هل فشلت الديمقراطية التونسية في إقناع الشباب التونسي؟ تباطؤ مسيرة التنشئة الاجتماعية الديمقراطية

لعل الأزمة السياسية الحالية التي تشهدها تونس تُمثل أكثر اللحظات اضطراباً في عملية ترسيخ الديمقراطية منذ عام 2013. تنظر هذه الورقة إلى نموذج مصغر للشباب التونسيين، وخاصة في المحافظات المهمشة التي لم تستفيد من الناحية الاجتماعية والاقتصادية من التحول الديمقراطي. وتبين أن التنشئة الاجتماعية السياسية على مدى السنوات العشر الماضية لم تسفر حتى الآن عن مواقف ديمقراطية واسعة النطاق، وتستكشف تأثيرات ذلك  على ترسيخ الديمقراطية في البلد.

يتحدث الرئيس التونسي قيس سعيد خلال إطلاق أول قمر صناعي تونسي "تحدي واحد" والذي صنعته مجموعة الاتصالات الإلكترونية "تلنيت"، تونس، تونس، 22 أذار/مارس 2021 (إعادة الإصدار 25 تمّور/يوليو 2021) EPA-EFE/MOHAMED MESSARA

لعل الأزمة السياسية الحالية التي تشهدها تونس تُمثل أكثر اللحظات اضطراباً في عملية ترسيخ الديمقراطية منذ عام 2013. ففي الوقت الراهن، يتركز الاهتمام إلى حد كبير على الخطوات التي يتخذها الرئيس، قيس سعيّد، والتي تحمل بين طياتها اهتمامات عابرة مختلفة ذات ميول استبدادية يُمكن ملاحظة آثارها، والتي لا تشمل تكديس السلطة بين يديه فحسب، وإنما أيضاً فرض قيود على حرية الصحافة، وزيادة التجاوزات والانتهاكات من قبل الشرطة، واستغلال الإجراءات القضائية لمحاكمة المعارضين السياسيين تحت ذريعة مكافحة الفساد. وبالرغم من أن المواطنين كثيراً ما ينظرون إلى العملية الانتقالية في تونس على مدى السنوات العشر الماضية على أنها غير كافية أو مُخادعة، فإن الأزمتين الاقتصادية والصحية على السواء التي عانت منهما البلاد على مدى السنوات العديدة الماضية، جنباً إلى جنب مع انتخاب رئيس مستقل تبدو عليه النزعة السياسية الشعبوية، ويُشهد له بأنه فوق مستوى الشبهات، قد خلقتا سياقاً يحظى فيه هذا الانقلاب الناعم بقبول شعبي - على الأقل في الوقت الراهن. والآن بعد تمديد تعليق عمل البرلمان، يتزايد القلق بشأن كيفية الخروج من المأزق الحالي في غياب محكمة دستورية.

بيد أن نجاح التحول الديمقراطي واحتمالات ترسيخ الديمقراطية على الأمد البعيد لا يتوقف فقط على ما إذا كان قيس سعيّد لديه النية أو حتى القدرة على إيجاد خارطة طريق للخروج من هذه الأزمة التي تسبب فيها. فضلاً عن أنه لا يتوقف على قدرة المؤسسات الديمقراطية على الصمود وتطبيق الدستور. إذ إن التحولات الديمقراطية تتسم، بحكم طبيعتها، بأنها عمليات ضعيفة وغير خطية - لا تتقدم بسلاسة من مرحلة إلى أخرى بطريقة منطقية. بيد أن أحد الأبعاد الرئيسية اللازمة لنجاحها، علاوة على العوامل المؤسسية والإجرائية، تتمثل في الدعم الجماهيري للنظام الديمقراطي نفسه. وفي بعض السياقات الانتقالية، كما هو الحال في الأنظمة التي أعقبت الشيوعية في أوروبا الشرقية،1انظر على سبيل المثال: Joakim Ekman and Jonas Linde, “Communist Nostalgia and the Consolidation of Democracy in Central and Eastern Europe,” Journal of Communist Studies and Transition Politics 21(3), 2005. تحقق ذلك من خلال المكاسب الاقتصادية وتحسين الظروف المعيشية، عندما أصبحت فوائد النظام الديمقراطي محسوسة في الحياة اليومية.

