فشلت حكومة تصريف الأعمال اللبنانيّة، في طرح استراتيجيّة لإدارة أزمة كورونا، برغم المطالبات الكثيرة بإحاطة الجمهور بالقرارات العديدة التي اتُّخذت لمنع انتشار الفيروس والحدّ من الوفيات والمضاعفات الصحّيّة الوخيمة للمرض. لكن بدلاً من ذلك، تُرِك الناس للتخمينات ومحاولة توقّع القرارات التي سيتّخذها صُنّاع القرار. وبينما تبدأ دول العالم في تداول اللقاح، ينبغي مطالبة حكومة تصريف الأعمال ووزارة الصحّة العامّة بمزيدٍ من الشفافية فيما يتعلّق باستراتيجيّة حملة التطعيم التي سيتبنّونها.
ومع أنّ وزارة الصحّة العامّة قالت إنها تعمل وفقاً لتوصيات منظّمة الصحّة العالميّة، فقد تجاهلت أحد مبادئها الإرشاديّة الأساسيّة المهمّة، وهو أنْ تتّسم عمليّة اتّخاذ القرار بالشفافية والانفتاح وأن تكون شاملة للجميع. فقد تشكّلت لجنة جديدة داخل وزارة الصحّة العامّة للإشراف على حملة التطعيم. لكن، كما هو الحال مع كافّة اللجان الأخرى التي تشكّلت لإدارة الجائحة، لم يُعلَن عن أعضائها أو صلاحيّاتها أو مهمّتها. بينما يبدو أنّ وزارة الصحّة العامّة قد سمحت لشركات الأدوية بأستيراد لقاحات كورونا التي أجازتها منظّمة الصحّة العالميّة وإدارة الغذاء والدواء الأميركيّة، لم يتّضح بعد، عدد الجرعات التي ستتوفّر، وما هي تكلفتها، أو كيف سيتمّ توزيعها، بما في ذلك المسائل اللوجستيّة ومن ستكون له الأولويّة من بين السكان.
يبعث نقص الشفافية في عمليّة صنع القرارات المتعلّقة بالصحّة العامّة على القلق بوجهٍ خاصّ في لبنان، نظراً لانعدم الثقة في السلطات الرسميّة، وخصخصة وتسييس مرافق الرعاية الصحّيّة (إذ غالباً ما تعتمد إمكانيّة دخول المستشفيات على شبكات المحسوبيّة السياسيّة أو الطائفيّة)، والخوف من أن تستغلّ الطبقة السياسيّة الحاليّة أيّ نفوذ تحظى به لإحكام قبضتها على السكّان. لذلك من الطبيعيّ أن يخشى بعض الأطباء اللبنانيّين من أن يجري "تسييس" جرعات اللقاح، وهو ما يعني أنّ عمليّة توزيع اللقاح قد تعتمد في نهاية المطاف على المحسوبيّة، مع حصول الأفراد ذوي الصلات السياسيّة أو بعض الطوائف أو الأحزاب السياسيّة على اللقاح قبل إتاحته لأضعَف فئات المجتمع. إضافة إلى ذلك، وفي ظلّ الأوضاع الاقتصاديّة القاسية، ثمّة حاجة ملحّة لنشر استراتيجيّة الحكومة، خاصّةً عندما يتعلّق الأمر بشراء اللقاح وتوزيعه، وذلك حتّى لا نصل إلى وضع تكون فيه القوّة الشرائيّة للأفراد هي ما يحدّد إمكانيّة الحصول على التطعيم.
