 12 كانون الأول/يناير 2012 يتوّجب على المعني، لكي يُعتَرف له بصفة الصحفي المحترف، امتلاكه بطاقة صحفية (المادة 76) وعقداً مكتوباً (مادة 80)، وهو ما لا يستطيع العديد من الصحفيين الجزائريين الحصول عليه . وفي محاكمة أخرى، تتعلق بقضية رابح كاريش، لم ينف القضاء صفة الصحفي عن المتهم، لكن بغية إدانته، ميّز القاضي بين مقالاته المنشورة في الصحافة، بصفته تلك، وهي بالتالي غير عرضة للسجن، وبين مشاركته هذه المقالات نفسها على شبكات التواصل الاجتماعي، وهذه المرة بصفته الشخصية، أي أنه معرضٌ للسجن .
أخيرًا، كي يتناغم التشريع الجنائي المعمول به مع الظروف الخاصة الناجمة عن قمع الحراك، تم تعديل قانون العقوبات عدة مرات. صدر القانونان رقم 20-05 و20-06 بتاريخ 28 نيسان/أبريل 2020 لأول مرة في ذروة انتشار جائحة كوفيد، بهدف قمع خطاب الكراهية وتجريم نشر "الأخبار الكاذبة" (قانون العقوبات، المادة 196 مكرر) ، وقد تم توظيف هذه الانتهاكات من أجل زيادة تقييد حرية التعبير، في حين تتيح "جريمة التضامن" (قانون العقوبات، المادة 95 مكرر) الآن إمكانية قمع أي شكل من أشكال الدعم للحراك.
شكَّل المرسوم رقم 21-08 المؤرخ 8 حزيران/يونيو 2021 ذروة هذه السياسة القمعية، لأنه يسمح بتصنيف أي عمل يهدف إلى "الوصول إلى السلطة أو [...] تغيير نظام الحكم بوسائل غير دستورية" من الآن فصاعداً، عملاً إرهابياً، (قانون العقوبات، مادة 87 مكرر 14). ومثل هذا الحكم يتيح للسلطات القضائية تجريم مطلب الانتقال الديمقراطي خارج الدستور الاستبدادي، أي المطلب الذي رفعه الحراك ابتداء من نيسان/أبريل 2019، أو تجريم حتى المطالبة بجمعية تأسيسية، في الوقت الذي تظل مبادرة المطالبة بمراجعة الدستور، منذ 1976، بين يدي الرئيس حصرياً . لجأت السلطات إلى هذه التهمة ("الإرهاب السلمي")، بما أن هذا التجريم لا يتطلب اقتراف عملاً من أعمال العنف، وتم استعمالها في المقال الأول ضد المناضلين والمتعاطفين، الحقيقيين أو المفترضين، مع حركة تقرير المصير في منطقة القبائل (MAK) أو حركة رشاد (الإسلام السياسي) ، وهي منظمات بالغت السلطات عن قصد في تعظيم حضورها من أجل تشويه سمعة الحراك. في الحقيقة حظيت تهمة تجريم الإرهاب، التي أُدخلت ضمن القانون الجنائي الجزائري خلال العشرية الدامية، بموجب المرسوم التشريعي رقم 92-03 المؤرخ في 30 أيلول/سبتمبر 1992، قبل تفنينه بالمرسوم رقم 95-11 المؤرخ 25 شباط/فبراير 1995 (قانون العقوبات، مادة 87 مكرر)، برضا السلطات واستعمالها على نطاق واسع، اعتبارًا من عام 2021. ورغم أن هذه الأحكام تبدو غير مألوفة تماماً ، نظرًا لطبيعتها غير الواضحة وغير الدقيقة والقيود غير المتناسبة التي تفرضها على حرية التعبير، مع ذلك، سمحت المراجعة الدستورية لعام 2020 بإضفاء شرعية جديدة عليها.
2- المراجعة الدستورية لعام 2020: تعزيز النظام الدستوري الاستبدادي
هذا التعديل للدستور يتيح الآن إمكانية عدم التقيد بالحقوق والحريات التي يكفلها الدستور، من أجل الحفاظ على المبادئ الغامضة لمفهوم النظام العام والأمن والثوابت الوطنية (أ). بالإضافة إلى ذلك، ولتجاوز الحواجز المؤسساتية التي شهدتها سنة 2019 بشكل أفضل، تم تكليف الجيش الآن بمهمة ضمان "المصالح الحيوية والاستراتيجية للبلاد" (ب).