أما في حالة تونس، التي تعاني من التدهور الاقتصادي منذ عام 2011، فقد كانت مظاهر التحسن اليومية الملموسة منذ التحول الديموقراطي غائبة إلى حد كبير بالنسبة إلى معظم الناس، بل إن العلاقة بين السياق الاقتصادي المتدهور وتناقص الدعم للديمقراطية بدت جلية في الدراسات التي أجراها معهد البحوث الأفريقي "أفرو بارومتر" (Afrobarometer) ودراسات أخرى.2انظر على سبيل المثال: Ragnar Weilandt, “Socio-Economic Challenges to Tunisia’s Democratic Transition,” European View 17(2), 2018; and the particularly prescient Sharan Grewal, “Tunisian Democracy at a Crossroads,” The Brookings Institution, 2019. بيد أن دعم الديمقراطية في ظل المرحلة الانتقالية يُمكن أن يحدث أيضاً من خلال عمليات التنشئة السياسية، ولا سيما التنشئة الاجتماعية للأجيال الشابة التي لديها خبرة محدودة من العيش في ظل الأنظمة البائدة أو الحكومات السابقة، كما هو الحال مثلاً في ألمانيا الشرقية وتعزيز الثقافة السياسية الديمقراطية في مرحلة ما بعد توحيد البلاد.3Steven E. Finkel, Stan Humphries, and Karl-Dieter Opp, “Socialist Values and the Development of Democratic Support in the Former East Germany,” International Political Science Review 22(4), 2001. من الممكن أن تكون عملية التنشئة الاجتماعية للشباب هذه بمثابة شكل من أشكال "تعاقُب الأجيال"، حيث تحل التوجهات الديمقراطية فيما بين الشباب بمرور الوقت محل التوجهات التي تتبناها الفئات الأكبر سناً التي نشأت اجتماعياً في ظل أنظمة مختلفة.

بيد أنه عند النظر إلى نموذج مصغر للشباب التونسيين، وخاصة في المحافظات المهمشة التي لم تستفيد من الناحية الاجتماعية والاقتصادية من التحول الديمقراطي، تشير الأدلة إلى أن التنشئة السياسية خلال العقد الماضي، لم تُسفر عن توجهات ومواقف ديمقراطية واسعة النطاق. فقد كان هناك دائماً بعض القصور في التنشئة الاجتماعية الديمقراطية من خلال الوسائل المؤسسية، ولا سيما نظام المدارس العامة؛ وفي المقابل، لا تزال المفاهيم والقيم السياسية تنتقل إلى حد كبير من جيل إلى جيل داخل الأسر وعبر الأوساط الاجتماعية. ولا يزال الشباب في المناطق المهمشة -الذين يعانون من عدم وجود خيارات العمل اللائق والعزلة الجغرافية والثقافية المستمرة، فضلاً عن أنهم لا يستفيدون من الشكل المُحدث للتنشئة الاجتماعية السياسية من خلال النظام المدرسي- لا يثقون كثيراً بالمؤسسات والعملية الديمقراطية. أما فيما يتعلق بمفهوم الديمقراطية، فإنه يظل غامضاً من الناحيتين النظرية والعملية. بيد أن عزوف الشباب عن دعم النظام السياسي الحالي له آثار هامة على ترسيخ الديمقراطية على المدى الطويل، ولا سيما خلال هذه الأزمة. إذ إن إدراك توجهات الشباب المهمشين فيما يتعلق بمعتقداتهم وقيمهم السياسية، وأين تحدث عملية التنشئة السياسية على مبادئ الديمقراطية، من شأنه أن يُلقي الضوء على نطاق واسع، على كيفية التطلع إلى الأشهر المقبلة، وإلى قيس سعيّد نفسه، بالإضافة إلى بعض الآثار طويلة الأجل على ترسيخ الديمقراطية.

