لماذا لن تحدث انتخابات في ليبيا؟

رأى العديد من الليبيين في اتفاقية 2021 المتعلقة بإجراء الانتخابات بمثابة الضوء الذي يلوح في نهاية النفق المظلم للحرب الأهلية، وعقدوا عليها آمالهم في إعادة ضبط الركود السياسي والأزمة القانونية. سجل أكثر من 2.5 مليون ليبي في قوائم التصويت، لينتهي بهم الأمر وهم يشاهدون عبر وسائل الإعلام من وثقوا فيهم لتنفيذ هذه الاتفاقية يفسدونها عن عمد. الآن، في الوقت الذي تمهد فيه ليبيا الطريق مرة أخرى نحو انتخابات مستقبلية، تطرح هذه الورقة ثلاثة أسباب وراء عدم إجراء الانتخابات في ليبيا.

احتج مئات الأشخاص للمطالبة بإجراء الانتخابات في البلاد على الفور وبانتهاء الفترة الانتقالية - طرابلس، ليبيا، 5 أذار/مارس 2022. ©حازم تركية/Anadolu Agency

كان هجوم عام 2019 بمثابة نقطة تحول للصراع الذي طال أمده في ليبيا. من ناحية ما، كانت الحملة العسكرية التي شنتها القوات المسلحة العربية الليبية (الواقعة في الشرق) ضد حكومة الوفاق الوطني (الواقعة في الغرب) – في جزء منها – استمرارًا لدوافع الحرب الأهلية الليبية. بيد أنه على مستوى آخر، كان هذا الهجوم على العاصمة يمثل انتزاعاً للسلطة مدعوماً دولياً، وحلقة أخرى من التنافسات بين الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية. وقد تسبب التدخل المفتوح للدول الإقليمية والأوروبية في دفع ألمانيا نحو أخذ زمام المبادرة وحشد جميع الأطراف المعنية للجلوس إلى طاولة المفاوضات في برلين في 19 كانون الثاني/يناير 2020. وخلُص المؤتمر – من بين أمور أخرى – إلى مناقشة وقف إطلاق النار، وحظر تداول الأسلحة، وإصلاح قطاع الأمن، والعودة إلى الممارسة السياسية. بينما وُقعت اتفاقية لوقف إطلاق النار، إلا أن هذا لم يستمر طويلاً؛ ففي الربع الأول من عام 2020، احتدم الصراع، وانتهى بهزيمة القوات المسلحة العربية الليبية في جنوب طرابلس. كما واجهت عملية برلين العديد من التحديات بسبب التهديدات الناجمة عن جائحة كوفيد-19.

وعقب مؤتمر برلين، نظمت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا ملتقى الحوار السياسي الليبي الذي اختُتم بالتصويت لحكومة الوحدة الوطنية بقيادة عبد الحميد الدبيبة. كان الغرض الوحيد لهذه الحكومة الانتقالية هو التحضير لانتخابات رئاسية وبرلمانية متزامنة في 24 كانون الأول/ديسمبر 2021. بيد أن هذه الانتخابات لم يكن لها أي أساس انتخابي أو دستوري ينظمها، ولذلك في 10 أيلول/سبتمبر 2021، سنّ عقيلة صالح - المتحدث باسم مجلس النواب - قانوناً انتخابياً يستند إلى قانون عام 2012. ولكن هذا القانون لم يخضع لعملية التصويت المطلوبة ولم يجرِ تعديله ليأخذ في اعتباره تسع سنوات من الحرب الأهلية. لقد كانت حكومة الوفاق الوطني في طرابلس منشغلة بتلميع صورتها والترويج لنفسها من خلال تقديم مشاريع تنموية لزيادة فرص العمل وجذب دعم الشباب. ورغم عدم الاستعداد للانتخابات، لم يتغير موعدها قط، ومن ثم، بفشل هذه الانتخابات مُنيت العملية برمتها بالفشل.

