في 27 تشرين الأول/أكتوبر من عام 2022، توصل صندوق النقد الدولي والقاهرة لاتفاقية حول حزمة قروض للمرة الرابعة من خلال "تسهيل الصندوق الممدد"، وقد حصلت الحكومة المصرية بموجب هذه الاتفاقية على 3 مليارات دولار، وذلك بعد خفض القيمة الأولية البالغة 12 مليار دولار نظراً لعدم اتفاق الطرفين على عدة شروط، مثل مطالبة صندوق النقد الدولي بتقليل الوجود الاقتصادي للحكومة والجيش. مع ذلك، فإن تقريراً أكثر تفصيلاً حول الصفقة نُشر في 10 كانون الثاني/يناير 2023، دحض الانطباع الأولي بأن الجيش مستثنى من إصلاحات صندوق النقد الدولي. بل ومما أثار دهشة كثيرين، أن مصر ستلتزم بإجراءات من شأنها تقليص دور الجيش في الاقتصاد، مثل خفض الامتيازات التجارية الممنوحة للشركات العسكرية المملوكة للدولة.
إضافة إلى الالتزام بهذه الإجراءات، اتخذت حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي في الآونة الأخيرة بعض الخطوات التي قد توحي بتحسنٍ طفيف في أوضاع حقوق الإنسان في مصر مع استئناف الاجتماعات مع المعارضة. مثلاً، في تشرين الأول/أكتوبر من عام 2021 أعلنت الحكومة أنها لن تمدد حالة الطوارئ السارية منذ نيسان/أبريل من عام 2017. وخلال هذه السنوات الأربعة، أدت حالة الطوارئ لزيادة وتيرة انتهاكات حقوق الإنسان بمنحها سلطات واسعة لقوات الأمن وحظرها التجمهر. أطلق السيسي أيضاً حواراً وطنياً مع المعارضة التي سوف ترسل توصياتها إلى الرئيس ليبت فيها ويقرر هل سيعتمدها أم سيرفضها. وأخيراً، أفرجت السلطات عن مئات المعتقلين السياسيين في الفترة التي سبقت المؤتمر السابع والعشرين للأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيّر المناخ. ولكن لا يزال هناك آلاف غيرهم من سجناء الرأي رهن الاحتجاز. وربما اعتُمد نهج إطلاق سراح السجناء خلال فترة الاستعداد للمؤتمر ليكون بمثابة استراتيجية مدروسة هدفها إخفاء أعداد المعتقلين الكبيرة للغاية في مصر والتستر على موجات الاعتقال الجديدة. ولهذا اتهم بعض النقاد السيسي بممارسة التمويه الأخضر وإطلاق إدعاءات بيئية كاذبة في البلاد وحجب سجلها السيئ في مجال حقوق الإنسان. لكن وعلى الرغم من هذه التطورات، فإن غياب التحسن الملموس يدعونا إلى التشكيك في النوايا الحقيقية للحكومة المصرية.
وفي ضوء ما تقدم، أصبح من الضروري على الحكومة تقديم المزيد من التنازلات إلى المجتمع الدولي للحصول على دفعات تمويلية جديدة من صندوق النقد الدولي بعد الصفقة الأخيرة. ويبدو أنه لا مفر من التدفقات النقدية الدولية الجديدة لتمكين الحكومة من التصدي لانخفاض قيمة عملتها الوطنية ووضع حد لأزمة الديون المتصاعدة وإصلاح ماليتها العامة التي تأثرت كثيراً بسبب جائحة كورونا (كوفيد-19) والحرب في أوكرانيا. ولمواجهة هذه التحديات، توجهت مصر مجدداً في الآونة الأخيرة إلى صندوق النقد الدولي واقترضت حوالي 3 مليارات دولار من خلال "تسهيل الصندوق الممدد"، وذلك للحفاظ على استقرار اقتصادها الكلي.
تبحث هذه الورقة النقدية في كيف أن النفوذ المالي لصندوق النقد الدولي - مصحوباً بالاحتياجات المالية لمصر - يمكن يؤدوا إلى استحداث فسحة ضيقة لتحقيق إصلاحات تدريجية من شأنها تحسين أساليب الحكم، مع إمكانية تطبيقها في الوقت ذاته ضمن معايير الحكم الاستبدادي في البلاد. ولمعالجة الأسباب الجذرية للنكبات الاقتصادية في مصر بشكل نهائي، يمكن لصندوق النقد الدولي أن يعتمد اشتراطات أكثر صرامة من خلال المطالبة باتخاذ إجراءات مشددة لمكافحة الفساد وتقليص الدور المهيمن للجيش في الاقتصاد.