القيم والتوجهات: كيف يفهم الشباب التونسي النظام السياسي على مدى العقد الماضي

في الفترة ما بين كانون الثاني/يناير ونيسان/أبريل من عام 2021، أجرت مبادرة الإصلاح العربي 12 مجموعة نقاش بؤرية، بلغ عدد المشاركين فيها 109 مشاركاً، من بينهم شباب تونسيين تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عاماً، يعيشون في ست مدن تمثل المناطق المهمشة: فوسانة، والقصرين، وحاجب العيون، والقيروان، والشبيكة، ومجاز الباب. هدفت مجموعات النقاش البؤرية، التي مثلت قطاعاً عريضاً من الخلفيات التعليمية والاجتماعية والاقتصادية والتكافؤ بين الجنسين، إلى تقييم توجهات المشاركين إزاء الديمقراطية وكيفية فهم الديمقراطية كمفهوم وممارسة؛ وما هي القيم التي يربطها المشاركون بالديمقراطية، وما تبدو عليه الديمقراطية من منظورهم في الممارسة العملية من الناحية المثالية؛ وكيف تغيرت المعتقدات السياسية للمشاركين وتوقعاتهم مع مرور الوقت؛ ولماذا يقبلون على التصويت أو يعزفون عنه، وما هي العوامل التي يختارون على أساسها المرشحين؛ وما يعتبرونه يُشكل تحديات وأولويات رئيسية لمجتمعهم ولتونس بوجه عام.

وعلى نحو أشمل، سعى البحث إلى التعرف على عملية التنشئة الاجتماعية السياسية على مبادئ الديمقراطية، وتأثير عملية التحول والانتقال الديمقراطي على قيم الشباب والمفاهيم السياسية في الذكرى العاشرة للثورة. استند تصميم البحث إلى سؤال بسيط: ما هي الاختلافات التي نستطيع ملاحظتها فيما يتعلق بالآراء السياسية بين شباب جيل الألفية (الذين تتراوح أعمارهم ما بين 26-35 عاماً) - وهم الجيل الذي قاد حركة الاحتجاج بفعالية، أو على الأقل يتصورون أنفسهم أنهم الطليعة الثورية- والجيل زد (الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18-25 عاماً)، وهو الجيل الذي يلي جيل الألفية، الذين كانوا لا يزالون أطفالاً في عام 2011، ولكنهم مروا بمراحل التعليم الثانوي والجامعي، وكذلك وصلوا إلى مرحلة البلوغ، في ظل التحول الديمقراطي؟ وما هي الاختلافات في عملية التنشئة السياسية -"التعلم بالممارسة" مقابل التنشئة الاجتماعية المؤسسية- التي يُمكن ملاحظتها استناداً إلى فئات الأجيال؟

كشفت المناقشات عن انتقاد شبه مشترك بشكل عام للوضع السياسي الحالي (أي حتى 25 تموز/يوليو 2021). إذ تعتبر الأحزاب والنخب السياسية بصفة عامة التي يُنظر إليها على أنها فاسدة ولا تهتم إلا بالمصالح الشخصية فقط، المسؤول الرئيسي لحالة التدهور التي تشهدها البلاد ومؤسساتها. وعلى نحو مماثل، يُنظر إلى العملية الانتخابية فيما يتعلق بالسياسة على الصعيد الوطني من منظور سلبي. إذ تثير نتائج الانتخابات التساؤلات ليس بسبب الأخطاء الإجرائية، بل لأن المرشحين المنتخبين يُنظر إليهم على أنهم غير مؤهلين و/أو عاجزين. وفي الواقع، بالنسبة لبعض الشباب، فقدت الانتخابات شرعيتها باعتبارها جزءاً من عملية الانتقال الديمقراطي في تونس، بسبب عدم تحقيق نتائج ملموسة فيما يتعلق بالتحسن الاقتصادي أو مستويات المعيشة. وفي أفضل الأحوال، أقر بعض الشباب بأن الانتخابات شر لا بد منه نظراً لما عانته البلاد من حكم استبدادي في الماضي؛ بيد أنه لم يُنظر إلى العملية الانتخابية للبرلمان أو الرئاسة على أنها تساهم في التمثيل الحقيقي في أي من الحالات. في حين كان الاستثناء الوحيد هو الانتخابات البلدية التي جرت عام 2018: إذ تعتبر السلطات المحلية أقرب إلى القضايا الحقيقية التي يواجهها المواطنون في الحياة اليومية، فضلاً عن أنها تستجيب بشكل أفضل لتظلماتهم، وعلى هذا النحو حازت الانتخابات البلدية على المزيد من الشرعية. (ويُمكن أيضاً ملاحظة هذا الاختلاف في شرعية العملية الانتخابية على المستوى الوطني وعلى صعيد البلديات وتصور أهميتها، في معدلات إقبال الناخبين بين الشباب على المشاركة في الانتخابات بوجه عام).

