مقاربة أوليّة للمظاهر الاحتجاجيّة في طرطوس ومستقبلها

Protest Movements in Tartous: Dynamics and Implications
منظر لمدينة طرطوس ، أيار/مايو 2018.  © محمد الزين / شاترسطوك

مقدّمة

باتت محافظة طرطوس خلال السنوات الاثنتي عشرة الماضيّة هادئة نسبيّاً، حيث انحصرت التظاهرات المناوئة للنظام في مناطق محدودة قبل أن تختفي تحت ضغط عنف سلطة نظام الأسد. ولم تشارك طرطوس ومدنها - خصوصاً ذات الأقلية السنية - إلا بشكل محدود جداً في الثورة، بل ساهمت بمقاتلين شرسين لمواجهتها، حتى بات يطلق على سكانها "الحاضنة الشعبية للنظام" و"قاعدة النظام" و"طرطوس أمّ الشهداء".

فرغم موالاتها المعروفة لنظام الأسد، عرفت محافظة طرطوس في السنوات الأخيرة مجموعة من الاحتجاجات. تحاول هذه الورقة استكشاف العوامل التي تدفع سكان المحافظة للاحتجاج حتى الآن؛ والعوامل التي تكبحها؛ وكيف تعاملت سلطة الأسد مع الاحتجاجات التي جرت، والسبل التي اتبعتها لقطع الطريق على إمكانية حصول أخرى. وتهدف الورقة إلى رسم صورة أوضح حول طبيعة العلاقة بين النظام وسكان محافظة طرطوس في ظل تطورات ما بعد الثورة.

أولاً - مظاهر احتجاج العلويين في طرطوس منذ انطلاق الثورة إلى الآن

انطلقت تظاهرات لغير العلويين ضد النظام منذ بداية الثورة السوريّة، وكانت بانياس (على الساحل شمال مركز المدينة بحدود 40 كم) من المدن السبّاقة للخروج عن سطوة النظام في سوريا؛ حيث خرجت في 18 آذار/مارس 2011 من مسجد الرحمن في طرطوس تظاهرات تنادي بإسقاط النظام. لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ هذه المناطق تنتمي إلى الأقليّة السنيّة، التي خرجت مطالبة بحقوقها ومنددة بالتمييز الطائفي الطويل ضدها من قِبل نظام الأسد. وقام النظام باعتقال معظم المشاركين في تظاهرات طرطوس ومحاصرة واقتحام بانياس، واعتقال أعداد كبيرة من رجالها وشبابها ونشر قوات الأمن والحواجز ضمن المدينة.

لم تقتصر الاحتجاجات المناهضة للنظام على الفئات السنيّة، بل انتشرت لتشمل "العلويّين"، أي الطائفة التي كانت تظنّ أنّها تحظى بامتيازات من قبل نظام الأسد. فمنذ البدايات الأولى، شهدت بعض التظاهرات في طرطوس اشتراك عشرات الشبّان العلويين، وحاول الكثير من المعارضين السابقين للنظام من العلويين إحداث خرق في حالة السكون التي اجتاحت البيئات العلويّة. كما قام نشطاء علويون بمحاولات عديدة لإنشاء تنظيمات ثائرة في الساحل السوري، مثل حركة نحل، التي قامت بنشاطات (توزيع منشورات، ورسائل على الموبايل والفيسبوك) هدفت حينها إلى كسر هيبة النظام والحض على الاندماج في الثورة. وكانت تُلاحق بشدّة من عناصر نظام الأسد وفعالياته البعثيّة المنتشرة بكثرة في البيئات العلوية؛ وتعرّض بعض أفراد هذه الحركة للموت تحت التعذيب، وفرّ الباقون. وكذلك يمكن ذكر حركة الشباب السوري الثائر، والكثير من النشاطات الفرديّة من معارضين علويين انضموا إلى تنسيقيات الثورة بشكل سريّ، وشاركوا في العديد من التظاهرات. إضافةً إلى هذا، قامت شرائح من العلويين باحتجاجات تلقائيّة، ومن أهمها:

- إضراب العمال المؤقتين في معمل إسمنت طرطوس

بدأت موجة إضرابات العمال المؤقتين في معمل إسمنت طرطوس1أليمار لاذقاني، الإضراب يشل شركة إسمنت طرطوس ويفتك بأمين حزب البعث، موقع عربي21، /25/2/2015/،  https://arabi21.com/story/812838 منذ بداية العام 2015. كانت أعداد المياومين آنذاك قرابة 1500 عامل. وبدأت الإضرابات خجولة، ولم يقتنع معظم العمال المؤقتين بمدى قدرتها على تحقيق مطالبهم. كان الدافع الأساسي خلف هذه المطالب الضغط المادي الهائل الذي واجهه هؤلاء، نتيجة أولى موجات ارتفاع الأسعار الجنوني، وضعف رواتبهم بالمقارنة مع رواتب المثبّتين، الضعيفة أصلاً، حيث لم تكن تتجاوز نصفها في أحسن الحالات. كما أن هناك عمالاً أمضوا فترات تتجاوز الخمسة عشر عاماً كمياومين، رغم وعود النظام بتثبيتهم. لم يمنع تخوين المدراء والبعثيين في المعمل المضربين من استمرار الاحتجاجات، حتى وصل الأمر إلى إيقاف المعمل عن العمل في 10 شباط/فبراير 2015، وإجبار المسؤولين على إيقاف الإنتاج بقطع الطرق داخل المؤسسة والتعطيل المقصود لكل منافذ معمل إسمنت طرطوس.

تخللت هذه الاحتجاجات، صدامات كانت عنيفة أحياناً مع ممثلي النظام، وإضعاف بروباغندا النظام القائمة على توصيف أعدائه بالخونة، والإرهابيين، والمتآمرين، حيث وصلت الحال ببعض المضربين إلى التهديد بالانضمام إلى "داعش" أو "النصرة"، إن لم يتم تثبيتهم. في النهاية نجحت هذه الاحتجاجات بعد قرابة الشهر من بدئها، وتم تثبيت جميع المياومين في عقود عمل دائمة في معمل الإسمنت.

 - تعاقب إضراب سائقي الحافلات في طرطوس

انتشرت في سوريا منذ مطلع الألفيّة ظاهرة حافلات النقل الصغيرة (14 راكباً) التي سهّل النظام استيرادها وبيعها للأشخاص العاديين ليقوموا بتشغيلها على خطوط النقل بين الريف والمدينة، حيث تقوم هيئة المرور في شرطة النظام بفرض سعر التذكرة بناءً على طول المسافة المرخّص للحافلة العمل عليها. ومنذ ذلك الحين نشأت طبقة من السائقين غير المنتظمين في نقابات، وتراجع بعدها قطّاع النقل الحكومي بشكل كبير، وأصبح أصحاب الحافلات الصغيرة يحملون هذا القطّاع بشكل كامل. ففي الظروف التي تمنع عنهم هيئات النظام الوقود أو تقنّنه أو ترفع سعر التذكرة، تظهر موجات غضب جماعيّة لدى السائقين تؤدي إلى ظهور احتجاجات وأزمات نقل.

فبعد رأس السنة 2015-2016 استيقظت طرطوس على فراغ كامل في الكراج الجديد لخط طرطوس الدريكيش (وهي بلدة صغيرة تبعد 25 كلم شرقي مركز المحافظة ذات أغلبيّة علويّة)، حيث بدأ هذا الإضراب دون ضجيج،2أليمار لاذقاني، رجل أعمال سوري يبدأ في السيطرة على قطاع النقل في طرطوس… والنظام يعتقل معارضيه، جريدة القدس العربي، /7/6/2015/، http://www.alquds.co.uk/?p=275528 بسبب الشحّ الكبير في مادة المازوت، وتشغيل باصات تابعة لرجل أعمال نافذ على الخط. وسارعت هيئات النظام الأمنيّة والبعثيّة لتدارك الأزمة، بعد أن تمّ التواصل مع معظم السائقين الذين تلقوا وعوداً من هيئات بحل الأزمة. وعاد السائقون للعمل في اليوم التالي بعد أن استطاع النظام تأمين حاجيات الحافلات من المازوت بطرق جديدة بعيداً عن محطات المحروقات وأزماتها الناتجة عن نقص كبير في المازوت ومواد الطاقة في السوق السوريّة عموماً، حيث بدأ النظام بتسيير صهاريج خاصّة بالحافلات إلى الكراجات، ومنذ ذلك الحين، أصبح سائقو الحافلات بمنأى، نوعاً ما، عن أزمات المازوت، ويحظون بحصص من المازوت بشكل يومي.

