سياسة الدَّعم الاجتماعي في الجزائر: الكُلفة الاقتصادِية وحتمية الإصلاح

تُنشر هذه الورقة ضمن منشور أطول حول موضوع الاحماية الاجتماعة في الجزائر، وممكن قراءتها خلال هذا الرابط.

مع طرح قانون المالية لسنة 2022 للمناقشة العلنية ثم المصادقة عليه في المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمّة في نوفمبر من العام الماضي، عاد موضوع الدعم الاجتماعي ومخصصات التحويلات الاجتماعية من ميزانية الدولة لِيُطرَح في مساحات النقاش العمومية، خاصة بعد عرض الوزير الأول ووزير المالية أيمن عبد الرحمن لقانون المالية وما جاء به من حُزمة من الضرائب على عديد من النشاطات الاقتصادية وكذلك هو الأمر على استيراد العديد من المواد واسعة الاستهلاك والتي لطالما التزمت الدولة بدعمها كالسكر والزيت. هذا طبعاً مع إعادة تذكير الوزير الأول ورئيس الجمهورية في كل مناسبة "بأن الدولة لن تتخلى عن سياسة الدعم الاجتماعي لمواطنيها إلى أن يرث الله الأرض وما عليها"،  ما هو إلا لازمة لفظية  دأب الخطاب الرسمي على تكرارها خاصة عند مناقشة قانون المالية كأهم فصل من فصول العمل البرلماني إذ يُعتبر هذا القانون الشأن الوحيد الذي قد يهتم له المواطن الجزائري فيما يتعلق بعمل البرلمان، بالنظر إلى الأثر المالي والاقتصادي المترتب عن الزيادات في الضرائب والأعباء المالية التي قد تمس قوته ونشاطه الاقتصادي.

لقد قدم الوزير الأول في عرضه لقانون المالية تصوراً نقدياً لآلية الدعم الاجتماعي الحالية، دون أن يُفصح عن بدائل الحكومة لها أو عن أجندة زمنية ستنظم عملية الانتقال إلى نموذج جديد في تسيير مخصصات هذا الدعم أو حتى التخلي عنه نهائياً. وهو تصور يجعلنا نعتقد أن خِيارات التراجع أو إعادة توجيه الدعم الاجتماعي هي مسألة ذات أهمية وحساسية بالغة للسلطة في هذا الظرف، لا سيما بعد موجة الحراك الشعبي التي بقيت لما يُقارب العام ونيف قبل أن يتراجع زخمه مع تصاعد الأزمة الوبائية عالميا ومحليا.

يدعونا هذا النقاش الحاصل إذا، لمحاولة فهم تداعيات ذلك التدخل الدولتي في الشأن الاقتصادي والخلفيات التاريخية والأيديولوجية للدولة الاجتماعية في الجزائر كدولة ريعية قامت على تأميم كل العلاقات الاقتصادية في سياقات سياسية مُتأزمة امتدت أثارها على علاقة الدولة بالمجتمع وعلاقات الإنتاج داخله. وهنا نحن لسنا بصدد عرض مجمل التدخلات الاجتماعية للدولة كدولة اجتماعية أو إستجاباتها للمسألة الاجتماعية بشكل عام (الشغل، الصحة، التعليم، السكن، التضامن الاجتماعي). بل نحاول تحديدا الإحاطة بموضوع الدعم الاجتماعي كواحد من مسارات التدخل الاجتماعي للدولة من خلال فهم الخلفية التاريخية والأيديولوجية للدولة الاجتماعية. وكذا فهم العلاقة بين مسألة الدعم الاجتماعي وأزمة الدولة الريعية، وهل نحن بصدد تراجع عن خيار الدعم الاجتماعي أم نحو حتمية إصلاح هذا النظام تحت وطأة الحاجات الاجتماعية من جهة وتقلص الموارد المالية من جهة أخرى؟