وفيما تعرضت النخبة السياسية لانتقادات لاذعة في مجموعات النقاش البؤرية، استُثنيَت منها شخصية واحدة، هي قيس سعيّد. إذ يرتكز الاهتمام بالرئيس الحالي، الذي يسود عنه تصور أنه مختلف إلى حد ما عن القادة السياسيين الآخرين، على أساس الاعتقاد في قدرته على طرح "إعادة تأهيل أخلاقي" [تصحيح الوضع الأخلاقي] للسياسة التونسية. في الواقع، ظهرت فكرة إعادة التأهيل الأخلاقي هذه مراراً وتكراراً في جميع مجموعات النقاش البؤرية عند نقاش مشكلات المشهد السياسي التونسي الحالي. فعلى سبيل المثال، عند تقييم الحركات الاحتجاجية التي اندلعت في العاصمة أوائل العام الجاري (حين حشدت الجماعات [السياسية] للتنديد بالظروف الاقتصادية السيئة والفساد الحكومي وانتهاكات الشرطة)، يرفض العديد من الشباب المشاركين -وهم أنفسهم بعيدون تماماً عن السياق الاجتماعي والسياسي في العاصمة- شرعية هذا الحشد. فكما أوضحوا، لم تحترم الاحتجاجات "أخلاقيات" البلاد ولم تتناول المظالم المشروعة. إذ اعتبر العديد من المشاركين في مجموعات النقاش البؤرية أن هذه الاحتجاجات التي اندلعت في تونس العاصمة، والتي شملت من بين رموز أخرى رموزاً صديقة للمثليين وتطرح مطالب منها شرعنة الحشيش، قليلةُ الاحترام للآخرين، نظراً لاشتباكات المحتجين مع الشرطة، ونظراً أيضاً إلى أن المطالب لم تكن مرتبطة بالظروف الاجتماعية والاقتصادية في البلاد.

في الواقع، بالنسبة إلى الشباب الذين شاركوا في مجموعات النقاش البؤرية، يرتبط تحسين الوضع السياسي برد الاعتبار للأخلاق في عالم السياسة، مع ارتباطه أيضاً بقيم الاحترام والمساواة والعدل فيما يتعلق بإعادة التوزيع والوصول إلى الخدمات. علاوة على ذلك، تُعدّ إعادة التأهيل الأخلاقي ضرورة لا في إطار المجال السياسي فحسب، بل في إطار المجال العام بشكل أوسع (كالجهات الإدارية والإعلام، إلخ). وفي حين أن إعادة التأهيل الأخلاقي هذه، بالنسبة إلى كثير من الشباب المشاركين، تشمل أيضاً مكافحة الفساد والقضاء على الوعود السياسية الكاذبة، اعتبر عدد كبير من المشاركين أن إدراج القيم الدينية أمرٌ ضروري لتحسين الأوضاع السياسية في تونس.

غير أنه حين يتصل الأمر بمفهوم الديمقراطية نفسها، يقرّ المشاركون أن كلّاً من الممارسة والمعنى المجرّد يظلّا غامضَين إلى حد كبير. وبالمثل، عند مناقشة أولويات الانتقال الديمقراطي، نجد أن بعض المشاركين أشاروا إلى السمات المؤسسية [لهذا الانتقال] كإنشاء محكمة دستورية أو إجراء تعديلات دستورية، فيما أشار آخرون إلى الحل النهائي للبرلمان أو إسكات قادة الأحزاب السياسية لإصلاح النظام السياسي التونسي. بيد أن أولويات الانتقال الديمقراطي، بالنسبة لآخرين، لا تكمن في المؤسسات أو الممارسات بقدر ما تكمن في تنشيط الاقتصاد.

وربما الأكثر دلالة [وتفسيراً] على المواقف السياسية هي تلك الرؤى تجاه ماضي البلاد ومسألة ما تم تحقيقه منذ الثورة، والتي تظهر قدراً من غياب التمييز بين نظام بن علي ونظام ما بعد 2011. فبالنسبة إلى كثيرين، لا سيما ممثلي الجيل زد، تظل ذكرى العيش في ظل [نظام] بن علي، أو كيفية ممارسة السلطة حينذاك، مجهولة أو مفهومة بشكل غامض. وفي الواقع، تعد النظرة إلى عهد بن علي بالنسبة للبعض إيجابية بالفعل، إذ اتسم بعهد من الأمن والاستقرار والازدهار أطاحت به الثورة. وفيما يقرّ البعض، لا سيما جيل الألفية ممن لديهم المزيد من الذكريات عن نظام ما قبل 2011، بوجود مشكلات لدى النظام السابق، منها انتهاكات حقوق الإنسان وغياب حرية التعبير، يؤكد كثيرون أن الوضع في عهد بن علي كان، مع ذلك، أفضل من الوضع الحالي الذي يشهد جموداً سياسياً وتدهوراً اقتصادياً دائمَين.