تلا هذا الإضراب بستة أعوام إضراب آخر في تشرين الأول/أكتوبر 20223أليمار لاذقاني، إضراب سائقي السرفيسات في طرطوس، ليفانت نيوز،، تاريخ النشر: 26/10/2022/، https://thelevantnews.com/ بعد أن قام النظام بتخفيض حصص مازوت حافلات النقل الداخلي (السرفيسات) إلى النصف دون مقدّمات، ما أدّى إلى إضراب معظم سائقي السرفيسات الخاصة عن العمل، إذ إنّ التسعيرة (30 ليرة سوريّة لكل كلم من طول خط النقل) المفروضة على خطوط النقل لا تكفي أجور صيانة المركبات، ولا يمكن للسائقين المغامرة بمستقبل عملهم وطعام عوائلهم، حيث كانوا يعوّضون النقص الحاد في تسعيرة النقل ببيع المازوت في السوق السوداء (كان السائقون يوفّرون قرابة 10 ليترات يوميّاً، حيث يعبّئ السائقون المازوت بسعر 500 ليرة سورية لليتر الواحد ويبيعونه بـ7000 ليرة في السوق السوداء، ما يضيف مصدراً إضافيّاً لدخلهم). كانت هذه المعادلة مرضية للسائقين الملزمين بعدد معيّن من الرحلات يوميّاً. جاء تخفيض الحصص اليوميّة للمازوت للنصف مع خفض الرحلات اليوميّة بنسبة 10%، أي أن السائقين سيعملون مع حافلاتهم الخاصّة بدون دخل يذكر، خاصّة أن أغلب الحافلات باتت قديمة وبحاجة إلى الصيانة بشكل دوري. مع أول يوم إضراب، (25 تشرين الأول/أكتوبر عام 2022) حضر المحافظ إلى الكراج الرئيسي للمحافظة (الكراج الجديد) ومعه قادة الأفرع الأمنيّة وقادة الشرطة، وأعطوا تعليمات بسحب الرخص والتغريم من الحافلات إن لم تعد إلى العمل فوراً. بينما تحركت الأفرع الأمنيّة وهددت السائقين بالاعتقال والتغريم إن لم يعودوا إلى العمل. وخلال يومين عادت جميع الحافلات إلى العمل بعد أن خفّضوا رحلاتهم بنسبة 10% إضافيّة، تؤمن لهم بعض الدخل من خلال بيعهم المازوت في السوق السوداء.

- احتجاج أهالي منطقة يحمور في أغسطس 2021

قام النظام بإنشاء مكبّ للنفايات في وادي (الهدّة) (منتصف آب عام 2021) بمنطقة يحمور (قرية واقعة في سهل عكّار تتوسط مدينة طرطوس ومدينة صافيتا ويعمل سكّانها في الزراعة)، ووعد سكّان المنطقة بإنشاء معامل لتدوير النفايات بشكل عصري والحفاظ على البيئة من جميع أشكال التلوّث. وافتتح آنذاك بشار الأسد المشروع. لكنّ الوادي تحوّل إلى مكبّ نفايات يلوّث المياه الجوفيّة والهواء نتيجة عدم قيام النظام بتنفيذ مشروع المعمل.

