بعد مرور عقد تقريباً على الثورة التونسية، لا تزال البلاد ترزح تحت وطأة الفساد واللامساواة المستشريين، بينما تحاول جاهدة تنفيذ الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية الضرورية لتلبية تطلعات الشعب نحو مزيدٍ من العدالة الاجتماعية. خيب هذا أمل النخبة السياسية الجديدة وأدى إلى صعود نزعة شعبوية تهدد بنسف المكاسب الديمقراطية التي تحققت إلى الآن.
فضح وباء كوفيد-19 بصورة أعمق التفاوتات الاجتماعية المنهجية، التي غالباً ما تتخذ أشكالاً مختلفة، من بينها احتجاج بعض المناطق على قضايا ملحة مثل إمكانية الوصول إلى المياه في غمار الأزمة الصحية الراهنة، أو استنكار المرضى والأطباء لمحدودية الموارد في المستشفيات العامة وعدم تكافئها، أو معاناة النساء المزارعات اللاتي ظل كفاحهن من أجل تحقيق الكفاف الاقتصادي هو شاغلهن الرئيسي طوال الأزمة.
وبينما تفتك الجائحة بِاقتصاد منهك بالفعل وتضع مزيداً من العبء على القطاعات الاستراتيجية مع زيادة النفقات والدين العام، يبدو أن حدة التوترات الاجتماعية الحالية سوف تتفاقم بلا ريب جراء الخسائر الاقتصادية المتوقعة. وقد دأبت الحكومة وشركاؤها الاجتماعيون على قول إن حماية الاقتصاد وتهيئة الأوضاع لفترة التعافي التي تلي أزمة كوفيد-19 هي أولويتهم القصوى. وتحقيقاً لهذه الغاية، شرعت الحكومة في تطبيق سلسلة من التدابير الاجتماعية والاقتصادية لدعم الشركات والأفراد الذين يعملون لحسابهم الخاص من أجل الإبقاء على الوظائف والأجور في جميع القطاعات الاقتصادية.
مع ذلك، في ظل الأزمات، يصبح الدور الذي يمكن أن يؤديه القطاع الخاص -بل والذي ينبغي أن يؤديه- حاسماً ويجب أن يكون كذلك. من الذي عليه أن يُنقذ الآخر؟ هل يجب على الحكومة التونسية المسارعة إلى إعانة الشركات في ضوء هذه الأزمة؟ أم يجب على القطاع الخاص حشد الجهود في خضم أزمة كوفيد-19، وإذا فعل ذلك، إذن ما هي طبيعة الجهود التي يمكن أن يتعهد بها؟ في آخر لقاء أجراه، أعرب إلياس الفخفاخ، رئيس الحكومة التونسية، مراراً عن ثقته في الحوار الاجتماعي بين النقابات التونسية وجمعيات أصحاب العمل، الذي يعد أحد التقاليد التونسية الراسخة.
يحلل هذا المقال الإجراءات التي اتخذتها الحكومة والقطاع الخاص لمكافحة جائحة كوفيد-19 في ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها تونس والعلاقات القائمة بين الدولة والقطاع الخاص. ويبرهن على أنه بدلاً من العودة إلى "الأعمال التجارية غير القانونية المعتادة"، يمكن أن تمثل الإجراءات التونسية لمكافحة جائحة كوفيد-19 فرصة ذهبية لتصحيح هذه العلاقات، وإرساء ثقافة مساءلة الشركات التي قد تسهم جزئياً في معالجة الأسباب الأصلية وراء اللامساواة المستشرية في تونس، وأيضاً تعزيز برنامج العدالة الاجتماعية الذي طال انتظاره. ولتحقيق ذلك، يجب أن تكون إجراءات مكافحة جائحة كوفيد-19 الذي تتخذها الحكومة جزءاً من خطة أوسع نطاقاً لمواجهة التحديات المنهجية المستمرة التي تعاني منها الدولة، بداية من الفساد، مروراً بالسعي وراء تحقيق الريع، وصولاً إلى أوضاع العمال المهمشين. ويمكن تحقيق ذلك من خلال وضع جدول أعمال لإنفاذ المساءلة حول العلاقات بين الدولة والقطاع الخاص والتأكد من أن إجراءات التعافي التي اتخذتها الدولة لمكافحة الجائحة تفي بالمسؤوليات الجوهرية تجاه أشد الفئات ضعفاً وتوفر لهم الخدمات الأساسية التي طال إهمالها. إذا أخفقت الإجراءات التي تتخذها الحكومة التونسية في معالجة هذه التحديات المنهجية واستمرت في تغافل مطلب العدالة الاجتماعية، فإنها تواجه خطر تكريس أوجه اللامساواة والحفاظ فقط على مصالح نخبة تجارية صغيرة.
المشهد التجاري في تونس: هشاشة العمال والأعمال
بعد مرور سنوات على الثورة، أدى الاقتصاد الهش ونقص الفرص الاقتصادية وانخفاض احتمالية توافر عمل جدير بالاحترام، إلى عرقلة السعي من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية. وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها الدولة لدعم اللامركزية وتنمية القطاع الخاص، فقد حدت التحديات المتأصلة المرتبطة بالعلاقات بين الدولة والقطاع الخاص من إمكانية تأسيس اقتصاد عادل ومستدام.
الفساد والسعي لتحقيق الريع في الاقتصاد
إلى الآن لم تتحقق التطلعات التي كانت ترى أن إرساء الديمقراطية سوف يبدد الفساد ومحاولات السعي لتحقيق الريع الاحتكاري في تونس وسوف يساعد في تأسيس اقتصاد أكثر عدلاً. ولا تزال تونس تعاني من التنمية الاقتصادية غير المتكافئة: ففي عام 2016، تركزت 85% من الشركات التي توفر 92% من وظائف القطاع الخاص في المناطق الساحلية، مع وجود 44% منها في تونس العاصمة وحدها. في حين لا توفر الشركات التي تعمل في المناطق الداخلية غير الساحلية سوى 8% من وظائف القطاع الخاص.
في حين أن هذا التركز الإقليمي يدعمه إرث عريق من المحسوبية والفساد، فقد تضخم الاستقطاب داخل القطاع الخاص بعد الثورة. فمن جهة، لدينا نخبة اقتصادية متأصلة في المناطق الساحلية، تتمتع بروابط سياسية قديمة وتستفيد من التشريعات الحالية وتحتمي بها. ومن جهة أخرى، لدينا مجموعة مختلفة تتكون من رواد أعمال شباب طموحين يعملون في القطاع الرسمي، ورواد أعمال جدد يقتصر عملهم على القطاع غير الرسمي، وأصحاب الأعمال الصغيرة.
