تزايَد اعتماد دول مجلس التعاون الخليجيّ على العَمالة الوافدة لتنشيط نموها الاقتصاديّ؛ فوفقاً لإحصاءات الأمم المتّحدة عام 2019، يعيش 35 مليونَ مهاجرٍ أجنبيّ في الدول الخليجيّة. وقد شعر زعماء تلك الدول خلال السنوات الأخيرة بقلق متزايد من خطورة اعتمادهم المتنامي على العَمالة الأجنبيّة، وبذلوا جهوداً لإحلال العَمالة الوطنيّة محلَّ العَمالة الوافدة (أو توطين الوظائف) في محاولة لتصحيح الاختلالات الهيكليّة في قطاع العمل التي حدثت على مدار العقود القليلة الماضية.
تُساوِر كثيراً من زعماء دول مجلس التعاون الخليجيّ مخاوفُ تتعلّق بالاستقرار الاجتماعيّ على وجه الخصوص؛ ولذا فهم يسعون إلى مواجهة كلٍّ من معدّلات البطالة المرتفعة بين المواطنين، وعجز الأنظمة التعليميّة عن توفير المهارات والكفاءات التي يتطلّبها القطاع الخاصّ، والتفاوتات الجنسانيّة اللافتة في القوى العاملة، وانخفاض نسبة المواطنين العاملين في القطاع الخاصّ.
تكثّفت جهود توطين الوظائف عقب أزمة كورونا الأخيرة وما ترتّب عليها من انكماشٍ اقتصاديّ وانخفاضٍ في أسعار النفط، مع توقّع صندوق النقد الدوليّ انكماش اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجيّ بنسبة 7.6% هذا العام. يتجلّى هذا التراجع بوضوحٍ في قطاعات السياحة والطيران والنفط، وذلك لانخفاض الطلب العالميّ على هذه الخدمات والموارد. وقد سعت بعض الشركات في دول الخليج، بُغيَة تقليل خسائرها، إلى تحميل العمّال الضعفاء تكاليفَ الركود الناجم عن أزمة كورونا، من خلال التخفيض أحاديّ الجانب للأجور (دون موافقة العمّال) وإحلال مواطنين محلّ العمّال الوافدين، وهو توجُّه عامّ شهدته السعوديّة والبحرين وعُمان والكويت.
صاحَبَ هذه الموجةَ الأخيرة من توطين الوظائف ارتفاعٌ كبير في حدّة الخطاب المُعادي للأجانب مع الاعتقاد المتنامي بأنّ المهاجرين، وبالأخصّ العاملين في المهن اليدويّة منهم، هم المسؤولون بدرجة كبيرة عن انتشار الفيروس. يعود هذا الاتّهام في الأساس إلى أنّ غالبيّة أولئك المهاجرين يعيشون في ظلّ أوضاع قاسية وسط مساكن شعبيّة مكتظّة، أصبح عدد قليل منها بؤراً لتفشّي الفيروس. كانت الآثار الكلّيّة مدمِّرة لكثيرٍ من العمّال الذين فقدوا وظائفهم ورُحِّلوا إلى بلدانهم، دون حصولهم في الغالب على رواتبهم وتعويضاتهم واستحقاقاتهم القانونيّة.
تتناول هذه الورقة الزخمَ المتجدِّد الذي يُحرّك سياسات توطين الوظائف والآثارَ الاقتصاديّة والاجتماعيّة واسعة النطاق المتوقّعة لمثل هذه التدابير على العمّال الوافدين وعائلاتهم وعلى أسواق العمل في دول مجلس التعاون الخليجيّ على مدار الأشهر المقبلة. تسعى هذه الورقة أيضاً إلى إثارة المسألة المتعلّقة بكيفيّة الموازنة بين تنفيذ هذه السياسات وفي الوقت ذاته عدم الإضرار بالوافدين، في ظلّ عدم وجود هياكل إداريّة أو آليّات حماية اجتماعيّة أو شبكات تضامن كافية في الوقت الحاليّ. وتقترح في الختام مجموعةً من توصيات السياسات لدول مجلس التعاون الخليجيّ التي تتبنّى تلك السياسات، بهدف تحسين أوضاع أولئك العمّال الوافدين بالمقابل.
