وسيلة ناجعة أم توجه عابر؟ دلالات وممارسات المُساءلة الاجتماعية في العالم العربي، وأسباب أهميتها

Social Accountability Arab Reform Initiative Morocco Tunisia Lebanon ARI
تجمع المئات من موظفي الخدمة المدنية في ساحة باب الأحد حاملين لافتات أثناء مسيرة نحو مبنى البرلمان خلال احتجاج على قانون التقاعد الجديد، الرباط ، المغرب، 14 كانون الأول/ديسمبر 2016.  ©AA/جلال مرشدي

ملخص

أصبح الحكم الخاضع للمُساءلة مطلباً متكرراً للمواطنين العاديين في مختلف المجتمعات العربية. فقد شهدت المنطقة مجموعة متنوعة من المبادرات التي يقودها المواطنون انطلقت من القاعدة إلى القمة في السنوات الأخيرة، مدفوعة بالسخط المتزايد على نطاق واسع جراء التوزيع غير العادل للحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية. وشهدت بلدان مختلفة ظهور عمليات “تشاركية”، مثل الممارسات التشاركية في إعداد الميزانيات واللجان الاستشارية والمراجعة الاجتماعية. وكثيراً ما توصف هذه المبادرات بأنها “مبادرات للمُساءلة الاجتماعية”، وهو مفهوم تؤيده الجهات الفاعلة في المجتمع المدني والجهات المانحة على حد سواء، من أجل تمكين المواطنين وتحسين الخدمات العامة. ما نعنيه بالمُساءلة الاجتماعية هنا هو أي إجراء يقوده المواطنون بخلاف الانتخابات يهدف إلى تعزيز مُساءلة الجهات الفاعلة التابعة للدولة. وقد روجت لهذا المفهوم منظمات دولية منها البنك الدولي، باعتباره “وسيلة مباشرة للمُساءلة” من أجل تعزيز دور المواطنين بوصفهم “مستخدمين للخدمات” وتوفير قدر أعظم من الاستجابة الحكومية.

ولكن ماذا تعني المُساءلة الاجتماعية في واقع الأمر للجهات الفاعلة المحلية في المنطقة بعيداً عن إستراتيجيات الجهات المانحة؟ هل هي وسيلة ناجعة لتحسين الحكم؟ قُمنا بدراسة مثل هذه المبادرات في لبنان وتونس والمغرب لبحث السبل التي تنتهجها الجهات الفاعلة في المجتمع المدني في استخدام مبادرات المُساءلة الاجتماعية في استراتيجياتها لجعل الحكومة أكثر خضوعاً للمُساءلة أمام المواطنين. ووجدنا أن لهذا المفهوم مدلولات مختلفة عديدة بالنسبة للأشخاص على أرض الواقع، وأن منظمات المجتمع المدني في المنطقة قد وضعت مجموعة من الاستراتيجيات للضغط على الحكومة وإرغامها والتعاون معها في سبيل فرض المُساءلة. بيد أن دراستنا تبين أيضاً أنه لا تزال هناك شكوك حول ما إذا كانت مثل هذه المبادرات يُمكن أن تؤدي إلى تغيير منهجي شامل في المنطقة.

اقرأ المزيد

أهمية إعداد وتطوير مبادرات المُساءلة الاجتماعية

في البلدان الثلاثة التي تناولتها الدراسة، تُعد المُساءلة الاجتماعية من المنافع العامة التي قلما توجد ولكن ثمة حاجة ماسة إليها. ففي لبنان، تسبب استيلاء النخب الحالية على الدولة في أزمات متعددة أدت إلى حدوث انهيار اجتماعي واقتصادي متواصل. وعلى الرغم من الإخفاقات المأساوية الهائلة في تقديم الخدمات العامة -بدءاً من المشاكل المتعلقة بالصحة العامة أثناء جائحة كورونا أو انفجار بيروت في 4 آب/أغسطس 2020، ووصولاً إلى انخفاض قيمة العملة الوطنية أو الجمود الذي أصاب عملية صنع القرار- تستمر طبقة متصلبة من السياسيين في عرقلة إجراء أي إصلاحات هيكلية. وبما أنه من غير المرجح أن يحدث التغيير من خلال صناديق الاقتراع، فإن آليات المُساءلة الاجتماعية تمثل فرصاً هامة للحركات الاجتماعية وجماعات المعارضة لتطوير استراتيجيات جديدة ومحاسبة النخب الحالية.