وعلى الرغم من أن معظم أفراد أسرة الرئيس السابق بن علي قد غادروا البلاد، فقد بقيت نخب اقتصادية أخرى نشطة مستفيدة من علاقاتها السياسية والدولية القوية، وذلك لأن الإصلاحات التي ترتبت على الثورة ومُصادرة المكاسب غير المشروعة لم تحقق المرجو منها حتى الآن بسبب اقتصار التحقيقات إلى حدٍ بعيد على عائلة بن علي وبضعة قضايا بارزة مناسبة للظرف السياسي.
وعليه فإن ممارسات المحاباة والتفضيلات الاقتصادية التي ميزت فترة حكم بن علي لم تنته برحيله. وما زال المواطنون يدفعون ثمن محاباة القطاعات كثيفة العمالة ذات القيمة المضافة المتدنية (مثل أعمال البناء والسياحة) على حساب القطاعات الابتكارية. ارتبط النمو المنخفض الذي سُجل خلال العامين الماضيين وارتفاع معدلات البطالة باستمرار المحسوبية حتى بعد الثورة. لم تزيد الشركات الخاصة استثماراتها، لكنها بدلاً من ذلك تحولت إلى القطاعات الريعية بطيئة النمو، مثل قطاع الإنشاءات.
سلط تقييم للقطاع الخاص في تونس أجراه "البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير" عام 2018 مزيداً من الضوء على مشكلة فجوة "الوسط المفقود" الموجودة في الشركات التونسية وأظهرها بجلاء: إذ إن 10% من الشركات هي عبارة عن شركات كبيرة غير فعالة مملوكة للدولة، في حين أن الـ 90% الباقية تتألف من شركات صغيرة، غير قادرة عادة على النمو وبالتالي استيعاب المزيد من الوظائف.
ويرجع ذلك إلى استمرار وجود شبكات في الاقتصاد التونسي تعمل بمثابة حلقة وصل فيما بين مسؤولي الدولة والمصرفيين وأصحاب الشركات الكبيرة وتمنحهم حق الوصول إلى الموارد والتراخيص والائتمانات المصرفية الخاصة بالدولة، مع إبقاء الشركات الصغير "خارج الحلقة".
وأصبح لدينا نمط جديد من السعي إلى تحقيق الريع، ويمثل هذا النمط الرابط المباشر -الآخذ في التنامي- بين الساحة السياسية في فترة ما بعد 2011 (ما بعد الثورة) ونخبة رجال الأعمال، وذلك بسبب سعى الأحزاب السياسية للحصول على التمويل من الشركات مقابل منحها امتيازات اقتصادية. ففي حين أن التمثيل المباشر للأطراف الفاعلة في الميدان الاقتصادي في أجهزة الحكومة التشريعية والتنفيذية في عهد بن علي كان رمزياً فحسب وغالباً ما أظهرت الدراسات هيمنة أسرة بن علي على "الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية" وكبار رواد الأعمال في البلاد، ) فقد وجد تحليل شبكة علاقات اجتماعية أُجري حول نخبة رجال الأعمال في تونس في الفترة التي تلت عام 2011 أن النفوذ الاقتصادي ظل في قبضة بضع عائلات تغلغلت مباشرة وباطرادٍ في المجال السياسي لتعزيز مواردها والعثور على فرص اقتصادية جديدة.
مثلاً، التحق رجل الأعمال البارز محمد الفريخة بحزب "حركة النهضة" الإسلامي وأصبح عضواً في مجلس نواب الشعب، في حين بات آخرين، مثل فوزي اللّومي أو المنصف السلامي أو زهرة دريس، أعضاءً بارزين في حزب "نداء تونس" العلماني. وفي الانتخابات الرئاسية عام 2019، استطاع رجل الأعمال نبيل القروي، زعيم حزب "قلب تونس السياسي" وصاحب قناة نسمة الإعلامية الذي يزعم تورطه في "وثائق بنما" وتسريبات "سويسليكس"، الوصول إلى جولة الإعادة.
بسبب صعوبة الفصل بين ما هو سياسي وما هو اقتصادي في تونس بعد الثورة، ومع غياب الإرادة السياسية الساعية بفاعلية إلى اقتلاع جذور الفساد وتنمية الاقتصاد؛ لم يتحقق شيء يذكر في البلاد. وفقاً لمنظمة "الشفافية الدولية"، شهد مستوى الفساد انخفاضاً لبضع سنوات بعد الثورة، ثم عاد ليرتفع من جديد بعد عقد منها حتى وصل إلى نفس مستواه قبل ثورات الربيع العربي في عام 2011.
واصلت أيضاً مؤشرات الفساد وسوء الإدارة ارتفاعها في المؤسسات المملوكة للدولة. فقد استغلت ممارسات التوظيف غير الشفافة في شركة الفوسفات التي تديرها الدولة لمواجهة الحركات الاجتماعية وأيضاً لإجراء إصلاحات سياسية سريعة من شأنها تهدئة الأوضاع. وأدت حلقة الفساد في هذه المؤسسة إلى اندلاع احتجاجات حول آلية التوظيف في قطاع الفوسفات والانخفاض المستمر في إنتاجية مثل هذا القطاع الاستراتيجي، وبالتالي تفاقم الأزمة الاقتصادية في تونس.
إضافة إلى الآثار السلبية المباشرة وغير المباشرة للفساد على النمو الاقتصادي موثقة على نطاق واسع وكانت من أسباب انخفاض النمو الاقتصادي في الفترة بين عامي 2017 و2019، فقد أعاقت أيضاً الجهود المبذولة لتشكيل جهات فاعلة جديدة في القطاع الخاص بتونس. تدهور مناخ العمل في تونس مع الازدياد الملحوظ للفساد وتوسع بعض الأنشطة غير الرسمية (وغير القانونية) مثل التجارة في السلع المهربة. وأفاد رواد الأعمال أن الرشاوى لا تزال ضرورية لاستخراج تصريح تأسيس مشروع صغير، أو من أجل شغل وظيفة في أحد برامج العمالة، أو الحصول على إعانة اجتماعية من الدولة.