رأى العديد من الليبيين في اتفاقية 2021 المتعلقة بإجراء الانتخابات بمثابة الضوء الذي يلوح في نهاية النفق المظلم للحرب الأهلية، وعقدوا عليها آمالهم في إعادة ضبط الركود السياسي والأزمة القانونية. فعلى الرغم من أن الانتخابات ستنتج حكومة انتقالية أخرى إلا أنها ستضع حداً لتقسيم السلطات التنفيذية والتشريعية، وستبدأ عملية التعافي المؤسسي من ويلات الحرب. حظيت هذه النتائج بتأييد واسع، نظراً للضيق العام لدى الناس وعدم مشاركتهم في أي عمليات سياسية لأكثر من ثماني سنوات. سجل أكثر من 2.5 مليون ليبي في قوائم التصويت، لينتهي بهم الأمر وهم يشاهدون عبر وسائل الإعلام من وثقوا فيهم لتنفيذ هذه الاتفاقية يفسدونها عن عمد.

الآن، في الوقت الذي تمهد فيه ليبيا الطريق مرة أخرى نحو انتخابات مستقبلية، تطرح هذه الورقة ثلاثة أسباب وراء عدم إجراء الانتخابات في ليبيا.

انعدام الأسس القانونية والدستورية

بعد فشل انتخابات 24 كانون الأول/ديسمبر كما هو مخطط لها، أصدر مجلس النواب في طبرق مرسوماً في 10 شباط/فبراير 2022 يسمح بتعيين رئيس وزراء آخر لتشكيل حكومة جديدة. لتجد ليبيا نفسها مرة أخرى تحت إمرة حكومتين، لم ينتخب الليبيون أياً منهما، بل هما نتيجة جديدة للانحرافات المستمرة من السياسيين الفاسدين، الذين لا يرغبون في التخلي عن مناصبهم في السلطة. كان انعدام الأساس القانوني أحد العقبات الرئيسية في خريف عام 2021؛ وهو ما سمح بالتلاعب بالقواعد حتى يتمكن من الترشح للرئاسة أولئك الذين كان من الممكن استبعادهم من الترشح.

كان القانون الانتخابي الذي سنَّه عقيلة صالح - في الغالب – نسخة من قانون 20121كتب عقيلة قانوناً مشابهاً جداً لقانون الانتخابات لعام 2012. ورغم أنه لم يجتز التصويت في المجلس، إلا أن عقيلة أرسله إلى الممثل الخاص للأمين العام في بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا (UNSMIL) في رسالة بريد إلكتروني تفيد بأنه تمت الموافقة عليه.، مع تجاهل تسع سنوات من الحرب الأهلية، ودون أن يكون له أي صلة بنتائج ملتقى الحوار السياسي الليبي. ومع ذلك، صدّق عليه الممثل الخاص لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا في مجلس الأمن في أيلول/سبتمبر 2021، وقيل حينها إن البلاد على المسار الصحيح وأن الاستعدادات للانتخابات جارية كما خُطط لها في الموعد المحدد. تجاهلت هذه التوقعات المتفائلة أن الليبيين لديهم مشروع دستور مثير للجدل لم يتطرق إليه أي من السياسيين، كما تجاهلت حقيقة أن جميع الوثائق التشريعية معدة لاستبعاد وتهميش السكان الأصليين في ليبيا.

كان من المفترض أن تكون الانتخابات في ليبيا وسيلة نحو مرحلة التعافي بعد الحرب، وهو الأمر الذي يتطلب تشريعات قوية تستوعب سنوات الصراع، ومن شأنها أن تتلافى مخاطر الانتكاس وتأجيج مزيد من الصراعات. ولكن طالما أن خبراء القانون الدستوري ووسطاء النزاع لم يُعدّوا هذا الأساس المتين، فلا مفر من استمرار استخدام السياسيين لاحتمالية إقامة الانتخابات للحفاظ على مناصبهم، بينما يتداعى ما تبقى من هياكل الدولة.

