قطاع الطاقة في لبنان والتنافس بين الشمس والبحر

كان موضوع الطاقة في لبنان يُطرح بشكلٍ كثيف من باب السياسة والفساد المالي، وقليلاً جداً من الناحية البيئية والمناخية أو الصحية أو حتى الاقتصادية والسياساتية. تأقلم اللبنانيون  مع فكرة التعايش بين الدولة ولا الدولة  في الحصول على الكهرباء، وتعودوا على السيارات الكبيرة، على الرغم من تعاسة الطرقات، ولم يعودوا يكترثون إلى فانات النقل المشترك التي تعمل وهي تلوث الطرقات من كثرة استعمالها المازوت، والمنازل الكبيرة المشعة في جميع الأوقات والصناعات تعاني من قلة التنافس بسبب الكلفة العالية للإنتاج. وضعت وزارة الطاقة اللبنانية خططاً للكهرباء باءت جميعها  بالفشل في التنفيذ لعدة أسباب ليست ضمن سياق هذا المقال. لكن خلال السنوات لم يكن هناك أي استراتيجية كاملة للطاقة في لبنان، كان الموضوع دائماً محصوراً بالكهرباء وكيف على الدولة تأمين الكهرباء ومن أي مصدر كان. جرى التركيز في العقد الماضي على قطاع النفط والغاز كمصدر أساسي لإنتاج الكهرباء، ودخل النفط والغاز في المخيلة السياسية والشعبية في البلاد وأصبح الهوس الأول. في المقابل لم نرَ الحماس الشعبي والسياسي في موضوع إنتاج الطاقة من مصادر نظيفة كالشمس والهواء، علماً أن مناقصات النفط والغاز انطلقت مع مناقصات الطاقة النظيفة عام 2013. أوصلت المماطلات الإدارية والخلافات السياسية البلاد إلى وضع لا يوجد فيه كهرباء لا من الغاز ولا من الشمس ولا من الهواء. وصل الأمر بعد الانهيار الكبير بعد عام 2019 إلى أزمة حادة في الكهرباء إلى درجة الانقطاع التام.

أمام هذا الوضع المزري وفشل مؤسسات الدولة في تأمين الخدمات للمواطنين، بحث اللبنانيون عن حلول للخروج من أزمة الكهرباء، فكان الحل باستخدام الطاقة الشمسية إلى درجة أن الإنتاج الفردي وصل إلى حد الألف ميغاواط، بينما أدت جميع المحاولات منذ عشر سنوات إلى إنتاج مائة ميغاواط. في ظل  الأزمة والانهيار، وضع المواطنون الدولة على خارطة التطور الطاقي من خلال المبادرات الفردية إلى  استخدام الطاقة النظيفة، لكن بسبب الحاجة وليس بسبب الاقتناع. إلا أن هذا المشهد قد يعني أن لبنان اليوم أمام فرصة لبناء أسس جديدة مبنية على قواعد حديثة.

تحاول هذه الورقة البحث عن التطورات التي طرأت على ملف الطاقة في لبنان، مع التركيز على التطورات الأخيرة بعد الأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية والسياسية، والتنافس بين الغاز والطاقات المتجددة في هذه المرحلة وعما يجب التركيز عليه في المرحلة المقبلة.

النفط والغاز

بعد نيل لبنان الاستقلال عام 1943 بدأت مرحلة بناء الدولة الحديثة المستقلة، ووضع الأسس للاقتصاد ومن ضمنها محاولة الدولة اللبنانية ما بين الأعوام 1947 و1967 الاستثمار في قطاع النفط. وجرت عمليات التنقيب بحثاً عن الذهب الأسود في 7 مواقع على الأراضي اللبنانية. حينها لم تكن الاكتشافات مشجعة، وحسمت الدولة خياراتها الاقتصادية وتوجهت إلى الاقتصاد الريعي المبني على الخدمات، وعلى فكرة أن يكون لبنان مصرفاً ومستشفى وجامعة ومصيف العرب، وأن يكون الممر النفطي من الخليج إلى المتوسط في العالم، وعلى هذا الأساس خُتم ملف النفط ولم يُفتح إلا بعد انتهاء الحرب الأهلية في لبنان عام 1990. فتح الملف من جديد مع أولى حكومات رئيس الوزراء رفيق الحريري، عندما أعادت وزارة الصناعة إحياء دراسات جيولوجية كانت موجودة في المياه الشمالية بالقرب من الحدود السورية. لكن سرعان ما أُقفل الملف لأسباب قيل حينها إنها تعود إلى الوجود السوري في لبنان وتدخله في الملفات الاقتصادية، وعاد التركيز على إحياء دور لبنان كمركز خدمات للشرق العربي، ودخل عصر إعادة الإعمار.