انفجرت حالة الاحتجاج4موقع روسيا اليوم، احتجاجات على تلوث المياه في بلدة يحمور ومحافظ طرطوس يطرح الحلول، 15/8/2021/، https://arabic.rt.com/middle_east/ / بعدما قام مازن حمّادة (وهو أحد المتنفذين في المحافظة ورجل أعمال وعضو قيادة فرع الحزب لعدّة دورات، وعضو غرفة الصناعة، بتحويل مجرى المياه المتدفقة من الوادي بعيداً عن أراضي استحوذ عليها بعد صفقة شراء فاسدة، (حسب ما أفاد به شهود من القرية)، ليزيد من سعر الأرض، ولتتشكل مستنقعات مياه ملوّثة في الوادي أدّت إلى تلوّث شديد في المياه الجوفيّة ومياه الشرب في المنطقة. تضررت إثر هذا التلوث المحاصيل الزراعيّة في البيوت البلاستيكيّة، ما أسفر عن أضرار جسيمة للسكان (قدّرها بعض أهالي القرية بما يقارب 500 مليون ليرة سوريّة). حاول أهالي المنطقة بدايةً التواصل مع المحافظ وهيئات النظام في المحافظة لإعادة سيل المياه الموسمي كما كان، لكنّ المحافظ ماطل وتركهم لوعود فارغة، ما أثار غضبهم، حيث ظهر الأمر كتحدٍّ واضح من مسؤول في السلطة لمصالح مئات العوائل لحساب مصلحته الشخصيّة. هذا الإحساس العارم بالظلم، أدّى إلى موجة غضب عامّة في منطقة يحمور تداعى على إثرها سكان المنطقة إلى قطع طريق صافيتا ـ طرطوس صبيحة يوم الأحد 8 آب/أغسطس 2021 بهدف إيصال صوتهم ومشكلتهم إلى قيادات أعلى من المحافظ وعقاب رجل الأعمال الذي يقف وراء معاناتهم، حيث شككوا بوجود مصالح مشتركة ورشاوى بين المحافظ ومازن حمّادة. بعد ساعات قليلة اتجه المحافظ مع أعضاء قيادة الحزب والقيادات الأمنيّة إلى مكان قطع الطريق، ووعد الناس وأقسم اليمين أمام الأهالي بأنّ المحافظة ستنقل المكبّ إلى منطقة ثانية خلال خمسة عشر يوماً. كما دعا الرجال المنضمّين إلى الاحتجاج للحضور إلى المحافظة للوقوف على جميع مشاكل المنطقة وحلّها جميعاً. وبعد مماحكات مع رؤساء الأفرع الأمنيّة وتهديد الأخيرة لهم واستمرار المحافظ بالوعود، فضّ الأهالي الاحتجاج وفتحوا الطريق، واجتمعوا في اليوم الثاني عند المحافظ، حيث كرر وعوده لهم. وبعدها استدعى الأمن السياسي جميع من كان في الوفد عند المحافظ واحتجزهم وقام بتعذيب بعضهم وهددهم باعتقالهم مع ذويهم وأطفالهم إذا تفوهوا بأي كلمة، حتى إنهم لم يجرؤوا على الإقرار باعتقالهم بشكل علني أمام الأهالي، لتنتهي بذلك أول محاولة حقيقيّة للاحتجاج في المحافظة بشكل بائس، حيث استمر الحال على ما كان عليه.

ثانياً - عوامل ظهور الاحتجاج

أفرزت سنوات الحرب في سوريا الكثير من الظواهر التي فرضت بدورها تغيرات إجباريّة على بنية النظام والعقيدة السياسيّة لدى الموالين للنظام. وبالتالي نشأت علاقة بين النظام وأهل طرطوس، ليست علاقة جديدة، بل هي تغيُّر كبير ضد مصلحة النظام، لأنها لا تحمل في طياتها بذور الاستقرار؛ فهي علاقة تتمتع باستقرار قلق، قد تغيّر وجه العلاقة بشكل كامل مما لاحظناه منذ تولّي بشار الأسد السلطة إلى حين انطلاق الثورة في آذار 2011. بدأت البيئة العلويّة تتحرر جزئيّاً أو كليّاً في بعض الأحيان، من قدسيّة العلاقة مع النظام، أو من قدسيّة رموزه، وانتقلت إلى علاقة قد تفتح المجال أمام حركات ممانعة لطرائق الحكم السابقة، أو تؤدي إلى ظهور احتجاجات مطلبيّة، أو حتّى ثأريّة انقلابيّة على النظام برمّته. ومن أبرز العوامل التي أدّت إلى تغيُّر العلاقة بين النظام ومواليه هي:

نزوع العلويين نحو الاستقلال الاقتصادي عن الدولة وغياب إغراءات التوظيف الحكومي: كانت الوظيفة الحكوميّة في البيئات العلويّة بمثابة الحلم، إذ كانت تحقق استقراراً ماديّاً وطريقاً نحو الرخاء، لكن بعد الثورة لم تعد وظيفة الدولة تدرّ دخلاً جيداً على الموظفين، مثلما كان الحال قبل الثورة، حيث تضاعفت الأسعار قرابة العشرة أضعاف منذ انطلاق الثورة، في حين لم تزد رواتب الموظفين إلا قليلاً، (انخفض راتب الموظّف من 400 دولار شهريًّا إلى 30 دولاراً) وهذا ما خلق فجوةً واضحةً في حياة الموظفين الحكوميين، والمتطوعين في الجيش، بين دخلهم الحقيقي قبل الثورة، ودخلهم الحالي، ما عكس حالة من ازدراء التوظيف، والتطوّع، وأصبحت بيئاتهم "المفقرة" سلفاً، ومداخيلهم الحرّة، أكبر بكثير من الدخل الحكومي. وهذا ما أدّى بالتالي، إلى بحث العلويين عن مصادر دخل مستقلّة عن الحكومة، فعاد الكثير من أهل الريف إلى تربية الماشية [5القدس العربي، تربية الماشية ثروة أهل الساحل السوري الضائعة، أليمار لاذقاني، 7/5/ 2015 http://www.alquds.co.uk/?p=338213 ]، بعد أن منعها نظام الأسد منذ ثمانينيات القرن المنصرم. وبدأ سكان المدن، بالتركيز على قطاعات الصناعة، والقطّاعات الخاصة، وهذا ما قد يخلق حالة اقتران بين الدخل الجيّد ووظيفة الدولة، حيث تنفك وللمرّة الأولى منذ عقود العلاقة الحميمة بين الدخل الجيّد والتوظيف. فقد أصبحت الوظيفة في سلّم الدخل على العتبة الصغرى الموازية للبطالة، وأضحت أيّة مهنة أفضل بكثير من الوظيفة، وما يبقي الموظفين في مكانهم سوى آمالهم بعودة الموظف، والحاصل على راتب حكومي، إلى الارتقاء للمداخيل العليا في السلّم الاقتصادي، وفقدان البديل، إذ تحتاج البيئة العلويّة لسنوات لتأمين مصادر دخل مستقلّة قادرة على استيعاب شرائح واسعة من العمال.