مواسم الهجرة
يشكّل الوافدون نصفَ سكّان دول مجلس التعاون الخليجيّ تقريباً، وغالبيّة العمّال الأجانب هم من العَمالة غير الماهرة. وقد بدأ وفود العمّال الأجانب إلى البلدان الخليجيّة في مطلع السبعينيّات من القرن الماضي، عقب خطط التنمية الهائلة التي تلت الطفرة النفطيّة وبرامج الاستثمار الموازية لها.
يمكن القول إنّ الهجرة إلى بلدان الخليج تميّزت بثلاث مراحل رئيسيّة. اتّصفت المرحلة الأولى منها بتفضيل وفود المهاجرين من الدول العربيّة، كمصر واليمن وفلسطين والعراق وسوريا ولبنان والسودان، نظراً للروابط الثقافيّة والدينيّة. لكنْ سرعان ما بدأ هذا التفضيل في التلاشِي بسبب بعض الاعتبارات السياسيّة والاقتصاديّة؛ فقد رأى الخليجيّون أنّ الدول العربيّة ستُعرِب عن شواغلها المتعلّقة بحقوق عمّالها ومصالحهم، وستدافع عنها أكثر ممّا قد تفعل البلدان الآسيويّة.
بَينما تميّزت المرحلة الثانية بتغيُّر تركيبة العمّال الوافدين، لتتحوّل من العرب إلى الآسيويّين. حدث ذلك في الغالب لأنّهم كانوا يُعتبَرون قوّة عاملة أكثر استسلاماً ومرونةً. وبناءً عليه، تراجعت نسبة العرب من إجماليّ عدد المهاجرين إلى 31% عام 1996، بعد أنْ كانت 72% عام 1973، في حين شهدت نسبة المهاجرين الآسيويّين ارتفاعاً تدريجيّاً. أدّى توافُر قوّة عاملة أجنبيّة بتكلفة معقولة وعلى استعداد لشغل المهن اليدويّة والحرفيّة -إضافةً إلى مجموعة من الوظائف المغرية في القطاع العامّ- إلى عزوف مُواطِني الدول الخليجيّة عن العمل في القطاع الخاصّ أو التفكير في وظائفه الأنسب فقطّ.
وختاماً، اتّسمت المرحلة الثالثة والأخيرة في مسار الهجرة هذا بتولّد ردّ فعل عنيف مستجدّ ضد الهجرة الأجنبيّة بأكملها، والمَيل إلى اعتماد مزيدٍ من التدابير التقييديّة التي تهدف إلى حثّ الوافدين على الرحيل عن المنطقة؛ فقد أصبح المواطنون ينظرون إليهم باعتبارهم منافسين رئيسيّين في سوق العمل، وباعتبارهم أيضاً عائقاً يَحُول دون تحقيق تماسُك اجتماعيّ يقوم على أساس الهُويّة المشتركة.
لا بدّ من التنويه هنا إلى أنّ نظام الهجرة إلى دول مجلس التعاون الخليجيّ له مستويان؛ إذ توجد قوّة عاملة مهاجرة صغيرة لكنّها متعلّمة تتركّز أعمال أفرادها حول الوظائف المرغوبة عالية الدخل التي تتمتّع بامتيازات كثيرة (وعادةً ما يُشار إليهم بـ"المغتربين")، بينما تقتصر وظائف العمّال ذوي المهارات المنخفضة على الفئات الوظيفيّة الشاقّة وغير المستقرّة، وغالباً ما يكونون عُرضة للتهميش. ويُعدّ هذا التفريق بين الوافدين والمغتربين، ومعظمهم أوربيّين أو أميركيّين، سِمةً مُترسّخة بعمقٍ في علاقات العمل بدول الخليج، إذ تعتبَر الفئة الأخيرة أكثر تفضيلاً لدى المواطنين الخليجيّين. لكنْ بسبب الجائحة أصبح النمط المتوقّع الآن هو الرحيل التدريجيّ لمعظم العمّال ذوي المهارات العالية إلى بلدانهم، وهو ما قد يؤثّر على عمليّة نقل المعرفة والخبرات التكنواوجيّة المكتسبة بطريقى غير مباشرة اللازمة لتحقيق رؤية الخليج 2030 والمشروعات المستقبليّة العملاقة، ومنها مدينة "نيوم" في المملكة العربيّة السعوديّة بتكلفة 500 مليار دولار أميركيّ.