التهرب الضريبي والاقتصاد غير الرسمي
يعد التهرب الضريبي أحد المشاكل الإضافية التي تواجهها خزانة الدولة. أضف إلى ذلك ندرة الدراسات التي تحدد حجم التهرب الضريبي بسبب صعوبة جمع البيانات. في عام 2019، أعلن فيصل دربال، المستشار السابق برئاسة الحكومة، أن حجم التهرب الضريبي يقدر بنحو 25 مليار دينار تونسي (أيّ 8.7 مليار دولار)، موضحاً أنه شهد ارتفاعاً حاداً منذ عام 2011 بسبب تنامي الأنشطة "التجارية الموازية" التي تمثل 53% من التجارة المحلية. وبالرغم من صعوبة تحديد حجمها، تشير التقديرات إلى زيادة حجم الأنشطة غير الرسمية من 30% إلى 40% من إجمالي الناتج المحلي بين عامي 2010 و2018.
وحسب تقديرات البنك الدولي، فقد كلف التهرب الضريبي من جانب الشركات التي تتمتع بعلاقات سياسية، البلادَ حوالي 200 مليون دولار سنوياً بين عامي 2002 و2009. ويرى الخبراء أن الوضع تفاقم بعد الثورة.
في تقريره الصادر عام 2016 "الاقتصاد الموازي في تونس"، قدر مركز جسور للدراسات، وهو مؤسسة فكرية تونسية، العائدات المفقودة بسبب أنشطة التهريب بنحو 2 مليار دينار تونسي (697 مليون دولار) سنوياً، موزعة على النحو التالي: 750 مليون دينار (261 مليون دولار) من عائدات تهريب المحروقات، و300 مليون دينار (104 مليون دولار) من عائدات تهريب التبغ، و450 مليون دينار (156 مليون دولار) من عائدات تهريب الأجهزة الكهربائية وقطع الغيار وإطارات السيارات والسلع الغذائية، و500 مليون دينار (173 مليون دولار) من عائدات تهريب الأجهزة الإلكترونية والملابس ومستحضرات التجميل والعطور. ولم يشتمل التقرير على عائدات تهريب الأسلحة والذهب والنحاس والمشروبات الكحولية الفاخرة والسيارات الفخمة المسروقة لأن تقدير الحجم الحقيقي لتلك السلع أمر في غاية الصعوبة.
أخيراً، يمكننا القول إن السياسة السابقة التي تبنتها الدولة لجذب الاستثمار الأجنبي وخلق فرص عمل من خلال تأسيس شركات خارج الحدود (الشركات التي تؤسس على إقليم دولة ما ويكون نشاطها خارج حدود هذا الإقليم) كان لها تأثيرات متفاوتة على تعزيز الشفافية وأجواء المنافسة النزيهة في تونس. تشكل هذا النظام من مجموعة حوافز ضريبية محددة الأجل تم منحها للشركات التي ليس لديها أنشطة محلية. وساهمت هذه السياسية في توسع بعض القطاعات مثل صناعة الملابس ومراكز الاتصال، لكنها مع ذلك لاقت انتقادات واسعة بسبب تشجعيها على إقامة اقتصاد ثنائي، يبطئ نمو سلاسل الأنشطة المضيفة للقيمة محلياً من ناحية، ويمنح الشركات التي يقتصر نشاطها على التصدير فقط امتيازات ضريبية تحيّزية من الناحية الأخرى.
بعد توبيخ الاتحاد الأوروبي لتونس وإدراجها ضمن القائمة السوداء للملاذات الضريبية عام 2017، خفضت الحكومة على سبيل المثال الفروقات الضريبية بين الشركات المحلية والشركات خارج الحدود. لكن أحد الاستخدامات السيئة الشائعة لهذا التشريع، كما تشير التقارير، هو أن الشركات غالباً ما تغير تسميتها بعد انقضاء فترة الإعفاء وذلك لمواصلة التمتع بالمزايا الضريبية.
هشاشة العمالة والتخاذل في حماية العمال
في حين أن النموذج الاقتصادي التونسي تطور على أساس أنه اقتصاد تصديري كثيف العمالة ينصب تركيزه على السياحة والتعاقد مع مصادر خارجية منخفضة التكلفة، أدت الحوافز المالية التي تطرحها الدولة لجذب المستثمرين وتشجيعهم على البقاء إلى التغاضي عن انخفاض الأجور وعدم الاهتمام بتنمية المناطق الريفية والزراعية. وفي نفس سياق الاقتصاد الهش ومعدلات البطالة المرتفعة، غالباً ما كانت الأولوية تعطى لتوفير فرص عمل بغض النظر عن مدى جودة ظروف العمل. بالرغم من أن الاتحاد النقابي الرئيسي في تونس، الاتحاد العام التونسي للشغل (UGTT)، يؤدي دوراً قوياً في وضع السياسات، فقد دفعت عدة أسباب الاتحاد إلى اقتصار مطالبه على مفاوضات حول الأجور في بعض القطاعات دون إجراء توثيق كامل للممارسات القمعية بحق العمال. إضافة إلى ذلك، وبما أن نصف الاقتصاد يعود للقطاع غير الرسمي، لذا يصعب رصد امتثال الشركات للتشريعات الخاصة بالعمل.
عام 2018، قدّرت منظمة العمل الدولية أن 53% من سكان تونس هم من العاملين في القطاع غير الرسمي. وفي ضوء ذلك، يواجه هؤلاء العمال وعائلاتهم حالة من انعدام الأمن نتيجة لعدم توفر الرعاية الصحية واستحقاقات الضمان الاجتماعي، بما في ذلك معاشات التقاعد وغير ذلك من الاستحقاقات، مثل الإعانات الأسرية، أو بدلات رعاية وحضانة الأطفال، أو مكافأة نهاية الخدمة أو تعويضات الوفاة. علاوة على ذلك، كثيراً ما يُحرم العمال غير النظاميين من القدرة على تأسيس تنظيم نقابي أو المشاركة في الاتحادات العمالية أو الاستفادة من التعويضات التي يقدمها أرباب العمل أو التي تُشرف عليها الدولة في حال حدوث تجاوزات.
ثمة بعض الممارسات التي قد تتسم بطابع غير رسمي في القطاع الرسمي، على سبيل المثال، عندما يتم توظيف أشخاص للعمل في المؤسسات المسجلة بدون عقد عمل أو دون دفع أرباب العمل مدفوعات الضمان الاجتماعي أو كلا الأمرين معاً. يقدر المركز التونسي للأبحاث والدراسات الاجتماعية وبنك التنمية الأفريقي أن نحو 43% من العاملين في القطاع الخاص التونسي (نحو 1.2 مليون شخص) كانوا يعملون في وظائف غير رسمية عام 2015.