1/ الخلفية التاريخية والإيديولوجية للدولة الاجتماعية في الجزائر

لا يمكن مناقشة موضوع الدعم الاجتماعي من زاوية الاقتصاد حصرًا في الحالة الجزائرية. إنه موضوع عابر لأدوات التحليل الاقتصادي والمالي ليطرح نفسه مادة للبحث التاريخي والسياسي والاجتماعي والاقتصاد السياسي، فلطالما عَرّفَتْ الدّولة الجَزائرية نفسها بكونها دولة اجتماعية وذلك تماهياً مع تلك الأيديولوجية المُؤَسِّسة لها في سياق تاريخي فارق، وهي حرب التحرير وظروف الاستقلال. فكما كانت الأخيرة نتيجة نِضال ضد الاستعمار فإنها كذلك نتيجة صراع مع الفقر والأمية والتفاوت الطبقي الذي ورثته الدولة الوليدة بعد الاستقلال. لقد تأسست العلاقة بين الدولة والمجتمع لما يقرب ستين سنة من الاستقلال على شكل من الرعاية أو "الدولة الحامية" لمواطنيها (أو رعاياها) وتمظهرت هذه العلاقة في العديد من السياسات العمومية المُموّلة ريعيًا والمؤدلجة سياسياً، رغم الازمات الاقتصادية والسياسية وحتى الأمنية التي مرّت بها البلد.

يُحيلنا فهم سياقات ظهور الدولة الاجتماعية في الجزائر، إلى إدراك حالة الهشاشة والفقر والتخلف التي عرفها مجتمع خرج من استعمار طويل الأمد، مزق كل البنى الاجتماعية والاقتصادية. وقد صادر – هذا الاستعمار - كل مصادر الثروة ورمى بأغلب فئات هذا المجتمع إلى العوز والأمية والمرض وانعدام أي شكل من أشكال الخدمات. لقد مثّل الاستقلال حالة انتقال من دولة قهر احتلالي وظلم اقتصادي واجتماعي، إلى دولة الاستقلال العادلة في توزيع مواردها والحامية لمواطنيها، غير أن هذا الانتقال المضطرب والعنيف والسريع، لعب دورا حاسما في تشكيل سمات العلاقة بين الدولة الفتية والاقتصاد والمجتمع.

مثلت سياسات الدعم الاجتماعي الممولة رِيعيًا والمُنسابة في قنوات السياسات العمومية، إحدى أهم أدوات السلطة  في تأثيث شرعيتها (الشرعية التنموية) لعقود، إذ كانت الخيارات الاقتصادية للسلطة منذ ستينيات القرن الماضي (تسيير ذاتي، اشتراكية، ثم انفتاح اقتصادي شكلي) مساراتِ صبّت كُلّها في كون الدولة هي اللاعب الوحيد في تسيير الشأن الاقتصادي وتدبير التنمية. وهذا لاعتقاد السلطة أن لبرلة الاقتصاد والتنافس الحُرّ للمجتمع على المصالح الاقتصادية سيؤدي إلى حالة من الانقسام والتفتت.

2/ الدعم الاجتماعي وهيكل التحويلات الاجتماعية

تروم فلسفة الدعم الاجتماعي إلى تقليل الفوارق الاجتماعية وخلق توازن بين مصالح الأفراد في إطار سياسة اجتماعية عامة، وهي آلية ليست مرتبطة بالدول الرعائية في العالم الثالث فحسب، بل تنسحب كذلك على الدول الرأسمالية التي قامت على أساس مفهوم دولة الرفاه welfare state بعد الحرب العالمية الثانية. وهذا ما نجده في النموذج الألماني والنموذج الفرنسي كما وفي العديد من دول مجموعة منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية. غير أن الاختلافات تَكمُن أساسًا في حدود التدخلات الدولية الخارجية في الشأن الاقتصادي ومعايير المبادرة والحرية والشفافية والرقابة والمحاسبة. وهي شروط ترتبط بظروف النظام السياسي في هذه الدول ومسألة الشرعية وحدود الممارسات الديمقراطية واستقلالية وحيادية المؤسسات المُنظمة للشأن العام.

في الحالة الجزائرية، ارتبط مفهوم الدعم الاجتماعي بمشروع الدولة الاجتماعية وشعار العدالة الاجتماعية، إذ تجسد ذلك في المواثيق المؤسسة للدولة بداية من بيان أول نوفمبر كوثيقة مؤسسة للدولة الجزائرية المستقلة والحديثة تحت عنوان بناء الدولة الديمقراطية الاجتماعية ثم دستور 1976 وتحديدا المادة 11 منه في معرض حديثها عن النظام الاشتراكي والنظام الاقتصادي والاجتماعي الذي تقوم عليه.  ولقد تمظهر ذلك واقعا في دعم قطاعات واسعة لها علاقة بالخدمات الاجتماعية كالصحة، والسكن، والحماية الاجتماعية، والتحويلات الاجتماعية، ودعم الطاقة، وهي قطاعات انسابت فيها مخصصات الدعم الاجتماعي في كل قوانين المالية على مرّ السنوات والحكومات. ومع صدور القانون 84-17 في جويلية 1984 تحت عنوان " التدخلات العمومية" في المادة 24 من القانون، أصبحت مسألة الدعم الاجتماعي بنداً ثابتاً في قوانين المالية، كضرورة حتمية مؤكِّدة على عدم تخلي الدولة على كينونتها الاجتماعية.

