المجتمع التشارُكي في حيّ رملة بولاق بالقاهرة: دراسة حالة

رملة بلاق في كانون الثاني/اناير عام 2020، المليء بجدران من السمنت بناها المستثمر الخاص الجديد "مدينة النيل". © أمنية خليل

مقدمة

منذ تسعينيات القرن الماضي، وانطلاق موجة "لَبرَلة"/تحرير الاقتصاد المصري، شهدت القاهرة عملية تحول كبرى تتمثل في خصخصة المناطق الحضرية على يد مستثمري الدولة والقطاع الخاص، الذين أجبروا السكان على هجر منازلهم في الأحياء العشوائية -أو ما يعرف باسم "العشوائيات"، المنتشرة في وسط القاهرة- ليشيدوا بدلاً منها قطاعات جديدة مصممة لخدمة "الصفوة". ويقف حي رملة بولاق شاهداً على هذه الديناميات، وهي منطقة حيوية تقع شرق النيل. وقد كانت هذه المنطقة، تاريخياً، تتكون من مساحات شاسعة للصناعات الكبرى وأخرى صغيرة للحرف اليدوية؛ لكن بداية من عام 1996 بدأ مستثمرو الدولة وأثرياء القطاع الخاص في تهجير سكان الحي لتشييد مبانٍ جديدة مثل أبراج نايل سيتي.

لم تكن الجهود المبذولة لتهجير سكان حي رملة بولاق لِتمرَّ دون مقاومة من المجتمع المحلي؛ فقد احتدمت مقاومة سكان الحي بعد ثورة 2011 عندما انضم إليهم الناشطون، وقَوّوا شوكتهم لمعارضة التهجير القسري، وبدؤوا في طرح خطط بديلة للتنمية. ثم تأجج الصراع على المنطقة بعد عام 2012 عندما حدثت اشتباكات بين حراس أبراج نايل سيتي وسكان الحي.

أحاول في هذه الورقة تقديم سردية متكاملة عن عملية التعبئة ضد حركة الإجلاء القسري لسكان حي رملة بولاق، بين عامي 2012 و2015. اعتبر صندوقُ تطوير المناطق العشوائية هذا الحي مستوطنةً عشوائية منذ عام 2010، وقد حاولتُ -كما حاول آخرون كُثُر- اتباع نموذج لبنية وتصميم المجتمع التشاركي الذي يستهدف تطوير الحي. فعلى الرغم من سنوات التعبئة، انتهى الحال بالعديد من أسر حي رملة بولاق -الذين أنهكتهم سنوات المعاناة والكدح- ببيع منازلهم لمطوري أبراج نايل سيتي، ومنذ ذلك الحين تفرقوا في مناطق مختلفة. أقدم في هذه الورقة بعض الأفكار والتأملات حول أسباب هذا الفشل في مواجهة التطورات الجارية، وأحاول أيضاً إلقاء الضوء على قصور المقاربات التشاركية الذي يبرز عندما تتكتل ديناميات السلطة وتقف حجر عثرة أمام المجتمعات المحلية.

رملة بولاق: الصراع على موقع ثمين

يعود اهتمام القطاع الخاص برملة بولاق إلى عام 1996، حين زار رجل الأعمال الشهير نجيب ساويرس، بصحبة جمال مبارك،1نجل الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك. حي الطبقة العاملة المحاذي للنيل، وقرر شراء مساحات واسعة من الأراضي التي كانت تضم مصانع وورشاً، لإنشاء مشروع تنموي جديد وضخم، عُرف فيما بعد باسم "أبراج نايل سيتي". ولتحقيق هذا الغرض، شرع في هدم المباني الكثيرة الموجودة على هذه الأراضي، حيث كان يعمل سكان الحي. وبحلول عام 2001 ظهرت في الحي منطقة أعمال مركزية جديدة، تصاحبها مبانٍ مكتبية، ودورُ سينما، وفندق، ومركز تسوق، ونادٍ/ملهىً ليليّ، وغيرها من المرافق الترفيهية. سعى بعض سكان الحي -الذين فقدوا عملهم نتيجة هدم المصانع- إلى الحصول على وظيفة عامل في مواقع البناء، ولم ينجح سوى القليل منهم في الحصول على وظيفة حارس أمني و/أو عامل نظافة في الأبراج التي بُنيت حديثاً.