العدد الهائل من القتلى الذي تكبدّه العلويون في الحرب الدائرة: شهدت الأعوام ما بين 2013 و2015 مقتل أعداد هائلة من الجنود العلويين الذين يقاتلون في صفوف النظام، تناقصت بشكل تدريجي إلى يومنا هذا لتصل الأعداد إلى قرابة 100 ألف ضحيّة من الشباب العلوي حسب تقديراتنا كباحثين ومعلومات مسرّبة من مكتب الشهداء في محافظة طرطوس، حيث وصلني الرقم (93 ألف قتيل هذا دون حساب أعداد المفقودين)، الأمر الذي خلق فجوة واضحة في التركيبة السكانيّة للعلويين في طرطوس، (نتحدّث عن مئة ألف قتيل أو 10% من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و45 عاماً حتّى الآن)، أكثر من نصف هذه الأعداد من محافظة طرطوس وحدها. فهذه الإحصائيات غير الرسمية والتقديرية، لا تشمل مصابي الحرب ولا المفقودين؛ كما لا توجد دراسات حتى الآن تقيّم المرض النفسي الذي تعرّض له معظم المقاتلين في الساحة السوريّة عموماً، ومقاتلي النظام، إضافةً إلى تغييب الشباب الكامل عن الحياة المدنيّة والاجتماعيّة، وعن العمل، إلا أننا في أيامنا هذه، نلاحظ الكثير من التذمّر والنفور من النظام، بسبب هذا الفقد الكبير، وبسبب الفقر الشديد الذي تعاني منه عوائل القتلى بشكل خاص، والتعويضات الشحيحة من النظام لذوي القتلى، إذ إنّ أدوات النظام لم تروّج لمثل هذه الحرب في بداية الثورة، بل روّجت لما يشبه رحلة التنمّر(التشبيح – الاستقواء على المدنيين العزّل) وتلقين "الإرهابيين درساً" بسهولة وببساطة، إضافةً للرهاب الذي نشره النظام من المجتمع السنّي وحضّه على العصبيّات الطائفيّة، إضافةً إلى خوف العلويين من انتقال النظام لصالح نظام "سنّي" لا يكتفي بسحب امتيازاتهم بل والتضييق عليهم. فقد عانى العلويون بشكل خاص والأقليّات بشكل عام من اضطهاد السنّه لهم في فترات تاريخيّة سابقة ما زالت حاضرة في أذهان العلويين. لكنّ خسائر النظام العديد من المعارك في الفترة اللاحقة، أي بعد عام 2012 حيث بدأت المعارضة المسلّحة بتنظيم صفوفها والتسلّح وتوجيه ضربات قاسية لجيش النظام وميليشياته، بدأت تهزّ صورة النظام لدى العلويين، وتفاقمت في أيامنا هذه، خاصّة بعد التسويات6أجرت القوات الروسيّة صفقات عديدة مع مجموعات مسلحة في مناطق نزاع مختلفة في سوريا أسفر بعضها عن انضمام مجموعات منها إلى الفيلق الخامس الروسي في سوريا كمجموعة أحمد العودة في درعا. انطر الرابط التالي: https://www.facebook.com/dw.sulta5/videos/125536775965193/ التي جعلت النظام يبدو بمظهر العاجز عن تحقيق نصر وعد به أنصاره طيلة فترة الحرب مع المعارضة المسلحة.