غير أن هذا لا يعني أن المواقف الديمقراطية ودعم الديمقراطية أمور غائبة تماماً عن أوساط الشباب بالمناطق التونسية المهمَّشة. فقد أشارت النقاشات في بعض الأحيان إلى الحاجة لإبداء التسامح تجاه الآراء المختلفة من قبل المواطنين، وضرورة رفع الوعي، لا في أوساط النخب السياسية، ولكن أيضاً في أوساط الجمهور بشكل عام، فيما يتعلق بالقضايا الرئيسة المطروحة في الساحة التونسية والديناميات السياسية السائدة. وبالمثل، عبر بعض المشاركين عن إيمانهم [بأهمية] المنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني والنقابات، والدور الذي تلعبه [تلك الهيئات] في حماية الحقوق وتوسيع نطاقها (وقد عبَّر عن هذا بعض أبناء جيل الألفية تحديداً). وأخيراً، بدا أن غالبية المشاركين يقرّون بالحاجة إلى إعلام مستقل، بصفته من ضرورات عمل النظام السياسي بشكل صحيح.

تشير المواقف والقيم المختلفة إلى الطرق التي تنجح من خلالها عملية التنشئة السياسية على مبادئ الديمقراطية، ولكن الأهم أيضاً أنها تشير إلى طرق فشلها. ويكشف لنا تناول كيفية حدوث التنشئة السياسية، واكتساب المعرفة بالديمقراطية والممارسات الديمقراطية في أوساط الشباب التونسي، عن كلٍّ من الفرص والتهديدات التي تواجه ترسيخ الديمقراطية.

نواقل التنشئة السياسية وتحدي تعاقُب الأجيال

بالطبع لا تُنتج عملية التنشئة السياسية أبداً مواطنين لديهم الفهم والقيم والمواقف نفسها. ستكون هناك دائماً اختلافات -شديدة الأهمية أحياناً- في تصورات السياسة وتفسيراتها وفي تفضيلات السياسات، بغض النظر عن عملية التنشئة السياسية. إنّ الهويات الاجتماعية واختلافات الموقع الاجتماعي، بما فيها النوع والبيئة الجغرافية والطبقة الاجتماعية والجماعة الدينية أو العرقية، إضافة أيضاً إلى الدوائر الثقافية والاجتماعية والانتماء الثقافي الفرعي، كلها أمور تساهم في تشكيل الأفكار والقيم السياسية. علاوة على ذلك، تعدّ عملية التنشئة السياسية عملية معقدة تشمل عدداً من العوامل المختلفة والمتفاعلة، منها السياق التاريخي والاجتماعي، والخصائص السياسية السائدة، وعوامل التنشئة الاجتماعية في أي لحظة محددة، ووقت وقوع أحداث اجتماعية وتاريخية كبرى خلال دورة الحياة. وقد أثبتت الأبحاث حول التنشئة السياسية أن مرحلة المراهقة المتأخرة أو بدايات النضج تمثّل مرحلة شديدة التأثر، يمكنها خلالها تبنّي قيم ومواقف سياسية جديدة، لا سيما عبر المشاركة في الأحداث الاجتماعية والتاريخية،4انظر على وجه التحديد: Karl Mannheim, Essays on the Sociology of Knowledge, London: Routledge and Kegan Paul, 1953. والانخراط في تنظيمات [اجتماعية] خارج إطار العمل أو الدراسة، والتفاعل مع وسائل الإعلام. ومع ذلك، تؤدي عملية التنشئة الأولية خلال مرحلة الطفولة وما قبل المراهقة، التي تحدث من خلال المدرسة والأسرة، إلى خلق توجهات واضحة أو عامة تدوم عموماً مدى الحياة.5للاطلاع على نقاش مطوّل حول النماذج والأنماط المختلفة لعملية التنشئة السياسية، انظر: Philo C. Wasburn and Tawyna J. Adkins Covert, Making Citizens: Political Socialization Research and Beyond, Palgrave Macmillan, 2017.

