ما وراء السياسات: إعادة التفكير في المساعدات الإنسانية في غزة في ظل التفاوت وانعدام التكافؤ

شاحنات تعود إلى مصر بعد تفريغ مساعداتها الإنسانية في غزة عبر معبر رفح الحدودي في مصر - 30 تشرين الثاني/نوفمبر 2023. (c) فيردي بيات - وكالة الأناضول 

ملخص

تفحص هذه الدراسة بعمق المجال متعدد الأبعاد للمساعدات الإنسانية المقدمة إلى غزة؛ وتسلط الضوء على كيفية تحكم السياسة بمصارف تلك المساعدات، مقارنة بالمساعدات التي تتلقاها إسرائيل وغيرها من أشكال المساعدات الأجنبية، مثل المساعدات العسكرية. كما تركز هذه الورقة على الفروق في المساعدات الإنسانية المقدمة إلى غزة، والطابع السياسي الذي يشكلها، وتوصي بإصلاح نماذج تقديم المساعدات، وتدعو إلى روح إنسانية تتجاوز الأهداف السياسية، وتعالج فعلياً الاحتياجات الملحة للسكان المتضررين. ويرى التقرير أنه مع استمرار الحرب على غزة، ينبغي أيضاً تصميم برامج المساعدات بحيث تُدمج بسهولة في أي نظام مستقبلي للحماية الاجتماعية في مرحلة ما بعد الصراع، لتغطي جميع سكان غزة، مع الأخذ في الاعتبار نطاق وحجم الأضرار الاجتماعية والاقتصادية التي حدثت منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023.

اقرأ المزيد

مقدمة

في 7 تشرين الأول /أكتوبر 2023، بدأت حماس عملية عسكرية في إسرائيل في قطاع غزة، وتمثل رد الفعل الإسرائيلي في عملية عسكرية أغلقت القطاع، وقطعت المياه والكهرباء والوقود والغذاء وغيرها من الضروريات الأساسية، مما أوجد أزمة إنسانية غير مسبوقة في القطاع. وإن هذه الأزمة هي الأولى من نوعها، فمع منع إسرائيل الوصول إلى هذه الاحتياجات الأساسية، فإنها تشن في الوقت نفسه عملية عسكرية بها مئات من الهجمات الجوية والبحرية والبرية، وهو ما أسفر عن مقتل أكثر من 11000 شخص، وإصابة أكثر من 20000 خلال خمسة أسابيع. بالإضافة إلى ذلك، أدى تهجير أكثر من مليون فلسطيني من مدينة غزة والمناطق الشمالية إلى جنوب غزة إلى تفاقم الأزمة الإنسانية، مع تزايد ندرة الغذاء والمياه والدواء. واستجابة للأزمة المتصاعدة، حذرت الأمم المتحدة ووكالاتها من عواقب كارثية جراء الحصار، ودعت إلى وقف فوري لإطلاق النار وفتح معبر رفح مع مصر للسماح بدخول المساعدات الضرورية والوقود، إلا أن هذه الدعوات قوبلت بالرفض من إسرائيل. وبعد مرور 60 يوماً؛ سمحت إسرائيل لحوالي 3097 شاحنة بالدخول إلى جنوب غزة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، في حين كانت غزة تحتاج فيما سبق من أيام إلى 500 شاحنة يومياً، حتى أثناء الحصار الجزئي.1أوتشا. 2023. "الأعمال العدائية في قطاع غزة وإسرائيل - الأثر المبلغ عنه | اليوم 60." مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية - الأرض الفلسطينية المحتلة. 2023. http://www.ochaopt.org/ar

منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، منعت إسرائيل دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، وسمحت فقط بدخول عشرات الشاحنات يومياً بالتنسيق مع الأمم المتحدة. وبحلول اليوم الخامس والثلاثين من الهجمات، لم يُسمح إلا لعدد 861 شاحنة فقط بالدخول إلى قطاع غزة، وهو رقم ضئيل مقارنة بحاجة القطاع إلى 500 شاحنة يومياً. وعلى صعيد الأمن الغذائي؛ من المتوقع أن يستمر مخزون السوق من القمح لمدة 12 يوماً، في حين نفد مخزون الزيوت النباتية والأرز والسكر. وأصبحت الطاحونة الوحيدة القابلة للعمل في قطاع غزة متوقفة بسبب انقطاع التيار الكهربائي. وبحسب الأمم المتحدة، يجب على الشخص الذي يعيش في جنوب قطاع غزة الانتظار ما بين أربع إلى ست ساعات للحصول على نصف حصة الخبز الأساسية؛ حيث لا توجد مخابز عاملة في مدينة غزة وشمالها. أما بالنسبة للفواكه والخضروات، فلا توجد فواكه، ولا يتوفر سوى القليل النادر من الخضروات التي تُزرع في المنزل. كما انخفض استهلاك المياه الآن بنسبة 90% مقارنة بالفترة التي سبقت 7 تشرين الأول/أكتوبر.