في تونس، منذ الانتخابات الديمقراطية الأولى في عام 2011، واجهت القوى السياسية صعوبات لإصلاح النظام الاجتماعي والاقتصادي ومؤسسات الدولة التي اتسمت بعقود من سوء الإدارة والفساد. وفي تموز/يوليو 2021، علق الرئيس قيس سعيد أعمال البرلمان، وأقال رئيس الوزراء، وأنهى مهام الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، ومنذ ذلك الحين يحكم بمرسوم. وقد عانت البلاد أيضاً من صعوبات اقتصادية تفاقمت أكثر بسبب جائحة كورونا، واستمرار مقاومة النخب السياسية والبيروقراطية والاقتصادية لعملية إرساء الديمقراطية. وعلى الرغم من هذه المقاومة، واصل العديد من الأفراد والجمعيات التونسية إثبات قدرتهم على إطلاق مشاريع مدنية مبتكرة قادرة على إحداث أثر على الصعيدين المحلي والوطني.

شهد المغرب أيضاً انتكاسات كبيرة في حرية التعبير والحريات المدنية في السنوات الأخيرة. فقد أثر التدفق المحدود للسياح بسبب القيود المفروضة على السفر وتعرض البلاد لواحدة من أشد حالات الجفاف في تاريخ المغرب، تأثيراً بالغاً على سبل عيش المواطنين. ودفع الافتقار إلى التحسن الملموس في أوضاعهم وتراجع الثقة في المؤسسات الرسمية (المنتخبة) المواطنين إلى التحايل على آليات التمثيل التقليدية.

المعاني العديدة للمساءلة الاجتماعية

إذاً، ما الذي تعنيه الجهات الفاعلة المحلية في المنطقة بمصطلح "المُساءلة الاجتماعية"؟ تنظر الدراسات العلمية إلى مبادرات المُساءلة الاجتماعية على أنها أي شيء بدءاً من مراقبة المواطنين لأداء القطاعين العام أو الخاص والإشراف عليهما، ووصولاً إلى أنظمة الوصول إلى المعلومات العامة التي تركز على المستخدمين، وآليات الشكاوى العامة ومعالجة المظالم، أو حتى المشاركة الفعلية للمواطنين في تخصيص الموارد، مثل الممارسات التشاركية في إعداد الميزانيات.

عندما سألنا المواطنين والناشطين في المجتمع المدني في لبنان وتونس والمغرب عما يقصدونه بالمُساءلة الاجتماعية، وجدنا أن المصطلح يشمل مجموعة واسعة من المفاهيم المختلفة المتعلقة بالعلاقة بين الدولة والمواطنين، بما في ذلك:

لا يوجد مقابل واحد واضح لمصطلح "accountability" في اللغة العربية. ففي جميع المبادرات وفي مناقشات المجتمع المدني في البلدان الثلاثة، ظهر مصطلحان مراراً وتكراراً عند مناقشة المُساءلة الاجتماعية، وهما: المُساءلة والمُحاسبة. غالباً ما استخدم الناشطون مصطلح المُساءلة، المرتبط بمفهوم السؤال (سأل)، للإشارة إلى تحمّل المسؤولين الحكوميين المسؤولية والتزامهم بالكشف عن المعلومات وشرح أفعالهم (أو أسباب تقاعسهم) وقراراتهم. وفي الوقت نفسه، فإن مصطلح المُحاسبة، المشتق من تصفية الحسابات (حساب)، له دلالة توحي على نحو أكثر بالوعيد والتهديد في إنفاذ المساءلة، أي معاقبة المسؤولين، ويستخدم في الغالب في المبادرات التي تركز على سيادة القانون وإمكانية الاحتكام إلى العدالة.