عند تناول مسألة التنشئة السياسية للشباب في المناطق المهمَّشة في تونس، يتّضح أن التنشئة الأولية من خلال المدارس قد فشلت إلى الآن في ترك إسهام حقيقي في نقل المعرفة بالديمقراطية أو صياغة مواقف ديمقراطية. فبالنظر إلى أن الجيلَين الصغيرَين من الشباب، اللذين نتناولهما بالملاحظة هنا، قد التحقا بالمدارس في ظل نظامَين مختلفَين، من المتوقع وجود دلائل على اختلافات فيما يتصل بالتنشئة السياسية من خلال التعليم. غير أن المشاركين في مجموعات النقاش البؤرية كشفوا عن أن النقاش حول الديمقراطية بالمعنى المَعيش والمباشر، أو التغيرات التي لُوحظت في النظام السياسي التونسي منذ 2011، لم تبرز بأي شكل هادف خلال مسيرتهم التعليمية. وفي الواقع، مع أن هناك برامج لتدريس التاريخ والتربية المدنية في نظام المدارس العامة منذ العام 1956، لم تُحدَّث هذه المناهج بشكل كبير منذ العام 2002.6Hassan Ramoun, “School in the Maghreb and Discourse on Citizenship: An Approach through Civic Educational Textbooks,” Insaniyyat, Révue algérienne d’anthropologie et de sciences sociales 60-61, 2013. بل قاومت وزارة التعليم إجراء أي تحديثات كبرى على الكتب المدرسية ومناهج المدارس فيما يتصل [بأحداث] 2011 والنظام السياسي الجديد المعمول به، وذلك تحديداً لأن البلاد لا تزال في مرحلة انتقالية وما زالت الصراعات الأيديولوجية والسياسية تمثل نقاط توتر.7Joel Rozen, “Civics Lessons: Ambivalence, Contestation, and Curricular Change in Tunisia,” Ethnos 80(5), 2015. على هذا النحو يظلّ الأسلوب الذي تُدرَّس به مفاهيم المواطنة والحقوق والواجبات والمشاركة أسلوباً مجرداً ومنفصلاً عن الواقع، قد صُمّم لتعزيز الإجماع السياسي وغياب التفكير [النقدي] في الاستبداد.8Emma Murphy, “The Tunisian Elections of October 2011: A Democratic Consensus,” Journal of North African Studies 18(2), 2013.

وعلى نحو مماثل، فإن تدريس ثورة 2011، والصدع الذي تمثله فترة ما بعد عام 2011 غائبان إلى حد كبير عن المناهج الدراسية الرسمية. إذ يعتمد فرادى المدرسين أساليب مختلفة في تقديم النظام البائد ومنظومته ومعنى الثورة، وفقاً إلى تفسيراتهم ومشاعرهم الشخصية إزاء المناخ السياسي الحالي. ونتيجة لذلك، لا يوجد مشروع واسع النطاق ضمن النظام التعليمي لطرح مفاهيم جديدة للمواطنة الديمقراطية وممارستها، أو لوضع إطار مشترك لفهم الاختلافات بين النظام السابق والنظام الحالي، أو لفهم التحديات والفرص الحالية التي تواجه المرحلة الانتقالية في تونس. وهذا، بالإضافة إلى المشاكل الأخرى التي يعاني منها نظام المدارس العامة في المناطق المهمشة في تونس (البنية التحتية المتداعية، وسوء جودة البرامج التعليمية فضلاً عن جدواها)،9دنيا السماعلي بوحليلة، "التعليم في تونس: المنجز الماضي والانحدار الحاضر وتحديات المستقبل"، الباروميتر العربي، نبض العرب، 2021. ما يعني أن التعليم الرسمي لا يعمل بصفته وسيلة أساسية للتنشئة الاجتماعية في النظام الديمقراطي الجديد في تونس. بيد أن مجموعات النقاش البؤرية، كشفت أن التنشئة السياسية لا تزال تحدث إلى حد كبير عبر الانتقال من جيل إلى جيل داخل الأسر، علاوة على تبادل الآراء ضمن الأوساط الاجتماعية القريبة (مثل المقاهي ومراكز الشباب). وبناء على ذلك، يبدو أن الاختلافات في التوجهات الديمقراطية التي بدت في مجموعات النقاش البؤرية، لم تظهر على أساس الأجيال الصغرى بل على أساس الهويات الاجتماعية.