كان ضرورياً أن تمتد إعادة الإعمار إلى أكثر من بيروت وأكثر من الحجر، والاهتمام بإعادة بناء المؤسسات وبناء مواطن ما بعد الحرب، وإلغاء مفاعيل العقل المليشيوي  في البلاد. عادت بيروت العاصمة، وعود عن كهرباء 24 ساعة على 24، حتى وصلنا مع الانهيار الاقتصادي الكبير بعد تشرين الأول 2019 إلى انقطاعها  24 ساعة على 24. تُنتج الكهرباء في لبنان مؤسسة كهرباء لبنان والمولدات الخاصة، والجهتان  تنتجان من مصادر ملوثة ومرتفعة  الكلفة، وهي الفيول والديزل.

عاد ملف النفط والغاز إلى الواجهة من جديد مع بداية الألفية الثانية، بعد دراسات أجراها US Geological Survey، وهو جهاز علمي أميركي لمياه شرقي المتوسط، تؤكد وجود كميات كبيرة من النفط والغاز، وبعد عدة اكتشافات مهمة لشركات نفط عالمية كشيل ونوبل وBP في المنطقة، بدأت السلطات اللبنانية، بالتعاون مع السلطات النرويجية، العمل بجدية على ملف النفط والغاز. وبالتزامن مع بدء المسوحات الجيولوجية في المياه اللبنانية وضعت ورقة سياسة عامة للقطاع عام 2007، أُقر من بعدها قانون "الأنشطة البترولية في المياه اللبنانية" عام 2010، وأنشئت هيئة إدارة قطاع البترول عام 2012، وأُعلن عن فتح جولة تراخيص أولى عام 2013 قبل إقرار مراسيم أساسية مثل العقود النموذجية وتقسيم المياه إلى بلوكات والقواعد الضريبية للقطاع. لم تُحسم هذه الأمور إلا عام 2017، وأُقفلت جولة التراخيص الأولى عام 2018 مع توقيع الدولة اللبنانية على عقدين مع شركات توتال وإيني ونوفاتك، ونفذت الشركات في نيسان 2020 أول حفر استكشافي في تاريخ لبنان في البلوك رقم 4 شمال مدينة بيروت وجاءت النتيجة سلبية، ولم تتمكن الشركات من إيجاد مخزون غاز.

مستقبل الطاقة في لبنان

مع دخول لبنان في نفق الأزمات المستعصية، المالية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ومع التظاهرات في المناطق والغضب الشعبي خصوصاً بعد انفجار مرفأ بيروت عام 2020، لم يخطر  في بال اللبنانيين أن الطبقة السياسية الحاكمة ستلجأ إلى الإدارة الأميركية وتطرح موضوع التفاوض على الحدود البحرية مع إسرائيل. لكن هذا ما حصل تحديداً في أول تشرين الأول 2020، مع إعلان رئيس مجلس النواب اللبناني انطلاق الوساطة الأميركية بين لبنان وإسرائيل، وكان اللقاء الأول في الناقورة على الحدود اللبنانية  مع إسرائيل بتاريخ 14 تشرين الأول 2020. استمرت الوساطة الأميركية حتى تشرين الأول 2022 حين أُعلن عن نجاحها  في الاتفاق بين لبنان وإسرائيل على الحدود البحرية، ما سيسمح لشركة توتال إينرجيز، بالتعاون مع إيني والشريك الجديد قطر للطاقة، بإعادة انطلاق الأعمال الهيدروكربونية في المياه اللبنانية. وبالفعل، بعد التوقيع على اتفاق ترسيم الحدود، وصل إلى لبنان في 30 كانون الثاني 2023 كل من رؤساء الشركات الثلاث ووقعوا على اتفاقيات الاستكشاف والإنتاج المعدلة، وأُعلن أن أعمال الحفر الاستكشافي في البلوك 9 ستجري بين الربع الثالث والرابع من عام 2023. ووصلت فعلاً سفينة الحفر إلى الموقع في البلوك 9 وبدأت أعمال التنقيب بحثاً عن النفط والغاز في نهاية شهر آب.