وعليه، ثمّة ضرورة مُلحّة لاعتماد آليّة أكثر شمولاً وشفافيةً وانفتاحاً، وهو ما يستلزم على أقلّ تقدير "الإبلاغ عن الأسس المنطقيّة الواضحة وأوجه الغموض وإتاحة الأدلّة للجمهور". بالنسبة للبنان، وفي ظلّ التحدّيات الصعبة التي تواجهها البلاد حالياً، ينبغي تحقيق مزيد من الشفافية من أجل التصدّي للقضايا التالي ذكرها:
- كيف ستحدّد وزارة الصحّة العامّة اللقاحات الآمنة للاستخدام؟
- أيّ الفئات ستحظى بالأولويّة في استراتيجيّة التطعيم الحكوميّة؟ وما هي السُبل التي ستتّبعها وزارة الصحّة العامّة لتحقيق مناعة القطيع؟ وكيف ستراعي استراتيجيّة التطعيم أوجه الغموض التي تكتنف الوضع في لبنان، خاصة عدم وجود بيانات موثقة عن السكّان وعن أعداد اللاجئين والمهاجرين الكبيرة في البلاد؟
- وفي ظلّ الأزمة الاقتصاديّة، ما هي مقترحات الحكومة لشراء اللقاح؟ وكيف ستموّل عمليات الشراء الضخمة تلك؟ وكيف ستوفّر اللقاح للسكّان؟ هل ستلجأ إلى التحكّم بالأسعار كي لا تنشأ سوق سوداء جديدة للمستحضرات الدوائيّة والصيدليّة؟
- من سيكون المسؤول عن إدارة اللقاحات؟ وفيما يتعلّق بشراء اللقاح وتوزيعه، كيف سيتمّ التنسيق بين وزارة الصحّة العامّة والقطاع الصحّيّ الخاصّ والوكالات التابعة للأمم المتّحدة المعنيّة بشؤون اللاجئين؟
سنتناول فيما يلي تلك الأسئلة وسنحاول تقديم بعض الأجوبة.
كيف نختار لقاح ما من بين اللقاحات؟
في خضمّ جنون اللقاحات الحاليّ، أفادت وسائل الإعلام إنّ الحكومة أبرمت صفقة قيمتها 18 مليون دولار مع شركتَي فايزر وبيونتيك لشراء 1.5 مليون جرعة من لقاحهما، وتقدّمت أيضاً للحصول على لقاحات من مبادرة "كوفاكس"، وهو تحالف عالميّ تموِّله منظّمة الصحّة العالميّة والبنك الدوليّ ومؤسسة بيل وميليندا غيتس، إضافة إلى بعض الدول المانحة ذات الدخل المرتفع، وتسعى المبادرة إلى ضمان توفير اللقاحات المعتمدة من منظّمة الصحّة العالميّة لما لا يقلّ عن 20% من سكّان البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط المستفيدة من المبادرة. أشارت تقارير أيضاً إلى تفاوض الحكومة مع الروس لشراء لقاحهم "سبوتنيك V"، بينما لم يُعلَن عن إجراء مفاوضات لشراء أيّ من اللقاحات الأخرى المرشحة.
وبالنظر إلى محدوديّة الإمدادات، سينتهي الحال بالدول إلى الاعتماد على اصناف متنوّعة من اللقاحات، لكن ينبغي أن يكون الجمهور على علمٍ بالأدلّة المثبتة لكلّ لقاح منها، وبالأمور التي ما تزال مجهولة حوله أيضاً. ويتعيّن على السلطات أن تشرح على وجه الخصوص النهج الذي تتّبعه فيما يتعلّق باللقاح الروسيّ "سبوتنك V" ولقاح "سينوفارم" الصينيّ. ففي حين لم تعتمد منظّمة الصحّة العالميّة هذَين اللقاحَين لحين انتهاء المرحلة الثالثة من التجارب السريريّة، فقد طُرح اللقاح الصينيّ في الإمارات وبلدان عربيّة أخرى (الأردن بوجه خاصّ). ونظراً لانعدام الشفافية المعروف لدى روسيا والصين، قد يلقى هذَان اللقاحان تحديداً معارضةً إضافة إلى مواجهة بعض الشكوك حول مدى سلامتها، الأمر الذي يشكّل عقبةً كبيرة الآن أمام الحكومات في جميع أنحاء العالم. في الواقع، واستناداً إلى استطلاعات رأي أُجرِيت على منصّات التواصل الاجتماعيّ، أبدت نسبة كبيرة من سكّان لبنان (حوالي 79%) تردُّدَها تجاه لقاحات كورونا، ويُعزَى ذلك أيضاً إلى التردّد العامّ تجاه اللقاحات عموماً. لذا ينبغي بذل مزيد من الجهود لإقناع الجمهور بالآثار الإيجابيّة للقاحات كورونا والبُعد الأخلاقيّ لهذا الأمر.