أ- دَسْتَرة القمع: إمكانية عدم التقيّد بالحقوق والحريات باسم النظام العام والأمن والثوابت الوطنية
فيما يتعلق بالحقوق والحريات، تمت المراجعة الدستورية لعام 2020 لتفادي عواقب الوقوع في حالة عدم الدستورية، التي تم استنساخها في عام 2016 وفق نموذج 'الأولوية للدستورية الفرنسية' (QPC)، وذلك من خلال توفير إمكانية التنصل من "الحقوق والحريات والضمانات"، بموجب قانون، "لأسباب تتعلق بالحفاظ على النظام العام والأمن وحماية الثوابت الوطنية" (المادة 34، الفقرة 2)، وهذا دون النص على وضع ضمانات الضرورة وقاعدة التناسب في مجتمع ديمقراطي، والاكتفاء في أحسن الأحوال، بالإشارة إلى استحالة التعدي على "جوهر هذه الحقوق والحريات" (المادة 34، الفقرة 3). بالإضافة إلى ذلك، لا يوجد أي حكم دستوري يحدد بوضوح "الثوابت الوطنية" ، مما يترك مجالاً واسعاً للمناورة أمام القضاة العدليين والإداريين وكذلك لأعضاء المحكمة الدستورية الجديدة . وقد طبق المجلس الدستوري هذا الحكم بسرعة، في قراره رقم 24/د.ك/ 21 بتاريخ 7 حزيران/يونيو 2021. وبالفعل، رغم ملاحظته بأن الأمر المقدم إليه يمكن أن "يقيد ممارسة بعض الحقوق والحريات"، اكتفى المجلس بفرض إضافة المادة 34 الجديدة بين الأحكام الواردة، دون ممارسة أي رقابة على مسألة التناسب.
عرفت أحكام دستورية أخرى تحرراً واضحاً، مثل حرية التظاهر وتكوين الجمعيات، التي تتطلب الآن تقديم "تصريحًا مسبقًا فحسب" ولم تعُد تستدعي الحصول على إذن مسبق (على التوالي، المادة 53، الفقرة 1 والمادة 52، الفقرة 2)، وينطبق هذا الأمر حتى على الحق في إنشاء الأحزاب السياسية، التي "يجب على "الإدارة أن تمتنع عن كل ممارسة تحول بطبيعتها عن ممارسة هذا الحق" (المادة 57، الفقرة 8)، في حين يرِد في القانون العضوي المتعلق بإنشائها "يجب ألا يتضمن أحكامًا من شأنها المساس بحرية إنشائها" (المادة 57، الفقرة 10). إلى جانب ذلك يجب ألا ترتبط هذه الأحكام بالمادة 34 الجديدة فحسب، بل يجب أن ترتبط أيضًا بالنص الذي بموجبه "يستمر سريان مفعول القوانين التي يستوجـب تعديلها أو إلغاؤها وفق أحكام هذا الدستور إلى غاية إعداد قوانين جديدة أو تعديلها في أجل معقول" (المادة 225)، غير أن هذا الأجل المعقول، لم يُحدد، بينما القوانين العضوية المنصوص عليها في دستور عام 1996، بشأن المحكمة العليا للدولة أو حالة الحصار وحالة الطوارئ، لم تصدُر حتى الآن، بعد مرور أكثر من ربع قرن. وفي هذا الأجل "المعقول" تحديداً، تم إعادة تفعيل، في 20 أيار/مايو 2021، مسألة الإذن المسبق المنصوص عليه في القانون رقم 91-19 المتعلق بمسيرات الجمعة. وتجدر الإشارة أن هذا الأمر يتعلق بالحق في "إنشاء" جمعيات أو أحزاب سياسية، وليس بالحق في ممارسة هذه الحقوق، وهو ما يحافظ على توافق الأحكام التشريعية المهولة التي تسمح بتعليق نشاط هذه الأحزاب والجمعيات أو حلّها مع الدستور. في هذا السياق بالذات، تم حل جمعية "راج" و"الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان" (LADDH) خلال الأجل المعقول المذكور أعلاه. فضلاً عن ذلك، تم الحفاظ على الأسس القانونية التي سمحت بحلها، والتي تتعلق بممارسة الحياة الجمعوية وليس بتكوين الجمعيات، في مشروع القانون المتعلق بالجمعيات، أو حتى تعزيز الأسس (المادتان 26 و56).