بالتوازي مع هذه الأحداث، سعت إدارة أبراج نايل سيتي إلى التوسع، وأرادت شراء 4 أفدنة حول الأبراج، وهي تساوي تقريباً المساحة التي أنشئت عليها الأبراج. ومن ثَم دخلوا في مفاوضات مع بعض سكان المنازل الواقعة مباشرة خلف الأبراج من أجل شراء منازلهم. بدأت المفاوضات سلمية، ولكن الأسعار المعروضة كانت زهيدة، مما أدى إلى استنفاد العديد من السكان الذين غادروا الحي كلَّ ما معهم من أموال فور استئجارهم مساكن في مناطق أخرى، ومن ثم انتهى بهم المطاف بالعودة إلى منازلهم القديمة؛ وهو ما دفع إدارة الأبراج إلى عدم إبرام أي عقد شراء دون تضمين شرط هدم المنزل، لئلا يعود إليه صاحبه.

إن هدم و"إعادة تطوير" الأحياء العشوائية في وسط القاهرة -مثل "رملة بولاق" و"مثلث ماسبيرو" المجاور له- هو مجرد جزء من مشروع أضخم في مصر، أُعلن عنه في 2008 تحت اسم "القاهرة 2050". ويسعى هذا المشروع إلى تحويل القاهرة إلى مدينةٍ تجمع بين سمات المدينة السياحية والتراثية والتجارية؛ وتضمنت الخطة إزالة معظم الأحياء العشوائية -أو "العشوائيات"- وتحويلها إلى مناطق تخدم هذه الأهداف التجارية والترفيهية. كانت حكومة مبارك هي التي ترعى هذا المشروع وتعمل على تطويره؛ فأسست في العام نفسه (2008) "صندوقَ تطوير المناطق العشوائية"، بعد الانهيار الصخري الذي وقع في منطقة الدويقة -وهي منطقة عشوائية في حي منشية ناصر، شرق القاهرة- والذي تسبب في تدمير عدة منازل، ونتج عنه مئات القتلى والجرحى. وقد صنف صندوق تطوير المناطق العشوائية أكثرَ من 400 حي عشوائي على أنها مناطق غير آمنة في مختلف أنحاء مصر؛2متبعاً تصنيف المستوطنات البشرية غير الآمنة الذي أقره "برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية" (UN-Habitat). ومن هنا تمثل هدف مشروع القاهرة 2050 في إجلاء سكان هذه الأحياء، لكن الثورة المصرية عام 2011 وما أعقبها من تغييرات في الحكومة تسببت في توقف المشروع. إلا أن النظام الحالي، الذي تولى زمام الحكم منذ 2014، قد رفع لواء مشروع تنموي جديد تحت شعار "استراتيجية مصر للتنمية المستدامة 2030"، الذي يمثل مشروع "القاهرة 2050" أحد أهدافه.

أصيب سكان حي رملة بولاق بالصدمة من حالات العنف الظاهر التي صاحبت عملية إعادة تطوير الحي. ففي عام 2008، قدَّمت شابة تُدعى "نسمة" شكوى ضد البلدية وإدارة أبراج نايل سيتي، بعد أن أصدرت البلدية قرار إزالة لكشكها الواقع في مدخل رملة بولاق، الذي يعد مصدر دخلها الوحيد؛ وقد أصدرت البلدية قرار الإزالة لأنها اعتبرت أن كشك نسمة يمثل تعديًا غير قانوني على 6 أمتار من الشارع. حاولت نسمة في شكواها إثبات أن الكشك مبني قبل الأبراج بوقت طويل، وأن أصحاب الأبراج هم الذين تعدوا على الشارع لأنهم تجاوزوا المساحة المخصصة لهم بمقدار 6 أمتار. تُوفيت نسمة في نفس العام في ظروف غامضة، إذ صدمتها سيارة كانت تخرج من مرأب الأبراج. مثّل موت نسمة تحذيراً شديد اللهجة لسكان الحي، ينذر بعاقبة من يعارض إدارة الأبراج. وفي استطلاع أجرته بلديات بولاق أبو العلا ومحافظة القاهرة عام 2013 مع 600 أسرة في الحي، أشار كثيرون إلى أنهم أصيبوا بالذعر بعد وفاة نسمة.