على ماذا تنطوي استراتيجيّة التطعيم؟
ينبغي أن تتناول استراتيجيّة التطعيم في أيّ دولة مسألتين أساسيّتين: وهما كيفيّة تحقيق مناعة القطيع، ولمَن تُعطَى الأولويّة في الحصول على التطعيم. لكن لم تُعلن السلطات اللبنانيّة الكثير فيما يتعلّق بهاتين المسألتين.
كيف سيُحقّق لبنان مناعة القطيع؟
إحدى الغايات من وراء التطعيم هي تحقيق ما يُسمّى "مناعة القطيع"، وهو تعبير مجازيّ مختصر، يُقصَد به توفير الحماية من المرض للسكّان بأكملهم. في أيّة مجموعة سكّانيّة، لا يستطيع بعض الأشخاص الحصول على التطعيم، أو لا يمكنهم تطوير استجابة مناعيّة (لأسباب طبّيّة أو صحّيّة) رغم حصولهم على التطعيم. في حالة مرض كوفيد-19، يتضمّن ذلك الأشخاص الذين يخضعون لعلاجات معيّنة تُضعِف مناعتهم (مثل العلاج الكيميائيّ) والأشخاص الذين يعانون من نقص في المناعة بسبب حالات مَرضيّة أخرى غير السرطان (مثل مرضى الإيدز)، إضافةً إلى الحوامل والمرضِعات، والأطفال (أقلّ من 16 عاماً في حالة لقاح فايزر-بيونتيك، أو أقلّ من 18 عاماً في حالة لقاح موديرنا).
بيد أنه لحسن الحظ، إذا حصل عدد كاف من الناس على التطعيم، وإذا لم يمنع التطعيم تطور المرض فحسب، بل منع أيضاً العدوى نفسها (وهو ما لا يزال غير واضح حتى الآن فيما يتعلق بمرض كوفيد-19)، فإن انتقال فيروس “سارس-كوف-2" (SARS-CoV-2) الذي يؤدي إلى الإصابة بمرض كوفيد-19 من الممكن أن يتوقف، وقد ينخفض معدل الإصابة بالمرض بين جميع السكان. وعلى هذا، تعتمد الفئات الضعيفة في حمايتهم بصورة غير مباشرة على بقية السكان الذين سيحصلون على التطعيم، ومن ثَمَّ تبرز أهمية الوصول إلى "مناعة القطيع" بشكل جمعي.
مع الأخذ في الاعتبار أن عدد التكاثر الأساسي لفيروس كورونا يتراوح بين 2.5 و3.5 (مما يعني أن حالة واحدة يُمكن أن تنقل الفيروس إلى نحو 3 أشخاص)، وفعالية اللقاح التي تصل إلى 95% (بالنسبة للقاح فايزر-بوينتك ولقاح ومودرنا)، فقد قدر علماء الأوبئة أنه لا بد من تطعيم 75% من السكان للوصول إلى مناعة القطيع (بغض النظر عن الخصائص الديموغرافية للسكان). أما في حالة اللقاحات الأقل فعالية، كما هو الحال، على سبيل المثال، مع لقاح "أسترازينيكا-أكسفورد" الأقل تكلفةً بكثير، لا بد من تطعيم أكثر من 90% من السكان للوصول إلى مناعة القطيع. وكما أشار العديد من العلماء، فإن هذه الحسابات تصبح أكثر تعقيداً إذا ما تبين أن الحماية المرتبطة باللقاحات قصيرة الأمد، وذلك بسبب الانخفاض التدريجي في المناعة المُستحثة بواسطة التلقيح، أو بواسطة الطفرات الفيروسية الإضافية الناشئة والتي تعد مقاومة للقاح. ولذا في ضوء هذه الشكوك، فإنه من الضروري الحفاظ على رسالة عامة شفافة واستراتيجية واضحة بشأن ما نعرفه وما لا نعرفه، والتأكيد على أهمية مواصلة الالتزام بالتدابير الوقائية (مثل ارتداء الأقنعة وغسل الأيدي والتباعد الاجتماعي).