بعد الانتهاء من أعمال الحفر الاستكشافية، تُعلن النتائج الأولية للحفر، وهي على الشكل الآتي:

السيناريو الأول: لا يوجد نفط أو غاز. وهذا الأمر يُعتبر عادياً بالنسبة إلى هذه الصناعة، خصوصاً أن المطلوب من الشركات حفر بئر واحدة. وبالتالي ستكون نسبة النجاح منخفضة. في هذه الحالة، تعلن الشركة المشغلة، أي شركة توتال إينرجيز، النتيجة وتؤكدها الحكومة اللبنانية التي يُفترض أن تواكب أعمال الحفر. وفي وقتٍ لاحق، قد تعلن الشركات العاملة في البلوك 9 إذا كانت تريد حفر بئر أخرى، أو الاستمرار في الإبقاء على الحقل، أو إعادته إلى الدولة اللبنانية.

السيناريو الثاني: يوجد نفط وغاز في مكان الحفر، لكن الاكتشاف المحتمل قد يكون صغيراً إلى درجة أن الشركة المشغلة قد تعلن أنه غير قابل للتطوير أو قد يحتاج إلى حفر إضافي. وفي هذه الحالة أيضاً يتوجب على الشركات الإعلان عن خططها لمستقبل البلوك، في حال أرادت التخلي الجزئي أو الكلي عنه.

السيناريو الثالث: تنجح مهمة الحفر، وتعلن الشركة أنها توصلت إلى اكتشاف محتمل قابل للتطوير والإنتاج، وقد تحتاج  إلى مزيد من الحفر لتقييم الاكتشاف والحصول على معلومات أكثر تطوراً  حول الحقل والاكتشاف. في حالة الاكتشاف القابل للتطوير، يجب على الشركة أن تُعلم الحكومة اللبنانية إذا كان المكمن موجوداً كلياً في المنطقة الاقتصادية اللبنانية، أو أنه مشترك مع إسرائيل.

في حال كان الاكتشاف موجوداً في لبنان، يجب على الشركات تطبيق بنود اتفاقية الاستكشاف والإنتاج الموقّعة بين لبنان والشركات، ما يعني أن عليها  تقديم خطة عمل تتعلق بتطوير وإنتاج النفط والغاز المُكتشف إلى الحكومة اللبنانية للموافقة عليها.

في حال كان المكتشف مشتركاً مع إسرائيل، على لبنان والشركات تطبيق اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، وبالتالي على شركة توتال إينرجيز توقيع اتفاق مالي بينها وبين إسرائيل على حصة الأخيرة من الحقل المشترك المكتشف، لتتمكن توتال إينرجيز من تطوير الحقل من الجانب اللبناني.