كما ألغى التعديل الدستوري لعام 2020 الحكم الذي ينص على أن "الدفاع الفردي أو عن طريق الجمعية عن حقوق الأساسية للإنسان وعن الحريات الفردية والجماعية مضمون" (2016، المادة 39). وبذلك، فقد سهّل إلغاء مثل هذا الحكم من فرصة محاكمة المدافعين عن حقوق الإنسان، مثل زكريا حناش، المعروف بمتابعة أحوال وأخبار سجناء الرأي في الحراك، مما تسبب له في المتابعة القضائية منذ شباط/فبراير 2022، بتهمة المساس بسلامة وحدة الوطن (قانون العقوبات، مادة 79)، والإضرار بالمصلحة الوطنية (قانون العقوبات، مادة 96)، ونشر "الأخبار الكاذبة" (قانون العقوبات، المادة 196 مكرر) و"جنحة التضامن" (قانون العقوبات، المادة 95 مكرر) وتمجيد الإرهاب (قانون العقوبات، المادة 87 مكرر 4) . أما حرية الضمير، أو حرية الاعتقاد في النص العربي، بمفهومه الأكثر تضييقاً، فقد اختفت أيضًا من مواد دستور عام 2020، على الرغم من ورودها منذ عام 1976 . وفي هذا السياق، أصدرت محكمة سيدي محمد، في 22 نيسان/أبريل 2021، ضد مؤسس "ملتقى الأنوار للفكر الحر" في الجزائر، سعيد جاب الخير، حكماً بالحبس ثلاث سنوات وغرامة قدرها 50 ألف دينار بتهمة "ازدراء عقيدة أو تعاليم الإسلام" (قانون العقوبات، المادة 144 مكرر 2)، بسبب منشورات نشرها على شبكات التواصل الاجتماعي، انتقد فيها تفسيرات معينة للدين الإسلامي . حتى وإن أطلِق سراح العالم الإسلامي، جاب الخير، بعد استئناف الحكم ، لقد كان واضحاً مدى استخدام الدين، أثناء محاكمته الابتدائية، خاصة وأن المنتسبين للطرف المدني، كانوا من أنصار الجنرال الراحل قايد صالح و"الدولة العسكرية" ، المناهضين للدولة المدنية التي يطالب بها الحراك.
ب. الدسْترة بحكم الأمر الواقع لعام 2019: الإعلان عن الجيش بصفته وصياً على "المصالح الحيوية والاستراتيجية للبلاد"
تمثل جوهر التعديل الدستوري في اعتبار الجيش الضامن "للمصالح الحيوية والاستراتيجية للبلاد طبقاً لأحكام الدستور" (المادة 30، الفقرة 4) ، عملاً باقتراح من وزارة الدفاع الوطني (رقم 1317) وهو ما يشكل ثورة قانونية حقيقية، بالنظر إلى ما عاشه الجيش بمناسبة دستور عام 1989 ، عند انسحابه بمقتضى الدستور من الشؤون السياسة؛ فما هي إذن هذه "المصالح الحيوية والاستراتيجية"؟ يمكن أن تتعلق هذه المصالح بالقضايا العسكرية وكذلك القضايا الدولية أو الداخلية أو الاقتصادية أو الثقافية أو حتى الدينية ، وإذا كانت هذه المادة قد أشارت إلى أن الأمر يتم "طبقاً للأحكام الدستورية"، فإنها لا تحدد أي من هذه الأحكام. وبما أن الرئيس هو "القائد الأعلى للقوات المسلحة" (مادة 91، الفقرة 1، 1)، فماذا سيحدث في حالة انتهاكه حكمًا دستوريًا آخراً اعتبره الجيش أنه مشمول في "المصالح الحيوية والاستراتيجية؟"، فأي من الحكمين يجب تطبيقه في هذه الحالة؟ إن أساس هذا الحكم الغامض كفيل بأن يسلط الأضواء على مدى أهميته.