في محاولة لمعالجة عدم وجود أساس دستوري وانتخابي للانتخابات، حشدت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا ممثلين من مجلس النواب والمجلس الرئاسي لصياغة هذه الوثائق القانونية في ربيع 2022. ومع ذلك، واصلت الحكومة في طرابلس إنفاقها غير المسؤول، واستمرت في الصراعات الداخلية، وتكذيب الأنباء المتكررة عن الفساد. في حزيران/يونيو 2022، فشلت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا مرة أخرى في سد فجوة الأساس الدستوري لعقد الانتخابات. في الشهر التالي، اتخذت حكومة الوحدة الوطنية أجرأ خطواتها حتى الآن وهي تغيير رئيس المؤسسة الوطنية للنفط، مصطفى صنع الله؛ وهو شخصية بارزة طوال سنوات الصراع الليبي، وظهر في صورة حارس وحامي قطاع النفط الليبي. في حين أن صنع الله - مثل معظم الرجال الذين يتمتعون بالسلطة في البلاد – تحوم حوله علامات استفهام كثيرة، فقد سلَّطت هذه الخطوة الضوء على اضطراب الدبيبة وتخبطه في سعيه للسيطرة على ليبيا والإمساك بزمام السلطة.

ضعف الثقة بالنخبة السياسية

إن ما بدأ باعتباره حقبة ترفع شعار إعادة الإعمار ومساعدة الشباب على الزواج والحصول على قروض، سرعان ما تحول إلى محاولات خبيثة وشرسة لإبقاء الوضع على ما هو عليه. أصدر الدبيبة قرارات بتمويل الجماعات المسلحة للانضمام إلى جهاز أمني جديد يسمى "دعم الانتخابات والدستور"، وبدأ في دفع المفتي - وهو زعيم ديني محافظ متعطش للسلطة - لدعم حكومته. من المفترض أن الدبيبة ليس لديه مشروع سياسي، ولم يكن له فعل ذلك. إن الدور الذي اضطلع به ووعد بالقيام به هو قيادة حكومة موحّدة تمهّد للانتخابات. ولكن بعد أشهر من الفشل المتعمد في أداء دوره، كانت القرارات والمراسيم التي اتخذها تهدف إلى منحه مزيد من السلطة، إذ كان من الواضح أنه يريد البقاء في منصبه، وإذا حدثت الانتخابات في يوم من الأيام، فسيكون من بين المرشحين.

اصطدمت هذه التحركات السياسية بعدة محاولات للحكومة الموازية لدخول طرابلس، في الوقت الذي غرقت فيه البلاد في وحل التضخم المرتفع، وانقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة، وتصاعد التوترات بين مختلف الجماعات المسلحة داخل طرابلس. هذه الظروف هي من بين الأسباب الرئيسية لنزول الشباب إلى الشوارع في البلاد، واستمرار الاحتجاجات لعدة أيام في مدن متعددة، ومنها طبرق، حيث أُحرق المبنى الذي كان يضم مجلس النواب. لم يكن يجمع بين هذه الاحتجاجات أي رابط سوى الشباب الذين يواجهون الظروف المعيشية الصعبة نفسها. ومع ذلك، بدا أن منظمي الاحتجاج في طرابلس "الحراك الشعبي" منسَّقين، كما حصلوا على تصاريح مختلفة ليتمكنوا من التظاهر. قبل عدة أشهر من تموز/يوليو، وفي زياراتي لطرابلس، كانت المحادثات مع الشباب تتلخص دائماً في النقاش حول التمرد ووضع حد لكل هذه الهياكل السياسية.

التهديد بالعنف

حاولت الأجهزة الأمنية قمع الاحتجاجات، مما أدى إلى تدخل الجماعات المسلحة، التي استخدمت العنف في نواحٍ مختلفة. في النهاية، لم يُسمح لهذا "الحراك الشعبي" في طرابلس بالحصول على تصاريح للتظاهر في الشوارع. وسرعان ما طغت التوترات بين الجماعات المسلحة على حشد الشباب، لأن المخاوف المتعلقة بالسلامة والأمن لها الأسبقية على الغضب من الجمود السياسي ومشاعر الظلم. في 27 آب/أغسطس 2022، حاولت حكومة فتحي باشاغا القيام بما بدا أنه آخر محاولة لدخول طرابلس. أسفرت هذه المحاولة عن اشتباكات عنيفة بين عدة أحياء مدنية هزت العاصمة قرابة يومين، وانتهت الاشتباكات بمقتل 30 مدنياً وإصابة أكثر من مائة شخص. تضررت البنية التحتية للمدينة بشدة، وخشى الكثيرون أن تتصاعد الاشتباكات إلى حرب أهلية أخرى واسعة النطاق. تفرقت تحالفات وهياكل الجماعات المسلحة في المدينة، تاركةً فتحي باشاغا دون أي دعم عسكري داخل المدينة. ومن الصعب التكهن بما إذا كان سيحاول الاستيلاء على العاصمة بالقوة مرة أخرى، أم لا.