على صعيد آخر؛ تلقت إسرائيل المساعدات الغربية بأشكال مختلفة، بما في ذلك الدعم الاقتصادي والعسكري. ففي الأيام الأولى للصراع، نشرت الولايات المتحدة سفناً حربية في البحر الأبيض المتوسط. وبناء على طلب إسرائيل، زودتها الولايات المتحدة بالذخائر والصواريخ المسيّرة. وفي الأسبوع الثالث من شهر تشرين الأول/أكتوبر، وافق البيت الأبيض على حزمة مساعدات عسكرية بقيمة ملياري دولار لإسرائيل. ثم في 20 تشرين الأول/أكتوبر، طلب الرئيس بايدن من الكونجرس الموافقة على حزمة مساعدات عسكرية بقيمة 14 مليار دولار.2VOA. “Biden to Push for Ukraine, Israel Military Aid.” Voice of America. 15 October 2023. https://www.voanews.com/a/biden-to-push-for-ukraine-israel-military-aid/7311884.html علاوة على ذلك، زودت الولايات المتحدة إسرائيل بصواريخ وقنابل وذخيرة تقدر قيمتها بمئات الملايين من الدولارات. ومن ناحية أخرى، أعلنت ألمانيا دعمها من خلال تقديم المساعدة العسكرية ووافقت على تصدير أسلحة عسكرية إلى إسرائيل بقيمة 303 ملايين يورو.3AP. “Germany Offers Israel Military Help and Promises to Crack Down at Home on Support for Hamas.” AP News. 12 October 2023. https://apnews.com/article/germany-scholz-israel-aid-hamas-b38a3cf34895fbfc0c966bb27413886f

وفي ظل الظروف الصعبة والتدهور الذي يهدد معيشة سكان غزة، فمن الأهمية بمكان إعادة تقييم آليات تقديم المساعدات الإنسانية الدولية وفعاليتها. تفترض هذه الورقة أن الجهود الإنسانية يجب تطبيقها على مستوى عالمي، وتخطيطها بشكل استراتيجي لضمان أن تكون التدخلات كبيرة وليست سطحية، فضلاً عن كونها فعالة ومتكاملة. يمكن للمرحلة التأسيسية لهذه المساعدة الإنسانية في سياق هذا الصراع أن تسفر عن خطة شاملة للحماية الاجتماعية، يمكنها أن تستمر بعد انتهاء الصراع. علاوة على ذلك، تؤكد الدراسة أن تسييس المساعدات لا يؤدي إلى تفاقم معاناة المدنيين فحسب، بل يتلاعب أيضاً بالمساعدات ويستعملها أداةً لإحداث أضرار دائمة وأعمق؛ سواء على المستوى الإنساني أم الاجتماعي والاقتصادي. ومن الضروري أن ندرك أن المساعدات الإنسانية يجب أن تُوزع بشكل حيادي وفعال لمنع تفاقم الوضع المتأزم بالفعل.

الحصار على غزة وتداعياته

قبل الهجوم العسكري الإسرائيلي الحالي، كانت غزة تحت حصار كامل منذ عام 2006، وتحت حصار جزئي منذ أوائل التسعينيات. لقد عانى قطاع غزة من شكل فريد من أشكال الاحتلال؛ حيث لم يكن الجيش الإسرائيلي متواجداً فعلياً على الأرض في غزة للسيطرة وفرض سياساته، كما كان عليه الحال في الفترة من عام 1967 حتى عام 1993. ففي عام 2005، أزالت إسرائيل نقاط التفتيش والمستوطنات من غزة داخل القطاع، لكنها حافظت على سيطرتها على الحدود. ورغم أن السلطة الفلسطينية كانت تسيطر على تقديم الخدمات - مثل الحماية الاجتماعية - من خلال وزارة الشؤون الاجتماعية؛ فإن حياة جميع سكان غزة كانت مقيدة بشكل دائم بسلطة الاحتلال الإسرائيلي الذي يمارس هيمنته عن بُعد. لم يهدف الحصار المفروض على غزة إلى محاصرة حماس فحسب، بل يسعى أيضاً إلى عزل وتحييد سكان غزة عن الاقتصاد العالمي، بما في ذلك تقييد حركتهم وحراكهم الاجتماعي. ولذلك، يجب أن يُفهم الحصار المفروض على غزة باعتباره شكلاً متميزاً من أشكال القمع الشديد والسيطرة على المجتمع والاقتصاد والسياسة والخدمات. وقد حُرم سكان غزة بالفعل من الاحتياجات الأساسية للبقاء على قيد الحياة، في حين أن هناك حاجة ماسة إلى الحماية الاجتماعية والمساعدة لإبقاء السكان على هامش الحياة.