تقلُّب سياسات توطين الوظائف صعوداً وهبوطاً
منذ مطلع العِقد الأوّل من الألفيّة الجديدة، تعهّدت حكومات دول مجلس التعاون الخليجيّ بالتغلّب على ثلاثة تحدّيات رئيسيّة، هي: تقليل الاعتماد على العَمالة الأجنبيّة، وتقليص أعبائهم الماليّة الناتجة عن الدور الكبير الذي يضطلع به القطاع العامّ، وأخيراً الحدّ من تدفّق التحويلات الماليّة إلى الخارج.
أُعِدّت بعد ذلك برامج لتوطين الوظائف، وبدأت الدول في تنفيذها بالفعل للتشجيع على توظيف المواطنين الخليجيّين في القطاع الخاصّ. كانت هذه البرامج بمثابة سياسات حماية اجتماعيّة واقتصاديّة للمواطنين، وذلك من خلال تطبيق أنظمة الحصص التي تهدف إلى زيادة عدد وظائف المواطنين عن طريق تقديم حوافز متنوّعة للشركات لِتحثّها على توظيفهم.
لم تستسِغ دول الخليج مطلقاً فكرة التعامل مع نقص العَمالة من خلال تيسير برامج التجنيس الجماعيّ للعَمالة الأجنبيّة، وذلك لقلقها من أنّ تلك البرامج قد تشوّه النسيج الاجتماعيّ لمجتمعاتها. ولهذا أطلقت كلّ حكومة منها على حِدة برنامجها الخاصّ بتوطين الوظائف.
على سبيل المثال، أَعدّت المملكة العربيّة السعوديّة في مطلع عام 2011 برنامجاً لتوطين (سَعوَدَة) الوظائف، أطلقَت عليه اسم "نطاقات"، يهدف إلى تحفيز الشركات المحلّيّة على توظيف المواطنين السعوديّين واستيعاب عدد أكبر من السعوديّين الباحثين عن عمل، وهو نظام غير مسبوق من ناحية حجمه ونطاقه؛ فقد طُبِّق في جميع شركات ومنشآت القطاع الخاصّ التي يعمل بها عشرة موظّفين أو أكثر، وهو ما يؤثّر بالتبعيّة على 6.3 مليون سعوديّ وعامل مغترب.
عُدِّل البرنامج لاحقاً، في عام 2016، ليصبح جزءاً من رؤية وليّ العهد "السعوديّة 2030". تتمثّل الفكرة الأساسيّة لبرنامج "نطاقات" في تحديد نسبة معيّنة من التوطين (أو الوظائف المخصّصة للسعوديّين) في كلّ شركة حسب حجمها وطبيعة نشاطها، وإنفاذ سياسات صارمة تتعلّق بإصدار التأشيرات للشركة اعتماداً على مدى استيفائها لتلك النسب المحدَّدة. تُصنَّف الشركات فيما بعد إلى أربعة نطاقات: البلاتينيّ والأخضر والأصفر والأحمر، بناءً على نسبة "سَعودَتها الوظائف"؛ على أنْ يتمّ إدراج أعلى 5% من الشركات المتشابهة -في الحجم والنشاط- سعودةً للوظائف في النطاق البلاتينيّ، بينما يتمّ إدارج الـ 5% الأقلّ في النطاق الأحمر.
يفرض البرنامج عقوبات على الشركات التي لا تلتزم بالمعايير التي يحدِّدها، في حين يقدِّم حوافز للشركات الملتزمة تقديراً لجهودها وفقاً للنطاقات التي تندرج في إطارها. وتشمل العقوبات رفض منح تأشيرات عمل جديدة وعدم تجديد التأشيرات الحاليّة للعَمالة الوافدة في تلك للشركات التي تقع ضمن النطاقين الأحمر والأصفر. وفي المقابل، تشمل الحوافز التي تتمتّع بها الشركات في النطاقين البلاتينيّ والأخضر، الموافقة غير المقيَّدة على إصدار التأشيرات الجديدة ومنح تأشيرة جديدة عن كلّ عاملين أجانب يغادرون المملكة بتأشيرة خروج نهائيّ، ومنح فترة سماح مدّتها سنة واحدة إذا انتهت صلاحية التراخيص البلديّة أو المهنيّة أو السجلّات التجاريّة. بَيد أنّ ما يثير القلق هو أنّ نظام النطاقات سيفرض عبئاً متزايداً على القطاع الخاصّ من خلال تكبُّد الشركات تكاليف إضافيّة.