السؤال الأهم لدى اللبنانيين هو متى يبدأ الإنتاج؟ ومتى يبدأ لبنان بالاستفادة؟ وهذه بالطبع تساؤلات مشروعة. لن نستطيع معرفة الوقت المطلوب قبل معرفة خطة العمل التي تطرحها الشركات على الحكومة اللبنانية، والتي يجب أن تكون مبنية على عدة قرارات هي التي تحدد المدة الزمنية التي تحتاجها الشركات لتطوير الحقل. ومن أهم العوامل: 1) نوع منصة الإنتاج الأنسب للاكتشاف، 2) البنى التحتية المطلوب إنشاؤها لاستخدام المكتشف في الداخل اللبناني أو للتصدير، 3) الوقت المطلوب لتنفيذ الأعمال المطلوبة، 4) رصد الأموال لتطوير الحقل. وبالتالي يصعب  معرفة توقيت بدء الإنتاج قبل معرفة الإجابة عن سؤال خطة العمل، بينما تبقى الإجابة عن سؤال مدى استفادة لبنان من النفط والغاز أسهل. ففي ظل الحكم الحالي والنهج السياسي والمؤسساتي والاقتصادي والمالي، لن يستفيد اللبنانيون، قد تستفيد الطبقة الحاكمة سياسياً واقتصادياً بالطبع، لكن ذلك لن يجعلها وطنية وللجميع. وقد تصل الحال إلى أن لا تستفيد البلاد  حتى من استخدام  الغاز في الداخل اللبناني لإنتاج الكهرباء إذا لم تستطع الحكومة جذب الأموال لإنشاء المعامل وتشغيلها على الغاز، أو لم تتمكن شركة كهرباء لبنان من شراء الغاز لتوليد الكهرباء.

من ناحية أخرى قد تقرر الشركات أنها تعمل مع الشركات الموجودة في المنطقة، وبناء إنشاءات مشتركة واستعمال منشآت موجودة لتصدير الغاز المنتج في المنطقة والأكثر شيوعاً حالياً فيها هو إنشاء منصة عائمة للغاز المسال، وهذه الخطة تطورها شركة شيفرون الأميركية العاملة في إسرائيل وقبرص. تساعد هذه التقنية الشركات على تفادي جميع المشاكل التقنية والسياسية التي قد تواجه الشركات مع بناء الأنابيب أو الوصول إلى أنابيب من بلد إلى آخر. المشاكل السياسية كثيرة في المنطقة، وهي تعيق في معظم الأحيان أعمال الشركات وتجعلها  غير مجدية اقتصادياً وبالتالي تتوقف خطط التنفيذ.

في 19 تشرين الأول 2023، أعلنت وزارة الطاقة اللبنانية، في بيانٍ رسمي، أن الحفر الاستكشافي في البلوك رقم 9 لم ينتج عنه اكتشاف، لكن العينات التي أُخذت من البئر تشجع على استمرار الأعمال في هذا البلوك وبلوكات محاذية. بينما لم يذكر البيان ما إذا كانت الشركات في لبنان ستبقى أو ستنهي أعمالها وتعيد البلوكين 4 و9 إلى الدولة اللبنانية.

في المرحلة المقبلة علينا انتظار الآتي:

  1. إعلان تحالف الشركات توتال إينرجيز وإيني وقطر للطاقة عن خطة التحالف في لبنان على ضوء النتيجة السلبية، والخيارات هي إما التخلي الكلي عن البلوكين 4 و9، أو التخلي الجزئي عن البلوكين والالتزام بأعمال حفر جديدة أو التخلي الكلي عن بلوك 9 والالتزام بأعمال جديدة في البلوك الآخر.
  2. انتهاء الشركات من إعداد التقرير النهائي المتعلق بالبلوك 9، وتسليمه إلى الحكومة.
  3. إعلان الحكومة قراراها بالنسبة إلى العرضين المقدمين من توتال إينرجيز وشركائها على البلوكين 8 و10 في الجنوب اللبناني. هل توافق الحكومة  على العرضين؟ أو توافق  مع تعديلات خصوصاً في ما يتعلق بالجانب الفني أي كل ما يتعلق بالحفر؟ أو ترفض العرضين؟