وقد كان لهذا الحصار الطويل على غزة عواقب عميقة ومتعددة الأوجه؛ فقد أدى إلى تدهور اقتصادي، خاصة بسبب تراجع النشاط التجاري وتقييد الحركة، وهو ما أدى إلى ارتفاع مستويات البطالة وفقدان فرص كسب العيش. وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، بلغ معدل البطالة في غزة عام 2022: 46.6%، وقد كانت تلك النسبة أعلى بكثير بين الشباب.4AP. “Germany Offers Israel Military Help and Promises to Crack Down at Home on Support for Hamas.” AP News. 12 October 2023. https://apnews.com/article/germany-scholz-israel-aid-hamas-b38a3cf34895fbfc0c966bb27413886f كما أثر الحصار على الأمن الغذائي وأدى إلى سوء التغذية؛ فقد أدت القيود المفروضة على الواردات إلى نقص الغذاء وارتفاع الأسعار، مما جعل من الصعب على العديد من السكان الحصول على التغذية الكافية. وأدى هذا الوضع إلى ارتفاع معدلات سوء التغذية، خاصة بين الأطفال. وفي عام 2008، قام الجيش الإسرائيلي - بالتعاون مع معاهد إسرائيلية مختلفة - بحساب الاحتياجات اليومية من السعرات الحرارية لسكان غزة، ولم يسمح إلا بالحد الأدنى الضروري للبقاء على قيد الحياة.

كما أثر الحصار على نظام الرعاية الصحية، وخاصة على الوصول إلى الرعاية الصحية؛ فقد أدى نقص الإمدادات والمعدات الطبية والأدوية الأساسية - فضلاً عن القيود المفروضة على الحركة والبنية التحتية المتضررة - إلى صعوبة حصول سكان غزة على الرعاية الصحية الكافية. وفي أيلول/سبتمبر 2023، أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية أن "المستودعات المركزية خالية تماماً من المستلزمات الطبية اللازمة لخدمات غسيل الكلى، بما في ذلك مرشحات الدم والقناني وأنابيب الدم.5Palestine Chronicle (blog). “‘Acute Shortage of Medical Supplies’ Put Lives of Gaza Kidney Patients in Danger.” 16 September 2023. https://t.ly/JAgN8 كما أدى الحصار إلى تفاقم ندرة المياه ومشاكل الصرف الصحي؛ فمع محدودية فرص الحصول على المياه النظيفة وغياب مرافق الصرف الصحي المناسبة، واجه السكان مخاطر متزايدة للإصابة بالأمراض المنقولة بالمياه. بالإضافة إلى ذلك، أدت الهجمات المتكررة على غزة (2008-2009، 2012، 2014، 2021، 2022) والقيود المفروضة على واردات مواد البناء في ظل الحصار إلى تدمير واسع النطاق للمنازل والبنية التحتية، مما خلق أزمة سكن مزمنة وعدم كفاية المرافق العامة. علاوة على ذلك، كان للحصار تأثير ضار بشكل خاص على الشباب في غزة، مما أثر على تعليمهم وصحتهم ومستقبلهم.

لا تمنع إسرائيل دخول المساعدات الإنسانية والإمدادات الطبية فحسب، بل تحظر أيضاً دخول العشرات من أنواع معدات الطوارئ. وقد أضعف هذا الحظر بشدة قدرات المؤسسات الفلسطينية - بما فيها البلديات المحلية - على الاستجابة بفعالية للحرب أو الكوارث الطبيعية. وتسلط الهجمات الأخيرة على غزة الضوء على هذه القضية، حيث لا يزال الآلاف محاصرين تحت الأنقاض دون توفر أي وسيلة لإنقاذهم.