كما أسفرت هذه الأحداث عن ترك العديد من العسكريين القتال في صفوف الأسد. أما ميليشيا الدفاع الوطني، وهي الميليشيا الأم في الساحل، فقد تعرضت لما يشبه الانحلال التام، حيث أصبحت تتكون من الشبان المتخلفين عن أداء الخدمة العسكريّة، والمتخلين عن السلاح، والممتنعين عن السّوْق إلى الاحتياط، وتحوّل معظمهم إلى مشاريع مهاجرين هرباً من التجنيد والموت والفقر. إذ تحولت حواجز النظام في الساحل السوري إلى مصائد لهؤلاء الشبّان، الذين لاقوا احتضاناً من الأهالي، وتقبّلاً واسعاً لقرارهم، كان يصل إلى تشجيعهم على ترك السلاح والسعي الحثيث للسفر إلى أي بلد يقيهم مدّة الخدمة العسكريّة الطويلة والفقر الشديد وانعدام المستقبل7أليمار لاذقاني، لا وطن ولا مستقبل: الشباب العلوي عصب حياة نظام الأسد، مبادرة الإصلاح العربي، 4/9/2020/،  https://www.arab-reform.net/ar/publication / .

انتشار الفقر والعجز المادي بشكل واسع وحاد، وانتشار المخدرات والأوبئة: انتشرت حالات السرقة، كثيراً في بيئات العلويين الريفيّة، وفي المدن، حيث تعرضت الكثير من المحال، والسيارات، والدراجات الناريّة المنتشرة بكثرة، للسرقات، وتشكلت عصابات، كان ينتمي معظم أفرادها إلى مليشيا الدفاع الوطني. وكان البعض من هذه العصابات يبيع مسروقاته بشكل علني، ومنهم عصابة "شادي ونوس" التي اشتكى منها أهالي الدريكيش، حيث كانوا يسرقون بشكل شبه علني، واحتاج النظام إلى قوّة عسكريّة لإيقافها. ولا تزال مظاهر إطلاق النار العشوائي، والاشتباكات الصغيرة بين عناصر الميليشيات من الأشياء الدارجة في البيئة العلويّة، كما انتشرت ظاهرة رمي القنابل الصوتيّة، وإطلاق النار لأدنى الأسباب.

كما انتشرت المخدرات على أنواعها بين الشباب، واشتغل في الإتجار بها النافذون في الدولة8موقع فرنسا 24، حبوب الكبتاغون التي حوّلت سوريا إلى دولة مخدرات، 03/11/2022/ https://www.france24.com/ar/ . وحظيت هذه التجارة بحصانة كبيرة، كما انتشرت ظاهرة المراهنات وألعاب القمار9أليمار لاذقاني، مقهى جبلة بسوريا... قمار ورهانات ومتاجرة بأحلام الفقراء، موقع عربي 21 16/2/2015/، https://arabi21.com/story/809835/ ؛ كل هذه الظواهر أدّت إلى فقدان العلويين الثقة بالبيئة التي يعيشون فيها، وأدّت إلى حالة نفور عام من تراجع النظام عن مكافحة هذه الظواهر التي تستهدف أبناءهم بالدرجة الأولى.

أسهم عدم قدرة النظام على التصدي لمثل هذه الممارسات في إسقاط هيبة الدولة، وازدياد نقمة أهالي الساحل والعلويين تحديداً عليها، ولم يعد بإمكان نظام الأسد التباهي بدولة "الأمان" التي طالما ابتزّ مواليه بها.

ثالثاً - عوامل تسكين الاحتجاج

منذ انطلاق الثورة بدت النسبة العظمى من العلويين بعيدة عن أي شكل من الحراك، ربما لطبيعة تعاطي سلطة الأسد معهم عبر سنوات حكم الأب، والابن،[10] حيث لم تتعرض البيئات العلويّة لسطوة أفرع الأمن، وابتزازهم، باستثناء المعارضين منهم، وعمل النظام على جعل المعارضين يبدون كغرباء عن مجتمعاتهم، من خلال فعالياته الدينيّة والبعثيّة كمشايخ الطائفة العلويّة وأمناء الفرق الحزبيّة الذين ينسّقون بشكل مستمر مع الهيئات الأمنيّة للنظام ويأخذون التعليمات منهم حسب شهادة أمناء فرق حزبيّة سابقين. كما عمل على تسييس الدين العلوي، وأطلق المشايخ المتنفعين، ليجعلوا من الأسدين الأب الابن، رموزاً دينيّة، وأصبح حكم الأسد بالنسبة لكثير من العلويين، أشبه بسلطة الفقيه في إيران بالنسبة لمواليه من الإيرانيين. كما ساهمت عدّة عوامل بعد بدء الثورة، في ثني العلويين عن كسر هذه المقدّسات، ولعدم قدرة النظام على العمل بهذا الإطار، إلا بقنوات ضيّقة غير رسميّة، لما ينسب لنفسه من اعتناق لأفكار حزب البعث والعلمانيّة المفترضة في أجزاء صغيرة من دساتيره.