لا شك أن هذه النتيجة السلبية تضع الحكومة والأحزاب السياسية الحاكمة في وضعٍ صعبٍ جداً يعيدها إلى خانة الصفر في مخططاتها للنهوض الاقتصادي. إذ بنت الحكومة  استراتيجيتها للنهوض الاقتصادي على الاعتماد على قطاع النفط والغاز كمنقذ للاقتصاد، وكذريعة للهروب من الإصلاحات البنيوية المطلوبة. اليوم لم تعد هذه الورقة صالحة، ولم يعد هناك إلا طريق الإصلاحات وصندوق النقد الدولي إذا أرادت السلطة فعلياً إنقاذ البلاد. من جهةٍ أخرى، ستساعد هذه النتيجة السلبية الجهات البيئية على إعادة  طرح موضوع الجدوى من الاستثمار في مسألة النفط والغاز بما أن مستقبل هذا القطاع في لبنان أصبح ضبابياً أكثر من ذي قبل.

التوجه السياسي والمزاج الشعبي

يصعّب الهوس الجماعي في لبنان، إذا جاز التعبير، بموضوع النفط والغاز  إدارة التوقعات والنقاش العام الموضوعي حول مستقبل الطاقة في البلاد، ويطرح علامات استفهام حول مستقبل الإنجازات الفردية في موضوع استخدام الطاقات النظيفة. لكن بطء الأنشطة البترولية، وتسارع الانهيار الاجتماعي والاقتصادي، يعملان نوعاً ما لصالح الطاقات المتجددة، وانهيار المؤسسات العامة والدعوة إلى اللامركزية الموسعة تدفعان إلى تشجيع التفكير المحلي، وهذه عوامل مساعدة على ضخ المزيد من المشاريع بالطاقات المتجددة. لكن لا شك أن موضوع النفط والغاز يأخذ حيزاً أكبر من اهتمام السياسيين، وبالتالي من اهتمام الإعلام والشعب. ففي عام 2013 انطلقت جولات التراخيص للنفط والغاز والطاقات المتجددة، لكن ما سيطر على الإعلام وكلام السياسيين كان قطاع النفط والغاز، الكل كان يتكلم عن هذا الموضوع. ولم يصدر عن الإعلام أي حديث عن مشاريع الطاقات الشمسية والهوائية.