لقد كان تدخل الجيش في وقف المسار الانتخابي في 12 كانون الثاني/يناير 1992، الذي كان يسير في اتجاه فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ، مناسبة لتقديم اقتراحات من قِبل لجنتين من الخبراء في 1993 و1996، لجعل الجيش حامياً للدستور ، وهو ما رفضته السلطات حينذاك. وبناء عليه، لم يكن تدخل الجيش في 2019 لدفع الرئيس بوتفليقة إلى الاستقالة قائماً على أي أساس قانوني ، ولم تكن هناك سلطة دستورية موازنة قادرة على إجباره على الاستقالة . ومن ثم، مثل هذا الحكم يُمَكِّن من إضفاء الشرعية بأثر رجعي، على هذا التدخل، أو حتى على التدخلات المستقبلية، وفي "كل الحالات، التي يكون فيها الرئيس خارج السيطرة؛ [...] لن يكون في استطاعة الجيش تفادي القيام بانقلاب؛ ويكون إعلان الجيش استيلائه على السلطة وحده قادراً على تسوية الخلاف" . كما كانت مراجعة الدستور المصري لعام 2019 قد عهِدت إلى الجيش مهمة "الحفاظ على الدستور والديمقراطية وأسس الدولة المدنية، وكذلك على مكتسبات الشعب وحقوقه وحرياته" (المادة 200، فقرة 1) ومن ثم قد أضفت الشرعية على انقلابه ضد الرئيس مرسي في عام 2013 وفي الوقت نفسه، منعت أي عودة للإخوان المسلمين إلى السلطة.
في الجزائر، يمكن أن ينطبق مثل هذا الحكم أيضًا على أي رئيس أو برلمان، بما في ذلك البرلمان المنبثق عن الحراك، خاصة وأن الدستور أصبح يميز بين "الحراك الشعبي الأصيل" (التمهيد، الفقرة 10) والحراك الذي طالب "بتغيير جذري في النظام" "و" دولة مدنية غير عسكرية" . يُستعمل هذا الحكم في المقام الأول كخط أحمر لا يُسمَح بتجاوزه، رغم كونه غير محدد. في هذا السياق، أجرى المرسوم الرئاسي رقم 21-539 المؤرخ 26 كانون الأول/ديسمبر 2021 تعديلًا للمجلس الأعلى للأمن (HCS)، من خلال تعزيز مكوّنه العسكري، الذي أصبح يشكل الآن الأغلبية (المادة 2)، ومن خلال تمديد مهامه، لتشمل حتى "مشاورات الاستفتاء حول مسائل ذات طبيعة أساسية" (المادة 3، البند 3). وفي ضوء ذلك، تبدو هذه الأحكام الجديدة متعارضة بشكل واضح مع الميثاق الأفريقي للديمقراطية والانتخابات ونُظُم الحوْكمة لعام 2007، الذي صدَّقت عليه الجزائر ، بما أن هذا الميثاق ينص على أن "الدول الأطراف يجب أن تعزز وتضفي الطابع المؤسسي على تحكم السلطة المدنية الدستورية في القوات المسلحة وقوات الأمن لأغراض توطيد الديمقراطية والنظام الدستوري" (المادة 14، الفقرة 1).
الخلاصة: دولة تستند إلى قانون استبدادي ناجع لتفكيك الحراك قضائياً
بعد مرور أربع سنوات على أولى مسيرات الحراك، أصبح من الممكن تصنيف الدعوى إلى انتقال ديمقراطي خارج الدستور الاستبدادي، ضمن "الإرهاب السلمي" (قانون العقوبات، المادة 87 مكرر 14)، واعتبار الدعوة إلى استمرار الحراك، تحريضاً مباشراً على التجمهر غير المسلح (قانون العقوبات، المادة 100)، ويمكن إدراج التنديد بالقمع ضمن تهم المساس بالمصلحة الوطنية (قانون العقوبات، المادة 96)، أو حتى "الأخبار الكاذبة" (قانون العقوبات، المادة 196 مكرر)، في حين يمكن لأي انتقاد لرئيس الجمهورية أو الجيش، أن يُشكل مساساً بالوحدة الوطنية (قانون العقوبات، المادة 79)، أو حتى ازدراء هيئات نظامية (قانون العقوبات، المادة 144 مكرر و146). أما بالنسبة لمسيرات الجمعة، ففي حالة عدم حصولها على إذن مسبق، لم يعد ممكناً تنظيمها، خشية إدراجها ضمن التجمهر غير المسلح (قانون العقوبات، المادة 98)، كما أن أعمال التضامن مع الحراك والمتظاهرين قد يدخل في إطار المساس بأمن الدولة أو تقويض المصالح الأساسية للجزائر (قانون العقوبات، المادة 95 مكرر)، في حين قد تتعرض الجمعيات والأحزاب السياسية المنخرطة في الحراك، لتعليق نشاطاتها، بل وحلّها، بسبب إدانتها واستنكارها القمع أو مقاطعة الانتخابات. مثل هذا القمع المُعمّم على المستوى الوطني، سواء أكان ضحاياه نشطاء حقوق الإنسان أم من المعارضة غير العنيفة، هو أمر غير مسبوق، لم يشهد له مثيلاً منذ الانفتاح الديمقراطي عام 1989 وتوقيف المسار الانتخابي في عام 1992، بالنظر إلى الطبيعة السلمية للحراك ومطالبه الديمقراطية، التي تتباين تماماً مع المعارضة المسلحة في التسعينيات، وهذا ما يطرح تساؤلات مُلِحة، حول شرعية السلطات القائمة، التي كان قد طالبها الحراك في إحدى شعاراته، بالرحيل جميعاً، بالصيغة الشائعة "يتنحاو قاع".