ولكن ما هو عدد السكان اللازم للوصول إلى "عتبة مناعة القطيع" في لبنان؟ واحدة من المسائل المعقدة هي عدم وجود بيانات دقيقة عن العدد الفعلي للمقيمين في البلاد. وكما لا يخفى على أحد، فإن هذا العدد هو في أفضل الأحوال تقديري، لأنه لم يجر أي تعداد رسمي منذ عام 1932. ويتراوح هذا العدد بين 4 ملايين و9 ملايين نسمة، وغالباً ما يُشار إلى أنه 6.5 مليون نسمة، ويبلغ حالياً 6.8 مليون وفقاً لتقديرات البنك الدولي، من بينهم 1.5 مليون لاجئ سوري، وفق ما يزعم. بيد أن جميع هذه الأرقام غير دقيقة لأنها تستند إلى تثليث البيانات وليس إلى تعداد حقيقي للسكان.
من الضروري أيضا أن تتوفر لدينا إحصاءات سكانية دقيقة، لأن المؤشرات الوبائية تعتمد عليها. وفي غياب مثل هذه البيانات الدقيقة، فمن المُحتّم أن تكون السياسات المتبعة مُعيبة حتى إذا توفرت أقوى إرادة سياسية، ومن المحتّم أيضاً أن تُهدَر الأموال العامة. تُعد اللقاحات مثال واضح في هذا الصدد. فبالرغم من أن تفاصيل الاتفاق بين الحكومة اللبنانية وشركتي فايزر وبيونتيك لم تعلن بعد، فقد ذكرت وسائل الإعلام أنه تم التعاقد للحصول على نحو 1.5 مليون جرعة، ولكن بما أن هذا اللقاح يتطلب جرعتين لكي يكون عالي الفعالية، فإن هذا يعني أن 750 ألف شخص فقط هم من سيستفيدون منه. وبإضافة الجرعات الأخرى لمبادرة "كوفاكس"، فإن حملة التطعيم في لبنان قد تصل إلى ما مجموعه نحو مليوني شخص.
بيد أن هذا الهدف الذي حددته وزارة الصحّة العامّة بعيد كل البعد عن العدد الأمثل اللازم لتحقيق مناعة القطيع من خلال التطعيم. في الواقع، إذا افترضنا أن عدد سكان البلاد يبلغ 4 مليون نسمة (وهو عدد أقل من الرقم المتوقع على الأرجح)، فإن السعي إلى تطعيم مليوني شخص لا يُمثل سوى 50% من السكان. وهذا أقل من الحد الأدنى الذي يُقدر بنحو 75% اللازم للوصول إلى مناعة القطيع مع لقاح فايزر-بيونتيك. وإذا افترضنا أن عدد السكان يتجاوز 6 ملايين نسمة (هو العدد الأكثر دقة على الأرجح)، فإن عدد السكان المستهدفين حالياً يبتعد أكثر فأكثر عن العدد الأمثل للوصول إلى مناعة القطيع. وهذا يطرح تساؤل حول الكيفية التي تسعى بها السلطات إلى تحقيق مناعة القطيع؟ إذ إنه إذا تعذر الوصول إلى مناعة القطيع، فكل ما جنيناه هو تبديد الأموال وحملة تطعيم فاشلة. لماذا؟ لأنه كلما زاد انتشار الفيروس، فإنه سيتطور أكثر ويصبح اللقاح أقل فعالية بمواجهته. وفي الوقت نفسه، من الممكن أن يُسفر ذلك عن موت المزيد من الناس بلا داع، ومعاناة الكثيرين أيضاً بلا داع من بعض الآثار المرضية طويلة الأمد (أو ما أطلق عليه خبراء الرعاية الصحّيّة مُسمّى متلازمة ما بعد كوفيد أو "متلازمة كوفيد طويل الأمد" (long-Covid)) وهو ما من شأنه أن يُلقي بأعباء إضافية على عاتق نظام الرعاية الصحّيّة الهش والمثقل بالأعباء أصلاً.