كان يدور الحديث في الإعلام عن دفتر الشروط وعقود النفط والغاز وعن القانون. كثرت المقالات والتحليلات في الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب عن هذه المواضيع، وانقسم البلد بين مؤيد ومعارض للقوانين والخيارات الاقتصادية، ودور الدولة والشركات،  وكان التأييد أو الاعتراض في معظم الأحيان مبنيين على التوجهات السياسية. بينما لم يكن هناك نقاش عام حول الطاقات المتجددة لا عن قوانين ولا عمّن يحق له إعطاء التراخيص ولا عن دور وزارة الطاقة، كما كان  هناك اعتراضات على دور وزارة الطاقة في ملف النفط والغاز ومنح التراخيص. ونستمر بالمقارنة، إذ تم التركيز خلال إحدى الفترات على كيفية إنشاء هيئة إدارة قطاع البترول التي يفترض أن تكون الهيئة الناظمة لقطاع النفط والغاز، وعلى رواتب الأعضاء وكفاءاتهم، في حين لم نرَ التغطية أو الوتيرة في موضوع الطاقات المتجددة نفسها، ولم يجرِ  أي حديث عمّن هم المسؤولون عن هذا القطاع وكيف يدار. فمنذ إنشاء قانون النفط والغاز، ومنذ تسلم التيار الوطني الحر ملف النفط والغاز، تحوّل الموضوع إلى سياسي أكثر منه تقنياً، واللبنانيون يحبون السياسة أكثر من أي شيء آخر. حوّل التيار الوطني الحر موضوع النفط والغاز إلى legacy project. اعتبر أن هذا المشروع سيكون إنجازه التاريخي وبالتالي تحوّله إلى موضوع استراتيجي محوري وأساسي. في المقابل، أصبح معارضو  التيار أكثر اكتراثاً بهذا الموضوع، وبدأوا بالبحث عن كل شيء يتعلق به، وأصبح النفط والغاز موضوع ساعات وساعات في الفضاء العام. وبعد الأزمة الكبرى تحول النفط والغاز إلى منقذ بالنسبة إلى السياسيين في السياسة والاقتصاد، حتى إن المعتقد الشعبي، المدعوم من الطبقة الحاكمة، هو أن النفط والغاز سيدرّان على لبنان أموالاً طائلة ويخرجانه من أزماته، وأنه سيكون للبنان دور سياسي واستراتيجي في المنطقة ومع المجتمع الدولي. الموضوع إذن هو نفوذ واستيلاء على مقدرات الدولة والتمسك بالسلطة وبسط الأمر الواقع مع السلطة الحاكمة. ويعتقد البعض أن النفط والغاز قد يحولان الاقتصاد اللبناني كما حصل مع دول الخليج. لكن يفوت الكثيرين أن العديد من الدول التي تعاني من حوكمة ضعيفة لم تتمكن من النهوض الاقتصادي بسبب وجود النفط والغاز بل لأنها انزلقت أكثر إلى الفساد والديكتاتورية وحتى إلى الحروب. أما موضوع النفط والغاز خصوصاً الغاز كمصدر أنظف لإنتاج الطاقة يأتي كموضوعٍ ثانوي في الهوس الجماعي، ما يفسر غياب الحماس الجماهيري والسياسي لموضوع الطاقات المتجددة. يأتي مع النفط والغاز النفوذ والمال، لكن الطبقة السياسية لا ترى المنفعة نفسها من الطاقات المتجددة، على الأقل  حتى الآن. الدراسات  حول قدرات لبنان في مجال الطاقات المتجددة وكيفية الوصول إلى الأهداف المطروحة متوفرة، إلا أن الزخم السياسي والسياسات لم تكن موجودة. اليوم، الحماس الشعبي مبني على الحاجة إلى  الكهرباء، وهذا الحماس هو الذي رفع معدل استخدام  الطاقة الشمسية من 100 ميغاواط إلى نحو 1000 ميغاواط، بحسب الأرقام والمعطيات التي يتداولها المركز اللبناني لحفظ الطاقة، فإن النسبة الأعلى لاستعمال الطاقة الشمسية موجودة  في جبل لبنان بنسبة34  في المئة، يليه البقاع والجنوب بنسبة 22 في المئة لكل منطقة، والشمال بنسبة 16 في المئة، وبيروت بنسبة 6 في المئة. يجب من دون شك أن ننتظر نشر الدراسات حول هذا الامتداد لنعرف أكثر عن تفاصيل هذا الموضوع، وعن مستقبل الطاقة الشمسية في لبنان. لكن المهم أن هذه المبادرات الفردية هي وليدة الحاجة وليست نتيجة التخطيط أو التنفيذ الحكومي حتى لو حاولت السلطات الرسمية اعتبار ما يحصل إنجازاً لها. إنجازها هو أنها قطعت الكهرباء كلياً عن المستهلكين، ورفعت التعرفة في أصعب الظروف الاقتصادية، ورفعت الدعم عن المحروقات. بالنتيجة تمكن القادرون  من اللجوء إلى الطاقة الشمسية، بينما بقي غير القادرين  متروكين لأمرهم. وهذا أخطر شيء: الانتقال الطاقي غير العادل.

لبنان اليوم في قعر الأزمات المالية والاقتصادية والسياسية، وقد تكون هذه الفرصة للنهوض على أسس سليمة مواكبة لتطلعات العصر على الأقل في موضوع الطاقة. وبما أن الجهة الرسمية اللبنانية في موضوع الطاقات المتجددة، المركز اللبناني لحفظ الطاقة، هو حالياً الطرف الرسمي الفعلي لذلك يجب وضع  أعماله تحت مجهر السلطات الرقابية الرسمية، خصوصاً البرلمان ومنظمات المجتمع المدني، لمواكبة المشاريع والدراسات. وإذا تقرر أيضاً أن هذه الجهة ستبقى المدماك المؤسساتي الأول، فيجب التأكد من أن المركز يملك جميع القدرات الكافية للقيام بدوره، كما يجب مواكبة المشاريع الممولة من قبل الدول المانحة. فتمويل المشاريع المتعلقة بالمناخ متاحة، وعلى السلطات اللبنانية أن تزيل  المعوقات لتمويل المشاريع والمضي في التقدم الحاصل حالياً لمواكبة الإنجازات الفردية وتطوير قطاع الطاقات المتجددة، حتى يكون الانتقال عادلاً ومنصفاً لجميع المواطنين والمواطنات.