ومع ذلك، فإن التهديد بالعنف يلوح في الأفق دائماً في ليبيا؛ إنه ما يُبقي المدنيين خاضعين ولا يتملكون أي ثقة أو أمان بشأن مستقبلهم. تعمل الجماعات المسلحة في ظل إفلات كامل من العقاب، وغالباً مع تجاهل تام للعواقب.

ماذا يحمل المستقبل في طياته؟

ليس من الممكن مناقشة مستقبل ليبيا بمعزل عن الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية التي شاركت بشكل مباشر في العديد من النزاعات المسلحة على مر السنين. يسمح هذا للدبيبة بالتمسك بمنصبه بلا مواراة، ويشرح كيف يمكن لمجلس النواب ألا يحسن شيئاً سوى التفنن في ابتكار خطط من شأنها إعادة تدويره في المؤسسات المستقبلية. الآن إذا مزجنا كل هذه الشخصيات مختلفة المشارب والتيارات، مع الظروف الاجتماعية والاقتصادية المزرية، والعنف المباشر والهيكلي، وأعباء الوباء، والمزيد من الحروب والنزاعات التي ستؤثر على الصراع في ليبيا؛ سيكون لدينا بلد منهار على العديد من المستويات. يعود تمكين السياسيين الليبيين إلى المصالح المتقاربة للعديد من الجهات الفاعلة، والعملية التي تقودها الأمم المتحدة، والتي تمارس أعمالها على أساس أن أولئك الذين يتسببون في المشاكل يمكنهم حلها. بينما لا يلوح في القريب العاجل أي أمل في المساءلة والمحاسبة، لا للمفسدين الليبيين، ولا للجهات الفاعلة الدولية والإقليمية التي تُعرّض مصالحها المتقاربة مصير البلاد للخطر.

يقودنا هذا إلى أسئلة متعددة؛ ماذا بعد؟ هل سيُسمح للدبيبة بالاستمرار في الادعاء بأن حكومته تريد إجراء انتخابات، بينما هو في الحقيقة يخطط لأكبر عملية اغتصاب للسلطة حتى الآن؟ وهل سيثير ذلك في النهاية مشاعر السخط التي ستؤدي إلى خلعه بالقوة؟ إن عدم وضوح راية القيادة على المستوى الدولي يعني أيضاً أنه لا يوجد الكثير أمام عملية برلين أو روسيا من الجانب الآخر للقيام به.

 

الإجابة على بعض هذه الأسئلة هي تحقيق مزيد من المساءلة، وتدشين إرادة سياسية قوية من شأنها إجبار الفاعلين الليبيين والدوليين على التمسك باتفاقاتهم. كما يتطلب ذلك إنفاذ اتفاقية حظر الأسلحة دون تمييز، وانسحاب القوات الأجنبية، والإبقاء على العملية السياسية التي صممها الليبيون بوساطة الأمم المتحدة فقط. لا يمكن أن يحدث أي من هذا دون معالجة الافتقار الشديد والعميق للثقة بالنخبة السياسية بين غالبية الناس في ليبيا، وخاصة بين الشباب الذين يشكلون نسبة كبيرة. أدت هذه الثقة المحطمة إلى اللامبالاة السياسية، والحرمان من الحقوق، ومزيد من التهميش لقوة حيوية في البلاد.

Endnotes

Endnotes
1 كتب عقيلة قانوناً مشابهاً جداً لقانون الانتخابات لعام 2012. ورغم أنه لم يجتز التصويت في المجلس، إلا أن عقيلة أرسله إلى الممثل الخاص للأمين العام في بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا (UNSMIL) في رسالة بريد إلكتروني تفيد بأنه تمت الموافقة عليه.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.