في حين كان شيوع مصطلح "المُساءلة الاجتماعية" في السنوات الأخيرة مدفوعاً بالمطالب المحلية للمُساءلة وبرامج المانحين الدوليين. ففي تونس، على سبيل المثال، تعزز انتشار المصطلح بين المجتمع المدني بفضل برنامج "تمكين" التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي المعني بـ"تعزيز قدرة المجتمع المدني... باعتباره عنصراً أساسياً في التنمية والمُساءلة الاجتماعية". غير أن الجهات الفاعلة المحلية أخذت مفهوم المساءلة الاجتماعية وأعادت تخصيصه في طائفة من مبادراتها الخاصة التي تتجاوز المبادرات التي تروج لها الجهات المانحة الدولية. وعلى هذا فلا توجد عملية واضحة "لنقل" الأفكار أو النماذج. وفي حين أن الجهات المانحة تؤدي دوراً رئيسياً في نشر المفاهيم، فإن هذه المفاهيم كثيراً ما تتبناها الجهات الفاعلة المحلية لتتناسب مع طائفة واسعة من المطالب الداخلية للمُساءلة.

رد فعل المسؤولين الحكوميين والاستراتيجيات المضادة من جانب منظمات المجتمع المدني

يواجه كل من مصطلحي المُساءلة والمُحاسبة مقاومة من المسؤولين على أرض الواقع، الذين يشعرون بالتهديد من دلالات العقاب وتصفية الحسابات التي تحملها هذه المصطلحات. ففي جميع البلدان الثلاثة، يستخدم السياسيون والبيروقراطيون استراتيجيات مختلفة لمقاومة أو إفشال مبادرات المُساءلة الاجتماعية. إذ إنهم يعيدون استخدام مصطلح المساءلة بينما في الواقع يضطلعون في ممارسات لا تعدو أن تكون ذراً للرماد في العيون أو اتباع ممارسات رمزية، أو يسعون إلى التأكد من أن مثل هذه المبادرات لا تؤدي إلى مُساءلة حقيقية. وغالباً ما تمر هذه الاستراتيجيات دون ملاحظة المانحون أنفسهم الذين يدفعون مقابل مشاريع المُساءلة الاجتماعية.

بيد أن الجهات الفاعلة في المجتمع المدني في جميع البلدان الثلاثة طورت استراتيجيات مضادة للتقليل إلى أدنى حد من خطر قيام المسؤولين ومؤسسات الدولة باستغلال مبادرات المُساءلة الاجتماعية أو عرقلتها أو إفشالها. ومن هذه الأنماط بناء علاقات مع المسؤولين المتعاونين، وصياغة مشاركتهم على أنها عملية "متابعة" تقوم على دعم مؤسسات الدولة، بدلاً من المواجهة المحضة. ولذا، تستخدم منظمات المجتمع المدني أسلوب تعاوني مع المسؤولين، وتقدم المُساءلة بوصفها عملية تهدف إلى بناء الثقة بين الدولة والمواطنين. وتشمل هذه الأساليب "التعاونية" عقد شراكات مع الوزارات أو البلديات، وتوفير الخبرات والدعم الفني للمسؤولين الحكوميين (تقديم التدريب أو دعم البلديات لإنشاء مواقع إلكترونية على الإنترنت وحملات إعلامية)، أو مساعدة مؤسسات الدولة على اكتساب المصداقية لدى الجمهور (والجهات المانحة) عن طريق إطلاق لجان توجيهية مشتركة أو من خلال مراقبة المشتريات العامة. وقد وجدت الجهات الفاعلة في المجتمع المدني أن توفير الموارد التي يحتاج إليها المسؤولون وسيلة فعالة لإقناعهم بالمشاركة في مبادرات المُساءلة الاجتماعية.