ارتبط الدعم بما يُعرَف بهيكل التحويلات الاجتماعية والذي ضم دعم الأسر (دعم أسعار المواد واسعة الاستهلاك، التعليم، الطاقة، السكن، الصحة، وخاصة فئة المجاهدين والمتقاعدين، وذوي الاحتياجات الخاصة). يمكن ملاحظة الأثر المالي والاجتماعي لهذه التحويلات مع بداية العهدة الرئاسية الأولى للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة (1999-2004)، وذلك طبعا عائد إلى حالة الاستقرار السياسي الذي رافقه تحسن ملحوظ في أسعار النفط وتزايد التحصيل من الجباية البترولية، المُموّل الأكبر للخزينة العمومية. وهذا ما نلحظه بالنظر الى تصاعد قيمة هذه التحويلات من 315 مليار دينار سنة 2001 إلى 1207.8 سنة 2009، ثم 1760 مليار سنة 2018 ليصل إلى 1942 مليار دينار في قانون المالية الجديد برسم سنة 2022.

3/ الدعم الاجتماعي وأزمة الدولة الريعية

ارتبط تزايد مخصصات الدعم الاجتماعي خلال العشرين سنة الماضية، بتزايد المطالب الاجتماعي وإلحاح مسألة العدالة الاجتماعية على الحكومات المُتعاقبة، وهو أمر مفهوم بالنظر إلى الطفرة النفطية التي عرفتها البلاد الى غاية سنة 2014، ورغبة السلطة آنذاك في إعادة بناء مؤسسات وبنية تحتية قاربت على الانهيار بعد عقد من الأزمة الأمنية والسياسية. غير أن المُلاحَظ هو عدم تراجع الدولة عن الدعم رغم انخفاض أسعار النفط بعد ذلك والتي وصلت إلى حدود تاريخية (12دولارا للبرميل) في ماي 2020. تُحيلنا هذه الملاحظة إلى حتمية مفادها عدم قدرة الدولة على التخلي الكلي عن سياسة الدعم الاجتماعي رغم الضغط المتزايد على الميزانية وانخفاض احتياطي الصرف إلى 44 مليار دولار حسب تصريح رئيس الجمهورية في جويلية 2020 بعد أن وصل إلى 200 مليار دولار سنة 2014.

بغض النظر عن سياسات الهدر المالي والفساد في تسيير المشاريع العمومية التي عرفتها البلاد خلال العشرين سنة الماضية، والتي تعترف السلطة ذاتها بأنها أوقعت الاقتصاد في اختلالات عميقة يصعب إصلاحها، إلا أن حُلولها وخياراتها لم تخرج عن حتمية الاستمرار على نفس الممارسات الريعية السابقة ومنها خِيار الدّعم الاجتماعي المُعَمّم وتَحّمُل الفروق بين أسعار السلع والخدمات الاقتصادية (الحقيقية) وأسعارها الاجتماعية. رغم التدهور المتراكم لقيمة الدينار أمام الدولار. ذلك بالإضافة إلى التخفيضات الضريبية على العديد من المواد ذات الاستهلاك الواسع في شكل دعم غير مباشر لهذه السلع.

يعكس الإبقاء على آليات الدعم الاجتماعي الكلاسيكية ذلك الفشل المُزمن في تدبير الشأن الاقتصادي والاكتفاء أمام هذه الوضعية المتردية ببعض التصحيحات المالية كالتمويل غير التقليدي (طبع النقود) وتخفيض قيمة الدينار وربط الموازنة العامة بانتظارات أسّعار النفط في السوق الدوّلية. إنها وضعية تؤشر على عدم قدرة السلطة على تجاوز تلك الأدوار التوزيعية للدولة (الدولة الرازقة) وتحويل جملة العلاقات الاقتصادية إلى علاقات إنتاجية خالقة للثروة تسوسها آليات السوق وحرية المبادرة وشفافية وديمومة القوانين والتشريعات ذات العلاقة بالاستثمار والشراكة وغيرها من البُنى التنظيمية والقانونية المُؤطرة للنشاط الاقتصادي.