وعلى مدى السنوات القليلة الماضية؛ قامت العديد من منظمات الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية بإجراء تقييمات للاحتياجات في قطاع غزة، واستكشاف احتياجات السكان وآليات الدعم المختلفة. كما حاولت هذه التنظيمات التنبؤ بتبعات العمليات العسكرية وسط تصعيدات في مناسبات سابقة، مثل ما حدث في الأعوام 2012 و2014 و2008/2009. وجرى تنسيق تقييمات شاملة لاحتياجات السكان مع السلطة الفلسطينية في رام الله، وحكومة الأمر الواقع في قطاع غزة. لكن هذه التقييمات لم تتوقع طبيعة الحرب الإسرائيلية بالحجم الذي شهدناه في تشرين الأول/أكتوبر 2023؛ حيث طُلب من السكان الإخلاء، وتعرضت مدينة غزة لقصف مكثف.

التسييس الضار للمساعدات المقدمة إلى غزة

برزت التدخلات الإنسانية في العقود القليلة الماضية باعتبارها عنصراً حاسماً في معالجة الأزمات والصراعات. وهي تظهر غالباً باعتبارها جانباً مهيمناً في المشاركة العالمية للدول الغربية؛ وتخدم مساعي إظهار التضامن، أو ممارسة القوة الناعمة، أو تحقيق أهداف سياسية.6Cottey, A. (2008). “Beyond Humanitarian Intervention: The New Politics of Peacekeeping and Intervention”. Contemporary Politics, 14(4), 429-446. وفي سياق الصراعات والحروب، تكاد تكون الممرات الإنسانية، والمساعدات، والتدخلات إلى حد ما، موجودة في كل مكان تقريباً. وقد رسخت العديد من المنظمات الدولية غير الحكومية - إلى جانب وكالات الأمم المتحدة - نفسها باعتبارها كيانات تقدم المساعدة الإنسانية بموجب تفويض عالمي، وتتميز برؤاها وتطلعاتها الإنسانية، وتهدف إلى حماية المدنيين في الأوقات الصعبة. وتتمتع هذه المنظمات إما بتفويض من الحكومات أو تعمل كمنظمات دينية أو تضامنية. كما تقوم بعض الحكومات بتفويض هذه المهام إلى وكالات شبه حكومية - مثل المجلس النرويجي للاجئين – وهو ما يثمر في النهاية عن تطعيم السياسة بالاعتبارات الأخلاقية. ويعمل هذا النهج أيضاً بمنزلة استراتيجية لتجنب التعامل مع المنظمات والحكومات التي لا تتماشى مع المصالح الغربية.

فعلى سبيل المثال؛ واجهت حماس - باعتبارها الإدارة الفعلية في غزة - مقاطعة من الدول الغربية. ونتيجة لذلك، تدخلت المنظمات شبه الحكومية لتقديم الخدمات وتنفيذ التدخلات وتقديم المساعدات الإنسانية. وفي هذا السياق، يكون هناك فصل واضح بين السياسة والتدخلات الإنسانية. وكما يؤكد الرئيس السابق لمنظمة أطباء بلا حدود، فإن "العمل الإنساني ليس قضية سياسية، ويجب أن يظل منفصلاً عن المناورات السياسية".7Fassin, Didier. 2007. “Humanitarianism as a Politics of Life.” Public Culture 19 (3): 499–520. https://doi.org/10.1215/08992363-2007-007.

ومع ذلك، فإن الصراع في غزة والحصار الذي أعقبه يوضحان كيف يمكن للعمل الإنساني والسياسة أن يتقاربا أو أن تهيمن عليهما الأجندات السياسية. وفي هذا الصدد، لا تستطيع المنظمات الإنسانية الحكومية والحكومية الدولية وغير الحكومية - بما في ذلك مختلف وكالات الأمم المتحدة - تنفيذ المساعدات أو التدخلات بما يتجاوز الإرادة السياسية لبلدانها/الدول الأعضاء فيها أو الحصول على إذن من الحكومة الإسرائيلية.

غالباً ما تخضع المساعدات المقدمة إلى غزة لشروط صارمة، والتي قد تتضمن النص على عدم عمل منظمات الإغاثة مع بعض الجماعات المحلية أو الحكومات غير المتوافقة مع السياسات الغربية. ويمكن أن تحد هذه الشروط من فعالية الجهود الإنسانية، نظراً إلى أنها قد تقيد وصول المساعدات إلى فئات سكانية أو مناطق معينة. والادعاء بأن هذه الشروط تهدف إلى ضمان عدم تحول المساعدات عن غرضها الإنساني عادة ما يستهدف الجماعات أو المنظمات المشتبه في انتمائها إلى حماس.

وفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، تلقى الفلسطينيون حوالي 37.2 مليار دولار من المساعدات التنموية (بالقيمة الثابتة للدولار) بين عامي 1994 و2017. ويشمل ذلك الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد وُجهت هذه الأموال إلى السلطة الفلسطينية والمنظمات غير الحكومية العاملة في الضفة الغربية وقطاع غزة بوصفها جزءاً من عملية السلام، بما في ذلك مشاريع إرساء الديمقراطية وحقوق الإنسان، أو إلى وكالات الأمم المتحدة مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وبالنظر إلى هذه الفترة الزمنية التي تصل إلى 13 عاماً، فإن هذه الأموال لا تلبي احتياجات السكان؛ بل كانت تنازلية من القمة إلى القاعدة ومشروطة إلى حد ما.

على النقيض من ذلك، تتمحور المساعدات المقدمة إلى إسرائيل من البلدان الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، بشكل رئيسي حول الجانب العسكري. وهذا يشمل تمويل أنظمة الدفاع والمعدات والتكنولوجيا العسكرية. فقد قدمت الولايات المتحدة مساعدات عسكرية كبيرة لإسرائيل، غالباً على شكل منح يمكن لإسرائيل إنفاقها على المعدات والخدمات العسكرية الأميركية. على سبيل المثال، تلقت إسرائيل بين عامي 1951 و2022 مساعدات عسكرية أميركية بقيمة 225.2 مليار دولار، بعد تعديلها وفقًا للتضخم، وهو ما يُمثل تقريباً 71% من إجمالي مساعداتها من جميع المصادر. ومنذ عام 2000، تمول أكثر من 86% من المساعدات السنوية الأميركية لإسرائيل الجهود العسكرية.8Jillian, S (2023). “Explanation of U.S. support for Israel”. Beacon College Blog. 16 December 2023. https://shorturl.at/wyOY4 ومنذ الـ 7 من تشرين الأول/أكتوبر، وافقت الولايات المتحدة على تقديم أكثر من 14 مليار دولار في شكل مساعدات عسكرية إلى إسرائيل. وفي الوقت نفسه، أعلن رئيس الوكالة الأميركية للتنمية الدولية عن حزمة مساعدة بقيمة 21 مليون دولار، تتضمن مستلزمات النظافة الشخصية والإمدادات الخاصة بالملاجئ، فضلاً عن الطعام للفلسطينيين في قطاع غزة. بالإضافة إلى ذلك، في 18 تشرين الأول/أكتوبر، أعلن بايدن عن تخصيص 100 مليون دولار مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة.9France24. 2023. “US Aid Chief Announces New Help on Visit Near Gaza Border.” 5 December 2023. https://t.ly/IpbcY إجمالاً، تمثل المساعدات الإنسانية الأميركية الموجهة إلى غزة ما يقارب 0.86% من المساعدات العسكرية المقدمة إلى إسرائيل في الفترة نفسها.

يتطلب إدراك تعقيد المساعدات الإنسانية المقدمة إلى غزة فهم الاحتياجات المباشرة لسكانها المتضررين والسياق السياسي الذي يشكل عملية إيصال هذه المساعدات. يمكن أن تؤثر الأجندات السياسية بشدة على مكان تقديم المساعدات وطريقة تقديمها. وفي حالة غزة، يؤثر الوضع السياسي، بما في ذلك الحصار والقيود التي تفرضها الحكومة الإسرائيلية، تأثيراً مباشراً على إيصال المساعدات الإنسانية ونطاقها بطريقة تفرض "حرباً باردة موازية" أخرى على القطاع وسكانه. وبالإضافة إلى ذلك، فإن تسييس المساعدات، المقدمة فقط إلى الفلسطينيين، يلحق الضرر بالسكان المدنيين.