تطبيق هذه الأحكام القمعية، وتعميق مفعولها من خلال إصدار قوانين جديدة مُكيفة، إلى جانب تشريعات تبدو متجاهلة إلى حد كبير لمبدأ التفسير الصارم لقانون العقوبات ومبدأ قانونية الجرائم والعقوبات - مما يزيد من التساؤل حول استقلالية القضاء – كل ذلك ساهم في فض الحراك وتفكيكه، إلى درجة فقدانه جميع أشكال التعبير العلني، ابتداء من أيار/مايو وحزيران/يونيو 2021، أي منذ أن أصبح الحصول على الإذن المسبق للتظاهر يوم الجمعة شرطاً لا مناص منه، ومنذ أن تم توسيع مفهوم جريمة الإرهاب، ليشمل مطالب الحراك. وقد وجدت السياسة القمعية أيضًا دعمًا من خلال حملات الدعاية التي تهدف إلى عزل قطاعات مختلفة من المواطنين وإبعادهم عن الحراك، عن طريق تشويه سمعة عناصره، وتقديمهم على أنهم عملاء يعملون على زعزعة استقرار البلاد، أو انفصاليون من منطقة القبائل، أو مسيؤون للإسلام ومعتقداته، أو متطرفون إسلاميون، أي إرهابيون في نهاية المطاف، بمعنى آخر، جعل سجناء الرأي والأشخاص المتابَعين في سياق حملات القمع، أشخاصاً منبوذين. هذه الأحكام القمعية تجد أيضًا أساسًا جديدًا في الدستور، الذي فضلاً عن إحالته الغامضة إلى القانون، أصبح يُمَكِّن من تجاوز الحقوق والحريات، بموجب القانون، من أجل الحفاظ على المبادئ الغامضة للنظام العام والأمن والثوابت الوطنية (المادة 34، الفقرة 2). ورغم انتهاكها الواضح للاتفاقيات الدولية التي صدَّقت عليها الجزائر ، تنسجم هذه الأحكام التشريعية والدستورية، على المستوى الداخلي البحت، انسجاماً تاماً مع دولة القانون المستبد، أي في دولة تتجاهل سيادة القانون.
على صعيد تنظيم السلطات العامة، يأتي إصدار تشريع "الإرهاب السلمي"، لمجرد الرغبة في "تغيير نظام الحكم بوسائل غير دستورية" (قانون العقوبات، المادة 87 مكرر، 14)، ليصد الأبواب تماماً أمام أي عمل يصبو إلى "تغيير جذري للنظام"، ويحصر المنافسة السياسية عبر بوابة واحدة، الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في عام 2024. بالفعل، لا يمكن للبرلمان مراجعة الدستور من تلقاء نفسه، مع العلم أن شروط الترشح للرئاسة تعتبر من بين شروط الانتخابات الأكثر تمييزًا في العالم (الدستور، المادة 87)، فضلاً على أن الإشراف على هذه الانتخابات يُعهد به إلى "الهيئة الوطنية العليا المستقلة للانتخابات"، التي يتم تعيين جميع أعضائها من قِبل رئيس الجمهورية (الدستور، مادة 201، الفقرة 1)، أي ما يُهدد بخطر انتخاب رئيس بصلاحيات مفرطة، تحت الإشراف الحصري لجيشٍ أصبح الوصي على "المصالح الحيوية والاستراتيجية للبلد" (المادة 30، الفقرة 4)، باختصار، ثمة مخاطرة بالتجديد مرة أخرى للنظام السياسي القائم، بعيداً عن الحروب العشائرية التي تدفعه.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.