ينتشر العمل غير الرسمي بصورة خاصة بين الشباب التونسي: فقد تبين أن هناك أقل من شخص واحد من بين كل ثلاثة من العمال الشباب لديه عقد عمل رسمي مع إمكانية الحصول على الحماية الاجتماعية. علاوة على أن 15.3% فقط من الشباب في المناطق الريفية (الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 إلى 29 عاماً)، و38.8% من الشباب في المناطق الحضرية، يمتلكون عمل دائم مع التمتع بحماية اجتماعية كاملة وأمن وظيفي شامل.
لا تزال مساهمة القطاع الخاص الرسمي في الحماية الاجتماعية منخفضة. وقد أوضح نور الدين الطبوبي، رئيس الاتحاد العام التونسي للشغل، أن ذلك العجز في صناديق الضمان الاجتماعي يعزو إلى حقيقة أن 25% من الشركات الخاصة لا تحدث مساهمات الضمان الاجتماعي للعاملين لديها.
في حين تأتي الوظائف الأخرى في القطاع الرسمي بصورة أساسية في شكل عقود قصيرة ومحددة الأجل، وترتبط أيضاً بانعدام الأمن الوظيفي، وارتفاع معدل دوران العمالة، مع إجراءات حماية أقل مقارنة بالعقود الدائمة، فضلاً عن المعاملة الاستغلالية من جانب أرباب العمل. ومن غير المرجح أن يشكو العمال الذين يعملون بعقود مؤقتة من ظروف العمل خوفاً من فقدان وظائفهم.
وتنطوي القطاعات التي تحظى بالأولوية الاستراتيجية من جانب الحكومة، وأعني بذلك صناعة الغزل والنسيج الموجهة نحو التصدير والفنادق وقطاع الإنشاء والتعمير، وغيرها من القطاعات الأخرى، على مخاطر مُحددة فيما يتعلق بحقوق الإنسان، نظراً إلى أن معظم القوى العاملة في هذه القطاعات تتألف من عمال مؤقتين أو موسميين.
وقد سلطت المقابلات التي أجرتها المنظمات غير الحكومية مع 230 عاملاً الضوء على انتهاكات حقوق المرأة في قطاع صناعة الملابس. فقد تعلقت معظم الشكاوى بصعوبة الحصول على الحماية الاجتماعية، والادعاءات المتعلقة بالاستخدام المفرط للعقود قصيرة الأجل، والفصل غير القانوني، والإيقاف عن العمل، والإفراط في ساعات العمل الإضافية، وعدم التزام أرباب العمل بدفع مستحقات الضمان الاجتماعي وتسديد مدفوعات ضريبة الدخل. بالإضافة إلى ذلك، وردت تقارير عن شكاوى تتعلق بعدم الحصول على الأجور التي تكفي نفقات المعيشة والعمل في ظل ظروف غير آمنـة.
على الرغم من التحسينات التي أُدخلت على النظام القضائي في تونس، فإن العقبات التي تحول دون الحصول على تعويضات نظير الانتهاكات المتصلة بالعمل ما زالت قائمة. يُبين البحث أن العمال لا يرغبون في إحالة مثل هذه القضايا إلى المحاكم. وقد يُعزى ذلك إلى عدة عوامل منها طول الوقت اللازم إلى أن يصدر حكم وعدم تنفيذ قرارات المحاكم أو ضعف تنفيذها. وقد أظهر البحث نفسه أيضاً أن القضايا المتصلة بالعمالة هي الأوسع انتشاراً والأكثر أرجحية أن تظل دون حل أو تسوية.
تواجه النساء في سوق العمل التونسي تحديات إضافية لكونهن إناثاً. فرغم التقدم المحرز على مستوى التشريعات، تظل مشاركة المرأة التونسية في سوق العمل منخفضة وتزيد معدلات البطالة بين النساء عن مثيلاتها بين الرجال. وإذا ما حدث وشاركت المرأة في الاقتصاد، فمن المرجح أن يقتصر تواجدها على القطاع غير الرسمي أو أن تقبع في أسفل سلسلة الأنشطة المضيفة للقيمة من خلال شغل وظائف خطرة وضارة في قطاعات مثل الزراعة والغزل والنسيج، أو كلا الأمرين معاً. وفي حين تتمتع 70% من النساء في قطاع الزراعة بحماية وضمان اجتماعي، لا يتجاوز عدد النساء اللائي يندرجن في نظام الحماية الاجتماعية 93,500 امرأة مقابل 377 ألف رجل. ووفقاً للمعهد الوطني للإحصاء التونسي، فإن أجور النساء تقل عن أجور الرجال بنسبة تتراوح من 20% و30%. وتصل هذه النسبة إلى 40% في القطاع الخاص، ونحو 50% في قطاع الزراعة.
في استعراض مفصل للآثار الجنسانية على تعدين الفوسفات في تونس، وجد معهد حوكمة الموارد الطبيعية أن 47% من النساء في منطقة قفصة التي تضم معظم مناجم الفوسفات في تونس، حاصلات على شهادات جامعية لكنهن مع ذلك يعملن عاملات نظافة في الغالب لدى شركة التعدين. فضلاً عن أن النساء يعانين أكثر من غيرهن من الآثار الصحية السلبية للتعدين، ومن ارتفاع معدلات الإجهاض وأمراض الأطفال حديثي الولادة. ولا يتم التصدي لهذه الآثار غالباً بسبب نقص الخدمات الطبية المناسبة في هذا القطاع. علاوة على ذلك، يزيد نقص المياه والتلوث الناجم عن استخراج الفوسفات ومعالجته من حدة المشاكل الصحية والمعيشية المتصلة بالتعدين.
وأخيراً، ثمة قلق متزايد إزاء زيادة الاعتماد على العمال المهاجرين في غياب القواعد التنظيمية الملائمة لحمايتهم. وفي حين لا تزال المعلومات قليلة عن الحالة الاجتماعية والاقتصادية الراهنة للعمال المهاجرين في تونس، ولا سيما عندما يتم توظيفهم كعمال غير رسميين، فقد أظهرت الأبحاث الأولية أنهم متواجدون في قطاعات العمل غير الرسمية مثل قطاع الإنشاء والتعمير والخدمات الفندقية، وغالباً ما يتم توظيفهم بشكلٍ مؤقت. وقد أثارت منظمات المجتمع المدني بواعث القلق بشأن الأنماط الناشئة للعنصرية ضد المهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، مع زيادة انتشار العنف اللفظي والتمييز ضدهم في الحياة اليومية وفي أماكن العمل، سواء في القطاع غير الرسمي أو الرسمي، وقد دعت هذه المنظمات إلى تنفيذ سياسات الهجرة الشاملة في تونس.