غياب معارضة تحمل مشروعاً وطنياً

لم تكن المعارضة عاملاً جاذباً للعلويين، المعارضة التي لم تحمل يوماً مشروعاً وطنيّاً، حيث كانت تشتغل على إدانة النظام وجرائمه وتخوين السكّان الذين نأوا بالصمت وصولاً لتخوين العلويين والأقليات واتهامهم بالتواطؤ مع النظام، وصولاً إلى تبنّي جماعات جهاديّة على الساحة السوريّة، لا ترى بالعلويين سوى مخطئين عليهم التوبة في أحسن الأحوال. أو كيانات لا تزال ضعيفة، لا تمثّل الشارع السوري الثائر، هذه المعارضة: الجهاديّة، والإسلاميّة، والتابعة، والضعيفة، لم تخلق لدى العلويين أي مناخ متفائل للاندماج في الحراك العام في سوريا، هذه العوامل التي تتفاقم "أعراضها" مع تحوّل الثورة في سوريا إلى حرب أهليّة، أنتجت صراعات طائفيّة في كثير من الأماكن، إن لم يكن أغلبها، لا تزال عاملاً مهمّاً، وحاسماً، في خلق مناخ احتجاجي، لدى العلويين في الساحل السوري.

تفخيخ المجتمع أمنيّاً واجتماعيّاً

لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ النظام لم يستخدم العنف المسلّح لقمع أي حركة احتجاجيّة في الساحل، منذ اندلاع الثورة في سوريا، بل على العكس، يُظهر النظام مرونة عالية في التعامل مع جميع أنواع الاحتجاجات التي قد تظهر بين الحين والآخر. إلّا أنّه ورغم النقص الحاد في خزّانه البشري، وحاجته الملحّة لمقاتلين، لم يقم بتخفيض عدد عناصر الأمن في الساحل (حوالي 100 ألف عنصر أمن في أجهزة النظام جميعهم من البيئة العلويّة، يعملون في محيطهم بالإضافة إلى عملهم في الأفرع)، علماً، أنّ النظام يشدد على التواجد الأمني الكثيف في بيئاته الموالية، إضافةً لتجنيد البعثيين، وحتّى الموظفين الحكوميين، والمدرسين، في نقل التقارير، وإطلاع الجهات الأمنية حتى على صغائر الأمور، من أي قرية بعيدة وصولاً إلى مراكز المدن. أي أنّ النظام حوّل وعلى مدى قرابة الخمسين عاماً الساحل السوري، إلى مجمّع أمني ضخم، قد تفلت منه المعلومة بما يشبه الأعجوبة، لذا فالنظام يتغلغل في جميع الأوساط والبيئات العمالية والمجتمعيّة في الساحل، ويجعل إمكانيّة خروج احتجاج منظم صعبة للغاية، إلّا في حال تدهور الأمور بشكل كبير إلى حد عدم قدرة الجميع على احتمالها. هذا ربما قد يؤدّي إلى مطالبة مجتمعيّة عامّة، على نحو محدد، قد تحرج النظام، وربما تنطلق منها شرارة احتجاجات مطلبيّة أوسع.

غياب الهيئات النقابيّة والمدنيّة

يشهد الساحل السوري والمناطق التي تقع تحت سيطرة النظام خلوّاً شبه مطلق من أي تنظيم سياسي فاعل، هذا بالإضافة إلى تفريغ النظام مهمات الهيئات النقابيّة، والعمل الدؤوب على اختراقها بشكل كامل، وإفسادها، وتحويلها إلى منصّة إضافيّة له، تعمل كفرع أمني، أو كفرع لحزب البعث الحاكم. هذا الفراغ نشأ منذ حملة الاعتقالات التي قام بها الأسد الأب مطلع الثمانينيات على قيادات وكوادر وأعضاء الأحزاب اليساريّة، وطالت حتّى المقربيّن من هذه الأحزاب.