أظهرت آخر صفقة - التي نُشرت تفاصيلها في 10 كانون الثاني/يناير من عام 2023 - أن هذه الإصلاحات ممكنة، لكن التحدي يكمن في تنفيذها. من المؤكد أن هذا احتمال بعيد، لأن صندوق النقد الدولي عادة ما يتجنب "الشروط السياسية" الصريحة كونها تتعارض مع اختصاصاته، لكن مع ذلك يمكن -بل وينبغي- السعي لتبني استراتيجية خفية وتدريجية لتحقيق هذا الغرض. من الضروري أيضاً الحد من الفساد وتقييد النفوذ العسكري في الاقتصاد لتجنب إهدار أموال دافعي الضرائب الدوليين وخفض اعتماد الاقتصاد المصري على الجهات الخارجية لمدة طويلة.
مشاكل مصر الاقتصادية وإدمانها التمويل الأجنبي
يشهد الاقتصاد المصري فترة متقلبة ويواجه مشاكل اقتصادية خطيرة. ففي أيلول/سبتمبر من عام 2022، سجل البنك المركزي معدل تضخم بلغ 15%. ثم ارتفع المعدل السنوي للتضخم العام من 31.2% في كانون الثاني/يناير إلى 40.3% في شباط/فبراير 2023. وزاد سعر صرف الدولار مقابل الجنيه من 15.7 في كانون الثاني/يناير 2022 إلى 29.8 في أواخر كانون الثاني/يناير 2023. ووصل عجز الموازنة السنوي في الآونة الأخيرة إلى 6.1%. وفي عام 2021، بلغت ديون مصر الخارجية ثلث الدين الإجمالي، مع زيادة من 39.62 مليار دولار في عام 2014 إلى 160 مليار دولار حالياً (39.6% من الناتج المحلي الإجمالي في مصر)، ويتوقع أن تصل إلى 260 مليار دولار في عام 2024.
والأهم من ذلك، هو أن الخبراء والفاعلين الاقتصاديين غير متأكدين كثيراً من قدرة مصر على تسديد ديونها، إذ إنها اقترضتها بأعلى سعر فائدة في العالم. تُمول ديون مصر الخارجية من خلال مزيج من مبيعات السندات في الأسواق المالية الدولية و الاقتراض من صندوق النقد الدولي (مصر هي ثاني أكبر المقترضين من صندوق النقد الدولي بعد الأرجنتين) وقروض واستثمارات من دول الخليج (التي وعدت مصر باستثمارات تبلغ قيمتها 22 مليار دولار خلال السنوات القادمة). الوضع المالي العام يشير إلى أنه من المرجح أن تُستخدم القروض الجديدة في تسديد الديون والفوائد والرسوم الإضافية الحالية، بدلاً من تخفيف عجز الموازنة ودعم الإنفاق الاجتماعي أو حتى الإنفاق العام.
القروض والشروط والجهود المبذولة سابقاً
تساعد مؤسسات التمويل الدولية - مثل صندوق النقد الدولي - في تأمين استقرار الاقتصاد الكلي وتدعيم النظام النقدي وتعزيز التكامل المالي العالمي. لكن وعلى الرغم من عدم قدرتها على التخفيف من حدة الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية والتفاوتات الاجتماعية، أظهرت برامج صندوق النقد الدولي السابقة أن النفوذ المالي لمؤسسات التمويل الدولية يمكن أن يؤدي إلى خطوات تدريجية من شأنها تحسين أساليب الحكم أو إحداث آثار سياسية إيجابية، وإن حدث ذلك دون قصد في بعض الحالات. بوجه عام، تؤكد الأبحاث أن النفوذ المالي لمؤسسات التمويل الدولية يمكنه ولو "بقدر ضئيل" الضغط من أجل إحداث إصلاحات سياسية في الدول الاستبدادية إذا كانت الحكومة بحاجة إلى تمويل أجنبي لتأمين بقائها. ويعد رئيس جمهورية الكونغو ساسو نغيسو مثالاً على هذه القدرة وصلاحيتها؛ فقد أوقف انتهاكات حقوق الإنسان، وسمح بإجراء عمليات تدقيق ومراجعة لحسابات شركة النفط الوطنية المملوكة للدولة من أجل الحصول على تمويل من صناديق أجنبية، وهو ما يعد مثالاً على العلاقة المتشابكة بين النخب السياسية والتجارية في الفترة بين عامي 2006 و2010. كان الهدف من تلك الإصلاحات هو جعل الكونغو مؤهلة للاستفادة من مبادرة تخفيف أعباء الديون التي وضعت بالتعاون بين صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. لكن الدولة رجعت عن بعض هذه الإجراءات بمجرد انتهاء الأزمة المالية. في جميع الأحوال، عندما تصبح القروض الأجنبية أساسية ولا غنى عنها بالنسبة للحكومة المستفيدة، يمكن أن يطالب المستثمرون والمانحون الأجانب بإجراءات إصلاحية خارج نطاق الاقتصاد الكلي، مثل إجراء إصلاحات لتحسين مستوى المساءلة والحد من الفساد وسيطرة النخبة. وهكذا، فإن هذا الشكل من المشروطية قد يحقق تحسناً محدوداً في الأنظمة السياسية والاقتصادية بالدول العربية عندما لا يمكن إحداث تغيير سياسي هيكلي إلا على المدى البعيد.