بالإضافة إلى النُهُج التعاونية، طور المجتمع المدني أيضاً أدوات للضغط على الحكومات، من خلال التعبئة الاجتماعية أو التقاضي، وكذلك من خلال الاستخدامات المتطورة لوسائل التواصل الاجتماعي أو وسائل الإعلام السائدة، والضغط على السمعة باستخدام العلاقات مع المانحين الدوليين.

من هذا المنطلق، يعتمد الناشطون المحليون في المنطقة استراتيجيات للسير على خط رفيع بين التعاون والترغيب، وبين النزاع والمواجهة. ومثلما أوضح أحد الناشطين في تونس، "اعتدنا استخدام أساليب تصادمية للغاية [عند التعامل مع المسؤولين] التي نشتهر بها كمنظمة... لكن بعد ذلك وجدنا أن هذا ليس حلاً. إذ لا يمكنك الدخول في معركة معهم لأنهم فعلوا شيء على نحو خاطئ. بل يجب أن نوضح لهم كيفية القيام بذلك بشكل صحيح، وكيفية كتابة القواعد الإجرائية الداخلية، وكيفية إجراء مناقصة عامة، وكيفية احترام إمكانية الوصول إلى قوانين المعلومات. لذا، نحن نتبع نهجاً جديداً... وهو بناء شراكات مع المؤسسات... والتحول من المواجهة إلى الدعم".

هل تُجدي مبادرات المُساءلة الاجتماعية نفعاً؟

أسفرت مبادرات المُساءلة الاجتماعية التي أطلقها المجتمع المدني في لبنان والمغرب وتونس عن تغييرات مؤسسية على الصعيدين المحلي والوطني. ففي تونس، تشمل تجارب مبادرات المُساءلة على مستوى البلديات أمثلة منها إعداد الميزانيات التشاركية في عدد من البلديات ومبادرة الحوكمة المفتوحة الرائدة في بلدية صيادة، التي أصبحت أول بلدية تونسية تضع جميع وثائقها الرسمية على الإنترنت، فضلاً عن إنشاء شبكة داخلية مفتوحة يمكن الوصول إليها في جميع أنحاء المدينة ويستطيع السكان استخدامها للوصول إلى الوثائق وإبداء آرائهم بشأن المشاريع والقضايا المحلية. وقد أثارت هذه الأمثلة الحماس العام للحوكمة التشاركية، وأدت إلى وجود منظمات مجتمع مدني ومسؤولين حكوميين يتمتعون بالخبرات اللازمة لدفع الحوكمة المفتوحة إلى الأمام. وساعد ذلك على ضمان اعتماد أحكام دستورية بشأن الشفافية والحوكمة الرشيدة وإمكانية الوصول إلى المعلومات والديمقراطية التشاركية في جميع مراحل عملية صنع القرار (المواد 15 و32 و137 و139)، وهي أحكام نفذت بعد ذلك عن طريق سن قوانين جديدة.

بيد أنه بشكل عام أدى الفساد المستشري والمقاومة المؤسسية والافتقار إلى الإرادة السياسية إلى كبح إمكانات مبادرات المُساءلة الاجتماعية لإحداث تغيير منهجي. يتمثل القيد الرئيسي الذي يواجه مبادرات المُساءلة الاجتماعية بالنسبة للناشطين المحليين في افتقارها إلى الوسائل اللازمة لتنفيذ قراراتها، أي أن المبادرات قد تُركز الاهتمام على القضايا الرئيسية، وحتى تضمن الالتزامات تجاه المُساءلة، لكن هذه الوعود نادراً ما تتحقق. ففي تونس، واجه المجتمع المدني صعوبات في إقناع الوزارات بالاستجابة لطلبات الوصول إلى المعلومات، حتى عندما يُطلب منها ذلك بموجب القانون. وفي المغرب، سَطا المسؤولون على المُساءلة من خلال إعادة صياغة ردودهم على المطالب الشعبية المنطلقة من القاعدة إلى القمة باعتبارها تنازلاً فوقياً من القمة إلى القاعدة، وليس حقاً. أما في لبنان، يصف أصحاب المناصب العامة باستمرار الدعوات إلى المُساءلة بأنها هجمات حزبية على وحدة النسيج الوطني.