أبرزت الثورة المصرية في 2011 العديد من التوترات. ففي الثامن والعشرين من كانون الثاني/يناير 2011 (جمعة الغضب) انسحبت قوات الشرطة من الشوارع أمام جموع المتظاهرين؛ وقد استغل مثيرو الشغب الغاضبون وبعض العناصر الإجرامية هذه الفوضى الأمنية لاقتحام ونهب مراكز التسوق والمتاجر الفاخرة، ومنها مول أركاديا الواقع في مبنى أبراج نايل سيتي. فيما بعد، ونتيجةً لهذه الأحداث، قرر مسؤول الأمن في أبراج نايل سيتي تعيين عدد من شباب الحي في وظيفة حارس أمني بدوام كامل، لأنهم على معرفة جيدة بالمجرمين في المنطقة.

كان راتب وظيفة حارس أمن في أبراج نايل سيتي مجزياً، إذ كان الشباب يتقاضون آلاف الجنيهات. ولكن لم يكن لدى الكثيرين منهم زي رسمي أو عقود عمل؛ والغالبية العظمى منهم لم يكن عملهم داخل الأبراج أصلاً، بل كانوا بالأحرى حراساً متخفّين للأبراج في عموم الحي، خصوصاً في الليل. كانت الأمور تسير على ما يرام حتى حزيران/يونيو 2012، عندما بدأت الرواتب تتأخر. وفي الثاني من آب/أغسطس قرر الشاب عمرو البنّي -أحد شباب رملة بولاق الذين يعملون في حراسة الأبراج- أن يسعى إلى مقابلة مسؤول الأمن في الأبراج. أخبرت نقطة شرطة السياحة المقيمة عند مدخل الأبراج عمراً بأنه ممنوع من الدخول أو مقابلة مسؤول الأمن الذي يقع مكتبه في الطابق السادس عشر. وبعد مشاجرة قصيرة مع ضابط شرطة السياحة، أطلق الشرطي النار على عمرو فأرداه قتيلاً على الفور. وعلى خلفية هذه الأحداث، اندلعت اشتباكات عدة بين سكان حي رملة بولاق وبين رجال الأمن والشرطة عند أبراج نايل سيتي. حينها وصفت وسائل الإعلام سكان الحي بأنهم مجموعة من البلطجية والمجرمين يهاجمون حراس أبراج نايل سيتي، ورجال الشرطة. فيما أفادت البيانات التي جمعتها بنفسي بعد عمل ميداني في المنطقة بين عامي 2012 و2015، أن مجموعة من الشباب أسرعوا إلى البرج فوجدوا جثة عمرو، فحملوه معتقدين أنه ما زال حياً وأن بإمكانهم إنقاذه، وأثناء خروجهم به من البرج أُطلقت عليهم النار مرة أخرى، مما أدى إلى إصابتهم. وفيما بعد، أُلقي القبض على 52 رجل من الحي بتهمة التخريب والاعتداء على رجال وضباط الشرطة.

التعبئة ضد إعادة التنمية الحضرية

بعد اشتباكات 2012، زرتُ رملة بولاق للقاء أحد السكان، الذي قدَّم نفسه بصفته أحد أعضاء لجنة الحي. وقد سألني إن كان بإمكاني، باعتباري معمارية، أن أصمّم رؤية لما يمكن أن يبدو عليه الحي بعد عملية تطوير حضري. طوال بضعة أسابيع، التقيت سكاناً مختلفين من الحي، وأرادوا التركيز على مسألة إخراج أبنائهم وأزواجهم من السجن، فيما أراد آخرون التركيز على جهود منع الإجلاء القسري الذي كان قد أُعلن عنه في الجريدة الرسمية قبل شهرين من ذلك.

بعد مقتل عمرو، تدخَّل كثير من منظمات حقوق الإنسان لمساعدة العائلات في رملة بولاق الذين كانوا يتابعون قضيتين مختلفتين. الأولى هي استمرار احتجاز 52 متهماً بالتورط في الاشتباكات. أما الثانية فهي قضية في المحكمة الإدارية للاستئناف ضد قرار من محافظة القاهرة بمصادرة أراضي رملة بولاق، حيث تعيش 600 عائلة. فقد صدر مرسوم مصادرة الأراضي دون تحديد أساس يرتكز عليه -وهو ما يسمح به القانون المصري- ونُشر في الجريدة الرسمية في حزيران/يونيو 2012. ولم يكتشف المحامون هذا المرسوم سوى بعد اشتباكات 2 آب/أغسطس 2012.