مع ذلك، تضمنت القروض الأولى التي حصلت عليها حكومة السيسي من صندوق النقد الدولي متطلبات معتادة، مثل تحرير سعر الصرف وخفض الإنفاق الحكومي دون أيّة توجيهات أو اشتراطات على كيفية إنفاق الأموال بما يعود بالنفع على الاقتصاد أو الفئات الفقيرة والمهمشة. وكان لهذا الاتفاق نتائج متباينة فيما يتعلق بالأداء الاقتصادي. فمن ناحية، ساعد في تحقيق نمو مطرد في الناتج المحلي الإجمالي بعد عام 2016. ومن ناحية أخرى، تدهور أداء الاقتصاد المصري في العديد من المؤشرات الأخرى، مثل الإدماج الاقتصادي ومعدل مشاركة القوى العاملة وعدم المساواة. وبشكل عام، لم يجرِ التصدي للتحديات الجذرية المتأصلة في الجهود الاقتصادية في مصر. وظلت مشاكل مثل الفساد والاستحواذ السياسي وتقاسم السلطة والدور المهيمن للجيش في الاقتصاد تُعيق الأداء الاقتصادي في مصر وتحد من فعالية حزم صندوق النقد الدولي.
فرص أمام وفد صندوق النقد الدولي خلال المفاوضات في عام 2023
تنص اتفاقية صندوق النقد الدولي على قرض إضافي قدره 6 مليارات دولار من عدة مانحين خلال عام 2023، إضافة إلى 3 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي تُصرف على دفعات. يتيح هذا فرصةً لتضمين إصلاحات تتعلق بتحسين أساليب الحكم ومكافحة الفساد في اشتراطات القرض، وهي خطوة إضافية في محاولة للوصول إلى جذور المشاكل الاقتصادية في مصر. علماً أن الأوضاع الحالية مناسبة لتطبيق مثل هذه الاستراتيجية لأن اتفاقية صندوق النقد الدولي الأخيرة لن تكون كافية على الأرجح. فمن المتوقع أن يواصل الجنيه انخفاضه وأن تستمر الأسعار في الارتفاع، وهو ما ينتج عنه مشكلة في ميزان المدفوعات في ظل اعتماد الاقتصاد المصري على الاستيراد، وذلك من جملة مشاكل أخرى. ونتيجة لذلك، قامت مؤسسة فيتش الدولية للتصنيف الائتماني بتعديل النظرة المستقبلية لمصر من مستقرة إلى سلبية، على الرغم من صفقة صندوق النقد الدولي. ولهذا ستواصل مصر اعتمادها على صندوق النقد الدولي، وقد تحتاج إلى قرض جديد منه.