 كافة أنحاء غزة، وجميع سكانها: إصلاح المساعدات بعد الصراع

مع استمرار الصراع في غزة، واحتمال حدوث مجاعة، تتسارع العواقب وتزداد سوءاً، حيث نزح أكثر من مليون شخص ودمرت آلاف المنازل. لقد أدى الدمار الذي لحق بالبنية التحتية إلى طمس الفوارق التي تميز بين سكان غزة الأصليين واللاجئين، حيث تأثر الجميع في المدينة تقريباً، مع تكبد خسائر في الدخل أو السكن أو وفاة مُعيل الأسرة. ولمعالجة هذه الأزمة بفعالية، سواء في ظل وجود أم غياب إدارة فلسطينية رسمية، يتعين على المنظمات التابعة للأمم المتحدة مثل الأونروا وبرنامج الأغذية العالمي والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين تنفيذ خطة استراتيجية طويلة المدى. وينبغي لهذه الخطة أن تربط بسلاسة بين المساعدات الإنسانية السريعة ورؤية شاملة ومستدامة للحماية الاجتماعية، بما يعود بالفائدة على جميع سكان غزة بغض النظر عن حالة تسجيلهم لدى الأونروا.

يبدو أن الوضع الحالي الذي تشهده المساعدات الإنسانية يواجه العديد من القيود. فقد واصلت الأمم المتحدة، بوصفها المنظمة الوحيدة العاملة والفعّالة، توزيع المساعدات باستخدام الأساليب والآليات نفسها التي تتبعها في الأماكن الأخرى، بما يتوافق مع الممارسات المتبعة قبل تشرين الأول/أكتوبر 2023. ففي بعض الحالات، وزعت الأمم المتحدة ألعاباً تشبه وجبات البرغر على الأطفال بدلاً من تقديم الطعام الفعلي لهم، كما كان الحال في خان يونس، مثلما نشر‎ محمد السميري، الذي يعيش لاجئاً في إحدى مدارس الأونروا.10Smiry, M (2023) [@MuhammadSmiry].7 December 2023. Available at: https://twitter.com/MuhammadSmiry/status/1732738132599091699 وعلاوة على ذلك، استهدفت إسرائيل منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر المخابز ومستودعات المنظمات الدولية، فضلاً عن مرافق تخزين القمح والدقيق وزيت الطهي.

يستلزم الوضع في غزة وضع خطة استراتيجية تتجاوز النُهج التقليدية، إذ يجب ألا يقتصر الهدف من تقديم المساعدات الإنسانية على التخفيف من سوء التغذية وضمان الرعاية الصحية فحسب، بل أن يشمل أيضاً خلق فرص لكسب العيش في الأجلين القصير والطويل لأهل غزة. ويضيف الجمود السياسي ونوايا إسرائيل غير المحددة تجاه غزة مزيد من التعقيد، مما يجعل الأساليب التقليدية للإغاثة غير كافية. وعلى عكس الممارسات الإنسانية المعتادة، التي تعطي الأولوية لكفاءة توزيع المساعدات والموارد، يستدعي سيناريو غزة، الذي يتسم بندرة الموارد والاحتياجات الواسعة، التحول نحو  التغطية الشاملة والكافية لجميع السكان. وهذا أمر حيوي، لا سيما في ظل تأثير الصراعات السابقة والاعتماد الطويل الأمد على المساعدات والحماية الاجتماعية التي كانت تركز تاريخياً على الكفاءة بدلاً من الفعالية والشمولية.

وينبغي للأمم المتحدة، بوصفها المنظمة الوحيدة التي تتمتع بالصلاحية، أن تعمل على إنشاء شبكة أو تحالف تنسيقي يضم مختلف المنظمات غير الحكومية الدولية، والسلطة الفلسطينية، والمنظمات والمجموعات المحلية العاملة غير الحكومية. ويكتسي هذا التنسيق أهمية حاسمة بالنظر إلى التدمير الواسع النطاق الذي تكبدته المرافق الصحية والتعليمية والهياكل الأساسية الاجتماعية. ويجب توزيع المساعدات الإنسانية بشكل منصف على جميع مناطق غزة. والتأكيد على الملكية المحلية للعمليات أمر حيوي للتقليل إلى أدنى حد من الضرر الطويل الأجل. ويشمل هذا النهج تعزيز وتوجيه الأموال لدعم المبادرات الشعبية المحلية، التي يمكن أن توفر مساحات للأنشطة الخيرية والاجتماعية الرسمية وغير الرسمية على حد سواء، فضلاً عن إنشاء مراكز للتنمية الاجتماعية ومرافق صحية تملكها وتشغلها جهات محلية لخدمة المحتاجين.