حاولت هذه الأحزاب، تنشيط أعمالها إبّان الثورة السوريّة، لكنّ النظام لم يسمح لها بالعمل في الساحل السوري بشكل قاطع (ترك النظام هامشاً صغيراً للعمل الحزبي في دمشق، وكمثال على ذلك اعتقل في بداية عام 2013 خلايا تنظيم حزب العمل الشيوعي في الساحل وأطلقهم بعد أن تعهدوا بعدم العمل التنظيمي وترك التنظيم ينشط في دمشق ضمن إطار ضيّق)، كما أنّه قطع الطريق على كلّ المحاولات لإنشاء تجمّعات جديدة، تحمل طابعاً تنظيميّاً، كحركة معاً، ومواطنة، واعتقل قيادات سابقة في الأحزاب اليساريّة، تلك التي حاولت تنظيم العمل السياسي في الساحل السوري، كحزب العمل الشيوعي، الذي تعرّض أعضاؤه للاعتقال مطلع العام 2012.

خلاصة

مع استمرار التدهور في الوضع المعيشي للسكان، تزداد فرص نشوب احتجاجات أخرى ذات مطالب خدميّة أو معيشيّة، وقد تتطور إلى احتجاجات ذات مطالب سياسيّة وطنيّة، لكنّها ستبقى هشّة وضعيفة أمام السلطة المنظّمة والقويّة، إذ من الصعب اختراق هذا السكون السياسي من قبل محتجّين.

ما لم تنزلق السلطة في مآزق تخصّ كيانها، كاحتجاج طرف عسكري أو شكل من أشكال الاحتجاج العسكري الذي قد يرافق احتجاجاً مدنيّاً (علماً أنّه وحتى الآن لا توجد أيّة مؤشرات لاحتمال حدوث ذلك)، فالتغيير يلزمه عاصفة من اتجاهين، أي أن ثبات معسكر النظام سيؤدي بشكل كبير إلى استمرار سيطرته على مجريات الأحداث في هذه المحافظة.

 [10] محسن المصطفى، مراكز القوّة في جيش النظام 2020: "نهج الصفاء العلوي"، مركز عمران للدراسات، 13/3/2020، https://www.omrandirasat.org/

Endnotes

Endnotes
1 أليمار لاذقاني، الإضراب يشل شركة إسمنت طرطوس ويفتك بأمين حزب البعث، موقع عربي21، /25/2/2015/،  https://arabi21.com/story/812838
2 أليمار لاذقاني، رجل أعمال سوري يبدأ في السيطرة على قطاع النقل في طرطوس… والنظام يعتقل معارضيه، جريدة القدس العربي، /7/6/2015/، http://www.alquds.co.uk/?p=275528
3 أليمار لاذقاني، إضراب سائقي السرفيسات في طرطوس، ليفانت نيوز،، تاريخ النشر: 26/10/2022/، https://thelevantnews.com/
4 موقع روسيا اليوم، احتجاجات على تلوث المياه في بلدة يحمور ومحافظ طرطوس يطرح الحلول، 15/8/2021/، https://arabic.rt.com/middle_east/ /
5 القدس العربي، تربية الماشية ثروة أهل الساحل السوري الضائعة، أليمار لاذقاني، 7/5/ 2015 http://www.alquds.co.uk/?p=338213
6 أجرت القوات الروسيّة صفقات عديدة مع مجموعات مسلحة في مناطق نزاع مختلفة في سوريا أسفر بعضها عن انضمام مجموعات منها إلى الفيلق الخامس الروسي في سوريا كمجموعة أحمد العودة في درعا. انطر الرابط التالي: https://www.facebook.com/dw.sulta5/videos/125536775965193/
7 أليمار لاذقاني، لا وطن ولا مستقبل: الشباب العلوي عصب حياة نظام الأسد، مبادرة الإصلاح العربي، 4/9/2020/،  https://www.arab-reform.net/ar/publication /
8 موقع فرنسا 24، حبوب الكبتاغون التي حوّلت سوريا إلى دولة مخدرات، 03/11/2022/ https://www.france24.com/ar/
9 أليمار لاذقاني، مقهى جبلة بسوريا... قمار ورهانات ومتاجرة بأحلام الفقراء، موقع عربي 21 16/2/2015/، https://arabi21.com/story/809835/

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.