يمكن للحكومات الغربية التي تتمتع بسلطة كبيرة في اتخاذ القرارات داخل صندوق النقد الدولي - بفضل نظامه القائم على حصص البلدان الأعضاء - أن تطالب بعدة إصلاحات على هذا الأساس. يتمثل الإصلاح الأول في تعزيز تدابير مكافحة الفساد والمطالبة بمزيد من الشفافية لرفع كفاءة الإنفاق العام. وقد اتُخذت بالفعل خطوتان رئيسيتان في هذا الصدد؛ ففي عام 2020، أجبر صندوق النقد الدولي القاهرة على نشر بيانات جميع نفقاتها المتعلقة بجائحة كورونا وخطط المشتريات والعقود العامة التي منحتها الحكومة. علاوة على ذلك، وعدت مصر بإدراج الشركات العسكرية المملوكة للدولة في قائمة الهيئات الحكومية التي تنشر تقاريرَ حول إنفاقها السنوي، وقد جاء ذلك في إطار الصفقة الأخيرة. وخلال الجولة التالية، يمكن لصندوق النقد الدولي أن ينتقل بهذه الخطوة لمسافة أبعد ويطالب بالشفافية الكاملة حول كيفية إنفاق وتوزيع أموال القروض، وبتصميم آليات محاسبة، وكذلك تخصيص هيئات رقابية لضمان فعالية الإنفاق. وعلى أرض الواقع، قد يعني هذا تأسيس سجلات عامة على الإنترنت لتتبع عمليات الإنفاق من لحظة تحويلها إلى لحظة صرفها. قد يكون هذا مفيداً أيضاً في مواجهة أيّ اعتراضات عسكرية أو سياسية تجاه تنفيذ إصلاحات صندوق النقد الدولي.
أما الخطوة الثانية في جدول الأعمال، فهي المطالبة بإصلاحات محدودة في هيكل الاقتصاد العسكري في مصر بهدف تخفيف قبضة الجيش المحكمة على الاقتصاد الوطني. ومن منظور صندوق النقد الدولي، يعد هذا تدخلاً مشروعاً لأن مشاركة الجيش الواسعة في الاقتصاد ربما تقوض من جدوى وفعالية برامج الإصلاح الخاصة بصندوق النقد الدولي. ومع أن صندوق النقد الدولي عادة ما يتجاهل المكانة المتميزة للجيش في الاقتصاد المصري، فإن مراجعة برنامج القرض التي أصدرها الصندوق في تموز/يوليو 2021 كانت تعني ضمنياً أن الشركات العسكرية المملوكة للدولة يجب أن تندرج ضمن إصلاحات القطاع العام. وتماشياً مع هذه المطالب، وافقت الحكومة المصرية مؤخراً على إدخال تلك الشركات في نطاق إصلاحات صندوق النقد الدولي، وألغت إعفاءات الشركات التابعة للجيش من الضرائب والخضوع للوائح المالية وعمليات المراقبة. ونأمل أن تحقق هذه الإصلاحات توازناً أكثر إنصافاً بين القطاعين العام والخاص وأن تساهم أيضاً في تقليص الدور المهيمن للجيش في الاقتصاد المصري ولو بشكل طفيف. وبما أن المؤسسة العسكرية ستعارض على الأغلب تلك المطالب، فإن من الضروري أن يصر المانحون وصندوق النقد الدولي على موقفهم بحزم، وكذلك رصد التنفيذ بدقة. ولتحقيق ذلك، يمكن أن يطالب الصندوق بتعيين مراقب عام وفرض شرط يحظر أيّ مزج بين السياسات النقدية (الخاصة بالبنك المركزي) والمالية (الخاصة بالحكومة) في خضم أزمة العملة الحالية لتفادي ما حدث في لبنان.
هذان المحوران ليسا سوى مجرد مثالين ضمن مجموعة من الخيارات التي تتوافق مع صلاحيات صندوق النقد الدولي، والقابلة للتطبيق في سياق الاقتصاد السياسي المصري الذي يهيمن عليه الجيش. ونظراً لهشاشة الوضع المالي في مصر واعتماد الاقتصاد على القروض الأجنبية، يجب على صندوق النقد الدولي والدول المانحة استغلال حقيقة أن مصر تحتاج إلى دعمهم المالي أكثر مما يفترض عادةً. لهذا، خلال الجولة التالية من المفاوضات، يجب على صندوق النقد الدولي أن يتمسك بالاستراتيجية الأكثر حزماً التي اتبعها خلال المفاوضات الأخيرة. إذ يتيح الضعف المالي المتزايد لمصر فرصةً للضغط من أجل فرض مزيد من الإصلاحات الهيكلية التي تتماشى مع المعايير الاستبدادية التقييدية الخاصة بالهيكل السياسي في مصر دون تقويض حكم البلاد بشكل بالغ أو المساس بسيادتها.
ملاحظة: تم نشر نسخة أولية من هذه الورقة على موقع معهد معهد كلينغندايل (Clingendael Institute)
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.