التوصيات

  1. بينما لا يزال الفيول والديزل المصدر الأساسي لإنتاج لكهرباء من قبل مؤسسة كهرباء لبنان والمولدات الخاصة، تأتي اليوم المنافسة من الطاقة الشمسية عبر القدرات الفردية، وقد يضاف إلى هذا التنافس الغاز من البحر. ربما يقول البعض إن هذا الأمر جيد لأننا نحتاج إلى التنوع في المزيج الطاقوي لتوليد الكهرباء، لكن بسبب الوضع في لبنان، تحصل هذه الأمور بطريقة عشوائية من دون تنسيق أو تخطيط. لذا، المطلوب اليوم هو أن تفتح وزارتا الطاقة والبيئة مع الهيئات الخاصة والمجتمع المدني باب النقاشات والاستشارات الممنهجة للتوافق على مستقبل الطاقة في لبنان، وبناءً عليه، إعادة النظر في خطة الطاقة التي تعمل على أساسها وزارة الطاقة اليوم أكثر من أي وقتٍ آخر، لأن مستقبل الغاز في لبنان لم يعد مؤكداً لدى الجهات المعنية وأصحاب المصالح المعنيين، هي فرصة لطرح موضوع استراتيجية الطاقة على طاولة الحوار التي يجب تشكيلها في أسرع وقت، ويجب أن تضم جميع أصحاب المصلحة من الدولة، مروراً بالنقابات والقطاع الخاص، يجب ان تكون جامعة.
  2. يتطلب هذا الأمر إجراء مسح ودراسة جديدة لحاجات لبنان في مجال الطاقة، بعد التغييرات الديموغرافية مع هجرة العائلات، والوضع الاقتصادي للمقيمين والمبادرات الفردية. وهذا طبعاً يتطلب وضع رؤية جديدة لقطاع الكهرباء تتوافق مع تغيرات الأمر الواقع ومعرفة لزوم بناء معامل جديدة من عدمه، ونوعية هذه المعامل وأماكنها.
  3. الإسراع في إقرار القوانين المتعلقة بالطاقات المتجددة خصوصاً لامركزية الطاقة المتجددة إفساحاً في المجال لتمويل مشاريع الطاقة النظيفة في المناطق التي تساهم في تعزيز الاقتصادات المحلية والمساعدة على الحصول على بيئة نظيفة.
  4. وضع قانون يتعلق بالمعدات والألواح الشمسية بعد الاستعمال، لتفادي كوارث بيئية بسبب التخلص العشوائي منها.
  5. إذا أصبح لبنان دولة منتجة للنفط والغاز، يجب وضع القوانين والآليات التنفيذية وفرض الشروط على الشركات المنتجة، ليكون المنتج قليل انبعاثات الغازات المضرة خصوصاً الميثان.  ـ
  6. عدم إنشاء الصندوق السيادي المتعلق بالعائدات النفطية إلا مع قرب حصول لبنان على عائدات من النفط والغاز تفادياً لإنشاء صندوق قبل أوانه يخسر الدولة أموالاً لدفع مصاريفه التشغيلية فتكبد الخزينة المفلسة أساساً خسائر إضافية.
  7. إبعاد السياسة الضيقة اللبنانية عن موضوع الطاقة، والعمل على الاستفادة من الفرص لجذب الأموال لتمويل مشاريع الطاقات النظيفة، وهذا يتطلب طبعاً إجراء لبنان إصلاحات مالية ومؤسساتية واقتصادية جذرية لتحفيز المانحين والقطاع الخاص المحلي والدولي على الاستثمار في طاقات المستقبل.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.