4/ الأثار الماليّة والاقتصادية لسياسة الدّعم الاجتماعي

خلّفت سياسة الدعم الاجتماعي على مدى عقود، أثارا عميقة على الاقتصاد الوطني وتوازنات الخزينة العمومية المالية، كما خلقت على هامش أدوار الدولة الاجتماعية اختلالات وانحرافات مُتعددة الأوجه اقتصادية ومالية وحتى اجتماعية وسياسية وهو ما سنحاول حَصرهُ فيما يلي:

أولا. الضغط المتزايد والمتراكم على ميزانية الدولة بفعل تزايد الحاجات وتقلبات الأسعار في الأسواق العالمية للمواد الأساسية ذات الاستهلاك الواسع، والذي خلق بدوره أثرا سلبيا على ميزان المدفوعات وظهر مؤخراً في أزمات الندرة وارتفاع الأسعار لعديد من المواد الغذائية في الأسواق العالمية وفي عجز الخزينة العمومية على تغطية الفوارق في الأسعار، الأمر الذي تعامل معه الخطاب الرسمي بمنطق افتعال الأزمات تحت مُسمى المضاربة والاحتكار.

ثانيا.  نتج عن التحويلات الاجتماعية في دعم الأسر والسلع واسعة الاستهلاك فوارق واسعة في أسعار هذه السلع والمواد المستوردة، مقارنةً بأسعارها في الدول المجاورة. وهذا ما نتج عنه تمدد لظاهرة التهريب عبر الحدود وحتى في حالات أخرى تصدير منتجات مصنعة بمواد مدعمة وهو ما مثل نزيفا مزمنا للإقتصاد الوطني.

ثالثا. تاريخيا لا يمكن الحديث عن برجوازية محلية جزائرية، وهذ بالنظر إلى حالة التفكيك التي عرفتها كل أشكال النشاط الاقتصادي أثناء الفترة الاستعمارية وكذلك الاحتكار المدوّلن لكل أشكال الإنتاج والتسويق والتوريد بعد الاستقلال. في مقابل ذلك، ظهرت أوليغارشية مالية أقرب إلى وصف الكومبرادوية، كنتجة لهذا الشكل من الانفاق العمومي للدولة في إطار أداورها الاجتماعية و الذي اعتاشت على موارده المتعددة (الصفقات العمومية، القروض البنكية، الاستيراد) هذه الفئة، وهذا بالنظر إلى قربها من نواة السلطة خاصة في العشرين سنة الماضية. إضافة إلى موارد الدعم الاجتماعي أين كانت العُصبوَّية « le clanisme » عملية مُمَنهجة في عملية في تقاسم ريوع الدولة.

رابعا. أما فيما يتعلق بالجانب المالي، فإن ميزانية الدولة تتحمل عبئاً متراكماً بالنظر إلى مصروفات الدعم والذي لا حدود مالية له. فهو يرتبط بأسعار المواد الغذائية المدعومة وكذلك بالمواد الطاقوية في الأسواق العالمية والتي بارتفاعها ترتفع كلفة الدعم من ميزانية الدولة. كما أن الدعم الاجتماعي يتوزع على جميع فئات الدخل سواء المنخفض أو المرتفع بالرغم من أن فلسفة الدعم الاجتماعي يفترض بها أن تذهب لأصحاب الدخول المحدودة. وهذا ما يعزز مبدأ اللامساواة. فحسب تقرير للبنك الدولي حول نظام الدعم الاجتماعي وتحديدا فيما تعلق بدعم المحروقات، فإن الفئات ذات المداخيل المرتفعة تستهلك من المواد الطاقوية ستة أضعاف ما يستهلكه أصحاب الدخل المحدود وهو نفس المنوال الذي تستهلك به تلك الفئات المرتفعة الدخل الكهرباء بنسبة 61 % من الدعم المخصص لهذه الخدمة والمياه بنسبة 58 % والمواد الغذائية بنسبة 18 %.