ومن ناحية أخرى، تُنفَّذ سياسة "التعمين" في إطار الاستراتيجيّة الإنمائيّة طويلة الأجل "رؤية عُمان 2020"، التي تُحدّد سعي الحكومة إلى تهيئة الظروف الملائمة لتحقيق التنويع الاقتصاديّ ضمن إطار زمنيّ مدّته 25 عاماً. إذ تهدف الخطّة إلى التغلب على اعتماد البلاد الشديد على عائدات الطاقة من خلال تعزيز القطاع الخاصّ، فضلاً عن تدريب وزيادة توظيف الأيدي العاملة الوطنيّة. ولكي تتمكّن الشركات من توظيف العَمالة الأجنبيّة، تحتاج إلى تصاريح عمل لا يمكنها الحصول عليها إلا إذا التزمت بنسب التوطين المحدَّدة مسبقاً على المستوى القطاعيّ. بالإضافة إلى ذلك، يتعيَّن على أصحاب العمل دفع رسم يعادل 7% من راتب العامل الوافد لصندوق خاصّ يُستخدم لتمويل نظام التدريب المهنيّ للمواطنين العمانيّين المحلّيّين.
ومع هذا فإنّ العديد من المُحلّلين يرون أنّ احتماليّة نجاح هذه السياسات التداخليّة لتوطين الوظائف محدودة، نظراً إلى أنّها لا تعالج بشكل مباشر العوائق الهيكليّة التي تتسبّب في تدنّي مشاركة مواطني دول مجلس التعاون الخليجيّ في أسواق العمل المحلّيّة. ومن المعتقد أنّ النسب الإلزاميّة وتقييد العمل في فئات معيّنة من الوظائف على المواطنين، قد أدّى إلى حدوث تفاوت في توزيع التكاليف عبر مختلف القطاعات. فضلاً عن أنّ من الصعب مراقبتها والإشراف عليها، ممّا أدّى إلى ظهور ممارسات التهرب، وفي بعض الحالات تفشّي الفساد في الكيانات التجاريّة وإدارات العمل، علاوة على أنّ النسب الإلزاميّة قد تزيد من العَمالة غير الرسميّة للأجانب الذين لا يظهرون رسميّاً في كشوف رواتب الشركات.
لا تعد سياسات توطين الوظائف جديدة على منطقة الخليج الكبرى، وشهدت إجراءات تطبيقها العديد من التقلُّبات مع تعاقب الدورات الاقتصاديّة وزيادة الرقابة على السياسات خلال فترات الركود الماليّ. غير أنّ من الملاحظ الآن أنّ العديد من دول مجلس التعاون الخليجيّ تسعى إلى الانطلاق مجدّداً نحو توظيف المواطنين المحلّيّين من أجل تعزيز مساهمتهم في الاقتصاد وذلك لمواجهة أزمة كورونا الأخيرة، التي تسبّبت في انخفاض الطلب على الطاقة ومعدّلات السفر من أجل السياحة ولأغراض العمل. ومن ثمّ، من المهمّ إجراء دراسة دقيقة ومتأنّية للنهج المتزايد الذي تتّبعه دول مجلس التعاون الخليجيّ في الوقت الراهن نحو الإسراع في تطبيق سياسات توطين الوظائف.
أزمة كورونا باعتبارها عاملاً مُحفّزاً لتسريع سياسات توطين الوظائف
انخفضت أسعار النفط وتلاشت فرص العمل المحلّيّة بعد الوباء، بينما وصف المحلّلون هذه اللحظة الراهنة بأنّها نقطة تحول تاريخيّة لدول مجلس التعاون الخليجيّ التي تواجه تحدّيات متزايدة في البطالة التي تتركّز بين شباب جيل الألفيّة. والواقع أنّ هذه الاقتصادات الريعيّة، التي تعاني من هبوط مستمرّ في عائدات النفط، لا تستطيع مواصلة تقديم حدّ مقبول من الرفاه والدعم الاجتماعيّ لمواطنيها، وتسعى إلى زيادة إدماجهم في القطاع الخاصّ، في حين تُرغم العَمالة الأجنبيّة على الخروج من سوق العمل.
استغلّت دول عديدة في مجلس التعاون الخليجيّ الوباء للتعجيل بجهودها الرامية إلى الحدّ من الأيدي العاملة الوافدة من خلال توسيع نطاق مخطّطات توطين الوظائف. فقد سعت عُمان إلى "تعمين" خدمات التوصيل وغيرها من الأعمال التي يستطيع المواطنين العمانيّين القيام بها بسهولة. وأصبحت أيضاً أوضاع الموظّفين الأجانب العاملين في قطاع الصحّة في عُمان على المحك بعد اقتراح الحكومة تعيين عمانيّين في المجالات التقنيّة وغيرها من الوظائف الإداريّة في إطار خطّة السلطنة لتوطين الوظائف.