جاءت هذه الحالات خلال لحظة ثورية شديدة التسييس في مصر. فأتاحت هذه الأجواء للسكان والمحامين والنشطاء، من أمثالي، القدرة على التعبئة دون خطر أو خوف من قوات الأمن. وقد أصدرت الحكومة في آذار/مارس 2013 رؤية لتطوير الحي، تضمّنت نقل جميع السكان إلى أربعة أبراج تُبنَى في الحي نفسه. غير أن السكان اعترضوا على هذه الرؤية، فقد كانت مطالبهم تنادي بالتطوير الحضري للحي، لا نقلهم إلى أبراج كما خططت الحكومة. علاوة على ذلك، كان قبول النقل وإعادة التوطين، بالنسبة لهؤلاء السكان، يعني أن ساويرس وأصحاب الأبراج قد ربحوا المعركة؛ وهو الأمر الذي لم يكونوا حينها يرغبون في حدوثه. لذا حشدوا لمسيرة إلى مقر التلفزيون لجذب اهتمام وسائل الإعلام وإيصال رسالة إلى محافظة القاهرة بصفتها الجهة المسؤولة عن الخطط. وقد دفع حشدهم وتعبئتهم بمحافظة القاهرة إلى طلب اللقاء بالسكان. وبعد سلسلة من اللقاءات، تجاوبت السلطات البلدية في بولاق مع بعض مطالب السكان، مثل تنظيف بعض مساحات الأراضي الفارغة، التي كانت تكتظ بالقمامة وتضر بالظروف المعيشية للعائلات المقيمة هناك. إضافة إلى هذا، طالب السكان بإجراء مسح شامل للعائلات التي تعيش في المنطقة؛ إذ أعلنت الحكومات السابقة أن هناك 150 عائلة فقط في المنطقة، وهو أمر غير صحيح. لكن السلطات المحلية لم تأخذ في الاعتبار مسألة التطوير الحضري مع وقوع تغييرات كبيرة في البيئة السياسية حينها.

في حزيران/يونيو 2015، أُنشِئت وزارة جديدة باسم "وزارة الدولة للتطوير الحضري والعشوائيات"، وكانت الوزيرة المُعيّنة، ليلى إسكندر، تعمل من قبل في منظمات غير حكومية. لذا كانت مقاربتها مختلفة، إذ كانت أول وزيرة تقرر زيارة الحي بنفسها وعقد اجتماعات مع العائلات لرؤية المتاح من فرص تطوير هذه المجتمعات الحضرية الفقيرة. ففي تمّوز/يوليو، رافقتُ العائلات للقاء الوزيرة الجديدة ودراسة البدائل معاً. كان النقاش في البداية يدور حول مدى أهمية إحداث تطوير حضري للحي، دون نقل أو إجلاء لأيٍّ من العائلات.

في اللقاء الثاني، نظرت الوزيرة إليّ وقالت "أنتِ بحاجة إلى إحضار بعض السكان الآخرين غير هؤلاء الموجودين هنا". لم أفهم حينها ما يعنيه هذا. وكان اللقاء الثالث بحضور إدارة أبراج نايل سيتي، إلى جانب الوزيرة، دون العائلات، وحينها عرضت إدارة الأبراج المخططات المعمارية للبرجَين اللذَين كانت الإدارة تخطط لبنائهما عند إجلاء السكان من الحي. إضافة إلى هذا، كانت معهم خريطة لأراضيهم في الحي، ورفض ممثّلو الأبراج تماماً فكرة التطوير، وأرادوا الحصول على قطعة الأرض لإقامة مشروعهم. فبالنسبة إليهم، يمكن نقل السكان إلى أي قطعة أخرى تعادل ما يمتلكونه في الحي.