في ظل السياق الاجتماعي الاقتصادي الراهن، من المرجح أن يزيد تفشي جائحة كوفيد-19 في تونس من ضعف الأعمال التجارية الصغيرة والشركات التي لا تمتلك علاقات سياسية كثيرة، وأن يؤثر تأثيراً بالغاً على العاملين في الأعمال غير المستقرة سواء في القطاع الرسمي أو غير الرسمي، خاصة النساء والمهاجرين. وقد تعاني الشركات "التي لا تحظى بأيّة علاقات" والمؤسّسات الصّغرى والمتوسّطة بنسب متفاوتة من التراجع والكساد بسبب محدودية مواردها المالية واعتمادها على القروض المصرفية - غالباً بأسعار فائدة مرتفعة. علاوة على ذلك، فإن أوجه القصور النسبية في التكنولوجيا والإدارة والقوى العاملة قد تضعف من قدرتها على التغلب على الأزمة الاقتصادية.
والأهم أنه من المتوقع أن يكون لتدابير الحظر الراهنة وما خلفته من آثار وخيمة تأثيراً خطيراً على قطاع كبير من السكان الذين يعملون في الاقتصاد غير الرسمي أو من يعتمدون على العمل اليومي أو من لا يتمتعون بحماية اجتماعية. والسؤال الرئيسي هنا هو هل الحكومة قادرة على المساعدة دون مفاقمة أوجه التفاوت، وكيف يمكنها تحقيق ذلك؟
التدابير الاجتماعية والاقتصادية التي اتخذتها الحكومة في ظل تفشي جائحة كوڤيد- 19
في ظل تفشي جائحة كوفيد-19، أعلن رئيس الحكومة عن مجموعة جريئة من التدابير لحماية الاقتصاد والوضع الاجتماعي الاقتصادي للشعب، والتي بلغت في مجموعها نحو 2. 5 مليار دينار تونسي (أيّ 876 مليون دولار أميركي).
كانت الأولويات الأساسية للحكومة هي الحفاظ على الوظائف، وضمان حصول العمال والموظفين والعاملين في الخدمات المدنية على الدخل، والحد من الضغوط المالية على الشركات التي لها أنشطة تأثرت بسبب هذا الحظر.
فقد أعلنت الحكومة تخصيص إعانات بطالة بدعم من الدولة بلغت قيمتها 300 مليون دينار تونسي. ووقع الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، اتفاقاً في 14 أبريل/نيسان مع وزارة الشؤون الاجتماعية يضمن حصول 1,5 مليون عامل من القطاع الخاص على رواتبهم الكاملة لشهر أبريل/نيسان. وتدفع الدولة بموجب هذا الاتفاق 200 دينار (أيّ 63 يورو) من راتب كل موظف بينما يتكفل صاحب العمل بدفع الباقي. ويجوز للموظفين الذين لم يصرحوا برواتبهم لصناديق الضمان الاجتماعي، أن يفعلوا ذلك في غضون شهر واحد من دخول هذا القانون حيز التنفيذ للاستفادة من دعم الدولة. سمح الاتفاق أيضاً لأرباب العمل تسجيل العاملين لديهم للاستفادة من إسهامات الحكومة. ومن الخطوات الهامة الأخرى الرامية إلى حماية العمال، هي إصدار مرسوم حكومي يحظر على الشركات فصل العمال أو إنهاء عقود العمل أثناء فترة الحظر التي فرضتها الجائحة.
بالإضافة إلى الحفاظ على الرواتب، أعلنت الحكومة تخصيص إعانات مالية استثنائية بقيمة 150 مليون دينار (52 مليون دولار أميركي) لصالح الفئات الضعيفة المسجلة لدى الدولة ومحدودي الدخل وذوي الاحتياجات الخاصة. ووفقاً لما ذكره وزير الشؤون الاجتماعية، ستستفيد بهذه الإعانات الجديدة قرابة 260 ألف عائلة معوزة، و464 ألف عائلة محدودة الدخل، و382 ألف عائلة متكفلة بأطفال دون سند عائلي، و121 ألف عائلة متكفلة بالمسنين دون سند عائلي، و286 عائلة متكفلة بأشخاص من ذوي الإعاقة.
وبالتوازي مع ذلك، أعلنت الحكومة أيضاً عن اتخاذ تدابير لتخفيف أثر الأزمة على الشركات، وخاصة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وأصحاب الأعمال المستقلة والمهن الحرة التي تأثرت بوقف أنشطتها. وشملت هذه التدابير في معظمها تأجيل دفع الضرائب والمساهمة في الضمان الاجتماعي لمدة ثلاثة أشهر اعتباراً من شهر أبريل/نيسان. وفيما يتعلق ببعض القطاعات الأخرى المتأثرة بالأزمة مثل قطاع الإنشاء والتعمير والخدمات الفندقية، فقد اتخذت تدابير لتيسير الحصول على القروض.
بدأت الحكومة أيضاً عدة مشاورات مع الخبراء والشركاء الاجتماعيين لمناقشة سبل تحقيق الازدهار بعد تجاوز هذه الأزمة، ولكنها لم تعلن بعد عن أية تدابير طويلة الأجل.
إجراءات القطاع الخاص لمكافحة أزمة جائحة كوفيد-19: المقاومة أم التضامن
بمجرد تفشي الجائحة، نشبت توترات سياسية بشأن الدور الذي سيضطلع به القطاع الخاص في خضم الأزمة. واعترض رئيس الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، سمير ماجول، في برنامج تلفزيوني أذيع يوم 20 مارس/آذار 2020، على الحط من قدر القطاع الخاص، وأشار إلى دور الشركات في خلق القيمة وتشغيل العمالة وتحقيق النمو، وحذر من أنه لا ينبغي إجبارهم على "تحمل العواقب". جاء ذلك رداً على تصريحات رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ وآخرين، الذين دعوُا القطاع الخاص إلى القيام بدور مالي أقوى للتخفيف من آثار الأزمة. في المقابل، حذر ممثلو القطاعات الأكثر تأثراً أيضاً من الأثر الاجتماعي والاقتصادي لجائحة كوفيد-19، وطالبوا الدولة بوضع خطة إنقاذ للقطاعات الأكثر تضرراً.