في حين قصَرت السعوديّة العمل في عدد من القطاعات على المواطنين فقطّ، منها سعودة 20% من قطاع الصيدلة. وعلاوةً على ذلك، خصصت الحكومة السعوديّة في أوائل نيسان/إبريل المزيد من الموارد الماليّة لـ"صندوق تنمية الموارد البشريّة" للمساعدة في تدريب 80 ألف مواطن سعوديّ. كانت هذه الجهود تهدف أيضاً إلى الإسهام في خفض معدّل البطالة في البلاد من 12% إلى 10.5% بحلول عام 2022. من ناحية أخرى، شرعت شركة "أرامكو السعوديّة"، وهي أكبر مُصدِّر للنفط على مستوى العالم، في تسريح مئات العاملين، معظمهم من الأجانب، في العديد من الأقسام.
من جهة أخرى، أعلنت الكويت عن عزمها تقليص نسبة العَمالة الأجنبيّة المرتفعة للغاية والبالغة حاليّاً 70% من إجماليّ عدد السكان، لتصل إلى 30%، مع وقف إصدار أو تجديد تصاريح العمل للمغتربين الذين تتجاوز أعمارهم 60 عاماً والذين لا يحملون شهادة جامعيّة، هو ما من شأنه أنْ يؤدّي إلى انخفاض الجالية الهنديّة التي يصل عددها إلى 920 ألف هنديّ والجالية المصريّة التي تقدَّر بحوالي 520 ألف مصريّ إلى النصف تقريباً، وهما أكبر جاليتَين أجنبيّتين في البلاد، ولطالما اعتُبروا جزءاً لا يتجزّأ من نسيج المجتمع والاقتصاد الكويتيّ، إذ يوجد حاليّاً حوالي 3.4 مليون عامل أجنبيّ من إجماليّ عدد سكان الكويت البالغ 4.8 مليون نسمة.
أما في دولة الإمارات العربيّة المتّحدة، حيث يعتمد الاقتصاد بشكل كبير على قطاعات النفط والسياحة والطيران وتجارة التجزئة والبناء، فقد اضطُرّ العديد من الموظّفين إلى ترك وظائفهم، بموجب قرار جديد أصدرته وزارة الموارد البشريّة والتوطين، سمَح للشركات والمؤسّسات التي تأثّرت جراء الأزمة بإنهاء عقود عمل الموظّفين غير الإماراتيّين لديها، وتسجيل بيانات "الفائض في أعداد العمّال غير المواطنين" المصرح لهم بالعمل لديها في نظام سوق العمل الافتراضيّ لإتاحتهم للتدوير وفق الاحتياج من قِبَل المنشآت الأخرى.
في نفس السياق، دعا العديد من أعضاء البرلمان البحرينيّ إلى منح المواطنين البحرينيّين الأولويّة في الحصول على وظائف القطاع التعليميّ العامّ والخاصّ، وإلى زيادة نسبة البحرينيّين العاملين في المرافق الطبّيّة الخاصّة إلى 50%. وعلاوة على ذلك، آثرت شركة نفط البحرين إنهاء عقود المئات من موظّفيها الأجانب، في محاولة منها لخفض التكاليف الثابتة الناجمة عن الآثار الاقتصاديّة للوباء.
يبدو أنّ الضرورة الملحّة لسنّ مثل هذه التشريعات التي تركّز على المغتربين قد نجمت أيضاً، إلى حدٍّ كبير، بسبب تصاعد الخطاب المعادي للأجانب، وتفاقم التصوّر الخاطئ الذي يُلقي باللائمة على الوافدين، لا سِيَّما العمّال الكادحين، في تفشّي الفيروس. ويُعزى ذلك أساساً إلى أنّ أغلب هؤلاء العمّال يعيشون في ظروف مزرية في أماكن إقامة مكتظّة، وقد أصبح عدد قليل منها بؤراً لانتشار فيروس كورونا، ممّا تسبّب في خطر على الصحّة العامّة. وقد أدّى هذا إلى زيادة الاستياء بين قطاعات من المواطنين المحلّيّين في مختلف أنحاء المنطقة إزاء الوافدين، الذين يُعتقَد أنّهم أضافوا إلى الضغوط الواقعة على موارد البلاد في ظلّ الظروف الحاليّة.
تجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ سياسات توطين الوظائف هذه قد قُدِّمت إلى الشعوب في إطار أنّها تسهم في تحقيق مزايا اقتصاديّة، وتحافظ على الاستقرار الاجتماعيّ لدول مجلس التعاون الخليجيّ من خلال الاستغناء عن الوافدين. وهذا يُبرهن أنّ مثل هذه السياسات عزّزت من تصوّر الوافدين باعتبارهم دخلاء على المجتمع وأفراداً غير مرغوب فيهم يمكن الاستغناء عنهم، لا بوصفهم أفراداً ساهموا في إرساء أساس حالة الرفاه الاجتماعيّ الحاليّة التي يتمتّع بها المجتمع.
ولكنْ من المهمّ أنْ نشير إلى أنّ قدرات كلّ دولة من دول مجلس التعاون الخليجيّ مختلفة فيما يتعلّق بتبنّي سياسات توطين الوظائف. وبالتالي، فبَينما كانت قطر تسعى إلى توطين الكثير من الوظائف فيها، من خلال إعداد قرار يقضي برفع نسبة القطريّين إلى 60% من العاملين في الشركات المملوكة للدولة أو الشركات التي تُسهِم فيها الدولة، وفي الهيئات الأخرى التي تخضع لقوانين التقاعد والمعاشات، تتعقّد هذه الخطوة نظراً إلى أنّ عدد المواطنين القطريّين الأصليّين يبلغ قرابة 313 ألف نسمة فقطّ، ممّا يعني أنّ هذه الخطوة لا يمكن أنْ تتحقّق على أرض الواقع أو أنْ تُحِلّ القطريّين محلّ العمّال الوافدين.
أدخلَت قطر أيضاً تعديلات كبرى مؤخّراً على سوق العمل فيها، بعد اعتماد القانون رقم 18 في يوم 30 آب/أغسطس 2020، من خلال إلغاء شرط حصول العمّال الوافدين على موافقة صاحب العمل من أجل تغيير وظائفهم، مع اختيارها أيضاً اعتماد حدّ أدنى للأجور غير تمييزيّ، قيمته ألف ريال قطريّ (275 دولار)، والتأكّد من تقديم أصحاب العمل طعاماً وإقامة لائقَين للعاملين لديهم؛ وهي خطوة اعتبرها كثير من المراقبين مهمّةً لحماية العمّال الوافدين ولإنهاء نظام "الكَفالة". يأتي هذا في وقتٍ تواجه فيه قطر اهتماماً متزايداً وتمرّ باعتبارات اجتماعيّة واقتصاديّة خاصّة، لا سِيَّما بسبب استضافتها كأسَ العالم 2022، مع حثّها على تعزيز التعافي الاقتصاديّ من تداعيات الوباء.
بين المطرقة والسندان: الوافدون يرزحون تحت وطأة كورونا وسياسات توطين الوظائف
مع أنّ من السابق لأوانه فهم التأثير السلبيّ الكامل لوباء كورونا وسياسات توطين الوظائف على العمّال الوافدين، فقد كشفَت هذه الأزمة بالفعل عن حالة الضعف التي دامت فترةً طويلة والتي يعاني منها 35 مليوناً من العمّال الوافدين في دول مجلس التعاون الخليجيّ، الذين يواجهون موجةً من عدم الاستقرار والفصل الجماعيّ من العمل والترحيل القسريّ واللايقين، وما يعقب هذا من تراجُع في تدفّقات التحويلات.
تكشف التقارير الإعلاميّة عن أنّه منذ بداية الوباء جرى ترحيل حوالي نصف مليون من العمّال الوافدين من دول مجلس التعاون الخليجيّ إلى بلدانهم الأصليّة، وكثير منهم تمّ ترحيله بصورة عاجلة ودون أيّة تعويضات. علاوةً على ذلك، في خضمّ وباء كورونا، هدّدت دول مثل الإمارات الدولَ المصدِّرة للعَمالة بفرض قيود جديدة وحصص جديدة على توظيف مواطني تلك الدول، في حال لم تكن على استعداد لإعادة مواطنيها الذين فقدوا وظائفهم أو طلب منهم أصحاب العمل أخذَ إجازة.