والآثار المترتبة على ذلك في الأجل الطويل هي أنه ما لم تطرأ تغييرات كبيرة على مناهج تعليم التاريخ والتربية المدنية، فإن عملية التنشئة السياسية على مبادئ الديمقراطية ستظل تدريجية بدلاً من أن تكون جيلية، مما يشكل تهديداً على تعزيز التوجهات الديمقراطية على الصعيد المجتمعي. بيد أنه حتى في غياب التنشئة الاجتماعية الديمقراطية عن طريق المدارس، فقد كشفت مجموعات النقاش البؤرية أيضاً أن وقوع حدث تاريخي كبير أثناء سن المراهقة/سن البلوغ -المقصود هنا ثورة 2011- والمشاركة في السياقات التنظيمية المتصلة بالثورة من شأنه أن يساهم في تبني التوجهات والمعتقدات الديمقراطية، ولو جزئياً على الأقل. وقد بدا ذلك واضحاً على وجه الخصوص بين شباب جيل الألفية.

فقد نجم عن المعرفة التجريبية للشباب الأكبر سناً بالنظام السابق وانتهاكاته، فضلاً عن مشاركتهم في حركة الاحتجاجات الواسعة التي اندلعت في عام 2011، قدر أكبر من التقدير لحرية التعبير والتجمع التي يكفلها النظام الحالي. وعلى نحو مماثل، بالنسبة لأولئك الذين يشاركون في أنشطة المجتمع المدني ومختلف أشكال المشاركة منذ عام 2011، ولا سيما أولئك الذين يعملون أو يتطوعون للعمل مع المنظمات غير الحكومية أو يشاركون في النقابات، ثمة مفهوم موسع للحقوق وأهمية المشاركة الفعالة في الحياة المدنية. بيد أن النقيض لذلك يتجلى في شباب الجيل زد، التالي لجيل الألفية، الذين لا يشاركون في مثل هذه السياقات التنظيمية. فالكثيرون منهم لا يعبرون فحسب عن عدم معرفتهم بمفاهيم مثل المنظمات غير الحكومية أو النقابات سواء من الناحية النظرية أو العملية، بل يعربون أيضاً عن عدم ثقتهم بأي شكل من أشكال الهياكل التنظيمية نظراً إلى مخاوفهم العميقة إزاء النظام السياسي الحالي.

ومع ذلك، تظل المشاركة في مثل هذه السياقات التنظيمية محدودة، لا سيما في المناطق المهمَّشة، ولا يبدو أنها تسهم في تعزيز الثقة في النظام السياسي الحالي أو في إيجاد مواقف ثابتة فيما يتصل بالانتقال الديمقراطي في تونس. وبصيغة أخرى، في حين أتاحت هذه التنشئة السياسية الثانوية من خلال مراقبة العمليات الاجتماعية والتاريخية الكبرى، والمشاركة فيها، تبنّي بعض المواقف والقيم الديمقراطية، ما زلنا لم نشهد بعد انتشاراً واسعاً في تبنّي الثقافة السياسية الديمقراطية في أوساط الشباب.

تأثيرات على ترسيخ الديمقراطية

تثبت دراسات من سياقات أخرى للانتقال [الديمقراطي]، ومنها سياقات أنظمة ما بعد الشيوعية، أن التنشئة السياسية عاملٌ مهم في ترسيخ الديمقراطية، ويمكن حقاً أن تعمل رافعةً تدعم إتمام المكاسب الاقتصادية بعد مرحلة الانتقال. بيد أن أهمية التنشئة الاجتماعية السياسية على مبادئ الديمقراطية قد تبرز بشكل أكثر جلاءً في حالات غياب المكاسب الاقتصادية. وقد تثبُت ا صحة ذلك على وجه التحديد في الأسابيع والشهور القادمة، مع تبلور الوضع الذي لا يزال شديد التقلب للأزمة السياسية الحالية. ولكن بالنسبة إلى الشباب التونسي في المناطق المهمَّشة، فإن التشويه شبه التام للسياق السياسي الحالي، إلى جانب الافتقار إلى كلٍّ من المعرفة النظرية والعملية بالنظام السياسي الديمقراطي، يعني أن الحفاظ على [التنشئة الاجتماعية السياسية على مبادئ الديمقراطية] -خاصة في ضوء الأزمتَين الاقتصادية والصحية- قد لا يُعد أولوية. علاوة على ذلك، فإن شعبية قيس سعيّد، المرتكزة على انفصاله عن النخب التقليدية وقدرته على بث قدر من إعادة التأهيل الأخلاقية في عالم السياسة، قد تُترجَم إلى قبول بإطالة أمد ”الحالة الاستثنائية“ الحالية تحت سلطته. ولا يعني هذا القبول بعودة كاملة للاستبداد. بل على العكس من ذلك، يتشارك الشباب حتى في المناطق المهمَّشة قيماً سياسية من قبيل الاحترام والإنصاف وإعادة التوزيع، وهي قيم تشير في حدّ ذاتها إلى خطاب مختلف حول العلاقة بين الدولة والمجتمع نشأ منذ العام 2011. بيد أن الخطر يكمن في احتمال القبول بإلغاء العملية السياسية الديمقراطية.