5/ إصلاح نظام الدعم الاجتماعي: تراجع أم تطوّر؟

في العموم، يمكن أن نجمل الوضعيات التي تلجأ فيها الدول إلى حتمية إصلاح نظام الدعم الاجتماعي أو التخلي عنه إلى وضعيتين:

الوضعية الأولى ترتبط بالشروط التصحيحية المفروضة من طرف المؤسسات المالية الدولية (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي...) أو تحت ضغط المانحين الدوليين في سياق إصلاحات إقتصادية ومالية ماكرواتية وشاملة وتستوجب ذلك بالنظر إلى الحالة المتردية لإقتصاد بلد ما واضطراره للإستدانة الخارجية.

الوضعية الثانية ترتبط بخيارات داخلية تكون محلّ نقاش بين السلطة والفاعلين المحليين في الحقل الاقتصادي، خاصاً كان أو عاماً، وكذلك الشركاء الاجتماعيين (نقابات عمالية، جمعيات، خبراء...) بالنظر إلى وضع اقتصادي مقلق أو أزمات محدقة. وهو الأمر الذي يرتبط بتوفر شروط الممارسة الديمقراطية والمؤسسات التمثيلية وحرية الاعلام الحقيقية، والأهم بتوفر ظروف ملائمة من الشفافية والقدرة على الولوج إلى المعلومة من أجل تحليل عقلاني وموضوعي للمعطيات الحقيقة للاقتصاد الوطني.

بالإسقاط على الحالة الجزائرية راهناً، لا يمكن القول أن وضعية الاقتصاد الوطني وصلت إلى درجة الاستدانة الخارجية حتى تستجيب لأي ضغوط من المؤسسات المالية الدولية. كما أن الشروط الموضوعية لطرح نقاش حقيقي حول مسألة إصلاح أو التخلي عن الدعم الاجتماعي لا تزال غير متوفرة. إنها وضعية غامضة بالنظر أيضاً إلى تناقض واختلاف التصريحات الرسمية حول المسألة، وتحديداً ذلك التقييم السلبي من طرف الوزير الأول ووزير المالية لطريقة تسيير مخصصات الدعم الاجتماعي خلال السنوات الماضية.

إنها حالة من التردد واللّا يقين في سياق سجال بين المنطق الاقتصادي والقرار السياسي الذي لا يريد أن يتنازل عن أهم أدواته الزبائنية التي بنى عليها شرعيته كوريث للدولة الراعية لمواطنيها. ففي غياب الحلول الاقتصادية الحقيقية والقيام بتصحيحات هيكلية وتشريعية عميقة، يتوجه النقاش حول مسألة إصلاح نظام الدعم الاجتماعي إلى طرح الأسئلة التقنية لا الاقتصادية، من قبيل: ماهي الفئات التي يجب أن تستفيد من الدعم الاجتماعي؟ لتذهب الإجابات إلى حلول تقنية بحتة كالبطاقة التمويلية الوطنية للفقراء والمعوزين أو أصحاب الدخل الضعيف، كآلية لتوزيع أموال الدعم لمستحقيه الحقيقيين.

حتى هذه الحلول وعلى ثانويتها وهامشيتها بالنظر إلى تعقد المسألة إلا أنها صعبة التحقيق بالنظر لعدم قدرة أجهزة الدولة على حصر هذه الفئات بشكل دقيق إذ أنها لا تحوز على المعطيات الصحيحة (البيانات، التوزع الجغرافي، طبيعة الحالة الاجتماعية) إضافة إلى ضعف البنية الرقمية المنوطة بتسيير هذه المعطيات وهي حلول فشلت في عدد من دول القريبة من الحالة الجزائرية التي أخذت بهذا الخيار. إضافة إلى ذلك يبقى الاقتصاد غير الرسمي والذي مثل ما يعادل 50% من الناتج المحلي الخام عام 2015 أحد أهم المعوقات في تحديد وضبط نسب البطالة بشكل دقيق وكذلك من ليس لهم ضمان اجتماعي وحجم أجورهم، إضافة إلى حصص الضرائب غير المُحصّلة منهم.

إن مسألة إصلاح الدعم الاجتماعي تتعدى الحلول التقنية والشكلانية. فالدعم في سياقه العام يتعدى تلك الأشكال المباشرة و المرتبطة بدعم الأسر والتعليم والصحة والسكن وحقوق ذوي الاحتياجات الخاصة، إلى أشكال غير مباشرة تتمثل في دعم الشركات الوطنية والقروض وتخفيض الضرائب على بعض السلع المستوردة، وهي أشكال قد تكون كلفتها أكبر على الخزينة العمومية من الدعم المباشر. وبالتالي، فإن محاولة التراجع عن هذا الدعم ستـأتي بأثار عميقة على قطاعات إقتصادية مختلفة، خاصة على مستوى الشركات الوطنية والاستيراد والبنوك وسوق المحروقات. في هذا الصدد، فإن الدولة قد باشرت بالفعل بنوع من التخلي عن الدعم الاجتماعي المباشر بداية من العام 2010 بعد الرفع التدريجي لأسعار الوقود تجاوزا لصدمة الأسعار لدى المستهلكين حتى وصلت نسبة الزيادة إلى 122%  سنة 2021، إضافة إلى التراجع عن العديد من المشاريع والصيغ السكنية الضخمة منذ 2013.