وفيما يتعلق بأدبيات المسؤولية الاجتماعية للشركات وأخلاقيات الأعمال، فإننا نميز في تحليلنا بين مجموعتين من الإجراءات المحتملة التي قد تتخذها الشركات على النحو التالي: (1) الإجراءات الملزمة/القابلة للتنفيذ: وهي تلك التي تتعلق بصميم أنشطتها وتعافي أعمالها في أعقاب أزمة كوڤيد -19. (2) الإجراءات المتعلقة بدورها الاجتماعي الأوسع نطاقاً في خضم الأزمة.
استجابة متباينة من القطاعات إزاء التدابير التي تنفذها الحكومة
بمجرد أن توصل شركاء الحوار الاجتماعي الرئيسيين، الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، إلى اتفاق بشأن صرف الرواتب لشهر إبريل/نيسان، أبدت العديد من اتحادات أرباب الأعمال في قطاعات معينة اعتراضها عليها. فعلى سبيل المثال، أعرب الاتحاد التونسي للنسيج والملابس، وهو جزء من الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، عن قلقه بشأن التزامه بدفع الأجور لشهر إبريل/نيسان، مشيراً إلى أن ذلك لن يؤدي إلا إلى تفاقم الأزمة القائمة بالفعل في القطاع. كما أصدرت رابطة أخرى بارزة لأرباب الأعمال، وهي كنفدرالية المؤسسات المواطنة التونسية "كونكت" بياناً أدانت فيه بشدة الاتفاق الذي تم التوصل إليه، معربةً عن خوفها من أن دفع الأجور الكاملة سوف يؤثر سلباً فحسب على الشركات التي أصبح وضعها الاقتصادي هشاً بالفعل في خضم الأزمة. في حين أبدى ممثلو قطاعات أخرى تحفظهم بشأن الاتفاق. ومن بين الإجراءات التي اقترحتها اتحادات أرباب الأعمال تلك التراجع المؤقت عن بعض حقوق العمال المكتسبة مثل الإجازات المدفوعة الأجر، ودفع راتب شهر سنوي إضافي، والسماح لأرباب العمل باسترداد ساعات العمل التي تتجاوز الحد الحالي البالغ شهرين.
ظهور مبادرات التبرعات التضامنية في بداية الأزمة
يسلط تقرير نشره الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية في أبريل/نيسان 2020 الضوء على إسهامات القطاع الخاص خلال الجائحة. وفي دراسة استقصائية شملت 230 ممثلاً عن شركات صغيرة ومتوسطة من القطاع الخاص، عرض التقرير طرقاً عديدة أظهرت من خلالها الشركات تضامناً من جانبها استجابةً للأزمة. وتفاوتت المبادرات من تمويل صندوق تضامني ضد مرض كوفيد-19، وشراء معدات ومستلزمات طبية، إلى تقديم الدعم من خلال استخدام التقنيات الرقمية، وتوفير غرف فندقية لعزل الأفراد في الحجر الصحي. وبالرغم من عدم تقديم مزيداً من التفاصيل حول هوية الشركات التي شملتها الدراسة الاستقصائية بخلاف تقسيماتها القطاعية، يقدر التقرير إسهامات تلك الشركات بنحو 114,677 مليون دينار - بما في ذلك إسهامات المؤسسات المالية التي أُجريت معها مقابلات.
نشرت الجمعية المهنية التونسية للبنوك والمؤسسات المالية (APTBEF) كذلك بياناً أكدت فيه مجدداً على الدور الاجتماعي الذي تعتزم البنوك الاضطلاع به، مؤكدة على أن القطاع المصرفي التزم بتوفير 112 مليون دينار في تدابير دعم المشروعات التجارية والأسر ذات الدخل المنخفض.
وفي بيان صحفي مشترك نُشر في 10 أبريل/نيسان 2020، أشارت وزارتا المالية والصحة إلى أن إجمالي إسهامات المواطنين والشركات في الصندوق الوطني، الذي تأسس للحد من التأثير الاقتصادي والاجتماعي للجائحة (المعروف بصندوق 1818، في إشارة إلى الرقم المستخدم للتبرع عن طريق الرسائل القصيرة)، وصلت إلى 81.1 مليون دينار حتى 8 أبريل/نيسان. بيد أن مقدار إسهامات الشركات على وجه التحديد لم يُعلن عنه.
توفيق العلاقات بين الدولة والقطاع الخاص في خضم الجائحة: ضرورة تعزيز إخضاع القطاع الخاص للمسائلة
حتى اللحظة الراهنة، لم يُسلط سوى القليل من الانتباه على الطريقة التي تستطيع بها الحكومة أن تدمج بنجاعة استجابتها لجائحة كوفيد-19 في إطار نهج أوسع للتعامل مع التحديات الاقتصادية الاجتماعية الشاملة التي تواجه تونس.
كشفت جائحة كوفيد-19 بادئ ذي بدء عن الأوضاع الهشة التي تعاني منها الأيدي العاملة في البلاد وصعوبة تنفيذ السياسات التي تحمي العمال بفعّالية. فمن ناحية، تفترض السياسات، التي تدعم الشركات (والعاملين فيها)، أن العلاقات بين الدولة والقطاع الخاص وبين أصحاب العمل والموظفين، تسير على نحو جيد. ومن ناحية أخرى، تتجاهل السياسات الداعمة للأشخاص الضعفاء الثغرات الهيكلية في الحماية الاجتماعية.
ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أنه بالنسبة لبلد في حجم تونس وفي ظل التحديات التي يواجهها، بذلت الحكومة والمؤسسات جهوداً ملحوظة لحماية المواطنين خلال الأزمة. بيد أنه برغم النوايا الحسنة الكامنة وراء التدابير المتخذة لدعم الأعمال، لم يتصدوا إلا لجزء صغير من المشكلة، حيث تكون الأعمال التجارية غير الرسمية غير المسجلة مرتفعةً، وحيث يتواصل الطابع غير الرسمي حتى داخل دوائر القطاع الخاص الرسمي.
في سياق اقتصاد يتوطن فيه الفساد، وفي غياب الإنفاذ الفعال وعمليات تفتيش العمل القوية - لا سيما نظراً إلى أن صعوبة إجراء عمليات التفتيش خلال الجائحة تضيف إلى التحديات الهيكلية المصاحبة للتفتيش ذاته- تنخفض المحفزات التي تدفع الأطراف الفاعلة في القطاع الخاص لأن تمتثل لإجماع الآراء المتعلق بدفع الأجور، وخاصة في ضوء الآفاق الاقتصادية المظلمة.