يُسهِم أيضاً فقدان الدخل في تهاوي تدفّقات التحويلات التي يُرسلها العمّال الوافدون إلى بلادهم، والتي تُشكّل ضربة كبيرة لاقتصادات دول جنوب آسيا، ومنها بنغلاديش وباكستان والهند ونيبال، بل تشكّل ضربة أكبر لملايين من أفراد الأسر التي تعتمد على الأموال التي تتلقّاها بانتظام [من أحد أفرادها العاملين في الخليج] لتوفير قوتها وسبل الرعاية الصحّيّة وغيرها من احتياجاتها الأساسيّة. ويُقدِّر البنك الدوليّ سقوط تلك التحويلات بنسبة 20% في الدول ذات الدخل المتوسّط والمنخفض.
ليست محنة هؤلاء العمّال مجرّد نتيجة للانكماش الاقتصاديّ، وإنّما أيضاً نتيجة الوضع المؤقّت قسريّاً في ظلّ سياسات الهجرة بدول الخليج، وخصوصاً نظام الكفالة السائد الذي يضفي الشرعيّة على الوضع المؤقّت وانعدام الاستقرار الذي يمتاز به وجود هؤلاء العمّال في البلاد، ويعرِّضهم لظروف قاسية، دون وصولٍ ملائم إلى شبكات الأمان الاجتماعيّ وآليّات رعاية كافية.
التوفيق بين توطين الوظائف وحقوق الوافدين
أدّت أزمة كورونا وتصاعُد المشاعر المعادية للهجرة وتسارُع عمليّة توطين الوظائف إلى تفاقُم الظروف غير المستقرّة للعمّال الوافدين في دول مجلس التعاون الخليجيّ.
وبالتالي، من المتوقّع أنْ يُغادرَ المملكة العربيّة السعوديّة حوالي 1.2 مليون وافد بحلول نهاية العام الجاري؛ وقد غادر بالفعل 300 ألف عامل وافد، فيما سجّل 178 ألفاً آخرين في مبادرة "عودة"، التي تقوم بتيسير إجراءات عودة العمّال الوافدين إلى أوطانهم. وعلى نفس المنوال، أشار تقرير لوكالة بلومبيرغ إلى أنّ تعداد السكّان [الذي يشمل العمّال الوافدين أيضاً] قد يتراجع بنسبة 4% في عُمان وبنسبة 10% في الإمارات.
بَينما تضرّر العمّال الوافدون، سيُغيّر رحيلهم التركيبة الديموغرافيّة لدول مجلس التعاون الخليجيّ، ومن المرجَّح أيضاً أنْ يضرّ بالمصالح الاقتصاديّة لدول مجلس التعاون الخليجيّ. ففي نهاية المطاف تظلّ العلاقة بين دول مجلس التعاون الخليجيّ والعمّال الوافدين علاقة ترابُط متبادَل، وإنْ كان غير متوازِن. فالعمّال الوافدون يولّدون طلباً اقتصاديّاً، وخصوصاً على الخدمات الأساسيّة؛ وقد يؤدّي رحيلهم إلى انخفاض تدفّقات العائدات الحكوميّة من الرسوم وضرائب القيمة المضافة.
يظلّ العمّال الوافدون مساهمين رئيسيّين في التنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وفي بعض الحالات يمثّل وجودهم أهمّيّة وجوديّة لبقاء بعض القطاعات. ومِن ثَمّ فمن المستبعَد للغاية أنْ نتوقّع أنّ جهود توطين الوظائف سيُعالِج حالات القصور الهيكليّة في قطاع العمل أو أنْ يؤدّي إلى استبدال العَمالة الوافدة بالكامل. مع ذلك، باستثناء بعض الحالات، لا يوجد التزام بحماية حقوقهم وإتاحة وصولهم إلى شبكات الأمان الاجتماعيّ في مواجهة تلك الظروف العصيبة.
بسبب التحدّيات التي تواجه سوق العمل في دول مجلس التعاون الخليجيّ، تعتبَر الرغبة في توطين القوى العاملة هدف مشروع في حدّ ذاته؛ ومع ذلك تظلّ بحاجة إلى تنفيذها بطريقةٍ تضمن حماية حقوق الوافدين في ظلّ القانون الدوليّ. والواقع أنّ محاولات دول مجلس التعاون الخليجيّ "تحفيزَ" توطين الوظائف من خلال الاستئصال القسريّ لجزءٍ كبير من القوى العاملة غير المحلّيّة، مُعرَّضة إلى أنْ تكون غير فعّالة على المدى الطويل، نظراً إلى استبعادها آلافَ العمّال الوافدين الذين ربّما أقاموا في المنطقة لسنوات عديدة، ممّا يدفعهم إلى العَمالة غير الرسميّة واقتصاد الأجور المنخفضة.
