صنع دستور الثورة المصرية بين العقد الاجتماعي والتعاقد السياسي

"معركة الدستور"، كانت هذه العبارة هي الأكثر استخداماً والأدق في وصف اقتراب الأطراف السياسية المصرية في عملية صناعة الدستور بعد ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١. وقد بدأت هذه "المعركة" حين لم يتم تحديد المعايير التي ستحكم آليات صنع الدستور ومضمونه، وهي المعايير التي تعكس في الحقيقة نظرة الفاعلين لصفة الدستور. إذ أن اكتساب الدستور لصفة العقد الاجتماعي الذي يمثل المرجع في حكم الدولة والمجتمع تنبع من المعيار التشاركي-التمثيلي الذي يحكم صنعه وليس فقط من معيار التوافق حول مضمونه. لذلك كان الأمل ضئيلاً في أن يتغلب مضمون الدستور المصري في ٢٠١٢ على عوار آليات صنعه وألا تتحول صناعة الدستور إلى معركة سياسية. إذ لم يتم تحديد هذه الآليات وفقاً لمعايير واضحة ولم يتم اختيار آلية صنع تحقق مشاركة وتمثيل جميع الأطراف على قدم المساواة، وحيث أنه كان من الصعب على الأطراف التي لم تشترك في تشكيل المسار الدستوري أن تنضم إلى هذا المسار لاحقاً أو ألا يؤثر هذا المسار على تقييمها لمضمون الدستور. لذلك كان من المستحيل أن يكتسب الدستور صفة المرجعية لجميع أطراف ومؤسسات العملية السياسية التي لحقته، بل على العكس، تحولت العملية السياسية في تلك اللحظة إلى المرجعية التي تم على أساسها صنع وتقييم الدستور المصري.

لقد تمثل في الحالة المصرية الخلاف الدائر بين مدرستين في صنع الدستور: المدرسة الكلاسيكية التي ترى أن عملية صنع الدستور هي عملية سياسية بحد ذاتها تسمو فوق العملية السياسية اليومية المتغيرة، وبالتالي يجب على جميع الأطراف الحفاظ على هذا السمو من أجل الحفاظ على قيمة الدستور كمرجع للحاكم والمحكوم. هذه المدرسة كانت الأقرب لنظرة جموع الشعب المصري في تلك اللحظة الثورية. إذ تصورت الجموع غير المنظمة وباقي الأطراف من خارج مؤسسات السلطة السياسية أنه يمكن فصل الدستور عن الصراع السياسي القائم. أما المدرسة الثانية فهي المدرسة الأكثر واقعية التي ترى أن صنع الدستور لا يمكن فصله عن التوازنات السياسية اليومية التي يتم في إطارها -خصوصاً في أوقات التحول الديمقراطي، ومن هنا يجب على الأطراف المختلفة التفكير في استراتيجية للتعامل مع الدستور في هذا الاطار بحيث يتحقق هدف تغيير النظام. في مصر، تمادت الأطراف السياسية التي سيطرت على عملية صنع الدستور في تبني وجهة نظر المدرسة الثانية، في حين تمادت الأطراف التي بقت خارج هذه العملية في النظرة المثالية للدستور وفصله عن الواقع السياسي الذي يصنع في إطاره. واتسعت الهوه بين الطرفين حتى فرض المجلس العسكري والقوى السياسية الأكثر تنظيماً -الإسلام السياسي- النظرة إلى العملية الدستورية كجزء من الصفقات السياسية قصيرة المدى على حساب النظر إليه كعقد اجتماعي طويل الأجل. وبذلك تم تبني نفس المعايير التي تحكم العملية السياسية اليومية لكي تكون المعيار الحاكم في عملية صنع الدستور. وبما أن معيار الأغلبية والقدرة على الحشد كان هو المعيار الحاكم للعملية السياسية، فقد تم تبني نفس هذا المعيار في عملية صنع الدستور.

لقد شهدت العملية الدستورية في مصر حتى كتابة هذه السطور موجات ثلاث: الإعلان الدستوري الصادر في شباط/فبراير ٢٠١١ والتي انتهت بأول استفتاء في آذار/مارس ٢٠١١، ثم الموجة الثانية التي امتدت من حزيران/يونيو وحتى كانون الأول/ديسمبر من العام ٢٠١٢ والتي تخللتها إعلانات ١٧ حزيران/يونيو و ١٢ آب/أغسطس و٢١تشرين الثاني/نوفمبر ثم ٩ كانون الأول/ديسمبر٢٠١٢، وصولاً إلى الموجة الثالثة والحالية التي بدأت بالإعلان الدستوري الصادر في ٨ تموز/يوليو ٢٠١٣. وفي كل موجة، تعاملت الأطراف السياسية المسيطرة مع الدستور على أنه جزء من آليات تمكينها السياسي في اللحظة الراهنة. كما ظل الإصرار على استبعاد المعيار التشاركي-التمثيلي في تحديد آليات صنع الدستور، حيث كانت المؤسسة العسكرية هي متخذ القرار الرئيسي في تحديد هذه الآليات. ولعل المثير للقلق أن شركاء المجلس العسكري في ٢٠١١ اختلفوا عن ٢٠١٣، ولكن قبل الجميع أن يحدد المجلس العسكري مع من يختارهم كيف سيتم صنع "دستور الثورة".

تهدف هذا الورقة إلى شرح كيف تحول الدستور إلى وثيقة تعبر عن الخلافات والتحالفات السياسية في لحظة كتابته بدلاً من أن يمثل المرجعية لتأسيس النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي الحاكم لمصر ما بعد ثورة ٢٥ كانون الثاني/يناير ٢٠١١. إذ يوضح الجزء الأول من الورقة كيف أثر اخضاع العملية الدستورية للتوازن السياسي القائم على اختيار آلية تشكيل الجمعية التأسيسية الأولى والثانية. ثم يوضح الجزء الثاني كيف أدى تشكيل الجمعية إلى دستور يكرس مضمونه من التوازن السياسي القائم ومن إعادة انتاج النظام القديم. ويثير الجزء الثالث محاولة الجمعية التأسيسية الحد من قنوات المشاركة المجتمعية في كتابة الدستور، وكيف قاوم الفاعلون الذين تم إقصائهم حتى استطاعوا طرح شرعية مجتمعية بديلة عن الشرعية السياسية مما فتح المجال لتعثر تفعيل دستور ٢٠١٢ ثم تعطيله بعد حوالي ستة أشهر فقط على تبنيه. وتتناول خاتمة الورقة أهم الدروس المستفادة من المسار الدستوري، كما تسلط الضوء على بعض المؤشرات التي تنذر بوقوع الموجة الدستورية التي بدأت في تموز/يوليو ٢٠١٣ في نفس الأخطاء السابقة.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.