من جانب آخر، نلاحظ أن هناك حاجة ماسة إلى إجراء تعداد جديد من أجل تحسين عملية اتخاذ القرار في المستقبل فيما يتعلق بالصحة العامة وصنع السياسات، بصورة أعم. بيد أن الكثيرين يرون أن هذا المسعى معقد من الناحية السياسية. إذ يرى البعض أن إجراء تعداد جديد للسكان من شأنه أن يزعزع التركيبة الطائفية الحالية، أيّ توزيع المقاعد السياسية والإدارية وفقاً لتمثيل مختلف الطوائف. ورغم أن هذه الحجة لا تخلو من العديد من المسائل، والتي تتجاوز نطاق هذه الورقة البحثية، فإن إحدى سُبل التحايل على هذا "القلق" قد تنطوي على إجراء تعداد سكاني يتغاضى عن الدين. وهذا ليس أمراً جديداً أو من الصعب تحقيقه. فمن الممكن تعديل التعدادات وفقاً للإرادة الوطنية، كما هو الحال في الولايات المتحدة أو فرنسا، حيث من غير القانوني إجراء إحصاءات عن "العرق" (مع استثناءات قليلة للغاية). لماذا لا يُصمّم تعداد سكاني لا يطرح أسئلة عن الانتماءات الدينية؟ وبينما ندرك أن هذا الهدف متوسط أو طويل الأمد بالنظر إلى الوقت الذي يلزم لاستكمال أي تعداد للسكان، ينبغي إيلاء مزيد من الاهتمام بإيجاد حلول عاجلة في هذه المرحلة، في ظل التحديات القائمة الناجمة عن الجائحة. ومن بين الحلول السريعة الممكنة في هذا الأمر، أن تساعد البلديات والسلطات المحلية في إيجاد صفات مشتركة أكثر دقة من خلال التقييم المنتظم لخصائص سكانها.
مَن هم أصحاب الأولوية في الحصول على اللقاح؟
نشرت منظمة الصحة العالمية، بالتعاون مع مجموعة الخبراء الاستشارية الاستراتيجية "SAGE" المعنية بالتمنيع، "خريطة طريق" لاطلاع الحكومات على خطوات تنفيذ حملة التطعيم ضد فيروس كورونا، وطرق توزيع اللقاح، وتحديد أصحاب الأولوية في الحصول عليه في ظل الموارد المحدودة. لكن هذه تعتبر "مبادئ توجيهية"، شأنها شأن جميع الوثائق الصادرة عن منظمة الصحة العالمية، ومن المتوقع أن تعمل كل دولة على إعداد وتنفيذ خطتها العقلانية العادلة الواضحة بشأن حملات التطعيم.
أشارت تقارير صحفيّة أنّ لجنة اللقاحات بوزارة الصحّة العامّة ستمضي قُدُماً في توفير اللقاحات أوّلاً للفئات الأضعف، وهذه ينبغي أن تشمل العاملين في قطاع الرعاية الصحّيّة وأوائل المستجيبين وكبار السنّ (مَن هم فوق سنّ 75 عاماً) والأشخاص "المُعرضين للخطر" (أي أولئك الذين يعانون من أمراض وظروف صحّيّة كامنة ثبت ارتباطها بزيادة معدّل الوفيّات عند الإصابة بفيروس كوفيد-19). إلّا أنّه من غير المعروف كيف سيتمّ التوزيع، وخصوصاً بالنظر إلى التحدّيات اللوجستيّة المتّصلة بلقاح فايزر-بيونتيك الذي يحتاج إلى التخزين في درجة حرارة 80 درجة مئويّة تحت الصفر.