مِن ثَمّ، تتضمّن بعض التوصيات لصنع السياسات التي ستساعد حكومات دول مجلس التعاون الخليجيّ على الارتقاء باستراتيجيّاتهم في توطين الوظائف مع ضمان أنْ تكون تلك الاستراتيجيّات عادلة وتحترم حقوق الوافدين:
فيما يتّصل بتدريب وتوظيف المواطنين:
- تطوير سياسات توطين متّسقة وعقلانيّة، من شأنها تنظيم احتياجات سوق العمل في دول مجلس التعاون الخليجيّ، والبناء على القدرات البشريّة الوطنيّة التي تُرسي أُسُس اقتصادات متنوّعة وقائمة على المعرفة، مع التوفيق بين السمة المجزّأة وغير الطبيعيّة بين وطنيّ وغير وطنيّ، وما يصاحبها من اختلالات جنسانيّة تنتج عنها؛
- تسهيل مستويات أعلى من الاستثمار في رأس المال البشريّ المحلّيّ، لمواجهة حالات عدم التوافق بين المعروض من مهارات لدى العَمالة المحلّيّة والمهارات المطلوبة من قِبَل أصحاب العمل؛
- سدّ فجوة الأجور بين القطاعَين العامّ والخاصّ بالنسبة للمواطنين، وذلك لمواجهة تجزئة سوق العمل. فهناك حاجة إلى وضع سياسة للأجور بالنسبة للمواطنين العاملين في القطاع الخاصّ، بهدف تحقيق حدّ أدنى من تناسب مستويات الأجور بين القطاعَين العامّ والخاصّ. وقد تكون هناك حاجة إلى إعانات وحوافز حكوميّة لأصحاب العمل من أجل توظيف وتدريب عمّال محلّيّين في القطاع الخاصّ؛
- ضبط توقّعات السكّان المحلّيّين حول الدولة بصفتها صاحب العمل الأساسيّ، بطريقة تجعلهم يتحوّلون من عقليّة الاستحقاق إلى عقليّة المساءلة والإنتاجيّة المنخفضة؛
وفيما يتّصل بحقوق الوافدين:
- إدراك أنّ سياسات توطين الوظائف يمكن متابعتها أيضاً من خلال نهج قائم على الحقوق؛ إذ يجب تنفيذ خطط التوطين مع احترام حقوق الوافدين وأصحاب العمل معاً، وبما يتوافق مع المعايير الدوليّة؛
- توسيع نطاق أحكام الحماية الاجتماعيّة لتغطّي العمّال الأجانب في استجابات الحماية الاجتماعيّة الوطنيّة، بما يتوافق مع قوانين حقوق الإنسان الدوليّة ومعايير العمل الدوليّة؛ إذ لا بدّ أنْ يكون العمّال الأجانب قادرين على التفاوض بشأن حقوقهم، ومنهم ما يتّصل بتخفيض الأجور أو عدم دفعها أو حرمانهم من استحقاقاتهم، ولا بدّ أنْ يُتاح لهم الحصول على الاستشارة القانونيّة وخدمات الترجمة عند الحاجة؛
- إدخال عقود موحّدة للعمّال الوافدين ونظام لحماية الأجور يُلزِم أصحابَ الأعمال بدفع رواتب العمّال الوافدين مباشرةً في حسابات مصرفيّة من أجل تحسين عمليّة دفع الأجور، ولا سيَّما في أوقات الصدمات والأزمات؛
- تنفيذ آليّة لحلّ نزاعات العمل، يسهل الوصول إليها، من أجل مواجهة وعلاج المظالم، ومنها نزاعات العمل التي كان فيها عمّال وافدون تمّ تسريحهم من العمل نتيجة وباء كورونا؛
- إصلاح نظام الكفالة، الذي يربط العمّال الوافدين بأصحاب العمل، ويمنعهم من تغيير وظائفهم؛ مع منح العمّال الوافدين قدراً أكبر من حرّيّة التنقّل والحركة للعثور على عمل في القطاعات أو المجالات الأخرى عبر دول مجلس التعاون الخليجيّ.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.