وفي الاجتماع الرابع، سأل أحدُ الممثلين الرئيسيين لسكان الحي المسؤولين الحكوميين عن مقدار ما هم مستعدين لدفعه من ناحية التعويضات. كانت هذه مفاجأة، نظراً لأنه حتى تلك اللحظة كانت فكرة التعويض أو نقل السكان وإعادة توطينهم مرفوضة لديهم. وقد اعترض الممثلون الآخرون للسكان على سؤاله. وكان هذا هو اللقاء الأخير مع الوزارة؛ إذ أُلغِيت الوزارة في تعديل حكومي بعد شهور قليلة، وأُعيدت مسألة العشوائيات من جديد إلى وزارة الإسكان.

في صيف 2018، رتّب مسؤول من وزارة الإسكان لقاءً مع بعض سكان الحي، وأخبرهم أنه سيتمّ تعويضهم، إما من خلال الحصول على شقة في الأسمرات، وهو مشروع للإسكان الاجتماعي، أو الحصول على بعض المال. وبُعيد زيارته، قررت إدارة الأبراج التفاوض من جديد مع سكان الحي من أجل شراء منازلهم، بعد أن جرى تجميد عملية التفاوض منذ مقتل عمرو البنّي في 2012. وخلال شهور قليلة، قرر معظم السكان بيع بيوتهم إلى إدارة الأبراج، بدلاً من الحصول على تعويضات ضئيلة من الحكومة، فتغيّر وجه الحي تماماً، إذ قررت إدارة الأبراج إحاطة أراضيها بجدران خرسانية.

تساؤلات حول التشارُكية: دور النشطاء في التعبئة المجتمعية

بدأتُ هذه الرحلة مع أهالي رملة بولاق بصفتي ناشطة في خضمّ الثورة المصرية عام 2011. وفي 2014 أصبح جزء من القصة هو بحث أطروحتي للحصول على الماجستير كباحثة منخرطة في العمل العام. وقد ظلّ دوري هو تلك الباحثة المنخرطة في القضية إلى أن قررت معظم العائلات بيع أراضيها وبيوتها والرحيل. وحتى عام 2020، قُبَيل انتشار الوباء، كانت نسبة 30٪ فقط من العائلات لا تزال في رملة بولاق. لتوضيح موقفي، من المهم فهم ذاتيتي. فأنا من أسرة شيوعية، شارك معظم أفرادها في الحياة العامة ولديهم اعتقاد راسخ أن لهم دوراً في التغيير. وقد حصلت على التعليم العام، وحظيت بفرصة الحصول على درجة البكالوريوس في العمارة، ثم حصلت على زمالة في الجامعة الأميركية بالقاهرة لدراسة الأنثروبولوجيا (علم الإنسان).

حين بدأتُ في المشاركة بصفتي ناشطة ماركسية ونسوية، وضعتُ جميع أهالي الحي في موضع الضحية، مع أني كنت أعي أنني أعارض الحملات الخيرية والتنموية وحملات رفع الوعي التي تستبعد إرادة الأهالي وتُشَيِّؤهم بوصفهم ضحايا بحاجة إلى المساعدة. غير أن التحليل الماركسي جعلني أيضاً أنحاز إلى السكان دون فهمٍ كافٍ للديناميات بين أطيافهم المختلفة. وعلاوة على هذا، لم أكن على وعي تام بالأدوار المختلفة التي لعبها بعض السكان، فعلى سبيل المثال، أول من التقيت به في الحي كان في الواقع يقوم بدور مزدوج بين الشرطة وأهالي الحي، بمعنى أنه كان يقدم المعلومات للشرطة. وكلما طال الوقت الذي قضيته مع السكان، كلما ازداد فهمي لحياتهم واختياراتهم الخاصة والطبقة الاجتماعية التي ينتمون إليها، إضافة إلى أحلامهم وطموحاتهم، وهو ما كان ضرورياً للغاية من أجل تصور مستقبل الحي نفسه.

لم تنجح بالتأكيد العملية التشاركية التي حاولت أنا والعديد من النشطاء والرفاق الانخراط فيها. وذلك لأسباب كثيرة، من ضمنها تاريخ العنف في الحي ومعاناة السكان من صدمات نفسية بسبب أشكال العنف البنيوي والجسدي والنفسي التي تعرّضوا لها منذ أواخر التسعينيات. وقد جعلت هذه الأشكال المختلفة من العنف السكان على استعداد لمغادرة المنطقة حال قُدّم لهم عرض مقبول.