إننا إزاء حالة من التخلي الجزئي غير المعلن عن سياسة الدعم الاجتماعي، دون بدائل إقتصادية ناجعة في المقابل خاصة بعد تراجع أسعار النفط مع بداية العام 2014، وتراجع قيمة الدينار أمام الدولار الأمريكي من 100.69 دينار/ دولار سنة 2015 إلى 139 دينار/ دولار سنة 2021 مع انتقال معامل تحويل القوة الشرائية من 34.52 دولار سنة 2014 إلى 39.40 دولار سنة 2021 (حسب أرقام البنك الدولي). ساهم كل ذلك في ارتفاع التضخم المالي بمعدل 4.25% بين سنتي 2015 و2020. لقد ساهمت هذه التحولات الاقتصادية والمالية في تآكل متراكم للقدرة الشرائية للجزائريين مع ارتفاع الأسعار وثبات الأجور منذ 2008، وهو وضع يدعونا للجزم بأن سياسة الدعم المباشر لا يمكنها سد تلك الفجوات المتزايدة بين الحاجات الاجتماعية المحلية والتغيرات الحاصلة في الأسواق العالمية وحتى المحلية، وهو ما نتلمس أثاره اليوم من أزمات ندرة للسلع الأساسية والأدوية وارتفاع للأسعار خاصة في خضم الأزمة الوبائية العالمية.

لا يبدو في المدى المنظور أن الدولة قادرة على التخلي التام عن سياسة الدعم الاجتماعي على الأقل في شكله المباشر لما لذلك من تبعات اجتماعية خطيرة خاصة بعد تلك التحولات السياسية التي عرفتها البلاد بعد حراك فيفريي 2019. كما أن التوجه إلى استراتيجية إصلاح شاملة تحتاج وقتاً كثيراً وأدوات علمية تقييمية وبنية لوجستية وتشريعية بعيدة عن الشعبوية وأكثر شفافية ومُكاشفة. بيد أن كل هذه

الحيرة وعدم الوضوح لن تنجلي إلا بالتحول عن المنطق الريعي والبيروقراطي المتكلس في تسيير الشأن الاقتصادي إلى منطق السوق والمنافسة بخطط واضحة ومُرّسمة بالأرقام والآجال الزمنية وبعيدا عن الاستنسابية والشعبوية.

مراجع

  1. دستور الجمهورية الجزائرية 1976
  2. عرض الوزير الأول وزير المالية السيد أيمن عبد الرحمان نص مشروع قانون المالية لسنة 2022 أمام نواب المجلس الشعبي الوطني وذلك يوم 9 نوفمبر 2021، متوفر على الرابط : https://bit.ly/34dp55s
  3. لقاء رئيس الجمهورية مع ممثلي الصحافة الوطنية والخاصة يوم 26 نوفمبر 2021، متوفر على الرابط : https://bit.ly/32UqAVh
  4. Lahouari addi, l’impasse du populisme, (Alger: entreprise nationale du livre,1990
  5. وزارة المالية، المعطيات الإحصائية للمديرية العامة للتقدير والسياسات(بتصرف)، متوفرة على الموقع: https://bit.ly/3JACm8r
  6. Subsidy Reform in Algeria,  International Monetary Fund. Middle East and Central Asia Dept, Available at the link : https://bit.ly/3sRrT2i
  7. البنك الدولي، معامل تحويل تعادل القدرة الشرائية لاجمالي الناتج المحلي (عملة محلية مقابل الدولار) حالة الجزائر ، متوفر على الرابط: https://bit.ly/32OLNAe
  8. Ahmed TOUIL - Radia BOUCHAOUR, Les Politiques Sociales Algériennes: Des instruments pour quelles cohérences?, Les Publications de la Recherche Gouvernance & Economie Sociale,  N° 01 / Septembre 2015.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.