بدون مراقبة ملائمة وفي ظل التحديات التي تعترض طريق الوصول إلى العدالة وسبل الانتصاف، ترتفع مخاطر عدم دفع الأجور بالكامل، وتتعاظم أكثر بالنسبة للعمال الضعفاء؛ لأن احتمالية تقديمهم شكوى تكون في الغالب ضئيلة. علاوة على ذلك، برغم احتمالية دعم الدولة لدفع الرواتب للعمال غير المسجلين بشرط دمجهم في الخطط الاجتماعية، تشير الأدلة العامة للجهود السابقة الرامية لإضفاء الطابع الرسمي على أنشطتهم إلى أنه بالنسبة لفئة منظمي المشاريع الجدد، فإن المسألة أقل تعلقاً بما إذا كانوا "قادرين" على الامتثال للوائح التجارية ولوائح التوظيف وأكثر تعلقاً بما إذا كانوا "مستعدين" للامتثال لها.
تُشير الأدلة السردية المستقاة من مقابلات العمال، ومواقع التواصل الاجتماعي، وتقارير الصحفيين، فعلياً إلى حالات فصل تعسفي تحدث خلال الأزمة، فضلاً عن عدم دفع الأجور بين الأعمال التجارية الصغيرة، ومصففي الشعر، والنُدل، والميكانيكيين. ولا يرجح كذلك أن يُقدم أي مخطط الحماية اللازمة للعمال المؤقتين وأولئك الذين يعملون بدون عقود.
في حين تبدو خطة توزيع الأموال على الفئات الضعيفة معيبةً لأنها تطلب من الأشخاص التسجيل للحصول على الاستحقاقات في ظل إجراءات الحظر ولديهم وصول محدود للسلطات المختصة على الإنترنت أو في المناطق الريفية. ويتفاقم هذا الأمر بشكل خاص لأن التحولات السلوكية والمواقف تجاه الرقمنة تستغرق وقتاً وتحتاج إلى التدريب والإعداد.
وفيما يتعلق بدفع المبالغ النقدية والمساعدة الاجتماعية، أثيرت الشكوك حول الاستهداف الفعال لهذه البرامج، في ظل إعلان الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (INLUCC) في بيان صحفي صدر في 26 أبريل/نيسان 2020 عن تلقيها شكاوى عديدة حول جرائم وشبهات إساءة استغلال السلطة.
بالرغم من التفاعلية في تدابير الحكومة، عولجت الأزمة إلى حد ما بمعزل عن التحديات الأوسع التي تسببت فيها رأسمالية المحسوبية والفساد. وبينما تشير الأدلة إلى أنه في وقت الأزمات يحتمل أن تكون مخاطر الفساد أعلى، ففي القاموس السياسي التونسي، كانت "الحرب ضد كوفيد-19" في واقع الأمر سبباً في استكمال "الحرب ضد الفساد" حتى وإن كانت أنماط الفساد لا تزال مستمرة في خضم الأزمة.
في الآونة الأخيرة، انتقدت وسائل الإعلام والمجتمع المدني تصريحات رئيس الحكومة للتقليل من الفساد في أعقاب شكوك حول منح وزارة الصناعة عقد تصنيع مليوني كمامة إلى نائب من حزب البديل، وهو أيضاً عضو باللجنة البرلمانية للصناعة والطاقة. فضلاً عن أن شبهات الفساد المرتكب من جانب المندوبين السياسيين الإقليميين تسببت مؤخراً في نقص في إمدادات السميد، وهي سلعة أساسية مدعومة تعد ضرورية لإنتاج الخبز الرخيص. تزعم تقارير أن السلعة تُسرب لتوزيعها على التجار غير الشرعيين، والمضاربين، والأسواق السوداء. ومع ذلك، استجابت الحكومة بسرعة عن طريق تعزيز العقوبات ضد المضاربين.
يضاف إلى ذلك أن التدابير المنصوص عليها دعماً للأعمال لم تراع تماماً كذلك تشتت القطاع الخاص وضعف الفئات المختلفة من الشركات. على سبيل المثال، الشركات التي تدير مراكز خدمة العملاء والمستفيدة من السياسة المالية الخارجية، سوف تحصل على دعم الدولة لدفع الأجور. وبينما كان التصور أن هذه سياسة تضمن ألا يدفع العمال ثمن الجائحة، كان من الممكن للحكومة أن تضمن كذلك أن هذا الدعم المالي ليس منحة للشركات عن طريق الحصول على التزامات كتابية تمنع توزيع الأرباح وتضمن أن مثل هذا الدعم يُدفع عن طريق الشركة. وفي المقابل، نظرت الحكومة إلى أصحاب المشروعات الصغيرة التي تؤمن لهم الكفاف -وهم العاملون لحسابهم الخاص الذين يكسبون دخلهم عبر مواقف السوق- بوصفهم أصحاب أعمال. وبينما حصل هؤلاء على مزايا تتألف من تجميد مدفوعات القروض، فإن توقف النشاط بالنسبة لكثيرين من أصحاب الأعمال المعتمدة على العمل اليومي يعني توقف أي مصدر دخل بالنسبة إليهم ولأسرهم. على سبيل المثال، نظم سائقو الأجرة احتجاجاً طالبوا فيه بالانتباه إلى أوضاعهم الضعيفة بوصفهم أصحاب أعمال تجارية مستقلة بعد وقت قصير من الإعلان عن التدابير.
يمكن للمطالبة بمشاركة الشركات في الأعمال الخيرية والإسهامات "الوطنية" للاستجابة لجائحة كوفيد-19 أن تكون تدبيراً ملائماً لتوفير حيزاً مالياً لحالات "القوة القاهرة" التي على هذه الشاكلة. وقد كانت المبادرات الخيرية الطوعية للشركات مهمة في بدء "سباق نحو القمة" بين الشركات وجذب الاهتمام الدولي إلى الأمثلة الإيجابية لمشاركة العاملين. غير أنه في السياق التونسي، حيث يظل افتقار المؤسسات التجارية التابعة للدولة للشفافية قضيةً مستمرةً، يجب تطبيق تدقيقاً إضافياً لضمان عدم استخدام المسؤولية الاجتماعية للشركات لتكون أداة للتباهي بالإنجازات الاجتماعية وإصلاح الصورة المشوهة أثناء تفادي اللوائح. وإذ يشير هذا إلى مناخ السعي وراء الريع والتهرب الضريبي، كان من الممكن للحكومة والمؤسسات القانونية، على سبيل المثال، أن تكشف عن المبالغ الدقيقة لإسهامات الشركات.