ومن موقعي الشخصي، إذا جاز لي وصف ما حدث باعتباره استراتيجية تطوير حضري تشاركية جرى تنفيذها بالتعاون مع السكان، أرى أن هناك العديد من القضايا الإشكالية في ما حدث. ومن أهم هذه القضايا غياب المعرفة بعلاقات القوة داخل الحي فيما يتعلق بمن كان يتعاون مع مركز الشرطة، ومن وقف مع إدارة الأبراج لتحقيق بعض المصالح، ومن كانوا يلعبون لعبة "المقاومة" ليحصلوا على عرض أعلى لشققهم الموجودة في الأبراج. وهذا لا ينفي حقيقة أنه كان هناك العديد من السكان الذين قاوموا باستماتة عمليات الإخلاء القسري وأرادوا تطوير الحي. وبالرغم من أن زخم التعبئة بعد 2011 ساعد السكان على جمع حلفاء وعلى التعرف على قضيتهم، إلا أنه لم يساعد بالضرورة النشطاء، مثلي، على فهم التاريخ وعلاقات القوة في الحي.

وهناك قضية أخرى مرتبطة بما سبق، وهي تاريخ العنف في الحي، والذي دفع الناس إلى تغيير آرائهم طوال الوقت، لأنهم لم يكونوا متيقّنين مما سيكون أفضل لهم: أن يبيعوا منازلهم ويرحلوا، و/أو يقاتلوا ويقاوموا ويُحكِموا سيطرتهم على الحي. ولم يحدث هذا العنف على مر التاريخ فحسب، بل استمر في الحدوث إبان عملي معهم أيضاً. واعتقل مركز شرطة بولاق أبو العِلا العديد من الشبان، حيث اتهمتهم الشرطة بتجارة المخدرات. وحُبس شباب وأحياناً مراهقين في مركز الشرطة لأسابيع. وبعد الإفراج عنهم أبلغوني أن رجال الشرطة كانوا يطلبون منهم طوال الوقت مغادرة الحي. لقد كانوا يُهدّدون طوال الوقت بفقدان حياتهم، وبالسجن لسنوات، لمجرد أنهم كانوا يشاركون في التعبئة ويقاومون خطط إعادة التنمية، وكان يُطلب منهم غالباً تقديم معلومات حول التعبئة ومن شارك فيها. وأثّرت هذه الأشكال من العنف والتهديدات المستمرة سلباً على عملية المشاركة وعلى عملي معهم، حيث أُصيب الجميع بصدمة نفسية، وكان السكان بحاجة إلى وعود أو ضمانات بأن أطفالهم سيكونوا على ما يرام وكذلك مستقبلهم.

لعب انقلاب 2013، وعواقبه من حيث العنف والاعتقالات وردّة الفعل العكسية على حياة كافة النشطاء، دوراً مهماً أيضاً. وأدرك السكان المحليون أنه لا يمكنهم الحصول على مزيد من الدعم من قِبل المنظمات أو النشطاء الحقوقيين، الذين تعرضوا هم أنفسهم للهجوم. علاوة على ذلك، أدرك السكان في عام 2015 أنه لا تتوافر خيارات محتملة لتطوير الحي، وأن كلاً من المالكين الخاصين مثل ساويرس والحكومة لن يسمحوا لهم أبداً بتطوير الحي تطويراً حضرياً.