بالرغم من أن مبادرات المُساءلة الاجتماعية نادراً ما تؤدي إلى تحولات مذهلة، فقد وجدنا حالات من التغيير المحلي التدريجي. ففي أغلب الحالات تُعيد مبادرات المُساءلة الاجتماعية تشكيل سلوك ومواقف المسؤولين الحكوميين الذين أصبحوا أكثر اعتياداً على المُساءلة وأكثر استجابة للنقد من خلال مشاركتهم في مبادرات المُساءلة الاجتماعية. ويبدو أيضاً أنهم نجحوا في إطلاع المواطنين وإشراكهم في مراقبة ومُساءلة المسؤولين الحكوميين على الصعيدين المحلي والوطني.

الآثار المترتبة بالنسبة للمواطنين والمجتمع المدني

يعتبر العديد من ناشطين المجتمع المدني الذين تحدثنا إليهم في لبنان والمغرب وتونس المبادرات التي يقودها المواطنون لتعزيز الحوكمة الشاملة الخاضعة للمُساءلة سبيلاً للمضي قدماً. غير أن الجهات الفاعلة المحلية أثارت تحديات محددة من شأنها جعل هذه المبادرات أكثر فعالية.

  • تجنب التلاعب - تحرص الجهات الفاعلة في المجتمع المدني على منع الحكومات من استغلال مشاركتها أو مبادراتها باعتبارها "ممارسات لذر الرماد في العيون" أو إصلاحات "مشروعة" مع إفراغها من مضمونها، لا سيما فيما يتعلق بالجهات المانحة الدولية. يُعد هذا الأمر مسألة حساسة بصفة خاصة على المستويات المحلية، حيث ترتبط منظمات المجتمع المدني والناشطون في كثير من الأحيان بعلاقات اجتماعية شخصية مع مسؤولي البلديات، ويتعرضون لخطر أكبر يتمثل في ممارسة الضغوط أو الانتقام. وعلى هذا الأساس، تضطر منظمات المجتمع المدني إلى بناء علاقات وثيقة مع مؤسسات الدولة لجعل عملها أكثر فعالية، مع الاحتفاظ باستقلاليتها عن الدولة لكي تظل قوة موازية لتحدي الدولة عند الحاجة.
  • بناء التحالفات داخل المجتمع المدني - أعرب الناشطون عن قلقهم من أن المجتمع المدني في بلادهم ضعيف تنظيمياً ومنقسم داخلياً ومبتلى بالاستقطاب والسلوك التنافسي ومدفوعاً إلى حد ما بالتمويل الدولي. ويؤدي ذلك إلى غياب التعاون بين منظمات المجتمع المدني وإلى تشرذم العمل الجماعي، مما يضعف المجتمع المدني في مواجهة المؤسسات الحكومية.
  • التقييم لوضع استراتيجيات أفضل - يساور العديد من المنظمات القلق إزاء افتقارها إلى الموارد اللازمة لتقييم مبادراتها الخاصة. ليس لدى الجمعيات سوى القليل من الأساليب لقياس الأسباب التي تجعل آلية المُساءلة الاجتماعية نفسها تؤدي إلى نتائج متباينة في مناطق مختلفة، وكيفية تشكيل السياق لديناميات المُساءلة الاجتماعية. في حين يقوض تركيز الجهات المانحة على المشاريع القصيرة الأجل والنتائج الملموسة قدرة منظمات المجتمع المدني على تجربة نُهُج متعددة وتحليل النتائج الطويلة الأجل، مثل التغيرات في المواقف. ويؤكد الناشطون أيضاً على الحاجة إلى التقييم الذاتي من أجل تحليل ومقارنة التجارب المحلية وتطوير نماذج جديدة ذات طابع محلي بدلاً من النماذج (المفروضة) أو "النماذج المُعدة مسبقاً" للعمل من سياقات أخرى.