تُشير معايير العمل الدولية التي صدقت عليها تونس إضافة إلى تشريع قانون العمل، بأن الشركات والمستثمرين لديهم مسؤوليات ملزمة تجاه المجتمع، والبلاد التي يعملون فيها، والعمال الذين يوظفونهم. ولا ينبغي للمبادرات التي اتُخذت في سياق المسؤولية المجتمعية للمؤسسات أن تؤدي إلى محو أي أثر سلبي محتمل من جانب أنشطة الشركات تجاه موظفيها، ومجتمعهم، وبيئتهم.
مسارات نحو إخضاع القطاع الخاص للمساءلة
بينما كشفت جائحة كوفيد-19 ضعف الأفراد في الاقتصاد وهشاشة الأعمال التجارية في تونس، تتمثل الأولوية في بناء اقتصاد لا يخلق فرص العمل ويخدم النخب فحسب، بل يعمل كذلك من أجل الأشخاص والبيئة ويحميهما. يكمن مستقبل التماسك الاجتماعي بتونس في الاستثمارات الملائمة التي ترسخ اقتصاداً منصفاً وعادلاً تحكمه العلاقات الفعالة بين الدولة والقطاع الخاص وتُعزز وتكفل الحماية الاجتماعية للجميع.
بالرغم من أن جهود الإخضاع للمساءلة في تونس ركزت حتى الآن على سلوك الدولة، فإن إعادة توجيه المساءلة إلى كل من الدولة والقطاع الخاص بوصف العلاقة بينهما "مجموعة من العلاقات المتبادلة الراسخة في المعايير القياسية والموجهة نحو الغايات العامة"، يمكن أن تفيد الأفراد وتمهد الطريق لاقتصاد أكثر إنصافاً. ويمكن أن يستفيد العمال والمواطنون التونسيون من رؤية للأعمال التجارية لا تعطي الأولوية للنمو الاقتصادي وحسب، بل تتيح كذلك مراقبة المساءلة والشفافية مع امتثال مستحق للمعايير المحلية والدولية.
لا يزال الحوار الفعال حول إخضاع القطاع الخاص للمساءلة في تونس ما بعد الثورة، في طور التكوين. غير أن المطالب القطاعية الحالية لانتعاش الدولة والاقتصاد في سياق الجائحة، تشكل فرصة عظيمة لوضع أجندة واضحة فيما يتعلق بدور الأعمال في المجتمع التونسي.
ونظراً إلى أن التحديات الاقتصادية في تونس تتجاوز بكل وضوح مجرد خلق فرص العمل، يجب أن يركز النقاش كذلك على العدالة المالية والاجتماعية. يكتسي هذا أهمية خاصة بالنسبة للسياق التونسي؛ لأن القطاعات المتأثرة بشدة جراء الأزمة (قطاع الملابس الموجه نحو التصدير، وقطاع التشييد، وقطاع الفنادق) هي التي تحمل مخاطر خاصة بشأن حقوق الإنسان بالنسبة للعاملين فيها.
يمكن لفرض العقوبات العادلة على الشركات التي لا تحترم الحقوق وممارسة الشركات مزيداً من المساءلة تجاه أصحاب المصلحة المختلفين، أن تخفف من التوترات الاجتماعية وتمثل مرحلة حاسمة في إعادة التفكير في اقتصاد عادل ومستدام. ومع ذلك، لكي تقود الحكومة هذا النقاش، يجب أن تكون مثالاً يحتذى به. ولذا فثمة حاجة ملحة إلى قطع العلاقات مع رأسمالية المحسوبية والفساد. ومن المطمئن بدرجة ما أنه في إطار وضع معايير الحكومة لدعم الأعمال التجارية، أكدت وزارة المالية على أولوية مكافحة الفساد وإضفاء الطابع الرسمي على الاقتصاد. بيد أن السؤال المتعلق بالكيفية التي سوف تحقق بها هذه الأمور يُعد سؤالاً مهماً، ولا سيما نظراً إلى أن هذه التدابير سوف تتطلب عزيمة سياسية في ظل إمكانية توقع المقاومة الشرسة من هؤلاء الذين يواجهون خطر فقدان الريع والامتيازات. يتمثل أي نهج جيد في هذا الصدد في تعزيز الجهود الرامية إلى إصدار تشريع لتفسير شروط وضوح النصوص من أجل البرلمان وتسريع التصويت على قانون يضع قواعد الدعوة والتأثير وكسب التأييد في تونس. ومن الضروري كذلك زيادة الدعم المالي وتمكين للنماذج (مثل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (INLUCC) المكلفة بمكافحة الفساد) من أجل إثارة التحقيقات المتعلقة بالتهرب الضريبي ومن أجل جعل هذه المعلومات متاحة للجمهور.
وفي المقابل، يجب بذل الجهود لتمكين الأفراد وحماية العمال الضعفاء، بما أن جائحة كوفيد-19 سلطت الضوء على ضرورة تعزيز الحماية الاجتماعية لجميع المواطنين في تونس. يتجلى تدبير إيجابي من جانب الحكومة في الخطوة المتخذة مؤخراً بإطلاق رقم تعريفي واحد لجميع المواطنين سيسمح بتحسين رصد أوجه الضعف في تونس. ولا بد من بذل جهود متضافرة لتعزيز الحماية الاجتماعية في ضوء التشخيص الكامل لحالات الضعف التي يعاني منها العمال. ويمكن أن تتضمن تلك الإجراءات التوفيق بين عطلة الأمومة وبين المعايير الدولية وتقديم الحماية إلى العمال المهاجرين. من الضروري أيضاً توحيد وتعزيز تفتيش العمل، وفي الوقت نفسه معالجة المسائل المنهجية لعجز الضمان الاجتماعي. تستطيع الحكومة الاعتماد على قانون المسؤولية المجتمعية للمؤسسات في تونس لدفع الشركات نحو تعزيز استثماراتها في الحماية الاجتماعية باستخدام تدابير ملزمة وكذلك طوعية.
وبما أن الحكومة سوف تتفاوض على خطة إنعاش وتخطط لها في أعقاب جائحة كوفيد-19، من الأهمية بمكان أن تأتي المناقشات والتدابير الرامية إلى دعم الشركات بقيود تتسم بالشفافية وترتبط بالقضاء على مواطن الضعف ومعالجة الفساد.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.