الخلاصة

ما حدث في مصر في السنوات الـ11 المنصرمة يحتاج إلى الكثير من التمعُّن السياسي. والمنظور الأيديولوجي الذي ما زلت متمسكة به هو أن "السلطة للشعب"، وأنه ينبغي أن يكون للناس دائماً الحق في تغيير عالمهم. وأعتقد أن المشاريع الحضرية التشاركية تحتاج إلى أساس قوي من البحوث الاجتماعية والأنثروبولوجية السابقة. ومن شأن العمل الميداني وهذه البحوث أن تعزّز عملية التخطيط التشاركي من خلال إنتاج المعرفة اللازمة لفهم الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والبيئية التي تتقاطع جميعها في إنتاج المجتمع. علاوة على ذلك، ومن منظور ثقافي، لا ينبغي أن تؤخذ أعراف وطقوس المجتمعات، ولا العلاقة بين البيئة المبنية والعمل/الكدح، كأمر مُسلّم به. وينبغي أن يتوخّى العلماء والناشطون المنخرطون في العملية التشاركية الحذر في افتراض أنهم إذا سألوا الناس مباشرةً عما يريدون، فلا ينبغي أن تعكس إجاباتهم مطالب المجتمع تلقائياً، لأن أي باحث أو عالم إثنوغرافي يعلم أن الناس لا تسعفهم كلماتهم أحياناً عند تفصيل مطالبهم، وأن السكان قد يطلبون أشياءً تكون على حد اعتقادهم هي المطلب "الصحيح" أو المناسب للمجتمع وليس بالضرورة لحياتهم الخاصة. وتعتبر الدلائل والعلامات مهمة في هذه العمليات لفهم مطالب الناس ولتوضيحها دون تقديم تفسيرات لها، أي عندما يقول أحد السكان إنه يريد منزلاً جيداً، لا يمكننا تخمين ما يقصده بقوله منزل لائق، هل هو شقة، أم بيت، أو ربما شكل آخر من أشكال السكن، ولهذا السبب يوصى بشدة بمراعاة الدقة عند إبداء الملاحظات الإثنوغرافية المتعلقة بحياة السكان وبكل شيء يتعلق بأماكن إقامتهم وتنقلاتهم داخل الحي.

وبالرغم من المواقف والمعتقدات الأيديولوجية الرصينة، على أي شخص من خارج المجتمع أن ينتبه. فلا ينبغي للعلماء والنشطاء و/أو نشطاء حقوق الإنسان أن يفرضوا معتقداتهم الخاصة المتعلقة بأشكال المقاومة على المجتمع. علاوة على ذلك، ينبغي على الغرباء ألا يحكموا على تصرفات السكان بعواطفهم، وأن يدركوا أن استخدام كلمة مقاومة أمر مرتبط بالأرواح الثورية، وأن استخدام هذه الكلمة دون فهم عميق لمكانة السكان وخياراتهم الخاصة سيكون أمراً خطيراً من حيث التأطير والفهم الخاطئين لمستقبل الحي والمجتمعات.

المراجع

ديفيد هارفي.الإمبريالية الجديدة. أكسفورد: مطبعة جامعة أكسفورد، 2003.

____________ الثورة الحضرية. مينيابوليس: مطبعة جامعة مينيسوتا، 2003.

____________ العدالة الاجتماعية والمدينة (نسخة منقحة، مجموعات كتب UPCC في مشروع MUSE). أثينا: مطبعة جامعة جورجيا، 2009.

____________ المدن المتمردة: من الحق في المدينة إلى الثورة الحضرية. لندن؛ نيويورك: فيرسو، 2012.

أمنية خليل. أهل المدينة، والفراغ، والعمال والسلطة: محاولة الكشف عن "الكيفية" في رملة بولاق. القاهرة: مطبعة الجامعة الأمريكية بالقاهرة، 2014. http://dar.aucegypt.edu/handle/10526/3959.

____________ الدولة كوسيط حضري: التكوين الذاتي، والتوريق، وتهيئة المكان في القاهرة ما بعد الثورة. الأنثروبولوجيا الحضرية ودراسات النظم الثقافية والتنمية الاقتصادية العالمية. المجلّد 48 (1,2) (2019) 128-185.

سينغرمان وديان وبول عمار. القاهرة العالمية: السياسة والثقافة والحيّز الحضري في الشرق الأوسط المعولم الجديد. القاهرة: مطبعة الجامعة الأمريكية بالقاهرة، 2009.

نيل سميث. "العولمة الجديدة، العمران الجديد: الترميم كاستراتيجية حضرية عالمية". دورية Antipode، المجلّد 34، العدد 3 (2002): 427-450. https://doi.org/10.1111/1467-8330.00249.

لما توكل. استعادة جوهر المدينة: التكدس الحضري، فائض (إعادة) الإنتاج والانضباط في القاهرة. منتدى علم الجغرافيا، 2020.

Endnotes

Endnotes
1 نجل الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك.
2 متبعاً تصنيف المستوطنات البشرية غير الآمنة الذي أقره "برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية" (UN-Habitat).

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.