وأفادت التقارير الصحفيّة أيضاً أنّ وكالات الأمم المتّحدة ستتكفّل بتقديم اللقاحات للاجئين. ولكن ما يزال من غير الواضح إن كانت الأمم المتّحدة تعتزم تغطية جميع السكّان اللاجئين (الذي يصل عددهم إلى 1.5 مليون نسمة)، ومتى يتمّ البدء في عمليّة التطعيم، وكيف سيتمّ تنسيقها مع جهود الحكومة اللبنانيّة لتجنّب المزيد من التوتّرات بين اللاجئين والسكّان اللبنانيّين الذين يعانون من الظلم والفقر على نحوٍ متزايد. وما زلنا بانتظار المزيد من التفاصيل من الأمم المتّحدة حول خطّتها لحماية هذه الفئة الضعيفة على نحوٍ فريد من الناس والسكّان اللبنانيّين بشكلٍ غير مباشر.
كيف سيموِّل لبنان حملة التطعيم؟
أفادت تقارير إنّ البنك الدوليّ قد يقدِّم دعماً ماليّاً لشراء 1.5 مليون جرعة من لقاح فايزر-بيونتيك؛ وسيتمّ هذا عبر قرضٍ من البنك الدوليّ. ولكن، كما أشرنا آنِفاً، تكفي 1.5 مليون جرعة لتطعيم 750 ألف شخص فقط. وإذا افترضنا أنّ إجماليّ المقيمين في لبنان يصل إلى 7 ملايين نسمة، فإنّ التكلفة الإجماليّة للوصول إلى نسبة مناعة القطيع، وهي 75٪ من السكّان، ستتطلّب 37.8 مليون دولار للُقاح أسترازينيكا-أكسفورد (بقيمة 3 دولارات للجرعة) أو 126 مليون دولار للُقاح فايزر-بيونتيك الأغلى (بقيمة 12 دولار للجرعة).
هذه مبالغ كبيرة ستتطلّب غالباً مزيداً من الدعم الماليّ من البنك الدوليّ والأمم المتّحدة (لتغطية تكاليف اللقاح لمليون ونصف المليون من اللاجئين المذكورين آنفاً) وربّما شراكات بين القطاعَين الخاصّ والعامّ. في الواقع اقترحَت بعض المستشفيات الخاصّة شراء اللقاحات على نفقتها الخاصّة لتطعيم موظّفيها وطاقمها. ونظراً إلى الوضع الماليّ الكارثيّ في لبنان، فإنّ مثل تلك المساعي ستنقذ حياة كثيرين وتسرّع من عمليّة التطعيم. ولكن ينبغي التأكيد على أنّ عمليّات الشراء الفرديّة هذه لا بدّ أن تخضع لتنظيم صارم.
أخيراً، من المهمّ للغاية أن تُتيح الحكومة للجماهير كلّاً من عقود الشراء مع فايزر-بيونتيك (وغيرهما من الشركات المصنِّعة) والنقاشات البرلمانيّة حول القانون الذي سيتمّ تمريره بشأن قضايا المسؤوليّة المرتبطة باللقاحات. فالشركات المصنّعة لا توافق على شحن اللقاحات من دون حماية من مسؤوليّة التعويض عن الأضرار الناجمة عن اللقاحات. إضافةً إلى ذلك، في الولايات المتّحدة على سبيل المثال، فإنّ قانون الاستعداد العامّ والتأهّب للطوارئ يوفّر للشركات المصنِّعة حصانة تامّة من الدعاوى القضائيّة المتعلّقة بالأضرار الناجمة عن اللقاحات. وكشف عضو مجلس النوّاب اللبنانيّ عاصم عراجي، رئيس اللجنة الصحّيّة الوزاريّة اللبنانيّة، أنّ على البرلمان "سنّ قانون سريع للحصول على اللقاحات في وقتها"، وأنّ الشركات المصنِّعة ستتحمّل المسؤوليّة عن أيّ عيوب في التصنيع، وأنّ الحكومة اللبنانيّة ستتحمّل مسؤوليّة تقديم تعويض "خلال الاستخدام الطارئ"، من دون تحديد المدّة التي يستغرقها هذا الاستخدام الطارئ. وأثار بعض الخبراء مسألة التعويض للقاحات التي تمّ الحصول عليها عبر آليّة "كوفاكس"، نظراً إلى أنّ الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسّط تحديداً ستواجه معضلة مستحيلة، تتمثّل في تحقيق المناعة التامّة (نتيجة افتقارها إلى القدرة الماليّة لتعويض الإصابات المستقبليّة) أو اختيار عدم التطعيم (كما كان الحال مع إحدى الدول خلال وباء إيبولا في غرب أفريقيا).