الآثار المترتبة بالنسبة للجهات المانحة

تنظر الجهات الفاعلة في المجتمع المدني في لبنان والمغرب وتونس إلى مبادرات المُساءلة الاجتماعية باعتبارها سبيلاً للمضي قدماً ولكنها مقيدة بالنُهُج الحالية التي تتبناها الجهات المانحة.  فتركيز الجهات المانحة على إدخال آليات تشاركية في مشاريعها له آثار إيجابية على المُساءلة وأخرى سلبية في الوقت نفسه. على سبيل المثال، تستخدم السلطات أحياناً برامج المشاركة التي تمولها الجهات المانحة والتي تقودها الحكومة لفرض أشكال من مشاركة المواطنين تهدف إلى حماية الحكومات من الخضوع للمُساءلة الكاملة واستبعاد منظمات المجتمع المدني. وقد جرى تسليط الضوء على هذا الخطر من قبل في دراسات تصف كيف استولت الحكومات العربية على العمليات التي تمولها الجهات المانحة الدولية من أجل تعزيز شبكاتها الخاصة أو إفراغ الإصلاحات من مضمونها. ولذا، فإن رعاية المبادرات التي تسمح للحكومات بتحديد آليات المشاركة تفتح الباب أمام استغلال المُساءلة الاجتماعية.

علاوة على ذلك، كثيراً ما تؤدي طرق التمويل المتبعة من الجهات المانحة الدولية إلى فرض قيود على منظمات المجتمع المدني تقوض السعي إلى تحقيق المُساءلة. أولاً، يقيد النهج القائم على المشاريع الذي يتبعه العديد من المانحين منظمات المجتمع المدني في محاولاتها الطويلة الأجل لبناء حركات من أجل التغيير تتطلب دعماً مالياً مستمراً أو الاستقلال عن الجهات الفاعلة الخارجية. ثانياً، غالباً ما يعمل تمويل الجهات المانحة على تثبيط الأنشطة "السياسية" التي تنطوي على إستراتيجيات المواجهة في التعامل مع الدولة. ولكي تكون منظمات المجتمع المدني مؤهلة للحصول على التمويل الدولي، فلا بد وأن تكون "محايدة" سياسياً، وهو ما يخلف تأثيراً سلبياً على المجتمع المدني. وأخيراً، في سياق الاستقلال المالي المحدود، يشجع التمويل المقدم من الجهات المانحة المنافسة بين منظمات المجتمع المدني، مما يزيد من تقويض الجهود المبذولة بشأن القضايا التي تؤثر عليها جميعاً. ويمكن للجهات المانحة الدولية أن تؤدي دوراً في تمهيد المساحات المشتركة من أجل تشجيع منظمات المجتمع المدني على التعاون مع السماح لها في الوقت نفسه بتحديد أولوياتها الخاصة للعمل.

وإجمالاً، يمكن أن يكون لتصميم البرامج الممولة من الجهات المانحة تأثير غير مسيس بشكل كبير على مبادرات المُساءلة الاجتماعية، ويجب أن تكون على دراية بهذا الأمر والسعي إلى التخفيف من آثاره. وكما يتضح من برنامج البحوث "العمل من أجل التمكين والمساءلة" (A4EA) الذي يقوده معهد دراسات التنمية، ينبغي للجهات المانحة أن تنتبه إلى المجموعة الغنية من الممارسات الاجتماعية والسياسية التي يقودها المواطنون والتي توجد على الرغم من أساليب الحكم الاستبدادية، بما في ذلك الممارسات التي "تخضع للمراقبة". والأهم من ذلك، ينبغي للجهات المانحة الدولية أن تركز على فهم الدلالات والممارسات المحلية للمُساءلة الاجتماعية، وأن تكون منفتحة على الابتكار المحلي وعمليات التعلم الطويلة الأجل. وسيسمح ذلك بوضع برامج تراعي السياق والتي يمكن أن تساعد منظمات المجتمع المدني المحلية على مواجهة التحديات الملحة في لبنان وتونس والمغرب.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.