ومع الإقرار بأنه من المبكر للغاية إعلان فشل عملية الانتقال الديمقراطي في تونس، أو اعتبار قيس سعيّد مستبداً جديداً في منطقة شمال أفريقيا، تثبت الأزمة الحالية سبب وجوب التأكيد، في عمليات الانتقال [الديمقراطي]، على عملية التنشئة السياسية على مبادئ الديمقراطية ووجودها؛ لتعزيز مهمة ترسيخ الديمقراطية. ففي حين أن مشاركة الشباب في الأحداث التاريخية والسياقات التنظيمية المرتبطة بعملية الانتقال [الديمقراطي] تؤدي حتماً إلى تغييرات في المواقف وإلى تبنّي القيم الديمقراطية، فإن هذه الأمور ليست كافية في حدّ ذاتها لتعزيز الدعم الجماهيري للنظام [الديمقراطي] نفسه. وليس هناك بالطبع صيغة سحرية لترسيخ الديمقراطية، وبالطبع تعدّ الأزمة الاقتصادية والصحية من أبرز العقبات أمام بناء دعم جماهيري للنظام السياسي الجديد في تونس. غير أن التركيز على التنشئة من خلال النظام التعليمي لا بد أن يتحول إلى جزء من أي جهود إصلاحية هادفة. لا بد من النظر إلى تحديث المناهج المدرسية، مع الاستفادة من دراسة التاريخ الحديث للبلاد إضافة إلى الاستعانة ببرامج التربية المدنية لأجل صياغة مفاهيم وممارسات جديدة للمواطنة الديمقراطية، على أنها خطوات مهمة في هذه العملية.

Endnotes

Endnotes
1 انظر على سبيل المثال: Joakim Ekman and Jonas Linde, “Communist Nostalgia and the Consolidation of Democracy in Central and Eastern Europe,” Journal of Communist Studies and Transition Politics 21(3), 2005.
2 انظر على سبيل المثال: Ragnar Weilandt, “Socio-Economic Challenges to Tunisia’s Democratic Transition,” European View 17(2), 2018; and the particularly prescient Sharan Grewal, “Tunisian Democracy at a Crossroads,” The Brookings Institution, 2019.
3 Steven E. Finkel, Stan Humphries, and Karl-Dieter Opp, “Socialist Values and the Development of Democratic Support in the Former East Germany,” International Political Science Review 22(4), 2001.
4 انظر على وجه التحديد: Karl Mannheim, Essays on the Sociology of Knowledge, London: Routledge and Kegan Paul, 1953.
5 للاطلاع على نقاش مطوّل حول النماذج والأنماط المختلفة لعملية التنشئة السياسية، انظر: Philo C. Wasburn and Tawyna J. Adkins Covert, Making Citizens: Political Socialization Research and Beyond, Palgrave Macmillan, 2017.
6 Hassan Ramoun, “School in the Maghreb and Discourse on Citizenship: An Approach through Civic Educational Textbooks,” Insaniyyat, Révue algérienne d’anthropologie et de sciences sociales 60-61, 2013.
7 Joel Rozen, “Civics Lessons: Ambivalence, Contestation, and Curricular Change in Tunisia,” Ethnos 80(5), 2015.
8 Emma Murphy, “The Tunisian Elections of October 2011: A Democratic Consensus,” Journal of North African Studies 18(2), 2013.
9 دنيا السماعلي بوحليلة، "التعليم في تونس: المنجز الماضي والانحدار الحاضر وتحديات المستقبل"، الباروميتر العربي، نبض العرب، 2021.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.