خاتمة
لا بدّ من معالجة جميع المسائل المثارة في هذه الورقة البحثيّة، من أجل تحقيق حملة تطعيم ناجحة. ولضمان توزيع عادل لهذه الموارد الشحيحة، على الحكومة والسلطات الصحّيّة أن تعلن للجمهور بوضوحٍ وبانتظام معايير اختيار لقاحات معيّنة، وأن تكشف عن المفاوضات حول سعر كلّ جرعة، وأن تكون صريحةً فيما يتعلّق بالأدلّة وأوجه الغموض، وأن تكشف أيضاً أيّ خطط لتعويض الإصابات الناجمة عن التطعيم، وأن تشرح المنهجيّة التي سيتمّ عبرها الحصول على اللقاحات، وعمليّة التوزيع، وأن تضع آليّات للمساءلة. هذه هي الشروط الدنيا لعمليّة صنع قرار عادلة.
ومن أجل عمليّة صنع قرار أكثر صراحة وشفافية وفوق كلّ ذلك شاملة، لا بدّ من استشارة جميع الأطراف المعنيّة وأن تؤخَذ آراؤهم بعين الاعتبار. وسيكون إشراك المجتمع المدنيّ (كاللجنة اللبنانيّة المستقلّة للقضاء على كورونا [كوفيد-19]، ومؤلّفا هذه الورقة أعضاء فيها، أو غيرها من هيئات وجمعيّات ونقابات وروابط مهنيّة أو جمعيّات للمرضى) وسيلةً لتحسين مستوى الشفافية وبناء الثقة. إذ يُعَدّ صنع القرار بشكل يشمل جميع الأطراف عاملاً جوهريّاً في اتّخاذ قرارات عادلة وشرعيّة، لأنّ هذا "يضمن أن تتصرّف الحكومات وَفقاً لحقوق المشاركة السياسيّة المتضمّنة في القوانين الوطنيّة والقانون الدوليّ، وخصوصاً قانون حقوق الإنسان ومبادئ قيام حكومة خاضعة للمساءلة".
وبالنظر إلى تفشّي المعلومات المضلّلة بشأن فيروس كورونا، وعدم الثقة في اللقاحات، فضلاً عن انعدام الثقة تماماً في السلطات اللبنانيّة، لا بدّ أن تكون مَأسَسة وتوسيع العمليّات التداوُليّة أولويّة. ومن الضروريّ أن تكون هناك مشاركة صريحة وشفّافة مع جميع الأطراف المتأثّرة، بما في ذلك الجهات المعنيّة في المجتمع المدنيّ. والشفافية تستلزم المساءلة والمساواة والعدالة. على المدى القصير، يمكن لهذا النهج أن يبني الثقة؛ وسيؤدّي على المدى الطويل إلى سياسات أكثر فعاليّة. ومع ذلك، ما زلنا بحاجة إلى معرفة استراتيجيّة الحكومة اللبنانيّة بشأن حملتها للتطعيم ضدّ فيروس كورونا.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.