علاوةً على ذلك، من الضروري إدراك الأثر النفسي الذي يتركه الصراع على السكان، ولا سيما الأطفال والشباب. يجب أن تُدمج خدمات الصحة النفسية والدعم الاجتماعي في إطار المساعدات للتعامل مع الصدمات وتعزيز القدرة على التكيف، مستفيدين من القصص الناجحة والدروس المستفادة من النزاعات السابقة في المنطقة. وبالإضافة إلى ذلك، يجب أن تعطي الجهود الرامية إلى إعادة بناء البنية التحتية المادية الأولوية للتصاميم المستدامة والمرنة، مع مراعاة احتمالات حدوث نزاعات في المستقبل.11Durrance-Bagale, Anna, Omar Mukhtar Salman, Maryam Omar, Mervat Alhaffar, Muhammad Ferdaus, Sanjida Newaz, Sneha Krishnan, and Natasha Howard. 2020. “Lessons from Humanitarian Clusters to Strengthen Health System Responses to Mass Displacement in Low and Middle-Income Countries: A Scoping Review.” Journal of Migration and Health 1–2: 100028. https://doi.org/10.1016/j.jmh.2020.100028. ويساهم إشراك السكان المحليين في جهود إعادة الإعمار ليس فقط في توفير فرص العمل، بل يضمن أيضاً أن تكون عملية إعادة البناء متماشية مع احتياجات المجتمع والقيم الثقافية. بيد أن هذه المشاركة يجب ألا تتخذ شكل برامج سوق العمل القائمة مثل "النقد مقابل العمل"، ولكن على شكل "خطة إصلاح وإعادة بناء وتأهيل وإعادة إعمار" منظمة على الصعيد الوطني، والتي تكون على الأرجح قادرة على توفير فرص عمل لسكان غزة.

وإلى جانب المساعدات العاجلة، لا بد من بذل جهود متضافرة لتسهيل الحوار والسعي إلى حل طويل الأمد للصراع، مع الإقرار بأن التعافي الحقيقي في غزة لا يمكن أن يحدث في غياب بيئة سلمية ومستقرة. هذا النهج الشامل، الذي يجمع بين المساعدات الإنسانية العاجلة واستراتيجيات التنمية وبناء السلام الطويلة الأجل، ضروري لتحقيق الانتعاش والازدهار الدائمين لغزة وشعبها. بيد أنه لكي تنجح مثل هذه الرؤية، فإنها تتطلب الإرادة السياسية والدعم من المجتمع الدولي، وإنفاذ القوانين الدولية وأطُر حقوق الإنسان، وبذل جهود جادة من قبل السلطات المحلية.

خاتمة

تتمثل الفكرة الرئيسية في أن الاستراتيجية الإنسانية، التي هي في أفضل الأحوال استراتيجية سطحية، وفي أسوأ الأحوال متواطئة في مخطط سياسي أوسع نطاقاً يقوض حقوق الفلسطينيين في غزة وكرامتهم، لن تلبي احتياجات الفلسطينيين وستتحول بالأحرى إلى سلاح سياسي.

ثمة حاجة ماسة إلى تغيير النموذج الاستراتيجي للمساعدات الإنسانية خلال الأزمات وفي حالات ما بعد النزاعات، حتى وإن كانت حالة غزة فريدة من نوعها من عدة نواح، بدءاً من الحصار طويل الأمد قبل اندلاع الحرب بشكل كامل، والأزمة الإنسانية القائمة من قبل، والمأزق السياسي، وعدم فعالية المنظمات الدولية في القطاع وعجزها. وبالإضافة إلى ذلك، يتعين التصدي بشكل أساسي لعدم القدرة على منع تدمير البنية التحتية الضرورية لآليات تقديم المساعدات الإنسانية وضمان توفير الحماية الاجتماعية المناسبة للأطفال والنساء.

تتسم الأزمة الإنسانية الراهنة في قطاع غزة بتعدد جوانبها. أولاً، ثمة زيادة في عدد النازحين داخلياً الذين لم يسجلوا لدى الأونروا. وبالإضافة إلى ذلك، يزيد تدمير المرافق التعليمية والصحية، جنباً إلى جنب مع نقص الضروريات الأساسية مثل الطعام والماء، من تفاقم الوضع. وعلى الرغم من أن المساعدات الإنسانية الواسعة الانتشار والكافية غير متوفرة جزئياً في هذه المرحلة، وليس هناك تأكيد بشأن الوقت الذي يمكن فيه وصول هذه المساعدات إلى جميع سكان غزة، فمن الأهمية بمكان إعادة النظر في نموذج المساعدات الإنسانية وربطه بآلية للحماية الاجتماعية. يجب أن يتم ذلك بالتنسيق مع الأونروا والسلطة الفلسطينية، التي كانت لديها بنية تحتية تعمل جزئياً قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر.

ينطوي هذا النهج على ضرورة ربط جميع سكان غزة بمخطط للحماية الاجتماعية من خلال آلية عاجلة للمساعدات الإنسانية تكون مستدامة على المدى الطويل. يجب ألا توفر هذه الآلية الاحتياجات الأساسية مثل الطعام والماء فحسب، بل يجب أن توفر أيضاً المأوى والرعاية الصحية والتعليم والدعم النفسي طويل الأجل. ومن شأن أي برنامج للمساعدات الإنسانية يتخلف عن هذه الرؤية أن يؤدي إلى تفاقم الوضع على المدى الطويل لأهالي غزة وإلى مزيد من الخسائر في رأس المال البشري للقطاع. علاوةً على ذلك، من الضروري تنسيق جميع أنشطة وبرامج المساعدات الإنسانية للأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية لتفادي الازدواجية وتقاسم المسؤوليات برؤية استراتيجية.

يجب أن يكون ربط المساعدات الإنسانية برؤية للحماية الاجتماعية في قطاع غزة بمثابة استراتيجية سياسية ضرورية لتخفيف معاناة الفلسطينيين، لا سيما في خضم استمرار الاحتلال الإسرائيلي والمأزق المتمثل في التوصل إلى حل سياسي. وهذا الأمر ضروري بصفة خاصة نظراً إلى أن توقعات إقامة نظام شامل وعام للحماية الاجتماعية في غزة تبدو قاتمة للغاية، بالنظر إلى الظروف السابقة والراهنة. ولا تزال نتائج الحرب الإسرائيلية على غزة غير معروفة، وكذلك عواقبها.

 

Endnotes

Endnotes
1 أوتشا. 2023. "الأعمال العدائية في قطاع غزة وإسرائيل - الأثر المبلغ عنه | اليوم 60." مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية - الأرض الفلسطينية المحتلة. 2023. http://www.ochaopt.org/ar
2 VOA. “Biden to Push for Ukraine, Israel Military Aid.” Voice of America. 15 October 2023. https://www.voanews.com/a/biden-to-push-for-ukraine-israel-military-aid/7311884.html
3 AP. “Germany Offers Israel Military Help and Promises to Crack Down at Home on Support for Hamas.” AP News. 12 October 2023. https://apnews.com/article/germany-scholz-israel-aid-hamas-b38a3cf34895fbfc0c966bb27413886f
4 AP. “Germany Offers Israel Military Help and Promises to Crack Down at Home on Support for Hamas.” AP News. 12 October 2023. https://apnews.com/article/germany-scholz-israel-aid-hamas-b38a3cf34895fbfc0c966bb27413886f
5 Palestine Chronicle (blog). “‘Acute Shortage of Medical Supplies’ Put Lives of Gaza Kidney Patients in Danger.” 16 September 2023. https://t.ly/JAgN8
6 Cottey, A. (2008). “Beyond Humanitarian Intervention: The New Politics of Peacekeeping and Intervention”. Contemporary Politics, 14(4), 429-446.
7 Fassin, Didier. 2007. “Humanitarianism as a Politics of Life.” Public Culture 19 (3): 499–520. https://doi.org/10.1215/08992363-2007-007.
8 Jillian, S (2023). “Explanation of U.S. support for Israel”. Beacon College Blog. 16 December 2023. https://shorturl.at/wyOY4
9 France24. 2023. “US Aid Chief Announces New Help on Visit Near Gaza Border.” 5 December 2023. https://t.ly/IpbcY
10 Smiry, M (2023) [@MuhammadSmiry].7 December 2023. Available at: https://twitter.com/MuhammadSmiry/status/1732738132599091699
11 Durrance-Bagale, Anna, Omar Mukhtar Salman, Maryam Omar, Mervat Alhaffar, Muhammad Ferdaus, Sanjida Newaz, Sneha Krishnan, and Natasha Howard. 2020. “Lessons from Humanitarian Clusters to Strengthen Health System Responses to Mass Displacement in Low and Middle-Income Countries: A Scoping Review.” Journal of Migration and Health 1–2: 100028. https://doi.org/10.1016/j.jmh.2020.100028.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.